فصل: فصل في التفسير الموضوعي للسورة كاملة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل في التفسير الموضوعي للسورة كاملة:

قال محمد الغزالي:
سورة هود:
بدأت سورة هود كما بدأت سور كثيرة بالحديث عن القرآن الكريم: {كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير}. ولا غرو فالكتاب العظيم قاعدة الإسلام، وبرهان رسالته، وسر خلوده، وقد تلقاه الرسول ليبلغه إلى الناس كافة فيخرجهم من الشرك إلى التوحيد، ومن العوج إلى الاستقامة، فالتشبث بالله وحده أساس النجاة: {ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير}. ويظهر أن عبء البلاغ شديد، أحس الرسول معه بالمعاناة، فقد جاء في السنة: قال أبو بكر: سألت رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: ما شيبك؟ قال: «شيبتنى هود وأخواتها». ترى ماذا في هذه السورة ينبت الشيب؟ لقد شرعت أبحث عن السبب! فقلت: لعله مصارع الأمم التى ضلت فحاق بها الهلاك؟ إن هذه المصارع قضها الله على نبيه في سور أخرى فلم تحدث هذا الأثر!. هل تنكر الناس للرسول وإشاحتهم عنه معرضين هو الذى شيبه؟ فقد جاء في هذه السورة: {ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور}. وقد استبعدت هذا السبب، فإن الرسول أكبر من أن يهتز لصدود الجهلة!. إذن ما لسبب؟ إن هناك شيئا لاحظته في هذه السورة لم ألحظه في غيرها: كثرة التوجيهات التى تمس شخص الرسول، وتتناوله بضمير الخطاب المفرد بين الفينة والفينة، كأنما تشعره بما هو مكلف به من بلاغ. وذلك بدءا من قوله تعالى له: {فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل} في هذه الآية وحدها خطاب تكرر الضمير فيه ثلاث مرات متصلا، ومرة واحدة منفصلا.
وظل الأمر كذلك يتكرر على هذا النسق عشرات المرات- كما سنرى- حتى آخر آية في السورة: {ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون}. عقب قصة نوح مع قومه، وبعد هلاكهم بالطوفان جاءت هذه الآية خطابا للرسول الكريم: {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين}. ثلاثة ضمائر متصلة غير الضمير المنفصل، تتجه كلها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وينضم إليها في النهاية أمر بالصبر، والعاقبة للتقوى!. وفي أثناء القصة نفسها يتوقف السرد الدافق لتجئ هذه الآية: {أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون}. وحاشاه أن يفترى إنه الصادق الأمين، وسيبقى إلى جانب الصدق حتى يكشف القدر عن أهدى الفريقين... ويحكى القرآن الكريم قصة عاد وكيف تحدَّت هودا وآذته، ثم يقول رب العالمين: {ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ} ويتجه الخطاب بعدئذ إلى رسول الله: {وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد}. وما حدث لعاد حدث مثله لثمود، واتجه الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم يلفته إلى هذا المصير، في قوله تعالى: {فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز}. وبعد ما حل بقوم لوط من دمار زلزل مدينتهم بلغ الله نبيه هذا المصير بقوله: {فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد} والجملة الأخيرة تهديد للعرب الذين يمضون في طريق الغواية دون متاب. وبعد هلاك مدين والفراعنة يقول الله لنبيه: {ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد} وتتكاثر ضمائر الخطاب في أواخر السورة تكاثرا مثيرا حتى لتبلغ ثمانية عشر ضميرا، عدا الأوامر المصاحبة الكثيرة فما تظن وقع ذلك على فؤاد صاحب الرسالة؟!.
ويبدأ ذلك من قوله تعالى: {وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد}. ويتكرر اسم الرب مضافا إلى ضمير الخطاب مرتين عند ذكر جزاء القيامة {فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد} ومرة ثالثة عند ذكر السعداء: {وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ}. ثم يقول الله له: {فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء...} ويذكره بقضائه السابق أن يرجى مجازاة الناس كلهم إلى يوم موعود: {ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم} وإلى أن يقع هذا اليوم الجامع فعلى صاحب الرسالة أن يصدع بما يؤمر، وأن يتحمل آلام الاختبار وطول الانتظار، وعلى من معه أن يتأسوا به في هذا الصبر الطويل {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك}، {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين}. وتتكرر ضمائر الخطاب كلما قاربت السورة الانتهاء، وتدبر قول الله لرسوله: {وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين}. ألا يفسر هذا قول الرسول الكريم «شيبتنى هود وأخواتها»؟. المعصية العابرة لا تدمر المستقبل، إنها تولد لتموت، وقد يلحقها من الندم ما يمحو لها كل ذكرى حسنة. بل ربما كانت لقاحا يحصن من الوقوع في مثيلاتها، فنفعت من حيث ضرت!. إن المعاصى التى تهلك الأمم هى التى تستقر في النفس ولا تعبرها! تستقر فيها لتكون جزءا منها، ولتكون بعدئذ جزءا من المجتمع الكبير، لعلها تتحول إلى تقليد متبع أو إلى تشريع قائم، فيكون البعد عنها مستغربا والنهى عنها جريمة!!. وتدبر كلام قوم لوط له: {... وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون} لقد أمسى التطهر منكرا والتدنس مألوفا.
والحضارات الفاجرة هى التى تهوى إلى هذا الدرك. وقد ظهرت أمارات السقوط على الحضارة المعاصرة في جوانب شتى.. وأهلها بحاجة إلى من يقول لهم ما جاء في صدر سورة هود: {.. كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير}. إن الوعد المبذول للتائبين على عجل هو مستوى معيشة حسن!! والنفس تحب العيش الرغد، ومع أن الحياة الدنيا دار ابتلاء، والابتلاء يقتحم النفوس بالمزعجات، إلا أن الله يطمئن عباده بأنه سوف يريحهم ويصلح بالهم إذا آمنوا به وأسلموا له وجوههم!. وهذه العدة المبذولة لنا بذلت من قبلنا لعاد عندما قال لهم أخوهم هود: {ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين}. والذى يسمع هذه الإجابة يحسب القوم أهل حوار عقلى، وأنهم إذا شرح لهم الدليل تبعوا الدليل!. والقوم لا علاقة لسلوكهم بعقل! وأى ذكاء تنتظر عند عبدة الأصنام؟ هل عبدوا الحجارة عن دليل؟ لقد كانت إجابتهم من قبل لهود موضع استغراب عندما قالوا له وهو يدعوهم إلى عبادة الله الواحد: {إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين} فكان من رد الرجل الحليم عليهم: {قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين}. والقصص تتكرر في القرآن، وفي كل واحدة منها ملحظ لا يرى في الأخرى، وإنما تعرف حقيقة القوم كاملة من الجمع بين شتى القصص في صعيد واحد، وهذا الصنيع يحتاج إلى علم خاص به... وفي سورة هود جاءت قصص الأولين ومصارعهم على النحو الذى تم في سورة الأعراف، لكنك تقرأ هنا تفاصيل عن قوم نوح لم ترد قط في سورة الأعراف. تفاصيل استغرقت نحو صفحتين على حين لم تأخذ من سورة الأعراف إلا سطورا. ويشعر المرء بالروع من مناشدة نوح لربه أن يرد إليه ابنه الذى طاح: {ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين}.
كأنه يقول لله لقد وعدتنى أن تنجينى وأهلى، وابنى أول أهلى فرُدُّه إلىَّ!! فكانت الإجابة الصارمة: {قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين}. وقد تبادر إلى بعض الأذهان أن امرأة نوح غشت رجلها وخانته وأتت بهذا الابن لغير رشدة وأدخلته في نسب نوح وهو لا يدرى!!. وهذا رأى بعيد، وهو غضاضة يصون الله أنبياءه منها. والصحيح أن امرأة نوح خانته بانضمامها إلى أهلها في استهجان نبوة نوح وتكذيب رسالته، فكانت بهذا الموقف من حزب الكافرين، وكان ابنها يؤيد موقفها ويظاهر أعداء الله ويتلمس النجاة من الطوفان بالهرب إلى رأس جبل. وهيهات! فإن الهلاك العائم طواه كما طوى غيره. وهذا معنى الآية: {قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم..} إلخ.. وكان جواب نوح: {قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك...}. ودين الله على امتداد النبوات واختلافها، من عهد نوح وإبراهيم إلى موسى وعيسى ومحمد يؤخر نسب الدم ويقدم نسب الإيمان، ويجعل الحب والبغض في الله أساس التواصل أو التقاطع... وندع قوم نوح إلى قوم هود الذين رفضوا نبيهم ونفروا منه أشد نفور، إنه لما رأى نفسه وحيدا أمام أناس مكابرين معاندين قال: {إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم}. وجاء العقاب الإلهى وكان شديدا حاسما.. فإذا العمالقة المغرورون بقواهم تحملهم الريح العقيم وتجلد بهم الأرض بعنف، فإذا رءوسهم تطيح وأبدانهم تبقى{تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر فكيف كان عذابي ونذر}؟ أما هود والمؤمنون معه فكان لهم شأن آخر: {ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ}. وختمت القصة الكئيبة بهذا التعقيب: {وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود} إن الأقوياء الفجرة عندما تحق عليهم كلمة الله يصبحون أهون من الذر! ما تغنى عنهم قواهم شيئا أمام من بيده ملكوت السموات والأرض. لا أدرى ما دهى العرب العاربة حتى أجمعت على تكذيب الأنبياء واضطهاد أتباعهم، فاستحقت الهلاك العام، فسموا العرب البائدة..؟!. ذكرنا نبأ عاد، ونذكر الآن نبأ ثمود وموقفها من نبى الله صالح. ويظهر أن نظام الطبقات الذى نجم أيام نوح ظهر على نحو أقوى بين جماعة ثمود، وأن أغلب الذين تبعوا صالحا كانوا من المستضعفين: {قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون}!!. وذهاب المرء بنفسه رذيلة، ويزداد السوء إذا ذهبت أمة بنفسها!. والتعصب الجنسى ينشأ من هذا الكبر الأعمى... وهو من وراء النزعات القومية التى شاعت قديما وحديثا بين الناس. وهذا التعصب كامن في الجنس الأبيض الذى يسكن أوربا وأمريكا الآن، تظهره القوة ويخفيه الضعف. وقد كان موجودا في الجاهلية العربية، تلمحه في قول عمرو بن كلثوم: ونشرب إن وردنا الماء صفوا ويشرب غيرنا كدرا وطينا!! لماذا أيها المغرور؟ وإذا كانت صيحة: ألمانيا فوق الجميع، أو مصر فوق الجميع، قد اختفت فإن الولاء الوطنى والصلف العلمى والانتفاع الشخصى تجمع كله وراء القوميات الحديثة فأمسى الارتباط بها فوق كل رباط!!!. ولم يخلق الله الناس لهذه الدعاوى الفارغة، ولذا يقول في قصة ثمود: {وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب}. والواقع أن الخطاب لثمود يتناول البشر كلهم الذين أنشأهم الله من الأرض، ووظفهم في عمرانها، وكلفهم بعبادته فيها حينا من الدهر، ثم يعودون بعدئذ إليه ليسألهم عما قدموا.. ونحن نعلن دهشتنا لفريقين من الناس يملآن الأرض الآن: فريق لا يحسن تعمير الأرض ويعيش فيها مع الهمل ويزعم أنه مؤمن!. وفريق استثار الأرض وامتلكها وغزا بعدها الفضاء، وصلته بالله صفر أو فوق ذلك بقليل.. وثمود كانوا أشبه بالنوع الثانى، وقال لهم نبيهم صالح: {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين}. ولكن ثمود أعماها الطغيان والكبر فلم تشكر نعمة ولم ترع لله حقا: {فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز}. وجاءت مدين بعد ثمود، فجمعت في حياتها بين الفساد السياسى والفساد الاقتصادى. وقد رأينا في سورة الأعراف أن الحرب المعلنة على الفساد السياسى كانت أبرز، أما في هود فإن التنديد بالعوج الاقتصادى كان أبرز. في السورة الأولى طلب الله من أهل مدين أن يصبروا على الرأى الآخر، وأن ينظروا في أدلته، وألا يتوعدوا أصحابه: {ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين}. لقد أنقسم الناس أمام دعوة شعيب قسمين: منهم من اقتنع بها ودخل فيها، ومنهم من رفضها وخاصم أصحابها. ليكن!! دعوا الزمن يفصل في هذه القضية، ويحق الحق ويبطل الباطل، ولا تهددوا أنتم المؤمنين بالنفى والتشريد، وترغموهم على ترك ما آمنوا به: {وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين}. ولكن مدين آثرت الاستبداد الأعمى، والفتنة الغبية: {قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا....}. وفي سورة هود اتسم الخطاب الموجه إلى قوم شعيب بمحاربة الغش في المعاملات الاقتصادية بعد محاربة الإشراك بالله: {وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين}.
وكان رد مدين على نبيها مزيجا من السخرية والتهكم: {قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد}. وهكذا رفضوا عقيدة التوحيد وأخلاق الصلاح والعفة والعدالة. فلما بقى النبي الصالح في ميدان الخير يأمر وينهى قيل له: {... وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز}. وانتهت القصة بهلاك الفسدة الغاشين كما هلك من قبل غيرهم: {ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود} وأهلك الله الفراعنة في حديث سوف نعرض لتفاصيله في سورة أخرى، ثم قال لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين}. إن سورة هود فصلت أحوال الأمم مع رسلها ليعلم صاحب الرسالة الخاتمة أنه لا جديد في تكذيب قريش له، فالصراع بين الحق والباطل أزلى لا فكاك منه، ولكن النتائج الحاسمة تنصف المؤمنين وتعز المتقين. قرأت كلاما عن الانفجار العظيم الذى بدأ به الكون، ودارت بعده الأفلاك، ومنح العالم سمته المعروف الآن. إن أعداد السنين التى صاحبت هذه النشأة تعجز العادين. خيل إلى، أن هذه السنوات أكثر من حبات الرمال في الصحراء الكبرى!. قلت لنفسى: فما شأن خالقها المبدئ المعيد؟ وكان الجواب: أن صفاته أزلية لا أول لها ولا آخر!. ولاشك أن إبداع هذا العالم مدهش! ولكن أوغل منه في الإدهاش إبقاؤه وإمداده بحياته. إن خلق جنين واحد شئ كبير، وأكبر منه إرسال الغذاء إليه لينمو حتى يبلغ أشده، أهو جنين واحد؟ إن عالم الحيوان والنبات فوق الحصر {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين}!!. قلت وأنا أتضاءل في نفسى: ما أكون أنا؟ وما يكون الكوكب الكبير الذى أحيا فوقه؟ إن علماء الأحياء أفهمونى أن بين مشارق الكون ومغاربه آمادا بعيدة!!. وأجاب إيمانى بالله على هذا السؤال: إن رب العرش العظيم يستوى عنده قرب المكان وبعده، وطول الزمان وقصره! وهو على عرشه معى بسمعه وبصره وقيوميته. وطمحت أفكارى إلى حد فوق طاقتها، فتساءلت عن هذا العرش والاستواء؟ وكان الجواب: إن الذى يجهل ما تحت قدمه لا يصلح له هذا التطاول. خير لك أن تعرف لماذا وجدت، وأن تحقق الحكمة من وجودك، فهذا أولى بك: {وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا..} فلأحسن عملى، ولأصقل عقلى، ولأزد نفسى، ولأحقق ثمرة وجودى، فهذا أولى وأجدى على. إن هذه الدنيا طريق إلى أخرى أهم وأبقى- وإن جهل كثيرون: {ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين}. إن الجهلة يستعجلون هذا العذاب: تكذيبا له أو استهانة به! أفلا يؤمنون به إلا إذا لذع جلودهم؟ فما قيمة الإيمان به بعد وقوعه؟ {ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون}. مصيبة الإنسان أنه عبد لحظته الحاضرة، وساعته العاجلة، وأنه عندما يستنجد بربه لضر أصابه لا يكاد يستقبل النجدة المرسلة حتى ينسى ما كان، ويجحد يد الرحمن {ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير}. البشر محتاجون إلى كتاب يعرفهم من أين جاءوا وإلى أين يصيرون؟؟. وهذا التعريف يؤتى ثمرته يوم يجئ دويا يخرق جدار الذهول، وبليغا يصل إلى قاع الفؤاد! أي: أعندما يجئ كتاب معجز للكل! وفي السورة السابقة- سورة يونس- جاء التحدى بسورة واحدة أما في السورة التى تلتها فقد جاء التحدى بعشر سور. وهذا- فيما نرى- زيادة في قهر النفوس، وإشعارها بالعجز، فإن الذى ينهزم أمام ضربة واحدة يغرق وينهار إذا قيل له: أمامك عشر ضربات! {أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون}؟.
إن محمدا كان يسير بين الناس مؤيدا بهذا البرهان الإلهى الحاسم، ومن قبل هذا البرهان كانت نبوءات الكتب الأولى تشهد له، فمن أرسخ منه قدما؟ {أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون}. ثم إن الكبار لا يكذبون على الناس فكيف يكذبون على الله؟ وهل كذب أن يقال: إن الله واحد، وإن لقاءه حتم، وإن الأبرار لفى نعيم، وإن الفجار لفى جحيم، فأين يكون الصدق؟. كان هذا المهاد سابقا لتأريخ الأمم التى عرض عليها الدين فكفرت به، لقد هلكت أمة بعد أخرى، وآثارها بواق تدل عليها، ومنها ما حصد فلم يبق له وسم ولا رسم.. لم هذا المصير الأشأم؟ أما كان هناك أهل فكر واعتبار ينذرون ويحذرون {فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون}. على هذا النهج اللاجب سار محمد يدعو الأولين والآخرين، بيد أن الناس كانوا- وما يزالون- منقسمين على أنفسهم لا تجمعهم راية الحق. ما أكثر المشارب والمذاهب التى تفرق بينهم، وتجعل لكل واحد وجهة يرتضيها. كان ربك قديرا أن يجعلهم غير ذلك، ولكن شاءت حكمته أن يدعهم وشأنهم {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين} وهنا رأس آية! كأن الاختلاف سنة طبيعية في التكوين البشرى، ثم قال: {... إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين}. كان ربنا يستطيع أن يخلقنا ملائكة لا تستطيع العصيان، أو حيوانات معزولة عن التكليف، ولكنه جعلنا بشرا مختارين، نستطيع الهبوط إلى سجين، أو الصعود إلى عليين. اهـ.