فصل: مطلب المياه كلها من الأرض والبحر المكفوف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب المياه كلها من الأرض والبحر المكفوف:

وبعد أن تم مراد اللّه تعالى بإغراق الكفرة وإنجاء المؤمنين خاطب الأرض بقوله عز قوله: {وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ} تشير هذه الآية على أن الماء كله من الأرض إذ أضافه إليها وهو موافق لقول من يقول أن الأمطار كلها من الأنجرة المتصاعدة من الأرض والبحار والأنهار وغيرها، وهذا مما يعرفه العرب الأقدمون إذ يقولون إن الغيوم تلتقم الماء من البحر تم تمطره، وعليه قوله:
شربن بماء البحر ثم ترفعت ** في لحج خضر لهن أجيج

وقال:
كالبحر يمطره السحاب وماله ** من عليه لأنه من مائه

راجع الآية 30 من سورة النازعات الآتية تجد ما يتعلق في هذا البحث، وقال بعض العلماء المطر قسمان قسم من أبخرة الأرض والمياه وقسم من علم اللّه وذلك استنادا لما يقوله بعض العارفين بوجود بحر بين السماء والأرض يسمى المكفوف ينزل منه نوع من المطر، يؤيد هذا ظاهر الآية 20 من سورة الزمر الآتية وهي قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ} وآية المؤمنين 18 الآتية أيضا وهي {وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ} وتقدم ما يدل على هذا في قصة المعراج أول سورة الإسراء المارة، وعدم اطلاع الطبيعيين والفلكيين على هذا البحر لا يكون حجة على عدم وجوده، لأن دعوى النّفي لا تثبت بالنفي بل بالإثبات.
واللّه تعالى قادر على أكثر من ذلك فلا يستبعد شيء على اللّه تعالى وهو الخلاق العظيم، ولا يخفى أن أكثر أقوال الطبيعيين والفلكيين مبنية على الظن والحدس لأنها أمور غير محسوسة، والخطأ في الظن أكثر من صوابه وخاصة في غير المرئي ولا يعلم مكنونات اللّه إلا هو فعلى العاقل أن يؤمن بمثل هذه الأشياء لأن الإيمان بها لا يضره، ولا يجحدها فإن الجحد لها قد يضره والتسليم أسلم وهو مذهب السلف الصالح وناهيك بهم قدوة {وَيا سَماءُ أَقْلِعِي} أمسكي عن القطر {وَغِيضَ الْماءُ} نقص ونضب إذ انقطع من السماء انهماره ومن الأرض انفجاره فغار وذهب ولعبت الرياح شرقا وغربا، ونشفت الأرض وببست {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} بإهلاك قوم نوح عليه السلام ومن قدر عليهم تبعا لهم ممن أراد اللّه تعالى إغراقه من غيرهم {وَاسْتَوَتْ} السفينة {عَلَى الْجُودِيِّ} جبل معروف الآن شمالي دجلة مما يقابل عين ديوار من أرض الجزيرة الواقعة جنوبي دجلة شمالي غربي الموصل {وَقِيلَ بُعْدًا} وسحقا وهلاكا {لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ 44} وكلمة بعدا يقولها العرب إذا أرادوا البعد البعيد من حيث الهلاك وعدم العودة، فإنهم يقولون بعدا بعدا، ولذلك خصوها بالسوء وهكذا كلما مرت هذه الكلمة يكون المراد منها ذلك المعنى، وقال الأخباريون لما استقرت السفينة على الجودي بعث نوح عليه السلام غرابا ليأتيه بخبر قومه فوقع على جيفة فلم يرجع اليه، ثم بعث لحمامة فجاءت بورق زيتون في منقارها ولطخت رجليها بالطين، فعلم نوح أن الماء ذهب بالمرة، فدعا على الغراب بالخوف فلذلك لا تراه يألف البيوت حتى لآن، وطوق الحمامة بالخصرة في عنقها، ودعا لها بالأمان، فمن ذلك اليوم ألفت البيوت واعتاد الملوك إرسالها بالكتب إلى من تريد.
وهي كذلك حتى الآن لم يستغن عنها مع وجود الطائرات وغيرها وإذ نعمت النظر فلا تجد شيئا يستغرب الآن إلا وله أصل قبل، وإذا تتبعت هذه المنشآت الحديثة لم تجدها بنت سنتها بل لابد وقد سبق لها بحث أو عمل، وإذا مر الفكر على عمل شيء أو بحث في أمر قد يستحيله عقل غيره أمعن نظره فيه وأفرغ تدبيره، فجعل له أساسا حتى إذا لم يتوفق لا نجاره تركه لعيره، وهكذا حتى استوت هذه المخترعات فظهرت لعالم الوجود، وهي وإن كانت من صنع البشر إلا أنها من إلهام اللّه تعالى إياه قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ}
الآية 96 من الصافات الآتية، وسيظهر لنا هذا القرآن ما تستبعده العقول مثل قول أبي الحسن الأشعري إن بالإمكان أن يرى أعمى الصين بقة الأندلس راجع الآية 38 من سورة الأنعام الآتية قالوا ومر نوح عليه السلام أثناء سيره بالسفينة على البيت الحرام، وقد رفعه اللّه تعالى من الغرق وبقي موضعه، فطافت به السفينة سبعا حوله، وأودع الحجر الأسود في جبل أبي قبيس.
قالوا ولم ينج من الغرق سوى عوج بن عنق، لأنه حمل أخشاب السفينة من الشام إلى المحل التي هي فيه حال صنعها.
هذا ولا يقال كيف أغرق اللّه تعالى الأطفال والحيوان إذ لا ذنب لها، لأنه تعالى مالك لها والمالك يتصرف بملكه كيفها يشاء، ولأن هذا الإغراق مجرّد سبب للموت في حقهم، وأي مجذور في إماتة من لا ذنب له بالنسبة إلى المحيي المميت الذي في كل لحظة يحيي أمما ويميت أمما بما يقدره من الحروب والطاعون والخسف وغيرها بسبب ولا سبب حسب حكمته البالغة، وهو الإله الفعال لما يريد الذي لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، ولا دافع لقدره ولا يسأل عما يفعل؟ وما قيل إن اللّه تعالى أعقم أرحام النساء قبل العرق بأربعين سنة كي لا يولد لهم ولد يهلك بسببهم، ليس بسديد، إذ لم يوجد ما يؤيده ويرد عليه إغراق الحيوانات والطيور وأولاد الأمم الأخرى الذين أصابهم الغرق وعمهم البلاء غير قوم نوح عليه السلام، لأن مبدأ دعوته خاصة لقومه ونهايتها عامة كما ذكرناه في الآية 74 من سورة يونس المارة، ولا يوصف جل شأنه بظلم بتعميم العذاب، لما قدمناه غير مرة، وقالوا ان الحيوانات والطيور وقعت على قدمي نوح تلحسها راجية حملها معه بالسفينة، ولم يفعل، لأنه لم يؤمر بذلك.
وقالوا إن الطوفان عم وجه الأرض كلها، وهناك أقوال بأنه عم جزيرة العرب وما بجوارها، يريدون قارة آسيا كلها، وان القرآن لم يذكر بأن الطوفان عم الأرض كلها، وان قوله تعالى حكاية عن سيدنا نوح عليه السلام في دعائه {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّارًا} الآية 36 من سورته الآتية، وأن اللّه تعالى أجاب دعاءه، فلم يفهم منه أن إهلاكهم كان بالغرق مع قومه، إذ يمكن أنه أهلكهم بغير طوفان، فلا يكون دليلا قطعيا على إهلاكهم به، ولم يرد فيه خبر أو حديث صحيح، ولأن لفظ الأرض يطلق على إقليم منها كأرض مصر، راجع الآيات 21- 45 و56 من سورة يوسف الآتية ومثلها في سورة المؤمن وغيرها، وإذ لم يرد حديث صحيح أيضا في ذلك ولا فيما نقلناه عن الأخباريين والقصاص، فلا يحق لمجادل أن يجادل فيه، وإن تنويه المؤرخين إذا لم يقصد بحديث لا عبرة به أيضا، إذ لا يوجد تاريخ يعتمد عليه قبل التوراة التي هي أول كتاب استمدّ منه المؤرخون أقوالهم.
هذا وأما ما جاء في هذه القصة من حسن النظم وبداعة التركيب وبلاغة القول وفصاحة إيجازه واطنابه وخاصة هذه الآية 44، فحدّث ولا حرج، لأن البشر عاجز عن وصفه وللّه در القائل في التنزيل وما جمعت آياته:
وعلى تفنّن واصفيه بحسنه ** يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف

ورحم اللّه الأبوصيري حيث يقول:
آيات حق من الرحمن محدثة ** قديمة صفة الموصوف بالقدم

لم تقترن بزمان وهي تخبرنا ** عن المعاد وعن عاد وعن ارم

فما تعد ولا تحصى عجائبها ** ولا تسام على الإكثار بالسأم

.مطلب في قوله تعالى انه ليس من أهلك وتفنيد قول من قال إنه ليس ابنه:

قال تعالى: {وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ} بعد أن خرج من السفينة هو وأهله ومن معه وتذكر ابنه كنعان ووعد اللّه في الجاء أهله {فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} وقد وعدتني بإنجائهم من الغرق {وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} فلم أغرقته وأنت لا تخلف الميعاد ولم تستثنه {وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ 15} فاحكم لي بإنجاز وعدك، لأنك العادل في الحكم للعالم مما تحكم.
قال هذا لأن الحاكم إذا حكم بالعدل ولم يعلم أنه عدل موافق للشرع بعد من أهل النار، لأنه بمنزلة العوارف الذين يحكمون برأيهم وبالقياس على أحكام من سلف من أمثالهم، لا يستند إلى كتاب سماوي أو تشريع نبوي أو قياس على أحدهما، فحكمه حكم الجاهل الذي يقضي بخلاف الحق، ولهذا قيل قاضيان في النار وقاض في الجنة، فالذي في الجنة قاضي عرف الحق وقضى به واللذان في النار هما الأولان، ولا فضل لحاكم على غيره إلا بالعلم والعدل، ورب جاهل ظالم غشم في زماننا لقب بقاضي القضاة بمعنى أحكم الحاكمين كما لقب كافر بملك الملوك وهو مع كفره طاغ باغ، وأكره الناس على اللّه من تلقب بهذا، كما في الحديث الشريف إذ لا تليق هاتان الصفتان إلا برب العالمين قالَ تعالى: {يا نُوحُ إِنَّهُ} ابنك الذي تذكرته وغرق مع من غرق {لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} الذين هم على دينك وليس هو داخل بالوعد الذي وعدتكه {إِنَّهُ عَمَلٌ} بالتنوين وقرئ بكسر الميم فعلا ماضيا أي عمل عملا {غَيْرُ صالِحٍ} وعلى القراءة الثانية تقرأ غير بالنصب على أنها مفعولة لعمل، وعلى القراءة الأولى وهي كون عمل مصدرا فتضم راء غير على أنها صفة للعمل، ويكون المعنى هو نفسه عمل غير صالح لأنه مشرك كافر هذا مبالغة في ذمه لإفناع نوح عليه السلام بأنه ليس من أهله، ولذلك أغرقته لكونه غير داخل في الوعد.
واعلم أن هذا القراءة جائزة لأنه لم يبدل ولم يغير منها حرف، كما أنه لم يزد ولم ينقص من حروف الكلمة، وإنما التبديل وقع في الإعراب فقط، وكل ما كان على هذا من القراءات لا بأس فيه، أما ما يقع فيها تبديل أو نقص حرف أو زيادته فلا تجوز ولا تعد قراءة إذ هي تفسير لبعض الكلمات وردت من بعض الأصحاب أو كتبت على هامش مصاحفهم.
تدبر هذا واعلم أن أهل الرجل من يجمعه وإباهم نسب أو دين أو ما يجري مجراهما، ولما حكمت الشريعة برفع حكم النسب في كثير من الأحكام بين المسلم والكافر، قال سبحانه وتعالى منزل هذه الآية لشريعته الثابتة في أزله: {إنه ليس من أهلك} الذين هم على طريقتك وملّنك، لأنه لم يؤمن بك مثلهم، ولهذا فإن صريح الآية أبانت أنه ليس من أهله، وفي مثل هذا قال القائل:
وما ينفع الأصل من هاشم ** إذا كانت النفس من باهله

لأن مدار الأهلية هو القرابة الدّينية وقد انقطعت بالكفر، ولذا لم يرث الكافر المؤمن ولا المؤمن الكافر، ولا حجة بخبر سلمان منا أهل البيت فإن المراد به قرابة الدين وهي أقرب من النسب لكن في غير الإرث، قال أبو فراس:
كانت مودة سلمان لنا نسبا ** ولم يكن بين نوح وابنه رحم

وقال الآخر:
لقد رفع الإسلام سلمان فارس ** وقد خفض الشرك الحسيب أبا لهب

هذا ومن قال إنه ابن زوجته لا يلتفت إلى قوله بعد قول اللّه تعالى: {وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ} وقوله: {يا بُنَيَّ} و{إِنَّ ابْنِي} والقول في هذا كالقول بأن آزر عم إبراهيم مع صراحة القرآن بأنه أبوه كما سيأتي في الآية 74 من سورة الأنعام.
أما ما قيل إنه من البغي والعياذ باللّه، فإنه قول باطل تتنزه ساحة الأنبياء عنه ويخشى على قائله الكفر، واستدلاله بقوله تعالى: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} أي من زوجتي لا من صلبي، استدلال واه لا قيمة له ولا عبرة به، كيف وقد سماه ابنه في الآيتين مرتين صراحة ولا بعد صراحة القرآن حاجة إلى تأويل أو كناية، وإنما قال عليه السلام من أهلي لأن اللّه تعالى وعده بإنجاء أهله وهو منهم على ظنه أن الكفر لم يخرجه من معنى الأهلية، لا لأنه كما زعم هذا القائل الجاهل بأحوال الأنبياء المبرئين من كل عيب مادي أو معنوي.
أما ما استبعده بعض المفسرين من أنه لا يكون ابن النبي كافرا فبعيد عن الحقيقة، لأن قابيل كافر وهو ابن آدم عليه السلام، وإبراهيم خليل اللّه أبوه كافر.
وقال ابن عباس ما بغت امرأة نبي قط، ولا يقال كيف طلب النجاة له وهو كافر، لأن رقة الأبوة والأمل من نوبته عند رؤية أهوال الإغراق دعتاه إلى مناداته لعله يسلم وينجو، وهذا من موجبات الدعوة للغير فضلا عن الولد.
قال تعالى: {فَلا تَسْئَلْنِ} يا رسولي عن شيء {ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} جاء لنهي في هذه الآية عام مندرج تحته النهي عن سؤاله بعدم إنجائه بدليل الفاء التفريعية، وقد روي عن ابن عباس أنه قال: ضمير إنه من قوله تعالى: {إِنَّهُ عَمَلٌ} إلخ، يعود إلى المسألة المستفادة من معنى السؤال، أي مسألتك إياي يا نوح عن ابنك عمل غير صالح لا أرضاه لك، كما رواه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه، وفي رواية جرير سؤالك ما ليس لك به علم عمل غير صالح. ويستدل بهاتين الروايتين اللتين لم تعلم صحتهما القائل بأنه ابن بغي، ويقول إنما أعاد الضمير ابن عباس إلى المسألة حذرا من نسبة الزنى إلى من لا ينسب إليه، وهو رضي اللّه عنه أجل قدرا من أن يخفى عليه ذلك المعنى أو يتصور من عود الضمير إلى ابن نوح ما تصوره هذا الجاهل بقدر الأنبياء، فيسند الضمير إلى من ليس له لئلا يتصور ما يلزم من ذلك المحذور، كيف وهو حبر الأمة وأعلم الناس بمعاني كتاب اللّه بعد المنزل عليه ووحيه وخلفائه، فعلى العاقل أن لا يلتفت إلى ترهات كهذه تلصق بأعظم الرجال لتؤخذ عنهم وهم منها براء، ومن له مسكة من عقل أو لمعة من إيمان لا يصدق أقوالا كهذه بمجرد نقلها عنهم، لأن كثيرا من الدساس يفعلون هذا، قاتلهم اللّه وأخزاهم.
قال تعالى: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ 46} لمثل هذا وأنت من أصفيائي وكان عليه السلام لا يعلم أن سؤاله هذا محظور عليه، ولما علم مما أوحي إليه ربه أن طلبه نجاة ابنه وإدخاله في وعد ربه لا يرضى به ربه رجع واعتذر والتجأ إليه {قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} بجوازه ورضائك به {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي} جهلي هذا وخطئي بإقدامي على سؤالك شيئا لا يحق لي سؤاله، ولا يجوز لي طلبه البتة {وَتَرْحَمْنِي} بالعصمة عن العود إلى مثلها برحمتك التي وسعت كل شيء {أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ 74} عملا واحرسني يا سيدي من أن أذهل عن شكر نعمتك، فإن الذهول عنه عندها معاملة خاسرة توجب زوالها.
واعلم أن لا دلالة في هذه الآية على عدم عصمة الأنبياء، لأن اللّه تعالى وعد نوحا بإنجاء أهله وقد اتبع ظاهر هذا الوعد فسأل نجاته، فعاتبه اللّه تعالى على ما ليس له به علم من استثنائه من أهله في سابق علمه، لأنه كافر مصر على كفره، وبين له أنه ليس من أهله الذين وعده بنجاتهم، وأعلمه بأنه هالك لا محالة مع قومه الظالمين أنفسهم، ونهاه عن مخاطبته فيه، وفي كل ما لا يعلمه مما يوقعه اللّه تعالى في ملكه، فخاف عليه السلام من إقدامه على سؤاله ذلك الذي لم يؤذن له به، فلجأ إلى ربه وسأله المغفرة حالا عن هذا الذنب الذي ليس بذنب عند غير الأنبياء، لأن العبد كلما ازداد قربا من اللّه تضاعفت خشيته منه، وقد جاء عن سيدنا محمد صلى اللّه عليه وسلم أنه قال أعلمكم باللّه وأخشاكم له أنا.
وذلك لقربه من ربه عز وجل، لأن في ازدياد قربه ازدياد معرفته بربه ووقوفه على بعض عظمته وكبريائه، فيزداد خوفه منه فيستعظم ما يقع منه مما يراه مخالفا للأدب، ولهذا المعنى قبل إن حسنات الأبرار سيئات المقربين، وكما أن القرب من اللّه يكون سببا لكثرة أدبه معه فكذلك القريب من السلطان يكون أكثر من غيره أدبا وخوفا منه لما يرى من بطشه ولتأمين مقامه ومكانته عنده وعند الناس.
هذا وليس في الآيات ما يقتضي صدور ذنب أو معصية من نوح عليه السلام سوى تأويله وإقدامه على سؤال ربه بنجاة ابنه، وهو مما لا يؤاخذ عليه ولا يستوجب العتبى إلا عتاب الأحباب، وقدمنا في الآية 121 من سورة طه ما يتعلق بعصمة الأنبياء ومعنى ما يصدر منهم فراجعه.
قال تعالى: {قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ} بسفينتك على المحل الذي استقرت عليه وانزل إلى الأرض المستوية المعتدلة مما حول جبل الجودي {بِسَلامٍ} وأمان من الغرق وتحية {مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} من ذرية أهل السفينة، وهذه بشارة من اللّه تعالى إليهم بالنمو والخيرات وإلى قرون تجيء بعده، قال تعالى: {وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ} الآية 17 من سورة الصافات الآتية، أي إلى يوم القيامة، لأن الخليقة الموجودة الآن منسوبة إلى أولاده الثلاثة سام وحام ويافث، ولهذا يسمى أبا البشر الثاني بعد الأب الأول آدم عليه السلام، وبهذا يستدل القائل بأن الطوفان عم الأرض كلها، وأن دعوة نوح شملت كل من كان عليها، قال محمد بن كعب القرظي دخل في هذه البشارة كل مؤمن إلى يوم القيامة.
وإلى هنا للتمهت قصة نوح عليه السلام التي قصها علينا في كتابة.