فصل: السؤال السادس: كيف استحقوا القتل وهم قد تابوا من الردة والتائب من الردة لا يقتل؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.السؤال السادس: كيف استحقوا القتل وهم قد تابوا من الردة والتائب من الردة لا يقتل؟

الجواب: ذلك مما يختلف بالشرائع فلعل شرع موسى عليه السلام كان يقتضي قتل التائب عن الردة إما عامًا في حق الكل أو كان خاصًا بذلك القوم.

.السؤال السابع: هل يصح ما روي أن منهم من لم يقتل ممن قبل الله توبته؟

الجواب: لا يمتنع ذلك لأن قوله تعالى: {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ} خطاب مشافهة فلعله كان مع البعض أو إنه كان عامًا فالعام قد يتطرق إليه التخصيص. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله جلّ ذكره: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ العِجْلَ}.
أي ما أضررتم إلا بأنفسكم فيما ارتكبتم من ذنوبكم، فأمَّا الحق سبحانه فعزيز الوصف، لا يعود إلى عِزِّه من ظلم الظالمين شيء، ومن وافق هواه واتَّبع مناه فَعِجْلُه ما علَّق به همَّه وأفرد له قصده.
قوله جلّ ذكره: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ}.
الإشارة إلى حقيقة التوبة بالخروج إلى الله بالكلية.
قوله جلّ ذكره: {فَاقتُلُوا أَنفُسَكُمْ}.
التوبة بقتل النفوس غير... إلا أن بني إسرائيل كان لهم قتل أنفسهم جهرًا، وهذه الأمة توبتهم بقتل أنفسهم في أنفسهم سرًا، فأَوَّلُ قَدَمِ في القصد إلى الله الخروجُ عن النفس.

.فصل: الفرق بين توبة بني إسرائيل، وبيان أيهما أشق:

ولقد توهم الناس أن توبة بني إسرائيل كانت أشق، ولا كما توهموا؛ فإن ذلك كان مقاساة القتل مرة واحدة، وأمَّا أهل الخصوص من هذه الأمة ففي كل لحظة قتل، ولهذا:
ليس من مات فاستراح بميتٍ ** إنما الميت ميت الأحياء

وقتل النفس في الحقيقة التبري عن حوْلِها وقوتها أو شهود شيءٍ منها، ورد دعواها إليها، وتشويش تدبيرها عليها، وتسليم الأمور إلى الحق- سبحانه- بجملتها، وانسلاخها من اختِيارها وإرادتها، وانمحاء آثار البشرية عنها، فأمَّا بقاء الرسوم والهياكل فلا خطرَ له ولا عبرةَ به.
قوله جلّ ذكره: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.
كونه لكم عنكم أتمُّ من كونكم لأنفسكم. اهـ.

.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم}.
الظلم هنا المراد به الكفر لتقيّده باتخاذ العجل.
قال الله تعالى: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وقال جلّ ذكره: {الذين ءَامَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} هو مطلق فلذلك أشكل على الصحابة رضي الله عنهم، وَقَالوا: أيُّنَا لم يلبس إيمانه بظلم؟
قال ابن عرفة: وقدم المجرور هنا على المفعول، والأصل تأخيره عنه، ولا يقدم إلا لنكتة تتوخى والحكمة في ذلك أن النداء إقبال على المنادى، وتخصيص له فلو قيل: وإذ قال موسى: يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم لقومه.
لما كان لقومه فائدة بخلاف قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ موسى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ} فإن تقديم المجرور هناك بمعنى آخر وهو الاعتناء بالمقول له وتشريفه، والاهتمام به وتخصيصه بتلك المقالة دون غيره، وبين بقوله: {ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُم} أن الله تعالى منزه عن أن يناله شيء من ظلمهم، وإنما ضرر ذلك راجع إليهم.
قال ابن عرفة: وهذا يشبه المحدود، فإنه لا تنفع فيه الشفاعة، ولا تسقطه التوبة كما قال الإمام مالك رضي الله عنه في المحارب: إذا قتل أحدا فعفا عنه وليه، أنّ الحد لا يرتفع لأن الحق لله تعالى، فلذلك قال: {فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} وهذا بيان للتوبة، والفاء للتسبيب أو للتعقيب.
قوله تعالى: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ}.
الإشارة إلى التوبة بشرطها، وهو القتل، وخير هذا إما فعل، لأن ضده وهو عدم التوبة لا خير فيه، أو أفعل مِن، لأنّ ضده المشارك له في مطلق الخيرية هو التوبة مع علم قتل الأنفس.
قوله تعالى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ}.
إما علم أنكم تتوبون، وإما على المعنى ألهمكم للتوبة أو يسرّها لكم.
قوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم}.
قال ابن عرفة: الوصف بالرحيم دليل لنا على المعتزلة في إبطال قاعدة التحسين والتقبيح، وأن الله تعالى لا يجب عليه شيء لاقتضائها أن توبته على العصاة محض رحمة منه وتفضل لأن الدليل اقتضى وجوب ذلك عليه، قال الإمام فخر الدين الرازي.
قال ابن عرفة: يقال: إنه إنما لم يقل: فقتلوا لأن توبتهم ملزومة لقتلهم أنفسهم، فلا يبق للقتل بعد ذلك محل، لأنهم قد ماتوا حين التوبة. اهـ.

.من فوائد أبي حيان في الآية:

قال رحمه الله:
{وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم}: عدّ صاحب المنتخب هذا إنعامًا خامسًا، وقيل: هذه الآية وما بعدها منقطعة مما تقدم من التذكير بالنعم، وذلك لأنه أمر بالقتل، والقتل لا يكون نعمة، وضعف بأن من أعظم النعم التنبيه على ما به يتخلصون من عقاب الذنب العظيم، وذلك هو التوبة.
وإذا كان قد عدّد عليهم النعم الدنيوية، فلأن يعدد عليهم النعم الدينية أولى.
ولما لم يكمل وصف هذه النعمة إلا بمقدمة ما تسببت عنه، قدم ذكر ذلك، وهذا الخطاب هو محاورة موسى لقومه حين رجع من الميقات ووجدهم قد عبدوا العجل.
واللام في قوله: لقومه، للتبليغ، وإقبال موسى عليه بالنداء، ونداؤه بلفظ يا قوم، مشعر بالتحنن عليهم، وأنه منهم، وهم منه، ولذلك أضافهم إلى نفسه، كما يقول الرجل: يا أخي، ويا صديقي، فيكون ذلك سببًا لقبول ما يلقى إليه، بخلاف أن لو ناداه باسمه، أو بالوصف القبيح الصادر منه.
وفي ذلك أيضًا هزلهم لقبولهم الأمر بالتوبة، بعد تقريعهم بأنهم ظلموا أنفسهم، وأي ظلم أعظم من اتخاذ إله غيره {إن الشرك لظلم عظيم} ونص على أنهم ظلموا أنفسهم بذلك لأنه أفحش الظلم، لأن نفس الإنسان أحب شيء إليه، فإذا ظلمها، كان ذلك أفحش من أن يظلم غيره.
ويا قوم: منادى مضاف إلى ياء المتكلم، وقد حذفت واجتزى بالكسرة عنها، وهذه اللغة أكثر ما في القرآن.
وقد جاء إثباتها كقراءة من قرأ: يا عبادي فاتقون، بإثبات الياء ساكنة، ويجوز فتحها، فتقول: يا غلامي، وفتح ما قبلها وقلب الياء ألفًا، فتقول: يا غلامًا.
وأجاز الأخفش حذف الألف والاجتزاء بالفتحة عنها، فتقول: يا غلام، وأجازوا ضمه وهو على نية الإضافة فتقول: يا غلام، تريد: يا غلامي.
وعلى ذلك قراءة من قرأ: قل {ربّ احكم بالحق} {قال ربّ السجن أحب إليّ} هكذا أطلقوا، وفصل بعضهم بين أن يكون فعلًا أو اسمًا، إن كان فعلًا فلا يجوز بناؤه على الضم، ومثل الفعل بمثل: يا ضاربي، فلا يجيز في هذا يا ضارب، وظاهر الخطاب اختصاصه بمتخذي العجل.
وقيل: يجوز أن يراد به: من عبد ومن لم يعبد جعلوا ظالمين، لكونهم لم يمنعوهم ولم يقاتلوهم.
والباء في {باتخاذكم العجل} سببية، واحتمال الوجهين السابقين في قوله: {ثم اتخذتم العجل} جاء هنا، أي بعملكم العجل وعبادته، أو {باتخاذكم العجل إلهًا}.
قال السلمي: عجل كل واحد نفسه، فمن أسقط مراده وخالف هواه فقد برئ من ظلمه.
{فتوبوا إلى بارئكم} الفاء في فتوبوا معها التسبيب، لأن الظلم سبب للتوبة، ولما كان السامريّ قد عمل لهم من حليهم عجلًا، قيل لهم: توبوا إلى بارئكم، أي منشئكم وموجدكم من العدم، إذ موجد الأعيان هو الموجد حقيقة.
وأما عمل العجل واتخاذه فليس فيه إبراز الذواب من العدم، إنما ذلك تأليف تركيبي لا خلق أعيان، فنبهوا بلفظ الباري على الصانع، أي الذي أوجدكم هو المستحق للعبادة، لا الذي صنعه، مصنوع مثله، فلذلك، والله أعلم، كان ذكر الباري هنا.
وقرأ الجمهور: بظهور حركة الإعراب في بارئكم، وروي عن أبي عمرو: الاختلاس، روي ذلك عنه سيبويه، وروى عنه: الإسكان، وذلك إجراء للمنفصل من كلمتين مجرى المتصل من كلمة، فإنه يجوز تسكين مثل إبل، فأجرى المكسوران في بارئكم مجرى إبل، ومنع المبرد التسكين في حركة الإعراب، وزعم أن قراءة أبي عمرو لحن، وما ذهب إليه ليس بشيء، لأن أبا عمرو لم يقرأ إلا بأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولغة العرب توافقه على ذلك، فإنكار المبرد لذلك منكر، وقال الشاعر:
فاليوم أشرب غير مستحقب ** إثمًا من الله ولا واغل

وقال آخر:
رحت وفي رجليك ما فيهما ** وقد بداهنك من المئزر

وقال آخر:
أو نهر تيرى فما تعرفكم العرب

وقد خلط المفسرون هنا في الردّ على أبي العباس، فأنشدوا ما يدل على التسكين مما ليست حركته حركة إعراب.
قال الفارسي: أما حركة البناء فلم يختلف النحاة في جواز تسكينها، ومما يدل على صحة قراءة أبي عمر وما حكاه أبو زيد من قوله تعالى: {ورسلنا لديهم يكتبون} وقراءة مسلمة ابن محارب: {وبعولتهنّ أحقّ بردّهن في ذلك} وذكر أبو عمرو: أن لغة تميم تسكين المرفوع من يعلمه ونحوه، ومثل تسكين بارئكم، قراءة حمزة، {ومكر السيئ} وقرأ الزهريّ: باريكم، بكسر الياء من غير همز، وروي ذلك عن نافع.
ولهذه القراءة تخريجان أحدهما: أن الأصل الهمزة، وأنه من برأ، فخففت الهمزة بالإبدال المحض على غير قياس، إذ قياس هذا التخفيف جعلها بين بين.
والثاني: أن يكون الأصل باريكم، بالياء من غير همز، ويكون مأخوذًا من قولهم: بريت القلم، إذا أصلحته، أو من البري: وهو التراب، ثم حرك حرف العلة، وإن كان قياسه تقديرًا لحركة في مثل هذا رفعًا وجرًا، وقال الشاعر:
ويومًا توافينا الهوى غير ماضي

وقال آخر:
ولم تختضب سمر العوالي بالدم

وقال آخر:
خبيث الثرى كأبي الأزيد

وهذا كله تعليل شذوذ.
وقد ذكر الزمخشري في اختصاص ذكر البارئ هنا كلامًا حسنًا هذا نصه.
فإن قلت: من أين اختص هذا الموضع بذكر البارئ؟ قلت: البارئ هو الذي خلق الخلق بريئًا من التفاوت، {ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} ومتميزًا بعضه من بعض بالأشكال المختلفة والصور المتباينة، فكان فيه تقريع بما كان منهم من ترك عبادة العالم الحكيم الذي برأهم بلطيف حكمته على الأشكال المختلفة، أبرياء من التفاوت والتنافر إلى عبادة البقر التي هي مثل في الغباوة والبلادة.
في أمثال العرب: أبلد من ثور، حتى عرضوا أنفسهم لسخط الله ونزول أمره بأن يفك ما ركبه من خلقهم وينثر ما نظم من صورهم وأشكالهم حين لم يشكروا النعمة في ذلك وغبطوها بعبادة من لا يقدر على شيء منها، انتهى كلامه.
{فاقتلوا أنفسكم}: ظاهر هذا أنه القتل المعروف من إزهاق الروح.
فظاهره أنهم يباشرون قتل أنفسهم.
والأمر بالقتل من موسى على نبينا وعليه السلام لا يكون إلا بوحي من الله تعالى، إما بكونه كانت التوراة في شريعته متقررة بقتل النفس، وإما بكونه أمر ذلك بأمر متجدد عقوبة لهؤلاء الذين عبدوا العجل، والمأمور بقتل أنفسهم عبّاد العجل، أو من عبد ومن لم يعبد.
والمعنى: اقتلوا الذين عبدوا العجل من أهلكم، كقوله: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} أي من أهلكم وجلدتكم، أو الجميع مأمورون بقتل أنفسهم، ثلاثة أقوال.
وقال ابن إسحاق: أمروا بأن يستسلموا للقتل، وسمي الاستسلام للتقل قتلًا على سبيل المجاز.
وقيل: معنى فاقتلوا أنفسكم: ذللوا أهواءكم.
وقد قدمنا أن التقتيل بمعنى التذليل، ومنه أيضًا قول حسان:
إن التي عاطيتني فرددتها ** قتلت قتلت فهاتها لم تقتل

فتلخص في قوله: {فاقتلوا}، ثلاثة أقوال:
الأول: الأمر بقتل أنفسهم.
الثاني: الاستسلام للقتل.
والثالث: التذليل للأهواء.
والأول هو الظاهر، وهو الذي نقله أكثر الناس.
وظاهر الكلام أنهم هم المأمورون بقتل أنفسهم، فقيل: وقع القتل هكذا قتلوا أنفسهم بأيديهم.
وقيل: قتل بعضهم بعضًا من غير تعيين قاتل ولا مقتول.
وقيل: القاتلون هم الذين اعتزلوا مع هارون، والمقتولون عباد العجل.
وقيل: القاتلون هم الذين كانوا مع موسى في المناجاة بطور سيناء، والمقتولون من عداهم.
وإذا قلنا: إن بعضهم قتل بعضًا، فاختلفوا في كيفية القتل، فقيل: اصطفوا صفين، فاجتلدوا بالسيوف والخناجر، فقتل بعضهم بعضًا حتى قيل لهم: كفوا، فكان ذلك شهادة للمقتول، وتوبة للقاتل، وقيل: أرسل الله عليهم ظلامًا ففعلوا ذلك.
وقيل: وقف عباد العجل صفًا، ودخل الذين لم يعبدوه عليهم بالسلاح فقتلوهم.
وقيل: احتبى عباد العجل في أفنية دورهم، أو في موضع غيره، وخرج عليهم يوشع بن نون وهم محتبون فقال: ملعون من حل حبوته، أو مد طرفه إلى قاتله، أو اتقاه بيد أو رجل، فيقولون: آمين.
فما حل أحد منهم حبوته حتى قتل منهم سبعون ألفًا.
وفي رواية، قال لهم: من حل حبوته لم تقبل توبته، ولم يذكر اللعنة.
وقيل: إن الرجل كان يبصر ولده ووالده وجاره وقريبه، فلم يمكنهم المضي لأمر الله، فأرسل الله ضبابة وسحابة سوداء لا يتباصرون تحتها، وأمروا أن يحتبوا بأفنية بيوتهم، ويأخذ الذين لم يعبدوا العجل سيوفهم، وقيل لهم: أصبروا، فلعن الله من مد طرفه، أو حل حبوته، أو اتقى بيد أو رجل، فيقولون: آمين، فقتلوهم إلى المساء، حتى دعا موسى وهارون، قالا: يا رب! هلكت بنو إسرائيل البقية البقية، فكشفت السحابة ونزلت التوبة، فسقطت الشفار من أيديهم، وكانت القتلى سبعين ألفًا.
انتهى ما نقلناه من بعض ما أورده المفسرون في كيفية القتل وفي القاتلين والمقتولين.
وفي ذلك من الاتعاظ والاعتبار ما يوجب مبادرة الازدجار عن مخالفة الملك القهار.
وانظر إلى لطف الله بهذه الملة المحمدية، إذ جعل توبتها في الإقلاع عن الذنب، والندم عليه، والعزم على عدم المعاودة إليه.
والفاء في قوله: {فاقتلوا أنفسكم}، إن قلنا: إن التوبة هي نفس القتل، وأن الله تعالى جعل توبتهم قتل أنفسهم، فتكون هذه الجملة بدلًا من قوله، فتوبوا، والفاء كهي في فتوبوا معها السببية.
وإن قلنا: إن القتل هو تمام توبتهم، فتكون الفاء للتعقيب، والمعنى فأتبعوا التوبة القتل، تتمة لتوبتكم.
وقد أنكر في المنتخب كون القتل يكون توبة وجعل القتل شرطًا في التوبة، فأطلق عليه مجازًا، كما يقال للغاصب إذا قصد التوبة: توبتك رد ما غصبت، يعني أنه لا تتم توبتك إلا به، فكذلك هنا.
وتعدية التوبة بإلى معناه الانتهاء بها إلى الله، فتكون بريئة من الرياء في التوبة، لأنهم إن راءوا بها لم تكن إلى الله.
ولا يلتفت إلى ما وقع في المنتخب من أن المفسرين أجمعوا على أنهم ما قتلوا أنفسهم بأيديهم، إذ قد نقلنا أن منهم من قال ذلك، فليس بإجماع.
وأما منع عبد الجبار ذلك من جهة العقل، بأن القتل هو نقض البنية التي عنده، يجب أن يخرج من أن يكون حيًا، وما عدا ذلك إنما يسمى قتيلًا على سبيل المجاز، قال: وهذا لا يجوز أن يأمر الله به، لأن العبادات الشرعية إنما تحسن لكونها مصالح لذلك المكلف، ولا يكون مصلحة إلا في الأمور المستقبلة، وليس بعد القتل حال تكليف حتى يكون القتل مصلحة فيه، وهذا بخلاف ما يفعله الله من الإماتة، لأن ذلك من فعل الله تعالى، فيحسن أن يفعله إذا كان صلاحًا لمكلف آخر، وبخلاف أن يأمر الله بأن يجرح نفسه أو يقطع عضوًا من أعضائه، ولا يحصل الموت عقيبه، لأنه لما بقي بعد ذلك الفعل حيًا لم يمتنع أن يكون ذلك الفعل صلاحًا في الأفعال المستقبلة.
انتهى كلامه، وهو مبني على قاعدتهم في الاعتزال من مراعاة المصلحة.
والكلام معهم في ذلك مذكور في أصول الدين، مع أنه يمكن أن يقال هنا بالمصلحة، لأن الأمر بالقتل ليس إلا من باب الزواجر والروادع، وليس من شرط ذلك اعتبار حال المكلف، بل يصنع الزواجر لازدجار غيره.
وإذا فعل مثل هذا الفعل العظيم الذي هو القتل بمن عبد العجل، اتعظ به غيره وانكف عن الوقوع فيما لا يكون التوبة منه إلا بالقتل.
وقرأ قتادة فيما نقل المهدوي وابن عطية والتبريزي وغيرهم: فأقيلوا أنفسكم وقال الثعلبي: قرأ قتادة: فاقتلوا أنفسكم.
فأما فأقيلوا، فهو أمر من الإقالة، وكأنّ المعنى: أن أنفسكم قد تورطت في عذاب الله بهذا الفعل العظيم الذي تعاطيتموه من عبادة العجل، وقد هلكت فأقيلوها بالتوبة والتزام الطاعة، وأزيلوا آثار تلك المعاصي بإظهار الطاعات.
وأما فاقتالوا أنفسكم، فقالوا: هو افتعل بمعنى استفعل، أي فاستقيلوها، والمشهور استقال لا اقتال.
قال ابن جني: يضعف أن يكون عينها واوًا كاقتادوا، ويحتمل طأن تكون ياء كأقياس، والتصريف يضعف أن يكون من الاستقالة، كما قال ابن جني، فهذه اللفظة لا شك مسموعة بدليل نقل قتادة لها ويكون مما جاءت فيه افتعل بمعنى استفعل، وهو أحد المعاني التي جاءت لها افتعل، وذلك نحو: اعتصم واستعصم.
قال السلميّ: فتوبوا إلى بارئكم.
ارجعوا إليه بأسراركم وقلوبكم، فاقتلوا أنفسكم بالتبري منها، فإنها لا تصلح لبساط الإنس.
وقال الواسطي: كانت توبة بني إسرائيل قتل أنفسهم، ولهذه إلامة أشد، وهو إفناء نفوسهم عن مرادها مع بقاء رسوم الهياكل.
وقال فارس: التوبة محو البشرية بمباينات الإلهية.
وقيل: توبوا إليه من أفعالكم وأقوالكم وطاعاتكم، واقتلوا أنفسكم في طاعاته، وقتل النفس عما دون الله وعن الله بالفراغ من طلب الجزاء حتى ترجع إلى أصل العدم، ويبقى الحق كما لم يزل.
وقال بعض أهل اللطائف: التوبة بقتل النفس غير منسوخة، لأن بني إسرائيل كان لهم قتل أنفسهم جهرًا، وهذه إلامة قتل أنفسهم في أنفسهم، وأول قدم في القصد إلى الله الخروج عن النفس توهم الناس أن توبة بني إسرائيل كانت أشق، ولا كما توهموا، فإن ذلك كان مقاساة القتل مرة، وأما أهل الخصوص ففي كل لحظة قتل، قال الشاعر:
ليس من مات فاستراح بميت ** إنما الميت ميت الأحياء

{ذلكم}: إشارة إلى المصدر المفهوم من قوله: فاقتلوا، لأنه أقرب مذكور، أي القتل: {خير لكم} وقال بعضهم: هو إشارة إلى المصدرين المفهومين من قوله: فتوبوا واقتلوا، فأوقع المفرد موقع التثنية، أي فالتوبة والقتل خير لكم، فيكون مثل قولهم في قوله تعالى: {عوان بين ذلك} أي بين ذينك أي الفارض والبكر، وكذلك قوله:
إن للخير وللشر مدى ** وكلا ذلك وجه وقبل

أي: وكلا ذينك، وهذا ينبني على ما قدمناه من أن قوله: فاقتلوا، هل هو تفسير للتوبة؟ فتكون التوبة هي القتل.
فينبغي أن يكون ذلكم مفردًا أشير به إلى مفرد، وهو القتل، أو يكون القتل مغايرًا للتوبة، فيتحتمل هذا الذي قاله هذه القائل، ولكن الأرجح خير، إن كانت للتفضيل فقيل: المعنى خير من العصيان والأصرار على الذنب.
وقيل: خير من ثمرة العصيان، وهو الهلاك الذي لهم، إذ الهلاك المتناهي خبر من الهلاك غير المتناهي، إذ الموت لابد منه، فليس فيه إلا التقديم والتأخير.
وكلا هذين التوجيهين ليس التفضيل على بابه، إذ العصيان والهلاك غير المتناهي لا خير فيه، فيوصف غيره بأنه أزيد في الخيرية عليه، ولكن يكون على حد قولهم: العسل أحلى من الخل.
ويحتمل أن لا يكون للتفضيل بل أريد به خير من الخيور.
لكم: متعلق بخير إن كان للتفضيل، وإن كانت على أنها خير من الخيور فيتعلق بمحذوف، أي خير كائن لكم.
والتخريجان يجريان في نصب قوله: {عند بارئكم}.
والعندية هنا مجاز، إذ هي ظرف مكان وتجوّز به عن معنى حصول ثوابهم من الله تعالى.
وكرر البارئ باللفظ الظاهر توكيدًا، ولأنها جملة مستقلة فناسب الإظهار، وللتنبيه على أن هذا الفعل هو راجح عند الذي أنشأكم، فكما رأى أن إنشاءكم راجح، رأى أن إعدامكم بهذا الطريق من القتل راجح، فينبغي التسليم له في كل حال، وتلقي ما يرد من قبله بالقبول والامتثال.
{فتاب عليكم}: ظاهره أنه إخبار من الله تعالى بالتوبة عليهم، ولابد من تقدير محذوف عطفت عليه هذه الجملة، أي فامتثلتم ذلك فتاب عليكم.
وتكون هاتان الجملتان مندرجتين تحت الإضافة إلى الظرف الذي هو: إذ في قوله: {وإذ قال موسى لقومه}.
وأجاز الزمخشري أن يكون مندرجًا تحت قول موسى على تقدير شرط محذوف، كأنه قال: فإن فعلتم فقد تاب عليكم، فتكون الفاء إذ ذاك رابطة لجملة الجزاء بجملة الشرط المحذوفة، هي وحرف الشرط، وما ذهب إليه الزمخشري لا يجوز، وذلك أن الجواب يجوز حذفه كثيرًا للدليل عليه.
وأما فعل الشرط وحده دون الأداة فيجوز حذفه إذا كان منفيًا بلا في الكلام الفصيح، نحو قوله:
فطلقها فلست لها بكفؤ ** وإن لا يعل مفرقك الحسام

التقدير: وأن لا تطلقها يعل، فإن كان غير منفي بلا، فلا يجوز ذلك إلا في ضرورة، نحو قوله:
سقته الرواعد من صيف وإن ** من خريف فلن يعدما

التقدير: وإن سقته من خريف فلن يعدم الري، وذلك على أحد التخريجين في البيت، وكذلك حذف فعل الشرط وفعل الجواب دون أن يجوز في الضرورة، نحو قوله:
قالت بنات العمّ يا سلمى وإن ** كان عييًا معدمًا قالت وإن

التقدير: وإن كان عييًا معدمًا أتزوجه.
وأما حذف فعل الشرط وأداة الشرط معًا، وإبقاء الجواب، فلا يجوز إذا لم يثبت ذلك من كلام العرب.
وأما جزم الفعل بعد الأمر والنهي وأخواتهما فله.
ولتعليل ما ذكرنا من الأحكام مكان آخر يذكر في علم النحو.
وظاهر قوله: {فتاب عليكم} أنه كما قلنا: إخبار عن المأمورين بالقتل الممتثلين ذلك.
وقال ابن عطية: معناه على الباقين، وجعل الله القتل لمن قتل شهادة، وتاب على الباقين وعفا عنهم، انتهى كلامه.
{إنه هو التواب الرحيم}: تقدم الكلام على هذه الجملة عند قوله تعالى في قصة آدم: {فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم} فأغنى ذلك عن إعادته هنا. اهـ.