فصل: قال الخطيب الشربيني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأول المعتزلة المشيئة بمشيئة الإلجاء والقسر. وأجيب بأن الكلام في الإيمان الذي كان يطلبه النبي منهم وهو الإيمان المنوط به التكليف لا الإيمان القسري الذي لا ينتفع به المكلف، فلو حمل الإيمان المذكور في الآية وكذا المشيئة على إيمان الإلجاء ومشيئة القسر لم ينتظم الكلام. ثم ذكر أن القدرة القاهرة والمشيئة النافذة ليست إلا للحق سبحانه وتعالى فقال: {أفأنت تكره} فأولى الاسم حرف الاستفهام للإعلام بأن الإكراه ممكن مقدور عليه، وإنما الكلام في المكره من هو وما هو إلا الله وحده. فحمل المعتزلة هذا الإكراه على الإلجاء ومعناه أن يفعل في قلوبهم ما يضطرون عنده إلى الإيمان. وحمل الأشاعرة الإكراه على خلق الإيمان ومعناه أنه قادر على خلق الإيمان والكفر فيهم لا أنت بدليل قوله: {وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس} أي الكفر والفسق: {على الذين لا يعقلون} وفسر المعتزلة الإذن بمنح الألطاف والرجس بالخذلان، لأن الرجس هو العذاب والخذلان سببه، وخصصوا النفس بالنفس المعلوم إيمانها والذين لا يعقلون يعني المصرين على الكفر. واستدلت الأشاعرة بقوله: {وما كان لنفس} على أنه لا حكم للأشياء قبل ورود الشرع لأن الإذن عبارة عن الإطلاق في الفعل ورفع الحجر. وإذا كان أصل الشرع- وهو الإيمان بإذن الله- فما ترتب عليه أولى. أجابت المعتزلة بأن المراد بالإذن التوفيق والتسهيل والألطاف. ولما بين أن الإيمان لا يحصل إلا بمشيئة الله تعالى أمر بالنظر والاستدلال بالدلائل السماوية والأرضية حتى لا يتوهم أن الحق هو الجبر المحض فقال: {قل انظروا ماذا في السموات والأرض} أي شيء فيهما من الآيات والعبر. ثم ذكر أن التفكر والتدبر في هذه الدلائل لا ينفع في حكم الله عليه في الأزل بالشقاء فقال: {وما تغني} يحتمل أن تكون {ما} نافية أي لا تفيد هذه: {الآيات والنذر} وهي جمع نذير صفة أو مصدر في حق المحكوم عليهم بعدم الإيمان. وأن تكون استفهامية للإنكار بمعنى أي شيء يغني عنهم؟ ثم قال: {فهل ينتظرون} والمراد أن الأنبياء المتقدمين كانوا يتوعدون كفار زمانهم بأيام مشتملة على أنواع العذاب أو بوقائع الله فيهم وهم يكذبونهم ويسخرون منهم، وكذلك كان يفعل الكفار المعاصرون للرسول صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه: {قل فانتظروا} وفيه تهديد ووعيد بأنه سينزل بهؤلاء مثل ما أنزل بأولئك من الإهلاك بعد إنجاء الرسول وأتباعه كما حكى تلك الأحوال الماضية بقوله: {ثم ننجي رسلنا} الآية. قالت المعتزلة: {حقًا علينا} المراد به الوجوب والاستحقاق إذ لا يحسن تعذيب الرسول والمؤمنين.
وقالت الأشاعرة: إنه حق بحسب الوعد والحكم فإن العبد لا يستحق على خالقه شيئًا. ثم أمر رسوله بإظهار التباين الصريح بين طريقته وطريقة المشركين فقال: {قل يا أيها الناس} والمعنى يا أهل مكة إن كنتم لا تعرفون ديني فاعلموا أني مبرأ عن أديانكم الباطلة: {ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم} وتخصيص هذا الوصف لأنه يدل على الخلق أوّلًا وعلى الإعادة ثانيًا كما مر مرارًا، أو لأن الموت أشد الأحوال مهابة في القلوب فكان أقوى في الزجر والردع، أو لأنه قد قدم ذكر الإهلاك والوقائع النازلة بالأمم الخالية فكأنه قال: أعبد الله الذي وعدني بإهلاككم وإنجائي. وفي الآية إشارة إلى أنه لن يوافقهم في دينهم كيلا يشكوا في أمره ويقطعوا أطماعهم عنه. ولما ذكر أنه لا يعبد إلا الله بين أنه مأمور بالإيمان والمعرفة فقال: {وأمرت أن أكون} أي بأن أكون: {من المؤمنين} ثم عطف عليه قوله: {وأن أقم وجهك} ولا تدع نظرًا إلى المعنى كأنه قيل له: كن مؤمنًا ثم أقم ولا تدع، أو المراد وأمرت بكذا وأوحي إلي أن أقم. قال في الكشاف: قد سوغ سيبويه أن يوصل {أن} بالأمر والنهي وشبه ذلك بقولهم: أنت الذي تفعل على الخطاب لأن الغرض وصلها بما يكون معه في معنى المصدر، والأمر والنهي دالان على المصدر دلالة غيرهما من الأفعال، ومعنى: {أقم وجهك} استقم إليه ولا تلتفت يمينًا ولا شمالًا. و: {حنيفًا} حال من: {الدين} أو من الوجه. قال المحققون: الوجه هاهنا وجه العقل أو المراد توجه الكلية إلى طلب الدين كمن يريد أن ينظر إلى شيء نظرًا تامًا فإنه يقيم وجهه في مقابلته لا يصرفه عنه. ثم أكد الأمر بالنهي عن ضده فقال: {ولا تكونن من المشركين ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت} أي فإن دعوت من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك، وكنى عنه بالفعل للاختصار. و{إذا} جزاء للشرط وجواب لسؤال مقدر كأن سائلًا سأل عن تبعة عبادة الأوثان وجعل من الظالمين لأن إضافة التصرف بالاستقلال إلى ما سوى مدبر الكل وضع للشيء في غير موضعه. ثم صرح بأنه مبدأ الكائنات ومنتهى الحاجات لا غيره فقال: {وإن يمسسك الله} الآية. وقد مر تفسير مثلها في أول سورة الأنعام. قال الواحدي: {وإن يردك بخير} من القلب وأصله وإن يرد بك الخير، ولكنه لما تعلق كل واحد منهما بالآخر جاز إبدال كل واحد منهما بالآخر. وأقول في تخصيص الإرادة بجانب الخير والمس بجانب الشر دليل على أن الخير يصدر عنه سبحانه بالذات والشر بالعرض. ثم ختم السورة بما يستدل به على قضائه وقدره في الهداية والضلال فقال: {قل يا أيها الناس} الآية.
وفسرها الأشاعرة بأن من حكم له في الأزل بالاهتداء فسيقع له ذلك، وإن من حكم له بالضلال فكذلك ولا حيلة في دفعه كما مر في سورة الأنعام: {قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه} [الأنعام: 104] الآية. وقالت المعتزلة: المراد أنه بين الشريعة وأزاح العلة وقطع المعذرة، فمن اختار الهدى فما نفع باختياره إلا نفسه، ومن آثر الضلال فلا يعود وباله إلا على نفسه. يروى عن ابن عباس أن الآية منسوخة بآية القتال ولا يخفى ضعفه. ثم أمره باتباع الوحي والتنزيل فإن وصل إليه بسبب الاتباع مكروه فليصبر عليه إلى أن يحكم الله وهو خير الحاكمين. ولبعضهم في الصبر:
سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري ** وأصبر حتى يحكم الله في أمري

سأصبر حتى يعلم الصبر أنني ** صبرت على شيء أمر من الصبر

.اهـ.

.قال الخطيب الشربيني في الآيات السابقة:

{ولقد بوّأنا} أي: أنزلنا: {بني اسرائيل مبوّأ صدق} أي: منزلًا صالحًا مرضيًا وهو مصر والشام، وإنما وصف المكان بالصدق؛ لأنّ عادة العرب إذا مدحت شيئًا أضافته إلى الصدق، تقول العرب: هذا رجل صدق وقدم صدق، والسبب فيه أنّ الشيء إذا كان كاملًا صالحًا لابد أن يصدق الظنّ فيه. وقيل: أرض الشام والفرس والأردن؛ لأنها بلاد الخصب والخير والبركة: {ورزقناهم من الطيبات} أي: الحلالات المستلذات من الفواكه والحبوب والألبان والأعسال وغيرها، فأورث تعالى بني إسرائيل جميع ما كان تحت أيدي فرعون وقومه من الناطق والصامت والحرث والنسل كما قال تعالى: {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها} (الأعراف).
{فما اختلفوا} أي: هؤلاء الذين فعلنا بهم هذا الفعل من بني اسرائيل في أمر دينهم: {حتى جاءهم العلم} أي: جاءهم ما كانوا به عالمين، وذلك أنهم كانوا قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم مقرين به مجمعين على نبوّته غير مختلفين فيه لما يجدونه مكتوبًا عندهم، وكانوا يخبرون بمبعثه وصفته ونعته ويفتخرون بذلك على المشركين، فلما بعث صلى الله عليه وسلم اختلفوا فيه، فآمن به بعضهم كعبد الله بن سلام وأصحابه، وكفر به بعضهم بغيًا وحسدًا وإيثارًا لبقاء الرياسة، وأنهم ما اختلفوا في دينهم إلا من بعد ما قرؤوا التوراة وعلموا أحكامها: {إن ربك} يا محمد: {يقضي بينهم يوم القيامة} أي: الذي هو أعظم الأيام: {فيما كانوا} أي: بأفعالهم الجبلية: {فيه يختلفون} أي: فيتميز الحق من الباطل والصديق من الزنديق ويسكن كلا داره، واختلف المفسرون فيمن المخاطب بقوله تعالى: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب} أي: التوراة: {من قبلك} أي: فإنه ثابت عندهم يخبرونك بصدقه، فقيل: هو النبيّ صلى الله عليه وسلم في الظاهر، والمراد أمته كقوله تعالى: {يا أيها النبيّ اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين} (الأحزاب). وقوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطنّ عملك} (الزمر). وقوله تعالى لعيسى عليه السلام: {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمّي إلهين من دون الله} (المائدة). ومن الأمثلة المشهورة: إياك أعني واسمعي يا جارة، والذي يدل على صحة ذلك وجوه: الأوّل: قوله تعالى في آخر السورة: {يا أيها الناس} فبين أنّ ذلك المذكور في أوّل الآية على سبيل الرمز هم المذكورون في هذه الآية على سبيل التصريح. الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم لو كان شاكًا في نبوّة نفسه لكان شك غيره في نبوته أولى، وهذا يوجب سقوط الشريعة بالكلية، الثالث: إذا قدر أن يكون شاكًا في نبوّة نفسه، فكيف يزول ذلك الشك بإخبار أهل الكتاب عن نبوّته مع أنهم في الأكثر كفار؟ فثبت أنّ الخطاب وإن كان في الظاهر معه صلى الله عليه وسلم إلا أنّ المراد هو الأمّة، ومثل هذا معتاد فإنّ السلطان إذا كان له أمير وتحت راية ذلك الأمير جمع، فإذا أراد أن يأمر الرعية بأمر مخصوص فإنه لا يوجه خطابه عليهم بل يوجه ذلك الخطاب على ذلك الأمير الذي جعله أميرًا عليهم ليكون ذلك أشدّ تأثيرًا في قلوبهم، وقيل: الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم على حقيقته ولكن الله تعالى علم أنه صلى الله عليه وسلم لا يشك في ذلك إلا أن المقصود أنه متى سمع هذا الكلام فإنه يصرّح ويقول: يا رب لا أشك ولا أطلب الحجة من قول أهل الكتاب بل أكتفي بما أنزلته عليّ من الدلائل الظاهرة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «لا أشك ولا أسأل أحدًا منهم»، ونظير هذا قوله للملائكة: {أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون} (سبأ). والمقصود أن يصرّحوا بالجواب الحق ويقولوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجنّ. وكما قال تعالى لعيسى عليه السلام: {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمّي إلهين} (المائدة). والمقصود منه أن يصرّح عيسى عليه السلام بالبراءة من ذلك فكذلك هنا. وقرأ ابن كثير والكسائي بنقل حركة الهمزة إلى السين والباقون بالهمزة وسكون السين. وقيل الخطاب لكل من يسمع، أي: إن كنت أيها السامع في شك مما أنزلنا على لسان نبينا إليك. وفيه تنبيه على أنّ من خالجته شبهة في الدين ينبغي أن يسارع إلى حلها بالرجوع إلى أهل العلم، وأظهر هذه الأقوال أوّلها، وهذه الأقوال تجري في قوله تعالى: {لقد جاءك الحق من ربك} أي: الآيات القاطعة لا مدخل للمرية فيه: {فلا تكونن من الممترين} أي: الشاكين فيه، وفي قوله تعالى: {ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين} أي: الذين خسروا أنفسهم.
{إنّ الذين حقت عليهم كلمة ربك} أي: ثبت عليهم قوله تعالى الذي كتبه في اللوح المحفوظ وأخبر به الملائكة أنهم: {لا يؤمنون} أي: يموتون كفارًا فلا يكون غيره، إذ لا يكذب كلامه ولا ينتقض قضاؤه.
{ولو جاءتهم كل آية} فإنّ السبب الأصلي لإيمانهم وهو تعلق إرادة الله تعالى به مفقود، فإنّ الدليل لا يهدي إلا بإعانة الله تعالى، وإذا لم تحصل تلك الإعانة ضاعت تلك الدلائل: {حتى يروا العذاب الأليم} فحينئذٍ لا ينفعهم الإيمان كما لم ينفع فرعون. وقرأ نافع وابن عامر كلمات بألف بعد الميم على الجمع، والباقون بغير ألف على الإفراد.
القصة الثالثة: قصة يونس عليه السلام المذكورة بقوله تعالى: {وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}
{فلولا} أي: فهلا: {كانت قرية} واحدة من قرى الأمم الماضية التي أهلكناها: {آمنت} أي: آمن أهلها عند إتيان الآيات أو عند رؤية أسباب العذاب: {فنفعها} أي: فتسبب عن إيمانها ذلك أنه نفعها: {إيمانها} بأن تقبله الله تعالى منها وكشف العذاب عنها، وقوله تعالى: {إلا قوم يونس} استثناء منقطع بمعنى لكن قوم يونس: {لما آمنوا} أي: لما أخلصوا الإيمان أوّل ما رأوا آية العذاب ولم يؤخروه إلى حلوله. ويجوز أن يكون متصلًا، والجملة في معنى النفي لتضمن حرف التحضيض معناه كأنه قيل: ما آمن أهل قرية من القرى الهالكة فنفعهم إيمانهم إلا قوم يونس: {ومتعناهم إلى حين} أي: إلى انقضاء آجالهم. روي عن ابن مسعود وغيره: أنّ قوم يونس كانوا بأرض نينوى من أرض الموصل، فأرسل الله تعالى إليهم يونس عليه السلام، يدعوهم إلى الإيمان فدعاهم فأبوا فقيل له: إنّ العذاب مصبحهم إلى ثلاثة أيام فأخبرهم بذلك فقالوا: إنا لم نجرب عليك كذبًا، فانظروا فإن بات فيكم تلك الليلة فليس بشيء، وإن لم يبت فاعلموا أنّ العذاب مصبحكم.
فلما كان في جوف تلك الليلة خرج يونس عليه السلام من بين أظهرهم، فلما أصبحوا تغشاهم العذاب فكان فوق رؤوسهم قدر ميل. وقال وهب: غامت السماء غيمًا عظيمًا، أسود هائلًا يدخن دخانًا عظيمًا فهبط حتى غشى مدينتهم واسودّت سطوحهم، فلما رأوا ذلك أيقنوا بالهلاك، فطلبوا يونس بينهم فلم يجدوه، وقذف الله تعالى في قلوبهم التوبة، فخرجوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وأولادهم ودوابهم ولبسوا المسوح، وأظهروا الإيمان والتوبة، وأخلصوا النية، وفرّقوا بين كل والدة وولدها من النساء والدواب فحنّ بعضها إلى بعض، وعلت أصواتها واختلطت بأصواتهم، وعجوا وتضرّعوا إلى الله تعالى وقالوا آمنا بما جاء به يونس عليه السلام، فرحمهم الله تعالى، واستجاب دعاءهم، وكشف عنهم العذاب بعد ما أظلهم. وكل ذلك يوم عاشوراء يوم الجمعة، وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه بلغ من توبتهم أن ترادّوا المظالم حتى أنّ الرجل كان يقلع الحجر وكان قد وضع عليه أساس بنيانه فيردّه، وقيل: خرجوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا: قد نزل بنا العذاب فما ترى؟ فقال لهم: قولوا يا حيّ حين لا حيّ، ويا حيّ محيي الموتى، ويا حيّ لا إله إلا أنت. فقالوها، فكشف عنهم. وعن الفضيل بن عياض: اللَّهمَّ إنّ ذنوبنا قد عظمت وجلت، وأنت أعظم منها وأجل، افعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله، وستأتي بقية القصة إن شاء الله تعالى في سورة والصافات.
فإن قيل: قد حكى الله تعالى عن فرعون أنه تاب في آخر الأمر ولم يقبل توبته، وحكى عن قوم يونس أنهم آمنوا وقبل توبتهم، فما الفرق بين الحالين؟
أجيب: بأنّ فرعون إنما تاب بعد أن شاهد العذاب وهو وقت اليأس من الحياة، أمّا قوم يونس فإنهم تابوا قبل ذلك، فإنهم لما ظهرت أمارات دلت على قرب العذاب تابوا قبل أن ينزل بهم ولم يباشرهم، فكانوا كالمريض يخاف الموت ويرجو العافية، وإنّ الله تعالى قد علم صدق نياتهم في التوبة فقبل توبتهم بخلاف فرعون فإنه لم يصدق في إيمانه ولا أخلص فلم يقبل منه. قال الله تعالى: {ولو شاء ربك} يا محمد: {لآمن} بك وصدّقك: {من في الأرض كلهم} بحيث لم يشذ منهم أحد: {جميعًا} أي: مجتمعين على ذلك في آن واحد لا يختلفون في شيء منه ولكن لم يشأ أن يصدّقك ويؤمن بك إلا من سبقت له السعادة في الأزل، وفي هذا تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم فإنه كان حريصًا على إيمانهم كلهم، فأخبر الله تعالى أنه لا يؤمن به إلا من سبقت له السعادة الأزلية فلا تتعب نفسك على إيمانهم. وهو قوله تعالى: {أفأنت تكره الناس} أي: الذين لم يرد الله إيمانهم: {حتى يكونوا مؤمنين} أي: ليس إيمانهم إليك حتى تكرههم عليه وتحرص عليه، إنما إيمان المؤمن وإضلال الكافر بمشيئة الله تعالى وقضائه وليس لأحد ذلك سواه. كما قال تعالى: {وما كان} أي: وما ينبغي وما يتأتى: {لنفس} أي: واحدة فما فوقها: {أن تؤمن} أي: يقع منها إيمان في وقت مّا: {إلا بإذن الله} أي: بإرادته لها بالإيمان، فإنّ هدايتها إلى الله فهو المهدي والمضل.