فصل: (سورة هود: الآيات 9- 10)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة هود: الآيات 9- 10]

{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10)}
وقوله سبحانه وتعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ} [9] وهذه استعارة لأن إذاقة الرحمة ونزعها ليسا بحقيقة هاهنا. وإنما المراد بذلك أنا إذا رحمنا الإنسان بعد توبته من مواقعة في بعض الذنوب فقبلنا متابه، وأسقطنا عقابه، ثم واقع بعد ذلك ذنبا آخر، واستحق أن نعاقبه وأن نزيل رحمتنا عنه، يئس من الرحمة وقنط من المغفرة. وليس الأمر كذلك، لأنه إذا عاود الإقلاع، أمن الإيقاع. وقد أخرج هذا الكلام مخرج الذم لمن يواقع المعصية، فيقنط من قبول التوبة. فمعنى أذقنا الإنسان منا رحمة. أي عرّفناه أنا قد رحمناه. إذ قد أوجبنا قبول التوبة إذا أخلص العبد فيها، وأتى بها على شروطها وحدودها.
ومعنى {ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ} أي أزلنا عنه رحمتنا لأجل اقترافه المعصية التي اقترفها في المانى. وقد يجوز أن يكون المراد بالرحمة هاهنا- واللّه أعلم- النعمة والسرّاء. ويكون انتزاعها منه بمعنى إبداله بها الشدة والضرّاء، إجراء له في مضمار الابتلاء والاختبار، أو مصلحة يكون معها أقرب إلى الإصلاح والرشاد. ومما يقوّى ذلك قوله تعالى بعد هذه الآية: {وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [10]

.[سورة هود: آية 28]

{قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28)}
وقوله سبحانه: {وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} [28] الآية. وهذه استعارة. لأن الرحمة لا توصف بالعمى وإنما يوصف الناس بالعمى عن تمييز مواقعها، وإدراك مواضعها. فلما وصفوا بالعمى عنها حسن أن يوصف بذلك في القلب. كما يقال: أدخلت الخاتم في أصبعى، والمغفر في رأسى. وإنما الأصبع دخلت في الخاتم، والرأس دخل في المغفر. وقد يجوز أن يكون قوله سبحانه: {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ}.
بمعنى خفيت عليكم، كما يقول القائل: قد عمى علىّ خبرهم. وعمى علىّ أثرهم. أي خفى عنى الأثر والخبر.

.[سورة هود: آية 31]

{وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)}
وقوله سبحانه: {وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا} [31]. وهذه استعارة. كما يقول القائل: اقتحمت فلانا عينى، واحتقره طرفى.
إذا قبح في منظر عينه خلقة، وصغر دمامة. ليس أن العين على الحقيقة يكون منها الاحتقار، أو يجوز عليها الاستصغار.

.[سورة هود: آية 34]

{وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)}
وقوله سبحانه: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [34] وذكر الإغواء هاهنا من قبيل الاستعارة وإن لم يكن من صريحها. وكذلك لفظ المكر، والاستهزاء، وما يجرى هذا المجرى. لأن المراد بمعاني هذه الألفاظ غير المراد بظواهرها. فالمتعارف من الإغواء هو الدعاء إلى الغى والضلال. وذلك غير جائز على اللّه سبحانه، لقبحه وورود أمره بضده. والمراد إذن بالإغواء هاهنا تخييبه سبحانه لهم من رحمته، لكفرهم وذهابهم عن أمره. ومن الشاهد على ذلك قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}. أي خيبة من الرحمة، وارتكاسا في النقمة. وقد جاء لفظ الإغواء والمراد به التخييب في كثير من منثور كلامهم، ومنظوم أشعارهم. ويجوز أن يكون الإغواء هاهنا بمعنى الإهلاك لهم. ويجوز أن يكون بمعنى الحكم بالغواية عليهم.

.[سورة هود: آية 37]

{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)}
وقوله سبحانه: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا} [37]. وهذه استعارة.
ومعناها: واصنع الفلك بأمرنا، ونحن نرعاك ونحفظك. ليس أنّ هناك عينا تلحظ، ولا لسانا يلفظ. وذلك كما يقول القائل: أنا بعين اللّه. أي بمكان من حفظ اللّه. ومن كلامهم للظّاعن المشيّع والحميم المودّع: صحبتك عين اللّه. أي رعاية اللّه وحفظه.

.[سورة هود: آية 44]

{وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)}
وقوله سبحانه: {وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} [44]. الآية. وهذه استعارة. لأن الأرض والسماء لا يصح أن تؤمرا وتخاطبا. لأن الأمر والخطاب لا يكونان إلا لمن يعقل، ولا يتوجهان إلا لمن يعى ويفهم.
فالمراد إذن بذلك: الإخبار عن عظيم قدرة اللّه سبحانه، وسرعة مضى أمره، ونفاذ تدبيره.
نحو قوله: {إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}. وهذا إخبار عن وقوع أوامره من غير معاناة ولا كلفة، ولا لغوب ولا مشقة. وفي هذا الكلام أيضا فائدة أخرى لطيفة. وهو أن قوله سبحانه: {يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ}. أبلغ من قوله: يا أرض اذهبي بمائك. لأن في الابتلاع دليلا على إذهاب الماء بسرعة. ألا ترى أن قولك لغيرك: ابلع هذا الطعام، أبلغ من قولك له: كل هذا الطعام، إذا أردت منه إيصاله إلى جوفه بسرعة؟ وكذلك الكلام في قوله سبحانه: {وَيا سَماءُ أَقْلِعِي} لأن لفظ الإقلاع هاهنا أبلغ من لفظ الانجلاء. لأن في الإقلاع أيضا معنى الإسراع بإزالة السحاب، كما قلنا في الابتلاع. وذلك أدلّ على نفاذ القدرة، وطواعية الأمور، من غير وقفة ولا لبثة، هذا إلى ما في المزاوجة بين اللفظين من البلاغة العجيبة، والفصاحة الشريفة. إذ يقول سبحانه: {يا أرض ابلعي ويا سماء أقلعى}: ومثل هذا في القرآن أكثر من أن يشار إليه.

.[سورة هود: آية 58]

{وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58)}
وقوله سبحانه: {وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ} [58]. وهذه استعارة. لأن العذاب في الحقيقة لا يوصف بالغلظ والدقة، لأنه الألم الذي يلحق الحي في قلبه أو جسمه. وإنما وصفه تعالى بالغلظ على طريقة كلام العرب، لأنهم يصفون الأمر الهين بالضئولة والدقة، كما يصفون الأمر الشاق بالغلظ والشدة، حملا لذلك على عرفهم في المراعاة للشئ الغليظ الكثيف، وقلة الحفل بالشيء الدقيق الضئيل. ألا ترى إلى قولهم: عرض فلان دقيق، وقدره ضئيل؟ وإلى قولهم في مقابلة ذلك: لقى فلان فلانا بكلام غليظ، وقول ثقيل.
وقد يجوز أيضا- واللّه أعلم- أن يكون المراد بعذاب غليظ هاهنا الصفة لعذاب الآخرة. والعذاب إنما يقع بالآلات المستعظمة والأعيان المستفظعة، مثل مقامع الحديد، والحجارة المحمّاة بالجحيم. فوصف سبحانه العذاب الغليظ، لأنه واقع بالأشياء الغليظة، والآلات الثقيلة، فيكون ذلك مجازا من هذا الوجه.
ومما يقوّى أن المراد بقوله تعالى: {وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ} عذاب الآخرة، قوله تعالى: {وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} وهذه النجاة من عذاب الدنيا. ثم قال تعالى: {وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ} فدلّ على أن النجاة من العذاب الأول غير النجاة من العذاب الآخر. وأن الأول عذاب الدنيا، والثاني عذاب الآخرة، لأن العطف بالواو يقضى بذلك، وإلّا كان وجه الكلام: فلما جاء أمرنا نجّينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا من عذاب غليظ، ولم يكن لقوله تعالى: {وَنَجَّيْناهُمْ} ثانيا معنى.

.[سورة هود: آية 80]

{قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)}
وقوله سبحانه حاكيا عن لوط عليه السلام: {قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [80] وهذه استعارة والمراد بها: لو كنت آوى إلى كثرة من قومى، وعدد من أهلى. وجعلهم ركنا له، لأن الإنسان يلجأ إلى قبيلته، ويستند إلى أعوانه ومنعته، كما يستند إلى ركن البناء الرصين، والنضد الأمين.
وجاء جواب لو هاهنا محذوفا. والمعنى، لو أننى على هذه الصفة لحلت بينكم وبين ما هممتم به من الفساد وأردتموه من ذنوب فحشاء. والحذف هاهنا أبلغ، لأنه يوهم المتوعّد بعظيم الجزاء، وبغليظ النكال، ويصرف وهمه الى ضروب العقاب، ولا يقف به عند جنس من أجناس المخوفات المتوقعات.
وليس مخرج هذا الكلام من لوط عليه السلام، على ما ظنّه من لا معرفة له، وقدح فيه بأن قال: ألم يكن يأوى إلى اللّه سبحانه؟ فما معنى هذا القول الذي قاله؟ وذلك أن لوطا على ما ذكرنا إنما أراد الأعوان من قومه، والأركان المستند إليهم من قبيلته، وهو يعلم أن له من معونة اللّه سبحانه أشد الأركان، وأعز الأعوان، إلا أن من تمام إزاحة العلة في التكليف حضور الناصر، وقرب المعاضد والمرافد.

.[سورة هود: الآيات 83- 84]

{مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْبًا قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)}
وقوله سبحانه في صفة الحجارة المرسلة على قوم لوط: {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [83] وهذه استعارة. لأن حقيقة التسويم هى العلامات التي يعلّم بها الفرسان والأفراس في الحرب، للتمييز بين الشعارات، والتفريق بين الجماعات.
قال اللّه سبحانه: {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} وقرئ {مُسَوِّمِينَ} بفتح الواو. وقال اللّه سبحانه: {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} والمعنى أنه سبحانه لما جعل تلك الحجارة حربا لهم وأعوانا عليهم وصفها بوصف رجال الحرب وخيولهم، فكأنها مرسلة من عند اللّه، أي من عند ملائكة اللّه الذين تولّوا الرمي بها، إرسال الخيول المسوّمة على أعدائها، وإن لم يكن هناك تسويم على الحقيقة.
وقد قال بعضهم: إن تلك الحجارة كانت على الحقيقة معلّمة بعلامات تدل على أنها أعدت للعذاب، وأفردت للعقاب. وذلك أملأ للقلوب، وأعظم في الصدور.
وقوله سبحانه: {وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} [84] وهذه استعارة من وجهين: أحدهما وصف اليوم بالإحاطة، وليس بجسم فيصح وصفه بذلك. والوجه الآخر: أن لفظ محيط هاهنا كان يجب أن يكون من نعت العذاب، فيكون منصوبا. فجعله- سبحانه- من نعت اليوم فجاء مجرورا، فأما وصف اليوم بالإحاطة- وإن لم يتأتّ فيه ذلك- فالمراد به- واللّه أعلم- أنّ العذاب لما كان يعمّ المستحقّين له في يوم القيامة حسن وصف ذلك اليوم بأنه محيط بهم أي أنه كالسياج المضروب بينهم وبين الخلاص من العذاب والإفلات من العقاب. وأما نقل نعت العذاب إلى نعت اليوم، فالوجه فيه أن العذاب لما كان واقعا في ذلك اليوم كان ذلك اليوم كالمحيط به، لأنه ظرف لحلوله، ووقت لنزوله.

.[سورة هود: الآيات 86- 87]

{بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)}
وقوله سبحانه: {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [86] وهذه استعارة. لأن حقيقة البقية تركة شئ من شئ قد مضى، ولا يجوز إطلاقه على اللّه سبحانه. فإذن يجب أن يكون المراد غير هذه الحقيقة. وقد قيل في معنى ذلك وجوه: أحدها بقية اللّه من نعمته خير لكم. وقد قيل: بقية اللّه طاعة اللّه، وذلك لأنها تبقى رضاه وثوابه أبدا ما بقيت. وقيل بقية اللّه أي عفو اللّه عنكم ورحمته بكم بعد استحقاقكم العذاب، كما يقول العرب المتحاربون بعضهم لبعض، إذا استحرّ فيهم القتل، وأعضلهم الخطب: البقية! البقيّة! أي نسألكم البقية علينا والمكافأة لنا. والبقية هاهنا والإبقاء بمعنى واحد.
وقوله سبحانه: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا} [87] وهذه استعارة. لأن الصلاة لا يصح منها الأمر على الحقيقة، وإنما أطلق عليها ذلك، لأنها بمنزلة الآمر بالخير، والناهي عن الشر.
وقيل: المراد بذلك: أدينك يأمرك بهذا؟ أي في شريعتك ودينك الأمر بهذا؟ فإذا كان ذلك في عقد الدين حسن أن يضاف الأمر به إلى الدين: وفي هذا الكلام أيضا مجاز آخر. وهو أنه تعالى قال: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا} [87] وليس يصح على ظاهر الكلام أن يؤمر شعيب بأن يترك قومه شيئا هم عليه، وإنما المعنى- واللّه أعلم- أصلاتك تأمرك أن تأمرنا بترك ما يعبد آباؤنا؟ فاكتفى بذكر الأمر الأول عن ذكر الأمر الثاني، لأنه كالمعلوم من فحوى الكلام.
وهذا من غوامض أسرار القرآن.

.[سورة هود: آية 92]

{قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92)}
وقوله سبحانه: {أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا} [92]. فهذه استعارة. لأن اللّه سبحانه لا يجوز عليه أن يجعل ظهريا على الحقيقة. فالمراد أنكم جعلتم أمر اللّه سبحانه وراء ظهوركم. وهذا معروف في لسان العرب أن يقول الرجل منهم لمن أغفل قضاء حاجته، أو ثنى عطفا على عذله وعتابه: جعلت حاجتى وراء ظهرك، وتركت مقالى دبر أذنك. أي لم تعن بحاجتي، ولم تصغ إلى معاتبتى.

.[سورة هود: آية 94]

{وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94)} وقوله سبحانه وتعالى: {وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ} [94]. وهذه استعارة، لأن حقيقة الأخذ إنما يوصف بها الأجسام. والصيحة عرض من الأعراض، لأنها بعض الأصوات، إلا أنها أقوى للأسماع صكا وقرعا، وأبلغ في القلوب وجلا وروعا.. والمراد أن هلاكهم لما كان عن الصيحة حسن أن يقال: إنها أخذتهم بمعنى ذهبت بنفوسهم، وأتت على جمعهم.

.[سورة هود: الآيات 98- 100]

{يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)}
وقوله تعالى: {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} [98- 99] فقوله تعالى: {وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} و{بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} استعارتان. لأنه تعالى جعل فرعون في تقدمه قومه إلى النار بمنزلة الفارط المتقدم للوارد إلى الورد، كما كان في الدنيا متقدمهم إلى الضلالة، وقائدهم إلى الغواية، وجعل النار بمنزلة الماء الذي يورد، ثم قال تعالى: {وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} لأنه ورد لا يجيز، الغصة، ولا ينقع الغلة.
وقد اختلف العلماء في قوله تعالى: {وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ}. وهل ذلك ذم لنار جهنم على الحقيقة أو المجاز، فقال أبو على محمد بن عبد الوهاب الجبّائى: ذلك على طريق المجاز، والمعنى بئس وارد النار. وقال أبو القاسم البلخي: بل ذلك على طريق الحقيقة.
فأما قوله سبحانه: {وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} [99] فإنما قلنا إنه استعارة، لأن حقيقة الرّفد العطية. يقال رفده يرفده رفدا ورفدا بفتح الراء وكسرها. ولكن اللعنة لما جعلت بدلا من الرفد لهم عند انتقالهم من دار إلى دار، على عادة المنتجع المسترفد أو الرجل المتزود، جاز أن يسمى رفدا، على طريق المجاز، كما قال تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ} والبشارة في الأعم الأغلب إنما تكون بالخير لا بالشر. ولكن لما جعل إخبارهم باستحقاق العذاب في موضع البشارة لغيرهم باستحقاق الثواب جاز أن يسمى في ذلك بشارة.
وقوله سبحانه: {ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ} [100].
وهذه استعارة. والمعنى: منها قائم البناء، خال من الأهل، ومنها منقوض الأبنية، ملحق بالأرض، تشبيها بالزرع المحصود. إلى هذا المعنى يومئ قوله تعالى: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ}. وقوله سبحانه: {وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها}. والعروش الأبنية. أي خالية من أهلها، على ما فيها من بواقى أبنيتها.
وقد يجوز أن يكون ذلك كناية عن أهل القرى، فكأنه سبحانه شبّه الأحياء الباقين بالزرع النامي، وشبّه الأموات الهالكين بالزرع الذاوي. وذلك أحسن تمثيل، وأوقع تشبيه.

.[سورة هود: آية 119]

{إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)}
وقوله سبحانه: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [119]. وهذه استعارة. والمراد هاهنا بتمام كلمة اللّه سبحانه صدق وعيده الذي تقدّم الخبر به، وتمام وقوع مخبره مطابقا لخبره. اهـ.