فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فإن جاءت ذبابة على أي طعام، وأخذت بعضًا من الطعام، فهل يستطيع أحد أن يستخلص من الذبابة ما أخذته؟
لا، كذلك نرى ضعف الاثنين: الطالب والمطلوب.
وهنا يقول الحق سبحانه: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1]. فالإحكام لا يتناقض مع التفصيل؛ لأن الحق سبحانه هو الذي أحكم، وهو سبحانه الذي فصَّل، وهو سبحانه حكيم بما يناسب الإحكام، وهو سبحانه خبير بما يناسب التفصيل، بطلاقة غير متناهية.
وهو سبحانه حكيم يخلق الشيء مُحْكمًا لا يتطرق إليه فساد، وهو سبحانه خبير عنده علم بخفايا الأمور.
ويقول الحق سبحانه وتعالى في آية أخرى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار وَهُوَ اللطيف الخبير} [الأنعام: 103].
فالله سبحانه لا تدركه عين، وعينه سبحانه وتعالى لا تغفل عن أدق شيء وأخفى نية.
إذن: فقول الحق سبحانه وتعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1].
يبيِّن لنا أن القرآن كلام الله القدير الذي بُني على الإحكام، ونزل مُحْكمًا جملة واحدة، ثم جاءت الأحداث المناسبة لينزل من السماء الدنيا نجومًا مفصلة تناسب كل حدث.
وأحكام الكتاب ثم تفصيله له غاية، هي الغاية من المنهج كله، ويبيِّنها الحق سبحانه في الآية التالية: {أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله}
{أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2)}
إذن: فقد أحكمت آيات الكتاب وفصِّلت لغاية هي: ألا نعبد إلا الله.
والعبادة هي طاعة العابد للمعبود فيما أمر، وفيما نهى.
وهكذا نجد أن العبادة تقتضي وجود معبود له أمر وله نهي، والمعبود الذي لا أمر له ولا نهي لا يستحق العبادة، فهل مَنْ عَبَدَ الصنم تلقَّى من أمرًا أو نهيًا؟
وهل مَنْ عَبَدَ الشمس تلقَّى منها أمرًا أو نهيًا؟
إذن: فكلمة العبادة لكل ما هو غير الله هي عبادة باطلة؛ لأن مثل تلك المعبودات لا أمر لها ولا نهي، وفوق ذلك لا جزاء عندها على العمل الموافق لها أو المخالف لها.
والعبادة بدون منهج افعل ولا تفعل لا وجود لها، وعبادة لا جزاء عليها ليست عبادة. وهنا يجب أن نلحظ أن قول الحق سبحانه: {أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله} [هود: 2]. غير قوله سبحانه: {اعبدوا الله} [المائدة: 72].
ولو أن الرسل تأتي الناس وهم غير ملتفتين إلى قوة يعبدونها ويقدسونها لكان على الرسل أن يقولوا للناس: {اعبدوا الله} [الأعراف: 59]. ولكن هنا يقول الحق سبحانه: {أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله} [هود: 2].
فكأنه سبحانه يواجه قومًا لهم عبادة متوجهة إلى غير من يستحق العبادة؛ فيريد سبحانه أولًا أن يُنهي هذه المسألة، ثم يثبت العبادة لله.
إذن: فهنا نفي وإثبات، مثل قولنا: أشهد ألا إله إلا الله، هنا ننفي أولًا أن هناك إلهًا غير الله، ونثبت الألوهية لله سبحانه. وأنت لا تشهد هذه الشهادة إلا إذا وُجد قوم يشهدون أن هناك إلهًا غير الله تعالى، ولو كانوا يشهدون بألوهية الإله الواحد الأحد سبحانه؛ لكان الذهن خاليًا من ضرورة أن نقول هذه الشهادة.
ولكن قول الحق سبحانه: {أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله} [هود: 2].
معناه النفي أولًا للباطل، وإذا نُفِي الباطل لابد أن يأتي إثبات الحق، حتى يكون كل شيء قائمًا على أساس سليم.
ولذلك يقال: درء المفسدة مقدَّم دائمًا على جلب المنفعة فالبداية ألا تعبد الأصنام، ثم وجِّه العبادة إلى الله سبحانه. وما دامت العبادة هي طاعة الأمر، وطاعة النهي، فهي إذن تشمل كل ما ورد فيه أمر، وكل ما ورد فيه نهي. وإنْ نظرت إلى الأوامر والنواهي لوجدتها تستوعب كل أقضية الحياة من قمة الشهادة بأن لا إله إلا الله، إلى إماطة الأذى عن الطريق.
وكل حركة تتطلبها الحياة لإبقاء الصالح على صلاحه أو زيادة الصالح ليكون أصلح، فهذه عبادة.
إذن: فالإسلام لا يعرف ما يقال عنه أعمال دنيئة، وأعمال شريفة ولكنه يعرف أن هناك عاملًا دنيئًا وعاملًا شريفًا.
وكل عامل يعمل عملًا تتطلبه الحياة بقاء للصالح أو ترقية لصلاحه وعدم الإفساد، فهذا عامل شريف؛ وقيمة كل امرئ فيما يحسنه.
وهكذا نجد أن كلمة العبادة تستوعب كل أقضية الحياة؛ لأن هناك أمرًا بما يجب أن يكون، وهناك نهيًا عما يجب ألا يكون، وما لم يرد فيه نهي لك الخيار في أن تفعله أو لا تفعله، فإذا نظرت إلى نسبة ما تؤمر به، ونظرت ألى ما تُنهى عنه بالنسبة لأعمال الحياة، لوجدت أنها نسبة لا تتجاوز خمسة في المائة من كل أعمال الحياة، ولكنها الأساس الذي تقوم عليه كل أوجه الحياة.
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان».
وأعداء الإسلام يحاولون أن يحددوا الدين في هذه الأركان الخمسة، ولكن هذه الأركان هي الأعمدة التي تقوم عليها عمارة الإسلام.
وأركان الإسلام هي إعلان استدامة الولاء لله تعالى، وكل أمر من أمور الحياة هو مطلوب للدين؛ لأنه يصلح الحياة.
وهكذا نجد أن العلم بالدين ضرورة لكل إنسان على الأرض، أما العلوم الأخرى فهي مطلوبة لمن يتخصص فيها ويرتقي بها ليفيد الناس كلهم، وكلما كان المتفوق من المسلمين كان ذلك تدعيمًا لرفعة الإسلام.
إذن فالقاسم المشترك في الحياة هو العلم بالدين، ولكن يجب أن نفهم هذه القضية على قدرها، فلا يأتي إنسان لا يعرف صحيح الدين ليتكلم والعَوْل، والرد؛ لأن المسلم قد تمر حياته كلها ولا يحتاج رأيًا في قضية التوريث، أو أن يتعرف على المستحقين للميراث وأنصبتهم، وغير ذلك.
وإن تعرَّض المسلم لقضية مثل هذه، نقول له: أنت إذا تعرضت لقضية مثل هذه فاذهب إلى المختصين بهذا العلم، وهم أهل الفقه والفتوى، لأنك حين تتعرض لقضية صحية تذهب إلى الطبيب، وحين تتعرض إلى قضية هندسية تذهب إلى المهندس، وإن تعرضت لعملية محاسبية تذهب إلى المحاسب، فإن تعرضت إى أي أمر ديني، فأنت تسأل عنه أهل الذكر.
وأنت إذا نظرت إلى العبادة، تجد أنها تتطلب كل حركة في الحياة، وسبق أن ضربت لذلك مثلًا وقلت: هَبْ أن إنسانًا يصلي، ولا يفعل شيئًا في الحياة غير الصلاة، فمن أين له أن يشتري ثوبًا يستر به عورته ما دام لا يعمل عملًا أخر غير الصلاة، وهو إن أراد أن يشتري ثوبًا، فلابد له من عمل يأخذ مقابله أجرًا، ويشتري الثوب من تاجر التجزئة، الذي اشترى الأثواب من تاجر الجملة، وتاجر الجملة اشتراها من المصنع، في الدين؛ لأن العلم بالدين يقتضي اللجوء إلى أهل الذكر.
فإن قيل: الدين للجميع، نقول: صدقت بمعنى التدين للجميع، أما العلم بالدين فله الدراسة المتفقهة.
وأهل الذكر أيضًا في العلوم الأخرى يقضون السنوات لتنمية دراساتهم، كما في الطب أو الهندسة أو غيرهما، وكذلك الأعمال المهنية تأخذ من الذي يتخصص فيها وقتًا وتتطلب جهدًا، فما بالنا بالذي يُصلح أسس إقامة الناس في الحياة، وهو التفقه في الدين.
لذلك يقول الحق سبحانه: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].
فنحن لا نطلب من كل مسلم مثلًا أن يدرس المواريث ليعرف العَصبة وأصحاب الفروض، وأولي الأرحام، والمصنع قام بتفصيل الثياب بعد أن نسجها مصنع آخر، والمصنع الآخر نسج الثياب من غزل القطن أو الصوف. والقطن جاء من الزراعة، والصوف جاء من جز شعر الأغنام.
وهكذا تجد أن مجرد الوقوف أمام خالقك لتصلي يقتضي أن تكون مستور العورة في صلاتك، هذا الستر يتطلب منك أن تتفاعل مع الحياة بالعمل.
وانظر لنفسك واسألها: ما أفطرتَ اليوم؟
وأقلُّ إجابة هي: أفطرت برغيف وقليل من الملح، وستجد أنك اشتريت الرغيف من البقال، وجاء البقال بالرغيف من المخبز، والمخبز جاء بالدقيق من المطحن، والمطحن أنتج الدقيق بعد طحن الغلال التي جاءت من الحقل. وكذلك تمت صناعة ألات الطحن في مصانع أخرى قد تكون أجنبية.
وهكذا تمت صناعة الرغيف بسلسلة هائلة من العمليات، فهناك الفلاح الذي حرث، وهناك مصمم آلة الطحن الذي درس الهندسة، وهناك عالم الجيولوجيا الذي درس طبقات الأرض ليستخرج الحديد الخام من باطنها، وهناك مصنع الحديد الذي صهر الحديد الخام؛ ليستخلص منه الحديد النقي الصالح للتصنيع.
وهكذا تجد أن كل حركة في الحياة قد خدمت قضية دينك، وخدمت وقوفك أمام خالقك لتصلي، فلا تقل: سأنقطع للعبادة بمعنى أن تقصر حياتك على الصلاة فقط، لأن كل حركة تصلح في الحياة هي عبادة، وإن أردت ألا تعمل في الحياة، فلا تنتفع بحركة عامل في الحياة. وإذا لم تنتفع بحركة أي عامل في الحياة، فلن تقدر أن تصلي، ولن تقدر أن يكون لك قوة لتصلي.
إذن فالعبادة هي كل حركة تتطلبها الحياة في ضوء افعل ولا تفعل.
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: {أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} [هود: 2].
والنذير: هو من يُخبر بشرٍّ زمنه لم يجيء، لتكون هناك فرصة لتلافي العمل الذي يُوقع في الشر، والبشير هو من يبشِّر بخير سيأتي إن سلك الإنسان الطريق إلى ذلك الخير.
إذن: الإنذار والبشارة هي أخبار تتعلق بأمر لم يجيء.
وفي الإنذار تخويف ونوع من التعليم، وأنت حين تريد أن تجعل ابنك مُجِدًا في دراسته؛ تقول له: إن لم تذاكر فسوف تكون كابن فلان الذي أصبح صعلوكًا تافهًا في الحياة.
إذن: فأنت تنذر ابنك؛ ليتلافى من الآن العمل الذي يؤدي به إلى الفشل الدراسي.
وكذلك يبشر الإنسان ابنه أو أي إنسان آخر بالخير الذي ينتظره حين يسلك الطريق القويم.
إذن: فالعبادة هي كل حركة من حركات الحياة ما دام الإنسان مُتَّبعًا ما جاء بالمنهج الحق في ضوء افعل ولا تفعل، وما لم يرد فيه افعل ولا تفعل فهو مباح.
وعلى الإنسان المسلم أن يُبصِّر نفسه، ومن حوله بأن تنفيذ أي فعل في ضوء افعل هو العمل المباح، وأن يمتنع عن أي فعل في ضوء لا تفعل ما دام الحق سبحانه وتعالى قد نهى عن مثل هذا الفعل، وعلى المسلم تحرِّي الدقة في مدلول كل سلوك.
ونحن نعلم أن التكليفات الإيمانية قد تكون شاقة على النفس، ومن اللازم أن نبيِّن للإنسان أن المشقة على النفس ستأتي له بخير كبير.
ومثال ذلك: حين نجد الفلاح وهو يحمل السماد العضوي من حظيرة البهائم؛ ليضعه على ظهر الحمار ويذهب به إلى الحقل؛ ليخلطه بالتربة، وهو يعمل هذا العمل بما فيه من مشقة انتظارًا ليوم الحصاد.
ويبيِّن الحق سبحانه وتعالى هنا على لسان رسوله أن الأمر بعدم عبادة أي كائن غير الله، هو أمر من الله سبحانه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو نذير وبشير من الله.
وقول الحق سبحانه وتعالى: {أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله} [هود: 2].
فيه نفي لعبادة غير الله، وإثبات لعبودية الله تعالى.
وهذا يتوافق ويتسق مع الإنذار والبشارة؛ لأن عبادة غير الله تقتضي نذيرًا، وعبادة الله في الإسلام تقتضي بشيرًا.
ولأن الحق سبحانه وتعالى هو خالق الإنسان ويعلم ضعف الإنسان، ومعنى هذا الضعف أنه قد يستولي عليه النفع العاجل، فيُذهبه عن خير آجلٍ أطول منه، فيقع في بعض من غفلات النفس.
لذلك بيَّن الحق سبحانه أن من وقع في بعض غفلات النفس عليه أن يستغفر الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يبخل برحمته على أحدٍ من خلقه.
وإن طلب العبد المذنب مغفرة الله، فسبحانه قد شرع التوبة، وهي الرجوع عن المعصية إلى طاعة الله تعالى.
ولا يقع عبد في معصية إلا لأنه تأبَّى على منهج ربه، فإذا ما تاب واستغفر، فهو يعود إلى منهج الله سبحانه، ويعمل على ألا يقع في ذنب جديد. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)}
قوله تعالى: {كِتَابٌ}: يجوز أن يكون خبرًا ل {ألر} أَخْبر عن هذه الأحرفِ بأنها كتابٌ موصوفٌ ب كيتَ وكيتَ وأن يكون خبرَ ابتداءٍ مضمرٍ تقديرُه: ذلك كتابٌ، يدلُّ على ذلك ظهوره في قوله تعالى: {ذَلِكَ الكتاب} [البقرة: 2]، وقد تقدَّم في أولِ هذا التصنيف ما يكفيك في ذلك.
قوله: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} في محلِّ رفعٍ صفةً ل {كتاب}، والهمزةُ في {أُحْكِمَتْ} يجوز أن تكونَ للنقل مِنْ حَكُمَ بضم الكاف، أي: صار حكيمًا بمعنى جُعِلَتْ حكيمة، كقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم} [لقمان: 2]. ويجوز أنْ يكونَ من قولهم: {أَحْكَمْتُ الدابة} إذا وَضَعْتَ عليها الحَكَمَةَ لمَنْعِها من الجِماح كقول جرير:
أبني حَنِيْفَةَ أَحْكِموا سُفَهاءَكمْ ** إني أخافُ عليكمُ أَنْ أَغْضبا

فالمعنى أنها مُنِعَتْ من الفساد. ويجوز أَنْ يكونَ لغير النقل، مِن الإِحكام وهو الإِتقان كالبناء المُحْكَمِ المُرْصَفِ، والمعنى: أنهى نُظِمَتْ نَظْمًا رصينًا متقنًا.
قوله: {ثُمَّ فُصِّلَتْ} {ثم} على بابها مِن التراخي لأنها أُحكمَتْ ثم فُصِّلَتْ بحسب أسبابِ النزول. وقرأ عكرمة والضحاك والجحدري وزيد ابن علي وابن كثير في روايةٍ {فَصَلَتْ} بفتحتين خفيفةَ العين. قال أبو البقاء: والمعنى: فَرَقَتْ، كقوله: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ} [البقرة: 249]، أي: فارق. وفَسَّر هنا غيرُه بمعنى فَصَلَتْ بين المُحِقِّ والمُبْطِل وهو أحسنُ. وجعل الزمخشري ثم للترتيب في الإِخبار لا لترتيب الوقوع في الزمان فقال: فإن قلت: ما معنى ثم؟ قلت: ليس معناها التراخي في الوقت ولكن في الحال، كما تقول: هي مُحْكَمَةٌ أحسنَ الإِحكام ثم مُفَصَّلةٌ أحسنَ التفصيل، وفلانٌ كريمٌ الأصل ثم كريمُ الفعل وقرئ أيضًا: {أحْكَمْتُ آياتِه ثم فَصَّلْتُ} بإسناد الفعلين إلى تاء المتكلم ونَصْبِ {آياته} مفعولًا بها، أي: أحكمتُ أنا آياتِه ثم فَصَّلْتُها، حكى هذه القراءةَ الزمخشري.
قوله: {مِن لَّدُنْ} يجوز أن تكونَ صفةً ثانية ل {كتاب}، وأن تكون خبرًا ثانيًا عند مَنْ يرى جوازَ ذلك، ويجوز أن تكون معمولةً لأحد الفعلين المتقدِّمين أعني {أُحْكِمَتْ} أو {فُصِّلَتْ} ويكون ذلك من بابِ التنازع، ويكون من إعمال الثاني، إذ لو أَعْمل الأولَ لأضمر في الثاني، وإليه نحا الزمخشري في قوله: وأن يكون صلةَ {أُحْكِمت} و{فُصَّلَتْ}، أي: من عندِ أحكامُها وتفصيلُها، وفيه طباق حسن لأن المعنى: أحكمها حكيم وفصَّلها، أي: شَرَحها وبيَّنها خبيرٌ بكيفيات الأمور. قال الشيخ: لا يريد أنَّ {مِنْ لدن} متعلقٌ بالفعلين معًا من حيث صناعةُ الإِعراب بل يريد أن ذلك من بابِ الإِعمال فهي متعلقةٌ بهما من حيث المعنى وهو معنى قولِ أبي البقاء أيضًا ويجوز أن يكونَ مفعولًا، والعاملُ فيه {فُصِّلَتْ}. قوله تعالى: {أَن لاَّ تعبدوا}: فيها أوجهٌ، أحدُها: أن تكون مخففةً من الثقيلة، و{لا تَعْبُدوا} جملةُ نهيٍ في محلِّ رفعٍ خبرًا ل {أنْ} المخففةِ، واسمُها على ما تقرَّر ضميرُ الأمرِ والشأنِ محذوفٌ. والثاني: أنها المصدريةُ الناصبة، ووُصِلَتْ هنا بالنهي ويجوزُ أَنْ تكون {لا} نافيةً، والفعلُ بعدها منصوبٌ ب {أَنْ} نفسها، وعلى هذه التقادير ف {أَنْ}: إمَّا في محل جر أو نصب أو رفع، فالنصبُ والجرُّ على أنَّ الأصل: لأنْ لا تَعْبدوا، أو بأن لا تعبدوا، فلمَّا حُذِفَ الخافضُ جرى الخلافُ المشهور، والعامل: إمَّا {فُصِّلَتْ} وهو المشهور، وإمَّا {أُحْكِمَتْ} عند الكوفيين، فتكون المسألة من الإِعمال، لأن المعنى: أُحْكِمَتْ لئلا تَعْبدوا أو بأن لا تعبدوا أو فُصِّلَتْ لأنْ لا تعبدوا، أو بأن لا تعبدوا. وقيل: نصب بفعل مقدر تقديره ضَمَّن آيَ الكتابِ أن لا تعبدوا، ف {أنْ لا تعبدوا} هو المفعولُ الثاني ل {ضَمَّن} والأولُ قام مقام الفاعل.
والرفعُ فمِنْ أوجه، أحدها: أنها مبتدأٌ، وخبرُها محذوفٌ فقيل: تقديرُه: مِن النظر أن لا تعبدوا إلا اللَّه. وقيل: تقديره: في الكتابِ أن لا تعبدوا إلا اللَّهَ. والثاني: خبرُ مبتدأ محذوف، فقيل: تقديرُه: تفصيلُه أن لا تعبدوا إلا اللَّه. وقيل: تقديرُه: هي أن لا تعبدوا إلا اللَّه. والثالث: أنه مرفوعٌ على البدل من {آياته} قال الشيخ: وأما مَنْ أعربه أنه بدل من لفظ آيات أو مِنْ موضعها قلت: يعني أنها في الأصل مفعولٌ بها فموضعُها نصبٌ وهي مسألةُ خلاف: هل يجوز أن يراعى أصلُ المفعولِ القائمِ مقامَ الفاعلِ فيُتبعَ لفظُه تارة وموضعُه أخرى فيُقال: ضُرِبَتْ هندٌ العاقلة بنصب العاقلة باعتبار المحلِّ، ورفعِها باعتبار اللفظ، أم لا، مذهبان، المشهورُ مراعاةُ اللفظِ فقط.
والثالث: أن تكونَ تفسيريةً؛ لأن في تفصيلِ الآيات معنى القول، فكأنه قيل: لا تعبدوا إلا اللَّه أو أَمَرَكم، وهذا أظهرُ الأقوال؛ لأنه لا يُحْوج إلى إضمار.
قوله: {منه} في هذا الضمير وجهان: أحدهما وهو الظاهرُ أنه يعودُ على اللَّه تعالى، أي: إنني لكم مِنْ جهة اللَّه نذيرٌ وبشير. قال الشيخ: فيكون في موضع الصفةِ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: كائن من جهته. وهذا على ظاهره ليس بجيد؛ لأن الصفةَ لا تتقدمُ على الموصوف فكيف تُجعلِ صفةً ل {نذير}؟ كأنه يريد أنه صفةٌ في الأصلِ لو تأخَّر، ولكنْ لمَّا تقدَّم صارَ حالًا، وكذا صَرَّح به أبو البقاء، فكان صوابه أن يقول: فيكون في موضع الحال، والتقدير: كائنًا مِنْ جهته. الثاني: أنه يعودُ على الكتاب، أي: نذيرٌ لكم مِنْ مخالفته وبشيرٌ منه لمَنْ آمن وعمل صالحًا.
وفي متعلَّقِ هذا الجارِّ أيضًا وجهان، أحدهما: أنه حال من {نذير}، فيتعلَّق بمحذوف كما تقدم. والثاني: أنه متعلق بنفس {نذير} أي: أُنْذركم مِنْه ومِنْ عذابِه إنْ كفرتم، وأبشِّرُكم بثوابه إنْ آمنتم. وقدَّم الإِنذار لأنَّ التخويف أَهَمُّ إذ يحصُل به الانزجار. اهـ.