فصل: مطلب تبرؤ الأنبياء من الحول والقوة وكون الإرادة غير الأمر وصنع السفينة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وجوابكم هذا لحضرته على غاية من الجهل وسوء الأدب، لأن الرفعة في الدين ومتابعة الرسل لا تكون بالشرف والسمعة والصيت والرياسة الدنيوية، وأن الدعوة إلى اللّه للبشر لا تكون إلا من بشر مثلهم اختصه اللّه تعالى وشرفه برسالته، لأن الفضيلة المعتبرة عند اللّه هي الإيمان به والانقياد لأوامره والاجتناب عن مناهيه لا بما ذكروه من الأمور الدنيوية وشرف الصنعة، وما هذا الجواب منهم إلا لفرط جهلهم وتوغلهم في الدنيا وملاذها وانهماكهم في شهواتهم، ولذلك ختموا كلامهم بقولهم: {بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ 27} في هذه الدعوى أنت وأتباعك، وإن تصديقهم لك عبارة عن مواطئة تمهيد للحصول على الرياسة علينا {قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} فيما بشرتكم به وأنذرتكم منه واضحة شاهدة على صدقي {وَآتانِي} الذي أرسلني إليكم {رَحْمَةً} هديا ومعرفة ونبوة ورسالة {مِنْ عِنْدِهِ} وهو إله الكل {فَعُمِّيَتْ} ألبست وأخفيت {عَلَيْكُمْ} فلم تهدكم ولم تهتدوا إليها، لأن الحجة كما تكون بصيرة ومبصرة تكون عماء وعمها، وإن الأعمى والأعمه كما أنه لا يهتدي لا يقدر أن يهدي غيره، لذلك لا نقدر على إلزامكم بها {أَنُلْزِمُكُمُوها} قسرا وجبرا {وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ 28} نافرون عنها، كلا لا نستطيع على ذلك إذ لا إكراه في قبول الدين بل يجب الإقدام عليه والإقبال إليه طوعا برغبته ومحبته {وَيا قَوْمِ} تدبروا ما أقوله لكم وانظروا عاقبته وتلقوه بحسن نية، واعلموا أني {لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا} لتظنوا بي طمعا ولا رياسة لتشتبهوا فيّ من أجلها أو تشكّوا أن إنذاري لكم لأمور دنيوية كلا {إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} الذي أرسلني، وأن ما أبذله إليكم من النصح وأسديه لكم من الإرشاد لمجرد هدايتكم لطريق اللّه وحمايتكم من عذابه المترتب على إصراركم على الكفر {وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا} بي وصدقوني من أجل قولكم أنهم أراذل خسيسو الحرفة، فقراء وضيعون بالحسب والنسب، فهذا كله لا يمنعي من قبول إيمانهم، ولا يجوز لي أن أتباعد عنهم {إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ} بعد الموت، فيشكونني إليه، فيعاقبني على طردهم، لأن وظيفتي قبول إيمان من يؤمن مهما كان، وإن الإيمان سيجعل لهم شرفا وحسبا أعلى عند اللّه مما أنتم عليه {وَلكِنِّي أَراكُمْ} يا قوم بأقوالكم هذه وتطاولكم عليّ {قَوْمًا تَجْهَلُونَ 29} عظمة اللّه الذي عنده أكرم الناس أتقاهم لمحارمه وأخوفهم من عذابه، لا الأكثرون أموالا والأكبرون جاها والأحسنون حرفة، ولا العالون نسبا وحسبا، فالمؤمن الحقير بأعينكم خير عند اللّه من العظيم الكافر، فارتكزوا على الحكمة ولا تتسافهوا بإطالة اللسان على المؤمنين مهما كانوا، فهم أحسن منكم عندي وعند اللّه، لأنكم لا تعلمون ما ينبغي أن يعلم.
هذا وقد يأتي لفظ الجهل بمعنى التعدي على الغير، ومنه قول صاحب المعلقة:
ألا لا يجهلن أحد علينا ** فنجهل فوق جهل الجاهلين

وقدمنا في الآية 111 من الشعراء أن خسة الصنعة لا تضر مع الإيمان، وكم من صاحب صنعة خسيسة هو عند اللّه أفضل من كثير من خلقه، راجع الآية 113 من سورة الحجرات {وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ} يوم الجزاء ويحول دون تعذيبي والانتقام مني {إِنْ طَرَدْتُهُمْ} الآن بعد أن أظهروا الإيمان باللّه وأخلصوا دينهم له {أَفَلا تَذَكَّرُونَ 30} عاقبة أمر الذين يطردون المؤمنين، فتنبهوا عما أنتم فيه من الاستكبار والضاد، ونبهوا أنفسكم وغيركم، وأعرضوا عن مجادلتكم هذه التافهة، وآمنوا مثلهم لتفوزوا بخيري الدنيا والآخرة.

.مطلب تبرؤ الأنبياء من الحول والقوة وكون الإرادة غير الأمر وصنع السفينة:

{وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ} فاتبعوني لأعطيكم منها.
وأدعي الفضل بها عليكم، وهذا جواب لقولهم: {وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ} المار ذكره {وَلا} أقول لكم إني {أَعْلَمُ الْغَيْبَ} لأصدق ما ذكرتموه في حق المؤمنين بأن إيمانهم عن غير تدبّر وتفكر، فما لي حق بذلك، وما عليّ إلا قبول الإيمان على ظاهره، واللّه يتولى السرائر {وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} وهو جواب على قولهم: {ما نَراكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنا} المار آنفا، لأني في الحقيقة بشر مثلكم ولكن اللّه فضلني عليكم برسالته فقط، ولا دليل في هذه الآية على أن الملك أفضل من البشر على الإطلاق، لأن قول نوح عليه السلام هذا بمقابلة قولهم له كما مرّ، لأنهم كانوا يظنون أن الرسل لا يكونون من البشر لقرب عهدهم من بعضهم وتفشي أخبار الملائكة بينهم من يوم أمرهم بالسجود لآدم عليه السلام، فلهذا قال لهم: {وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} ولم يرد أن درجة الملائكة أفضل من درجة الأنبياء، وقدمنا في الآية 70 من الإسراء ما يتعلق في هذا البحث فراجعه {وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ} تحتقرها وتستصغرها وتتصورها بأنهم أراذل وكلمة تزدري لم تكرر في القرآن حيث {لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا} رزقا في الدنيا لهوانهم عليه نزولا عند هواكم، فعسى اللّه أن يؤتيهم خير الدنيا والآخرة، لإيمانهم به وتصديقهم لرسوله وصبرهم على الفقر والذل اللذين تفتقدونهم بهما، فأعرضوا عنهم أيها القوم {اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ} من صدق الاعتقاد وخلوص الإيمان، وهذا جواب لقولهم آنفا ما معناه أنهم لم يتبعوك رغبة في دينك بل لكونهم فقراء لا وزن لهم عند أحد فاطردهم ليتبعك الأشراف فإنهم لا يتنازلون أن يجالسوهم ويكونوا من أتباعك معهم، وهذا مثل قول قريش لمحمد صلى اللّه عليه وسلم في الآية 50/ 52 من سورة الأنعام والآية 28 من سورة الكهف الآتيتين، وهكذا فقد تشابهت قلوبهم كما أخبر اللّه عنهم في الآية 167 من سورة البقرة من زمن نوح إلى زمن محمد صلى اللّه عليه وسلم فإنك تجد محاورتهم للأنبياء على وتيرة واحدة {إِنِّي إِذًا} إذا قبلت قولكم وطردتهم {لَمِنَ الظَّالِمِينَ 31} لهم ولنفسي أيضا، وإني لا أرضى بالظلم فكيف أفعله، كما ليس لي أن أكذّب ظاهر إيمانهم ولا أبطله، لأن اللّه يعلم ما في ضمائرهم {قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا} بما أوتيت من بلاغة في القول وقوة في المحاججة وفصاحة في البرهان، وإنا لا نؤمن بك مهما أسرفت في النصح وبذلت من الرشد الذي تزعم أنه لصالحنا {فَأْتِنا بِما تَعِدُنا} به من عذاب ربك وأنزله علينا {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ 22} فيما تهددنا به من وعيدك، لأنا قد مللنا من تكرار قولك إنك رسول اللّه وإن لك ربا ينصرك علينا ويعذّبنا إن لم نؤمن بك ونتبعك {قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ} الذي كفرتم به وهو {إِنْ شاءَ} أنزله بكم عاجلا وإن شاء أخره وليس لي أن أقدم شيئا أو أؤخره خيرا كان أو شرا، لأني بشر مثلكم {وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ 33} اللّه العظيم القادر، ولا فائتين عذابه.
ولا تقدرون على الهرب من قبضته {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ} مهما بالغت فيه وأدمته {إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} فيما أنتم عليه، ويضلكم عن هداه بما يجعله فيكم من البغي والطغيان.
وفي هذه الآية دليل على أن الإرادة غير الأمر كما قدمناه في الآية 98 من سورة يونس المارة، أما ما ذكرناه في الآية 12 منها فهو في حق تزيين الأعمال وكونها من اللّه.
واعلم أن إرادة اللّه تعالى مما يصح تعلقها بالإغواء والتزيين والإضلال حق، وأن وقوع خلاف مراده ممتنع محال، وأما المعتزلة القائلون بضدّ هذا فقد وقعوا في حيص بيض منها، واختلفوا في تأويلها، فمنهم من أولها بالإهلاك، ومنهم من لجأ إلى المجاز عن تركهم، ومنهم من جعل إن نافية، وكلها أقوال أرهى من بيت العنكبوت، لأن الآية صريحة لا تقبل التأويل.
والحق أن يقولوا معنا بأن ذلك المهدي المضل المزين {هُوَ رَبُّكُمْ} الذي خلقكم ورباكم في هذه الدنيا {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ 34} في الآخرة فيجاري المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته {أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ} أي الوحي الذي يتلوه عليهم كما تقول كفار مكة لك يا أكرم الرسل، لأنهم قاتلهم اللّه جاءوا على وتيرة واحدة بالاحتجاج والتكذيب والمجادلة مع جميع الرسل، ولهذا قال تعالى في الآية 168 من سورة البقرة: {تشابهت قوبهم}.
{قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي} جمع جرم، وهو اقتراف السوء، يقال أجرم فلان إذا فعل الجرم أي الذنب الكبير، ويقال لفاعله مجرم، أي عليّ إثم إجرامي {وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ 35} أنتم في إسنادكم الافتراء إليّ لأنه جرم عظيم، وهذا آخر محاورة سيدنا نوح مع قومه في هذه السورة، وما قيل إن آية: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ} المارة ترجع إلى كفار مكة وإنها معترضة بين محاورة نوح وقومه لا وجه له، لأن السياق يدل على أنها من تمام محاورته، والسياق يؤيد هذا، قال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ} لا تحزن ولا تأيس عليهم، فإني مهلكهم {بِما كانُوا يَفْعَلُونَ 36} بك يا رسولي من الأذى، وبأنفسهم من الضلال والكفر.
قيل كانوا يضربون نوحا عليه السلام حين يدعوهم إلى اللّه ويدلهم على الهدى ويأمرهم بالرشاد حتي يغشى عليه، فإذا أفاق يقول رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، وهكذا كان سيدنا محمد صلى اللّه عليه وسلم مع قومه، يقابلهم بالدعاء لهم بالهداية.
هذا، ولما تمادوا على ما هم عليه وهو ينتظرهم جيلا بعد جيل ولم ينجع بهم نصحه، ولم يكفوا عن أذاهم له ورأى كل جبل يظهر أنجس من الذي قبله، وقد أيس من إيمانهم، شكا أمره إلى اللّه بعد أن أقنطه من إيمانهم في هذه الآية، دعا عليهم كما هو مذكور في سورته الآتية في الآية 26 فاستجاب سبحانه دعاءه، وأوحى إليه بقوله: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا} على مرأى منا لئلا تزبغ عن الصواب في كيفية صنعها المثبتة في أزلنا، وذلك لأن اللّه تعالى كما خلق في عالم الذر جميع الناميات، صور أيضا كل الجامدات، فكان كل ما يظهر منها طبق ما هو مكون عنده في لوحه وكلمة {بِأَعْيُنِنا} جاءت هنا وفي الآية 14 من سورة القمر المارة، {وَوَحْيِنا} أي اصنعها بمقتضى ما نأمرك به من عرضها وطولها وثخنها وارتفاعها وعمقها وهيئتها ومم يكونّها ومقدار ما تستوعبه، قال ابن عباس لم يعلم نوح كيف يصنعها فأوحى اللّه إليه أن يجعلها مثل جؤجؤ الطائر، {وَلا تُخاطِبْنِي} يا رسولي بعد انهاءك عملها وطوافها على وجه الماء الذي سأقدره لها {فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا} من قومك ولا تتشفع لأحد منهم، ولا تسألن بتأخير عذابهم {إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ 37} حتما محكوم عليهم في الموت غرقا حكما مبرمأ قضي فيه أزلا وجف به القلم، فلا سبيل إلى كفه {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} امتثالا لأمر ربّه حسبما أوحي له به.
قال الأخباريون: بعد أن سمع نوح من ربه ما سمع أقبل على عمل السفينة، ولهي عن قومه بها، فقلع الخشب وضرب الحديد، ومحيا الإسفلت وهو القار، أي القير الأسود، واستحضر كل ما يحتاجه لعملها، وباشر صنعها بيده بمقتضى ستراءى له من صورتها، فصار لا يخطئ بشيء لأن العلم له هو اللّه ربه والعمل بجرأة النبوة كما فهمه من معنى الوحي وكيف يخطئ وهو أكمل البشر في زمانه، وصنع الكامل لا يكون إلا كاملا، وجعل يدأب على عملها وحده {وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} ضحكوا من عمله واستهزءوا به، ويقولون له صرت نجارا بعد أن كنت نبيا، وكيف تصنع سفينة في أرض ييس من برية لا ماء فيها، وذلك أنه بدأ عملها بعيدا عن قومه وعن الماء بوحي ربه، وعادة الرسل أنهم لا يسألون ربهم عند ما يأمرهم بشيء تأدبا ولعلمهم أنه لا يأمرهم إلا بما فيه فوزهم، راجع الآية 62 من الشعراء المارة {قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا} على ما ترون من عمل أمرني به ربي {فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ} إذا نجانا اللّه وعذبكم {كَما تَسْخَرُونَ 68} منا الآن، قال هذا على سبيل الإزدواج في مشاكلة الكلام كما في قوله تعالى: {وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها} الآية 40 من سورة الشورى الآتية، لأن السخرية بمعناها المعلوم لا يليق صدورها من منصب النبوة ولما رآهم ازدادوا بالاستهتار به هددهم بقوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} غب عملكم هذا وسترون {مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ} في هذه الدنيا فيذله ويهينه ثم يهلكه ويدمّره {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ 39} في الآخرة لا يتحول عنه، وهو عذاب النار الدائم أنحن أم أنتم، ثم ثابر على عمله ولم يعبا بهم حتى أكملها، قالوا كانت بطول ثمانين ذراعا وعرض خمسين وارتفاع ثلاثين وهو عمقها بذراعه عليه السلام، والذراع من رءوس الأصابع إلى المنكب، وجعلها ثلاث طبقات: عليا ووسطى وسفلى، وجعل فيها كوى ليطل منها إلى الخلاء وليرى بعضهم بعضا منها، وكانت من خشب الساج، وقال الحسن كان طولها ألفا ومثني ذراع، وعرضها ستمئة، وقال غيره طولها ثلاثمائة ذراع، والأول أولى وأنسب وأوجه، أما ما قيل إن صنعها استغرق ثلاثين سنة فإن صح فيكون للقول الثاني وجه، واللّه سبحانه وتعالى أعلم، إذ لم يبين لنا ذلك، والقرآن اقتصر على ذكرها فقط، ولما أمر بر كوبها عند انتهاء الأجل المقدر لإغراق قومه، حمل عليه السلام أهله ومن آمن به، ومن كل ذي روح زوجين اثنين فيها كما أمر، وهذا ما يدل على عظمتها، قالوا وقد جعل اللّه له علامة على ركوبها بقوله عز قوله: {حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا} بإنفاد عذابهم، وحان الوقت المقدر لإغراقهم في سابق علمه {وَفارَ التَّنُّورُ} بالماء إذ جعلناه علامة لقرب نزول العذاب لقوم نوح عليه السلام وإنجائه ومن آمن به أي أبق منتظرا ظهور هذه الأمارة فإذا رأيتها {قُلْنَا} لك اركب فيها أنت وأهلك ومن آمن بك و{احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ} من أنواع الحيوان {زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} واترك الباقين {وَأَهْلَكَ} احملهم أيضا، ويدخل في الأهل من آمن به لأنهم صاروا من أهله لقول رسول اللّه: «سلمان منّا أهل البيت».
ويجعله من أهله إلا لإيمانه.
هذا، واعلم أن التنور هو الذي يخبز به، وهو بلغ الفرس أيضا بهذا المعنى لا أنه فارسي في الأصل معرّب، راجع الآية 18 من سورة الشعراء المارة، والفور ان الغليان يعني نبع الماء إذا اشتدّ صار كأنه يفور كالماء في القدر على النار، فإنه يفور عند اشتداد الحرارة، واختلف في موقعه قيل بالكوفة، وقيل بالهند، وقيل في الجزيرة في عين وردة، وقيل بالشام، وفي كل هذه المواضع محل يسمى تنورا، والأولى كونه في الجزيرة لقربها من جبل الجودي الذي استقرت عليه بنص القرآن كما سيأتي في الآية 43 لأنهم قالوا إنها رست بالمنطقة التي طافت منها، ويوجد الآن في الجزيرة محل يسمى تينير وفوقه عين ماء عند جبل كوكب الآتي ذكره في الآية 43 المذكورة، وما قيل إن التنور هو وجه الأرض أو هو طلوع الفجر ففيها صرف الحقيقة إلى المجاز دون مسوّغ ما، والحق أنه التنور المعلوم بمعناه الحقيقي، لأن الكلام إذا دار بين الحقيقة والمجاز كان حمله على الحقيقة أولى ولفظ التنور حقيقة هو الذي يخبز فيه، ومعنى الزوجين كل اثنين لا يستغنى أحدهما عن الآخر، كالذكر والأنثى يقال لكل واحد منهما زوج، وليس المراد بالزوج هنا ما يقابل الفرد، ولأن المعنى من كل صنف زوجين ذكر وأنثى، قالوا حشر اللّه له جميع الحيوانات فجعل يضرب بيديه عليها، فتقع الأنثى بيده اليسرى والذكر باليمنى، فيعزلهم على حده، وقد خصص عليه السلام الطبقة السفلى للوحوش والهوام، والوسطى الدواب والأنعام، والعليا لحضرته ومن معه والطير وما يحتاجونه من الزاد حسبما أمره اللّه، وكان هذا بعد إكمال عمل السفينة طبقا لمراده وخاطبه جلّ خطابه أن أدخل فيها من شئت مما أمرتك {إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} من أهلك وهو ابنه كنعان وزوجته واعلة فقط، وذلك لسابق علمه بغرقهما مع الكفرة لما هو مدون بأزله اختيارهما الكفر على الإيمان حسب تفديره وإرادته ولا يقع في كونه خلاف مراده {وَمَنْ آمَنَ} عطف على وأهلك أي كل المؤمنين معك، قال تعالى: {وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ 40} جدا بالنسبة لكثرة قومه، ولم يبين جل جلاله مقدارهم ولهذا تضاربت الأقوال في عددهم وأصحها أنهم ثمانون نسمة كما روي عن ابن عباس، ويؤيد قوله وجود قرية بقرب الجودي الذي رست عليه السفينة مسماة بقرية الثمانين وهي معروفة الآن والجزيرة معروفة بجزيرة ابن عمر.
{وَقالَ} الملك السلام مخاطبا رسوله نوحا عليه السلام ومن آمن معه {ارْكَبُوا فِيها} فقد آن إغراق الكفرة، فأمر عليه السلام أن يستقر كل في طبقته، ولما تم ذلك لم يعرف عليه السلام كيف يمشيها على الماء فقال تعالى له ولصحبه إذا أردتم سيرها قولوا: {بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها} فإنها تسير بإذن اللّه الذي نجاكم عليها {وَ} إذا أردتم إرساءها قولوا بسم اللّه {مُرْساها} فإنها تقف حالا وهذا تعليم من اللّه لعباده بأن من أراد أمرا فعليه أن يبدأه بذكر اللّه ليبارك له فيه وينجح بغايته المحمودة قالوا فصارت الأرض تنبع مياها غزيرة والسماء تمطر مياها وافرة مدة أربعين يوما بشدة وهم بالسفينة لم يبرحوا مكانهم ويشاهدون عظمة اللّه، قال تعالى: {فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ} الآية 11: {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} الآية 12 من سورة القمر المارة، قالوا وارتفع الماء بالسفينة على أعلى جبل أربعين ذراعا فطافت بإذن اللّه بين عاصفة من الأمواج وصار سيدنا نوح عليه السلام إذا أراد إيقافها قال بسم اللّه مرساها فتفف، وإذا أراد سيرها قال بسم اللّه مجراها فتسير مهما كان يحوطها من أمواج وعواصف، ولم يحجه ربه إلى المرابط والمراسي والمجاديف والملاحين فقال عليه السلام شكرا لهذه النعمة {إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ 41} بمن تاب وأناب من عباده، ومن رأفته يقبلهم إذا رجعوا إليه بعد كفرهم.
ثم وصف اللّه تعالى سرعة سيرها بقوله جل قوله: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ} عظيم هائل لدلالة التنوين أي في غاية من الشدة والموج ما ارتفع من الماء بسبب اشتداد عصف الرياح وقد شبهه اللّه تعالى في عظمته {كَالْجِبالِ} وبهذا أنجى اللّه المؤمنين جميعا وأغرق الكافرين ولم يرحم منهم أحدا استجابة لدعوة نبيهم حتى أم الصبي التي ضرب بها المثل: قالوا لما مر الماء بالسكك من القرية خافت امرأة على ابنها من الغرق فصعدت به إلى الجبل وكلما ارتفع صعدت به حتى بلغت قمته، فتناولها الماء فرفعت ولدها إلى حضنها فتناولها الماء فرفعته إلى رأسها فأدركها الماء فرفعته بيدها فوق رأسها فأخذها وإياه الماء فغرقا، ولذلك قالوا لو رحم اللّه أحدا من قوم نوح لرحم أم الصبي {وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ} كنعان أثناء نبع الماء من الأرض ونزوله من السماء {وَكانَ فِي مَعْزِلٍ} عنه لأنه لم يركب معه في السفينة وكان منعزلا عن المؤمنين بعيدا عنهم {يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا} بالسفينة لتنجو من الغرق الذي ألم بك في الدنيا ومن العذاب المقدر لك في الآخرة إن لم تؤمن وتتبعنا {وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ 42} فتهلك معهم غرقا الآن وتعذيبا غدا {قالَ} كنعان كلا لا أركب معكم ولا أغرق لأني {سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ} بسبب ارتفاعه إذ لا يبلغه الماء مهما ارتفع، وقد اختلف العلماء في هذا الجبل كما اختلفوا بالتنور فمن قال بالجزيرة وهو الأصوب كما نوهنا آنفا قال هو جبل كوكب وهو قريب من محل التنور قريبا من مجرى الخابور من الشرق الشمالي من جهة الحكة والذي يليه من الشرق الجنوبي جبل سنجار والذي يليه من الغرب الجنوبي جبل عبد العزيز والذي يليه من الشمال الغربي جبل ماردين وكلها بالجزيرة قريبة منه، ومن قال إنه بالكوفة أو بالهند أو بالشام ذكر غير ذلك من الجبال الموجودة هناك والأول ينطبق على المعنى لأنه قال: {إلى جبل} منكر منون وكل هذه الجبال يراها الرائي من موضع التنور الواقع في الجزيرة أما الأخر على الأقوال الأخرى فلا ندري هل يراها من كان عند التنور الذي فيها أم لا فكأنه قال إني سأعتصم بأحد هذه الجبال {قالَ} له أبوه عليه السلام لا تعتر يا ولدي مما ترى من هذه الجبال ومن إغواء قومك فإنه {لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} ولا مانع من عذاب هو لا منجى من إهلاكه ولا يخلص من هذا الغرق {إِلَّا مَنْ رَحِمَ} اللّه منهم إركابهم هذه السفينة التي أمرني ربي بصنعها الذين لم يقدر إغراقهم، وإن ما ترى من قولك وغيرهم فإنهم كلهم هالكون ولا زال يسديه النصح وهو بمانع حتى تباعدا عن بعضهما {وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ} بحيث لم يبق أحدهما يشاهد الآخر ولم يسمع صوته ولا يرى إشارته لأنه بعد ما طافت السفينة ارتفع ارتفاعا هائلا وصار لشدة علوه كالسد بينهما وقد شبهه اللّه بالجبال آنفا لعظم ارتفاعه {فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ 43} معهم طبقا لقضاء اللّه وقدره أزلا، قال الأخباريون لما كثر الروث في السفينة لطول بقائها جارية على ظهر الماء أوحى اللّه إلى نوح أن اغمز ذنب الفيل ففعل فوقع خنزير وخنزيرة ومسح على الخنزير فوقعت منه فأرتان فأقبل الخنزيران على الروث فأكلوه وصار الفأر يفسد في السفينة ويقرض ما فيها، فأوحى اللّه إلى نوح أن اضرب بين عيني الأسد فضرب فخرج من منخره سنور وسنورة فأقبلا على الفأر فأكلاه إلا قليلا ودامت السفينة جارية ستة أشهر، إذ ركب فيها لعشر من رجب وهبطت على الجودي يوم عاشوراء، وتناهى الطوفان وخرجوا من السفينة وصاموا ذلك اليوم شكرا للّه تعالى، وعمروا قرية هناك تسمى الآن سوق الثمانين وهي أول قرية عمرت على وجه الأرض بعد الطوفان.