فصل: مطلب العمل لغير اللّه والآية المدنية الثالثة وعود الضمير في منه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأول الآيتين المدنيتين 13/ 14 في هذه السورة هو قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ} اختلق محمد هذا القرآن ونسبه إلى اللّه {قُلْ} يا سيد الرسل لهؤلاء المفترين: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ} أي تحداهم يا محمد بذلك، لأنهم عرب مثلك، والقرآن باللغة العربية، فقل إذا كنتم تزعمون أني افتريته فافتروا عشر سور مثله، وكان نزل من القرآن عند هذه الحادثة جميع السور المكية وهي ست وثمانون سورة، وقسم من المدني، لأن هذه الحادثة وقعت في المدينة، وهاتين الآيتين نزلت فيها متأخرتين عن سورتها المكية التي عددها بحسب النزول، اثنتان وخمسون سورة، فتراهم عاجزين عن الإتيان ببعض سورة من مثل هذا القرآن مهما بلغوا في الفصاحة، لأن كلام الخلق لا يضاهي كلام الخالق، وقد ذكرنا في سورة يونس المارّة عند قوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} الآية 38 أن معناها هناك مثل جميع ما نزل، فلما عجزوا تحداهم الآن بعشر سور، وقيل معناها هناك في الإخبار بالغيب والأحكام والوعد والوعيد لا بسورة واحدة، ومثلها الآية 88 من سورة الإسراء المارة، ومعناها هنا في الفصاحة والبلاغة من غير إخبار عن غيب ولا ذكر حكم ولا وعد ولا وعيد، ولهذا فلا دليل لمن قال إن هود نزلت قبل يونس، لأنه تحداهم بعشر سور فلما عجزوا تحداهم بسورة واحدة، تأمل وقد بينا أن يونس نزلت قبل هود على ما عليه الجمهور، وهود بعدها بالتنزيل وفي ترتيب القرآن أيضا، فضلا عن أن هذه الآية والتي بعدها مدنيتان، وأن بينها وبين آية يونس سنين وأشهرا وأياما، هذا ولما تحداهم بهذا الكلام أمره أن يقول لهم {وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} من شركائكم وأعوانكم وأمثالكم من كل خلقه ليساعدوكم على الإتيان بذلك {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ 13} أنه مفترى، ولا تكرار في هذه الآية وآية يونس لأن هذه مدنية وبعشر سور، وتلك مكية، وبكل سوره النازلة وآية البقرة عدد 23 بخلافها كما سيأتي في تفسيرها.
وقد بينا عند تفسير آية يونس ما هو أوضح من هذا فراجعه.
قال تعالى: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} جاء الضمير بالجمع تعظيما لحضرة الرسول وطبعا لم ولن يستجيبوا لأنهم أقل من ذلك {فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ} هذا القرآن كله يا محمد عليكم {بِعِلْمِ اللَّهِ} تعالى بواسطة أمينه جبريل عليه السلام ليس بمفترى، لأنكم وجميع الخلق لا تقدرون على الإتيان بسورة منه، ولا آية معجزة أيضا {وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ} وحده الإله القادر على إنزاله وجعله معجزا للخلق أجمع، فقل لعامة الكفار هو كلام اللّه {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ 14} مذعنون له منقادون لعظمته، خاضعون لأوامره ونواهيه.
وبعد إظهاركم العجز عن ما تحداكم به لم يبق شائبة شبهة بأنه من عند غير اللّه بل من عند اللّه حقيقة، وأن ما أنتم عليه من الشرك والإنكار باطل، فاتركوا هذه المكابرة والعناد وآمنوا باللّه ورسوله.
انتهت الآيتان المدنيتان.
قال تعالى: {مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها} بأعماله الحسنة فيها ونيته الصادقة، ورضي باستبدال الباقي بالفاني والدائم بالمنقطع {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها} كاملة زائدة {وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ 15} شيئا منها ولا ينقصون نقيرا والضميران عائدان للحياة الدنيا، الثاني مؤكد للأول، لأن البخس لا يكون إلا في الدنيا من أولى الأمر، ونجس الآخرة ناشئ عن التقصير في الأعمال الصالحة.
نزلت هذه الآية في كل من عمل عملا يبتغي به غير اللّه، والبخس نقص الحق على سبيل الظلم من أيّ كان، وجاء هنا على ظاهر الحال محافظة على صور الأعمال ومبالغة في نفي النقص، فكأنه نقص لحقوقهم التي يزعمونها، وفعل يبخسون هذا لم يكرر في القرآن.
هذا، وما أخرجه النحاس في ناسخه عن ابن عباس بأن هذه الآية منسوخة بآية: {مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} الآية 18 من سورة الإسراء المارة، مردود من وجهين: الأول أن هذه من الأخبار والأخبار لا يدخلها النسخ كما نوهنا به في الآية 41 من سورة يونس المارة، الثاني أن آية الإسراء مقدمة على هذه بالنزول، والمقدم لا ينسخ المؤخر كما بيناه في بحث الناسخ والمنسوخ في المقدمة، فلا معنى للقول بالنسخ البتة {أُولئِكَ} الذين وصفوا أعلاه هم {الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} لأنهم استوفوا ثواب أعمالهم في الدنيا وقد عملوها لأجلها {وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها} من الخير لأنهم صنعوه للسمعة والرياء فلم يقصدوا فيه رضاء اللّه، فكافأهم عليه في الدنيا لأن عمل الخير لابد وأن يكون له ثواب لا يعدمه فاعله بمقتضى قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} الآية 7 من سورة الزلزلة.

.مطلب العمل لغير اللّه والآية المدنية الثالثة وعود الضمير في منه:

قال تعالى: {وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ 16} في الدنيا من الخير أي في الآخرة لأنه كان لغير اللّه ولمكافأتهم عليه فيها، والباطل لا ثواب له في الآخرة.
أخرج مسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: قال اللّه تبارك وتعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه».
وأخرج الترمذي عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «من تعلم علما لغير اللّه أو أراد به غير اللّه فليتبوأ مقعده من النار».
وأخرج أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «من تعلم علما مما يبتغى به وجه اللّه، لا يتعلمه إلا ليصبب به غرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة»، أي ريحها.
وما قيل إن هذه الآية نزلت في اليهود لا دليل له لأنها مكية وليست من المستثنيات والآية مطلقة وسبب نزولها ما ذكرناه آنفا، أما الآية المدنية الثالثة فهي قوله تعالى: {أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} وأراد بأعماله الصالحة وجه اللّه تعالى ابتغاء ثوابه لأنه يعمل مخلصا على برهان ناصع وحجة واضحة دالة على طريق الحق والصواب فيما يأتيه ويذره لأن البيّنة هي الدلالة الواضحة عقلية كانت أو محسوسة، وتطلق على الدليل مطلقا وهاؤها للمبالغة وتنوينها للتعظيم، أي بينة عظيمة الشان، والمراد بها هنا القرآن المعبر عنه بالبيّنة ولذلك ذكر الضمير هنا بتأويل البينة بالبرهان أو القرآن أي الذي يعمل على هذا النور ليس كمن وصف بالآية المتقدمة من الذين يعملون على جهل وظلمة {وَيَتْلُوهُ} أي القرآن الموصوف بما تقدم {شاهِدٌ مِنْهُ} أي يتبع هذا القرآن دليل منه وهو الإعجاز في نظمه وإخباره بالغيب دليل كاف على أنه من عند اللّه تعالى: {وَمِنْ قَبْلِهِ} أي القرآن، وذكر الضمير تأكيدا لأنه يكون المراد به هو هو {كِتابُ مُوسى} أي التوراة الجليلة لا الصحف المنزلة عليه قبلها لعدم إطلاق لفظ الكتاب عليها فهي شاهدة بصحته أنه من عند اللّه لأنه يخبر عما قبلها، وهذا كاف في الاستشهاد بكونه {إِمامًا} في الدين والأحكام يقتدي به المهتدون {وَرَحْمَةً} عظيمة ونعمة كبرى لمن أنزل عليهم واتبعوه وعملوا بما فيه واهتدوا بهديه، لأن التوراة الجلية أول كتاب اشتمل على الأحكام والشرائع التي لابد للبشر منها إذ الكتب والصحف قبلها كانت تحتوي على التوحيد والإيمان واعتقاد بالنبوة فقط، لذلك يقال لها صحف ولا يطلق عليها لفظ الكتاب إلا مجازا، وقد يجوز أن تتطرق الصحف لبعض الأحكام، راجع الآيتين 36/ 37 من سورة والنجم المارتين {أُولئِكَ} الذين اقتدوا في التوراة وعملوا فيها من أهل الكتابين المخلصين الذين لا يكابرون ولا يعاندون ولا يبدلون ولا يغيرون شيئا منها برأيهم مما يكون مخالفا لمراد اللّه تعالى ولما أنزله على رسلهم ولا يكتمون الحق المشار إليهم بأنهم على بينة من ربهم {يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي القرآن لأنه يشتمل على ما في التوراة {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ} الذين تجزّبوا على حضرة الرسول من أهل مكة وأهل الكتابين وغيرهم {فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} يوم القيامة ومصيره فيها، والموعد مكان الوعد قال حسان:
أوردتموها حياض الموت ضاحية ** فالنار موعدها والموت لا فيها

{فَلا تَكُ} أيها الإنسان الكامل {فِي مِرْيَةٍ} شك أو شبهة {مِنْهُ} بأنه من غير اللّه بل هو حقا من عنده راجع الآية 94 من سورة يونس المارة {إِنَّهُ} أي هذا القرآن {الْحَقُّ} الصريح الواقع الواضح {مِنْ رَبِّكَ} الذي رباك في أمر دينك ودنياك وفضلك على من سواك {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ 17} أنه من عند اللّه لكثافة الرين الغاشي قلوبهم ولشدة عنادهم ومكابرتهم وعتوهم، واختلاف انكارهم، ونظير هذه الآية الآية 28 من سورة الأحقاف الآتية.
هذا، واعلم أن بعض المفسرين أعاد ضمير منه الأول إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم وقال إن الشاهد هو علي كرم اللّه وجهه، لاتصاله بحضرة الرسول، مستدلا بما قاله جابر بن عبد اللّه قال علي بن أبي طالب ما من رجل من قريش إلا وقد نزلت فيه الآية والآيتان، فقال له رجل وأنت أي آية نزلت فيك؟ فقال عليه السلام ما تقرأ الآية التي في هود {وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ} أي من النبي صلى اللّه عليه وسلم والمراد تشريفه عليه السلام وهو المشرف على جميع الناس بعد الأنبياء، كيف لا وهو ابن عمه وبمنزلة هرون من موسى، وهو ختنه، وهو الذي فداه بنفسه يوم الهجرة، إلا أن سياق التنزيل يأباه، وهذا الخبر أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه، ولا يكاد يصح، ويرده ما روي عن محمد بن الحنفية، قال قلت لأبي (يعني عليا) أأنت التالي، قال وما تعني بالتالي؟ قلت قوله سبحانه: {وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ} قال وددت أني هو، ولكنه لسان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والطبراني في الأوسط، ووجه هذا القول أن اللسان.
يعرب عن الجنان ويظهره، فجعل كالشاهد له، لأنه آلة البيان، وبه يتلى القرآن وتظهر فصاحته وبلاغته ودلالته على الغيب، قال محمود الآلوسي عليه الرحمة: إن في تقرير الاستدلال على أن المراد بالشاهد علي عليه السلام ضعفا وركاكة بلغت القصوى.
ونقل أبو حيان أن هذا الشاهد هو أبو بكر رضي اللّه عنه مستدلا بقوله تعالى: {وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} الآية 32 من سورة الزمر الآتية، وفيها بحث نفيس فراجعه.
ويعني بالذي جاء بالصدق محمدا صلى اللّه عليه وسلم، والذي صدق به أبا بكر رضي اللّه عنه، لأنه كان الثاني بالغار، والثاني بالإمامة والخلافة، وكان من النبي صلى اللّه عليه وسلم بمنزلة السمع والبصر، ويجعل عود الضمير للنبي بهذا المعنى لقوله صلى اللّه عليه وسلم (إنهما يعني أبا بكر وعمر) منى بمنزلة السمع والبصر، نعم إنهما كانا كذلك وإن عليا كرم اللّه وجهه أقرب منهما لكن اختصاصهما أو أحدهما في هذه الآية بعيد ولم يرد القائل إلا تعزيز مكانتهما وتعظيمهما، وهما عظيمان عزيزان من دون هذا، ومن غير أن تقروا لهما ما هو خلاف الواقع، فمكانتهما عند اللّه وعند خلقه عظيمة بهذا وبغيره وهما عند الناس معظمان به وبدونه، على أن هناك أقوال أخر بأن الشاهد هو جبريل عليه السلام أو هو ملك آخر أو هو الإنجيل لأنه يتلوه في التصديق نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم، لكن وجود نزولها قبل القرآن يأبى الركون إلى القول به، والقول الأول الذي جرينا عليه هو الصحيح، لمناسبته سياق التنزيل وقبوله من كبار المفسرين، كأبي السعود وأضرابه، وناهيك بمفتى الثقلين قدوة، وإنما نقلنا تلك الأقوال- وإن كنا لا نراها- للوقوف على صحتها وعدمه، وليعلم القارئ بالاطلاع عليها أننا لم نغفل شيئا مما له مساس بالمعاني ولا بالألفاظ. هذا، واللّه أعلم.
انتهت الآية المدنية الثالثة، وهذه الآيات كغيرها من المدنيات واقعة بين ما قبلها وما بعدها كالمعترضة، قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} لا أحد أظلم منه البتة، ولا أشد تعديا، ولا أكثر تجاوزا، لأن الكذب في نفسه كبيرة، وهو مجانب للإيمان فيما بين الناس، فكيف بالكذب على اللّه تعالى؟ فهو من أعظم الكبائر كما تشير إليه هذه الآية: {أُولئِكَ} المفترون الكذب على اللّه {يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ} في الموقف العظيم يوم القيامة {وَيَقُولُ الْأَشْهادُ} الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم وغيرهم أو الأنبياء أو أهل الموقف حين يسألون عن ذلك {هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ} في الدنيا، وهذا التشهير والفضيحة يكونان لكل من كذب على اللّه، وحينئذ يلعنهم أهل الموقف حينما يسمعون قول اللّه تعالى: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ 18} فيتنبه لذلك من لم يلعنهم، فيلعنهم أيضا.
وهذه الجملة يحتمل أن تكون من كلام الأشهاد بالنظر لظاهرها، والأشهاد جمع شاهد وشهود، ويجمع على شهداء، فيكون جمع الجمع، وقد جاءت بلفظ الجمع في القرآن، وكلاهما بمعنى واحد، إلا أن الأخير أبلغ من الأول.
روى البخاري ومسلم عن صفوان بن محرز المازني قال: بينما ابن عمر يطوف بالبيت إذ عرض له رجل، فقال يا أبا عبد الرحمن أخبرني ما سمعت من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في النجوى، قال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول يدنو المؤمن من ربّه عز وجل حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه، تعرف ذنب كذا وكذا، فيقول أعرف مرتين، فيقول سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته، وفي رواية ثم تطوى صحيفة حسناته، وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد، وفي رواية فينادي بهم على رءوس الأشهاد من الخلق {هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} الآية المارة.
وقيل إنه من كلام اللّه تعالى، والأول أولى بالمقام. ثم وصف اللّه تعالى هؤلاء الظالمين أنفسهم بالكذب عليه فقال: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ} الناس ويمنعونهم {عَنْ} اتباع {سَبِيلِ اللَّهِ} ويحولون دون سلوكه {وَيَبْغُونَها} الطريق المعدلة المستقيمة المؤدية إلى الإيمان السويّ {عِوَجًا} مائلة عن السواء منحرفة عن الإستواء، بإلقاء الشبهات في قلوب الناس وقلب معاني الدلائل الدالة على صحة دين الإسلام {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ 19} جاحدون وجودها منكرون البعث بعد الموت، وكرر لفظ هم تأكيدا لكفرهم {أُولئِكَ} الصادون الناس عن الإيمان المنكرون النشأة الآخرة الطالبون منهج السبل المضلة {لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ} الإله القدير العليم، ومهما ضربوا {فِي الْأَرْضِ} لا يفلتون عن قبضة الرّب، ولا يتمكنون من الهرب إذا أراد عذابهم للانتقام منهم {وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ} يقدرون على تخليصهم أو يدافعون عنهم ويقونهم من عذاب اللّه إذا أراد إيقاعه فيهم، ولكنه تعالى يمهلهم في الدنيا ليزدادوا إثما ويأخذوا ما هو مقدر لهم في الأزل من رزق حرام وعمل سيئ حتى لا يبقى لهم شيء في الدنيا ثم يميتهم و{يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ} في الآخرة على عدم إيمانهم وصدّهم الناس عن الإيمان ومنعهم من سلوك الطريق المستقيم وإنكارهم الآخرة، لأنهم صموا في الدنيا عن سماع هذا الحق و{ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} لما يبلغهم نبيهم من وحي اللّه {وَما كانُوا يُبْصِرُونَ 20} نهج السلام لينتفعوا به، وقد حرموا فوائد هاتين الحاستين التي منحها اللّه الإنسان ليستعملها في طلب الخير ودفع الشر، مع أن الحيوانات العجم تستفيد منها بدفع ما يضرهم برؤية أو سماع {أُولئِكَ} الذين هذه صفتهم هم {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} بإبدالهم عبادة النافع الضار بعبادة الأوثان التي لا تضّر ولا تنفع {وَضَلَّ عَنْهُمْ} بسبب صفقتهم الخاسرة {ما كانُوا يَفْتَرُونَ 21} في الدنيا على أنفسهم وغيرهم من أن الأوثان أو ما يعبدونهم من الملائكة وغيرهم يشفعون لهم في الآخرة {لا جَرَمَ} لا محالة حقا وجرم في الأصل فعل ماضي بمعنى كسب، قال الشاعر:
نصبنا رأسه في جذع نخل ** بما جرمت يداه وما اعتدينا

وتأتي بمعنى حقا كما هنا أي مع لا وهي اسم لا، أي حقا {أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ 22} لأنهم باعوا الجنة بالنار واستبدلوا المخلوق بالخالق، فلا أخسر منهم أبدا، وهذا هو الخسران المبين، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} باللّه ورسله وكتبه واليوم الآخر {وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} ضميمة على إيمانهم {وَأَخْبَتُوا} خشعوا وخضعوا للّه وأنابوا واطمأنوا له فرجعوا {إِلى رَبِّهِمْ} وانقطعوا لعبادته وهذا إشارة إلى أعمال القلوب كما أن العمل إشارة إلى أعمال الجوارح، لأن الأولى لا تنفع في الآخرة بدون الثانية ولا تقبل {أُولئِكَ} الذين هذا نعتهم {أَصْحابُ الْجَنَّةِ} في الدار الآخرة جزاء إيمانهم وإخلاصهم {هُمْ فِيها خالِدُونَ 23} دائبون آمنون لا يخرجون منها أبدا {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ} أصحاب النار المذكورين أولا {كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَ} مثل أصحاب الجنة المذكورين أخيرا كا {الْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ}
على سبيل المقابلة أحد أبواب البديع وهي أن يؤتى بمعنيين أو أكثر ثم بما يقابل كل منهما من أضداد، فيعود الأول إلى الأول والثاني على الثاني بطريق اللّف والنشر المرتب، فانظروا أيها الناس {هَلْ يَسْتَوِيانِ} هذان الصنفان الأولان مع الصنفين الآخرين {مَثَلًا} كلا، لا يستويان، فقل لهم يا سيد الرسل {أَفَلا تَذَكَّرُونَ 24} معاني هذا المثل ومغزاه فتنتفعون به، وبعد أن بين تعالى ما يدل على توحيده وأحوال المؤمنين والكافرين وموقفهم مع حضرة الرسول بين أنبيه أخبار من تقدم من الأنبياء مع أقوامهم بقوله جل قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحًا إِلى قَوْمِهِ} ليرشدهم إلى سلوك طريقه، فقال لهم {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ 25} أخوفكم عقاب اللّه وأحذركم من الإشراك به وآمركم {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} وحده فهو المستحق للعبادة {إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ} إن لم تتركوا عباده الأوثان وترجعوا لطاعة الرحمن {عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ 26} شديد عذابه وصف اليوم بالألم لوفوعه فيه {فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ} يا نوح {إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنا} مالك ميزة علينا بشيء فكيف تريد أن تستأثر بطاعتنا إليك {وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا} أسافلنا من الحاكة والإسكافية وأشباههم ذرى الحرف الخسيسة الذين أطاعوك {بادِيَ الرَّأْيِ} دون تدبر وتفكر على وهلة بما طليت عليهم من فصاحة لسانك ولين جانبك، ولو أنهم ذوو مكانة عندنا أو أنهم تمعنوا في الأمر الذي دعوتهم إليه وتصوروا العواقب لما اتبعوك حالا وتركوا دين آبائهم، ثم تجارءوا عليه، قاتلهم اللّه، فقالوا له جهارا {وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ} في مال أو جاه أو شرف أو غيره من المميزات التي توجب طاعتك، لا أنت ولا من اتبعك السوقة الذين لا نرضى مجالستهم، فكيف تريد أن ننقاد لك وتكون لك السلطة علينا.