فصل: قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

سُورَةُ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
(وَهِيَ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ فِي الْمُصْحَفِ، وَآيَاتُهَا 123 آيَةً): هِيَ مَكِّيَّةٌ حَتْمًا كَالَّتِي قَبْلَهَا، وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ مِنْهَا ثَلَاثَ آيَاتٍ. الْأُولَى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} 12 إِلَخْ. الثَّانِيَةَ: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} 17 إِلَخْ. وَالثَّالِثَةَ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} 114 إِلَخْ. قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَ مَدَنِيَّةٌ، وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَلَا يَقُومُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، إِلَّا مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الثَّالِثَةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْيَسَرِ وَغَيْرِهِ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِهَا.
وَقَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ يُونُسَ، وَهِيَ فِي مَعْنَاهَا وَمَوْضُوعِهَا الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِهَا، وَهُوَ أَصُولُ عَقَائِدِ الْإِسْلَامِ فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَالنُّبُوَّاتِ وَالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَعَمَلِ الصَّالِحَاتِ، وَقَدْ فُصِّلَ فِيهَا مَا أُجْمِلَ فِي سُورَةِ يُونُسَ مِنْ قَصَصِ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- وَهِيَ مُنَاسِبَةٌ لَهَا كُلَّ الْمُنَاسَبَةِ بِبَرَاعَةِ الْمَطْلَعِ فِي فَاتِحَتِهَا، وَالْمَقْطَعِ فِي خَاتِمَتِهَا، وَتَفْصِيلِ الدَّعْوَةِ فِي أَثْنَائِهَا، فَقَدِ افْتُتِحَتَا بِذِكْرِ الْقُرْآنِ بَعْدَ الر، وَمِثْلُهُمَا فِي هَذَا مَا بَعْدَهُمَا مِنَ السُّوَرِ الْأَرْبَعِ إِلَّا الرَّعْدَ فَأَوَّلُهَا المر، وَذِكْرُ رِسَالَةِ النَّبِيِّ الْمُبَلَّغِ لَهُ عَنِ اللهِ تَعَالَى وَبَيَانُ وَظِيفَتِهِ فِيهَا، وَهُوَ الْإِنْذَارُ وَالتَّبْشِيرُ، وَخُتِمَتَا بِخِطَابِ النَّاسِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم وَأَمَرَهُ فِي الْأُولَى بِالصَّبْرِ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَافِرِينَ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِالِانْتِظَارِ؛ أَيِ انْتِظَارِ هَذَا الْحُكْمِ مِنْهُ تَعَالَى مَعَ الِاسْتِقَامَةِ عَلَى عِبَادَتِهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ.
وَذُكِرَ فِي أَثْنَاءِ كُلٍّ مِنْهُمَا التَّحَدِّي بِالْقُرْآنِ، رَدًّا عَلَى الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم قَدِ افْتَرَاهُ، وَلَكِنَّ هَذَا الْمَوْضُوعَ فِي الْأُولَى أَوْفَى مِنْهُ فِي الثَّانِيَةِ، وَكَذَا مُحَاجَّةُ الْمُشْرِكِينَ فِي أُصُولِ الدِّينِ كُلِّهَا، فَقَدْ أُجْمِلَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مَا فُصِّلَ فِي الْأُخْرَى مَعَ فَوَائِدَ انْفَرَدَتْ بِهَا كُلٌّ مِنْهُمَا، فَهُمَا بِاتِّفَاقِ الْمَوْضُوعِ، وَاخْتِلَافِ النَّظْمِ وَالْأُسْلُوبِ، آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ الْإِعْجَازِ، تَخِرُّ لِتِلَاوَتِهِمَا الْوُجُوهُ لِلْأَذْقَانِ، سَاجِدَةً لِلرَّحْمَنِ.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}.
هَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ فِي أُصُولِ الدَّعْوَةِ إِلَى دِينِ اللهِ تَعَالَى وَهِيَ الْقُرْآنُ وَمَا بَيَّنَهُ مِنْ تَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَالْإِيمَانِ بِرُسُلِهِ وَبِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، وَعَمَلِ الصَّالِحَاتِ، خُوطِبَ بِهَا النَّاسُ مِنْ قِبَلِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بِدُونِ ذِكْرِهِمْ، وَلَا ذِكْرٍ لِأَمْرِهِ تَعَالَى لَهُ بِهِ، لِلْعِلْمِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا بِالْقَرِينَةِ، وَبِنُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ عَقِبَ سُورَةِ يُونُسَ الَّتِي افْتُتِحَتْ بِمِثْلِ هَذَا.
{الر} تُقْرَأُ كَأَمْثَالِهَا بِأَسْمَاءِ الْحُرُوفِ سَاكِنَةً لَا بِمُسَمَّيَاتِهَا، فَيُقَالُ: أَلِفْ، لَامْ، رَا، وَمَذْهَبُ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ أَنَّهَا اسْمٌ لِلسُّورَةِ، أَوْ لِلْقُرْآنِ (وَبَيَّنَّا حِكْمَةَ الِابْتِدَاءِ بِهَا فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ) وَمَحَلُّهَا الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ أَوِ الْخَبَرِيَّةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ.
{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ}: أَيْ هَذَا كِتَابٌ عَظِيمُ الشَّأْنِ كَمَا أَفَادَهُ التَّنْوِينُ جُعِلَتْ آيَاتُهُ مُحْكَمَةَ النَّظْمِ وَالتَّأْلِيفِ، وَاضِحَةَ الْمَعَانِي بَلِيغَةَ الدَّلَالَةِ وَالتَّأْثِيرِ، فَهِيَ كَالْحِصْنِ الْمَنِيعِ، وَالْقَصْرِ الْمُشَيَّدِ الرَّفِيعِ، فِي إِحْكَامِ الْبِنَاءِ، وَمَا يُقْصَدُ بِهِ مِنَ الْحِفْظِ وَالْإِيوَاءِ مَعَ حُسْنِ الرِّوَاءِ، فَهِيَ لِظُهُورِ دَلَالَتِهَا عَلَى مَعَانِيهَا وَوُضُوحِهَا لَا تَقْبَلُ شَكًّا وَلَا تَأْوِيلًا، وَلَا تَحْتَمِلُ تَغْيِيرًا وَلَا تَبْدِيلًا {ثُمَّ فُصِّلَتْ}: أَيْ جُعِلَتْ فُصُولًا مُتَفَرِّقَةً فِي سُوَرِهِ بِبَيَانِ حَقَائِقِ الْعَقَائِدِ، وَالْأَحْكَامِ وَالْحِكَمِ وَالْمَوَاعِظِ، وَسَائِرِ مَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ لَهُ مِنَ الْفَوَائِدِ، كَمَا يُفْصَلُ الْوِشَاحُ أَوِ الْعِقْدُ بِالْفَرَائِدِ، فَالْإِحْكَامُ وَالتَّفْصِيلُ فِيهِ مَرْتَبَتَانِ مِنْ مَرَاتِبِ الْبَيَانِ مُجْتَمِعَتَانِ، لَا نَوْعَانِ مِنْهُ مُتَفَرِّقَانِ يَخْتَلِفَانِ فِي الزَّمَانِ، أَوْ فُصِّلَتْ بَعْدَ الْإِجْمَالِ، كَمَا تَرَى فِي الْقَصَصِ الْقِصَارَ وَالطِّوَالَ، وَقَدْ أُبْهِمَا بِبِنَاءِ فِعْلَيْهِمَا لِلْمَفْعُولِ، ثُمَّ بُيِّنَا بِجَعْلِهِمَا مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ إِسْنَادِهِمَا إِلَيْهِ ابْتِدَاءً، أَيْ مِنْ عِنْدِ حَكِيمٍ كَامِلِ الْحِكْمَةِ هُوَ الَّذِي أَحْكَمَهَا، وَخَبِيرٍ تَامِّ الْخِبْرَةِ هُوَ الَّذِي فَصَّلَهَا، و{لَدُنْ} ظَرْفُ مَكَانٍ أَخَصُّ مِنْ {عِنْدَ} وَأَبْلَغُ، وَهُوَ بِفَتْحٍ فَضَمٍّ كَعَضُدٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكُونِ.
هَذَا مَا يَتَبَادَرُ إِلَى فَهْمِ الْعَرَبِيِّ الْقُحِّ مِنْ عِبَارَةِ الْآيَةِ، فَإِذَا عَرَضْتَهُ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ حَرْفَيِ الْإِحْكَامِ وَالتَّفْصِيلِ وَجَدْتَ فِيهِ مِنَ الْحَرْفِ الْأَوَّلِ ثَلَاثَ كَلِمَاتٍ:
الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَجِّ: {فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ} 22: 52.
وَالثَّانِيَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ مُحَمَّدٍ (الْقِتَالِ): {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ} 47: 20 الْآيَةَ.
{وَالثَّالِثَةُ} قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} (3: 7) وَوَجَدْتَ الْإِحْكَامَ فِي كُلٍّ مِنْهُنَّ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الَّذِي بَيَّنَّاهُ آنِفًا. وَقَدْ حَمَلَ الْمُقَلِّدُونَ الْمُحْكَمَ فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى مَا يُقَابِلُ الْمَنْسُوخَ فِي اصْطِلَاحِهِمْ، فَقَالُوا: سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَهَذَا الْحَمْلُ غَيْرُ صَحِيحٍ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ صَحِيحًا؛ فَإِنَّ هَذَا الِاصْطِلَاحَ لَيْسَ مِنْ أَصْلِ اللُّغَةِ وَلَا مِنْ عُرْفِ الْقُرْآنِ، بَلْ وُضِعَ بَعْدَ نُزُولِهِ، وَالْآيَةُ الْأُولَى حُجَّةٌ عَلَى هَذَا؛ فَإِنَّ النَّسْخَ فِيهَا غَيْرُ النَّسْخِ الْأُصُولِيِّ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ لَا كُلُّهَا وَلَا بَعْضُهَا؛ لِأَن إِنْزَالَ سُورَةٍ مَنْسُوخَةٍ مُحَالٌ فِي نَفْسِهِ، فَلَا مَعْنَى إِذًا لِنَفْيِهِ، وَحَمَلُوهُ فِي الثَّالِثَةِ عَلَى مَا يُقَابِلُ الْمُتَشَابَهَ وَهُوَ صَحِيحٌ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى كُلٍّ مِنْهُمَا، وَأَشْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدَ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْأُصُولِ فِيهِمَا مُخَالِفٌ لِمَدْلُولِ اللُّغَةِ وَلِلْمَرْوِيِّ عَنْ جُمْهُورِ السَّلَفِ الَّذِي هُوَ الْحَقُّ. قَالَ السَّيِّدُ الْجُرْجَانِيُّ فِي الْأَوَّلِ: الْمُحْكَمُ مَا أُحْكِمَ، الْمُرَادُ بِهِ عَنِ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ أَيِ التَّخْصِيصِ وَالتَّأْوِيلِ وَالنَّسْخِ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: بِنَاءٌ مُحْكَمٌ، أَيْ مُتْقَنٌ مَأْمُونُ الِانْتِقَاضِ، وَذَلِكَ مِثْلَ قَوْلِهِ تعالى: {إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وَالنُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَاتِ اللهِ وَصِفَاتِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ النَّسْخَ، فَإِنَّ اللَّفْظَ إِذَا ظَهَرَ مِنْهُ الْمُرَادُ فَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلِ النَّسْخَ فَهُوَ مُحْكَمٌ، وَإِلَّا فَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلِ التَّأْوِيلَ فَمُفَسَّرٌ، وَإِلَّا فَإِنْ سِيقَ الْكَلَامُ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْمُرَادِ فَنَصٌّ، وَإِلَّا فَظَاهِرٌ، وَإِذَا خَفِيَ لِعَارِضٍ أَيْ لِغَيْرِ الصِّيغَةِ فَخَفِيٌّ، وَإِنْ خَفِيَ لِنَفْسِهِ أَيْ لِنَفْسِ الصِّيغَةِ وَأُدْرِكَ عَقْلًا فَمُشْكِلٌ، أَوْ نَقْلًا فَمُجْمَلٌ، أَوْ لَمْ يُدْرَكْ أَصْلًا فَمُتَشَابِهٌ اهـ. وَقَالَ فِي الثَّانِي: الْمُتَشَابِهُ مَا خَفِيَ بِنَفْسِ اللَّفْظِ وَلَا يُرْجَى دَرْكُهُ أَصْلًا كَالْمُقَطَّعَاتِ فِي أَوَّلِ السُّوَرِ، وَقَالَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ: وَالْمُتَشَابِهُ مَا اسْتَأْثَرَ اللهُ بِعِلْمِهِ وَقَدْ يُطْلِعُ عَلَيْهِ بَعْضَ أَصْفِيَائِهِ، اهـ. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا فَسَّرْنَا بِهِ الْآيَةَ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي.
وَقَالَ السَّيِّدُ فِي تَعْرِيفِ التَّأْوِيلِ: هُوَ فِي الْأَصْلِ التَّرْجِيحُ، وَفِي الشَّرْعِ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ مَعْنَاهُ الظَّاهِرِ إِلَى مَعْنًى يَحْتَمِلُهُ إِذَا كَانَ الْمُحْتَمَلُ الَّذِي يَرَاهُ مُوَافِقًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِثْلَ قَوْلِهِ- تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} (6: 95) إِنْ أَرَادَ بِهِ إِخْرَاجَ الطَّيْرِ مِنَ الْبَيْضَةِ كَانَ تَفْسِيرًا، وَإِنْ أَرَادَ إِخْرَاجَ الْمُؤْمِنِ مِنَ الْكَافِرِ أَوِ الْعَالِمِ مِنَ الْجَاهِلِ كَانَ تَأْوِيلًا، اهـ. وَقَالَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ: الظَّاهِرُ مَا دَلَّ دَلَالَةً ظَنِّيَّةً، وَالتَّأْوِيلُ حَمْلُ الظَّاهِرِ عَلَى الْمُحْتَمَلِ الْمَرْجُوحِ، فَإِنْ حُمِلَ لِدَلِيلٍ فَصَحِيحٌ، أَوْ لِمَا يُظَنُّ دَلِيلًا فَفَاسِدٌ، أَوْ لَا لِشَيْءٍ فَلَعِبٌ لَا تَأْوِيلٌ، اهـ.
هَذَا الِاصْطِلَاحُ الْمُفَصِّلُ لِهَذِهِ الْحِكَايَاتِ فِيهِ مَا تَرَى- فِي كُتُبِ الْأُصُولِ- مِنْ قِيلَ وَقَالَ، وَمَذَاهِبَ وَجِدَالٍ، وَهُوَ مَا لَمْ يَكُنْ يَخْطُرُ فِي بَالِ أَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ عِنْدَ قِرَاءَاتِهَا فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى بَلْ كَانُوا يَفْهَمُونَهَا بِمَدْلُولِهَا اللُّغَوِيِّ الْمَحْضِ، فَأَمَّا الْمُحْكَمُ فَهُوَ مَا تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا التَّفْصِيلُ فِي الْآيَةِ فَقَدْ جَاءَ مُكَرَّرًا فِي أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ مَوْضِعًا مِنْ عَشْرِ سُوَرٍ مَكِّيَّةٍ، وَفِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ الْمَدَنِيَّةِ، وَأَكْثَرُهَا فِي تَفْصِيلِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ، وَبَعْضُهَا فِي تَفْصِيلِ الْكِتَابِ، وَبَعْضٌ آخَرُ فِي تَفْصِيلِ الْأَحْكَامِ، وَنَوْعٌ آخَرُ أَعَمُّ وَهُوَ {تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} أَيْ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِدَايَةِ الدِّينِ، وَإِصْلَاحِ أُمُورِ الْمُكَلَّفِينَ، وَكُلُّهَا دَاخِلٌ فِي الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الَّذِي حَرَّرْنَاهُ.
بَقِيَ عَلَيْنَا الْمَأْثُورُ فِي الْكَلِمَتَيْنِ عَنْ مُفَسِّرِي السَّلَفِ، وَهُوَ قَلِيلٌ مُخْتَصَرٌ، فَعَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ (قَالَ): إِنَّهَا كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ مُحْكَمَةٌ، وَإِنَّ التَّفْصِيلَ فِيهَا هُوَ الْحُكْمُ بَيْنَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ خَالَفَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ 24} الآية، ثُمَّ ذَكَرَ قَوْمَ نُوحٍ وَقَوْمَ هُودٍ (قَالَ): فَكَانَ هَذَا تَفْصِيلَ ذَلِكَ وَكَانَ أَوَّلُهُ مُحْكَمًا، انْتَهَى.
بِالْمَعْنَى. وَحَاصِلُهُ: أَنَّ الْمُحْكَمَ الْمُجْمَلُ، وَأَنَّ الْمُفَصَّلَ مَا يُقَابِلُهُ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ فِيهِمَا. وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أُحْكِمَتْ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَفُصِّلَتْ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ: ثُمَّ فُصِّلَتْ، قَالَ: فُسِّرَتْ، وَعَنْ قَتَادَةَ: أَحْكَمَهَا اللهُ مِنَ الْبَاطِلِ ثُمَّ فَصَّلَهَا اللهُ بِعِلْمِهِ، فَبَيَّنَ حَلَالَهُ وَحَرَامَهُ، وَطَاعَتَهُ وَمَعْصِيَتَهُ، وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا تَدْخُلُ فِي الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الَّذِي بَيَّنَّاهُ وَلَا تُحِيطُ بِهِ. وَالْقَوْلُ الْجَامِعُ: أَنَّ تَفْصِيلَ الْإِجْمَالِ فِي الْقُرْآنِ قِسْمَانِ:
(الْأَوَّلُ) تَفْصِيلُ أُصُولِ الْعَقَائِدِ وَكُلِّيَّاتِ التَّشْرِيعِ الْعَامَّةِ، وَأَكْثَرُهُ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ مُتَفَرِّقًا ثُمَّ مُجْمَلًا فِي تَفْسِيرِ مَا تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ مِنْهَا، وَهُوَ الْأَنْعَامُ وَالْأَعْرَافُ وَيُونُسُ.
(وَالثَّانِي) مَا يَعُمُّ تَفْصِيلَ الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ السِّيَاسِيَّةِ وَالْمَدَنِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ الطِّوَالِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَيْضًا.
{أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ}، هَذَا تَفْسِيرٌ أَوْ بَيَانٌ لِأَوَّلِ مَا أُحْكِمَتْ وَفُصِّلَتْ بِهِ وَلَهُ الْآيَاتُ: أَيْ بِأَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ، أَوْ لِئَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ، وَهُوَ أَنْ تَجْعَلُوا عِبَادَتَكُمْ لَهُ وَحْدَهُ، لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَهَذَا مَا تَرَاهُ قَرِيبًا فِي قِصَصِ الرُّسُلِ الْمُفَصَّلَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَيُؤَيِّدُ الْجَمْعَ بَيْنَ طَرَفَيِ التَّوْحِيدِ السَّلْبِيِّ وَالْإِيجَابِيِّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} وَهُوَ تَبْلِيغٌ لِدَعْوَةِ الرِّسَالَةِ مُبَيِّنٌ لِوَظِيفَةِ الرَّسُولِ، وَهِيَ إِنْذَارُ مَنْ أَصَرَّ عَلَى شِرْكِهِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَتَبْشِيرُ مَنْ آمَنَ وَاتَّقَى بِالسَّعَادَةِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَقَدَّمَ الْإِنْذَارَ لِأَنَّ الْخِطَابَ وُجِّهَ أَوَّلًا إِلَى الْمُشْرِكِينَ كَنَظِيرِهِ فِي سُورَةِ يُونُسَ وَأَمْثَالِهِمَا مِنَ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ كَسُورَةِ الْكَهْفِ، وَالْمُبَلِّغُ هَذَا هُوَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} هَذَا عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، أَيْ وَأَنِ اسْأَلُوهُ أَنْ يَغْفِرَ لَكُمْ مَا كَانَ مِنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَالْإِجْرَامِ وَالظُّلْمِ {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} أَيْ ثُمَّ ارْجِعُوا إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ إِعْرَاضٍ- عَنْهُ وَعَنْ آيَاتِهِ- يَعْرِضُ لَكُمْ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ، نَادِمِينَ مُنِيبِينَ مُصْلِحِينَ لِمَا أَفْسَدْتُمْ، مُسْتَدْرِكِينَ مَا قَصَّرْتُمْ، عَطَفَ التَّوْبَةَ بِـ {ثُمَّ} لِأَنَّ مَرْتَبَةَ الْعَمَلِ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ مَرْتَبَةِ الْقَوْلِ، فَكَمْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى الذَّنْبِ، وَسَيَأْتِي مَثَلُهُ فِي قِصَّةِ كُلٍّ مِنْ هُودٍ، وَصَالِحٍ، وَشُعَيْبٍ {يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا} الْمَتَاعُ: كُلُّ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْمَعِيشَةِ وَحَاجَةِ الْبُيُوتِ، وَالْإِمْتَاعُ وَالتَّمْتِيعُ: إِعْطَاءُ مَا يُتَمَتَّعُ بِهِ تَمَتُّعًا طَوِيلًا مُمْتَدًّا، وَأَمَّا وَصْفُهُ تَعَالَى لِمَتَاعِ الدُّنْيَا وَتَمَتُّعِ أَهْلِهَا بِهَا بِالْقَلِيلِ فَهُوَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى حَيَاةِ الْآخِرَةِ، وَالْمَعْنَى: إِنْ تَسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ عِنْدَ كُلِّ ذَنْبٍ، وَتَتُوبُوا إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ إِعْرَاضٍ عَنْ هِدَايَتِهِ، وَتَنَكُّبٍ عَنْ سُنَّتِهِ، يُمَتِّعْكُمْ فِي دُنْيَاكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا مُرْضِيًا مُمْتَدًّا {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} عِنْدَهُ وَهُوَ الْعُمُرُ الْمُقَدَّرُ لَكُمْ فِي عِلْمِهِ، الْمَكْتُوبُ فِي نِظَامِ الْخَلِيقَةِ وَسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ فِي عِبَادِهِ، فَلَا يَقْطَعُهُ إِهْلَاكُكُمْ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، وَلَا بِفَسَادِ الْعُمْرَانِ وَسَلْبِ الِاسْتِقْلَالِ، وَلَا يُنَغِّصُهُ كُلُّ مَا يُنَغِّصُ حَيَاةَ الْكُفَّارِ، وَذَلِكَ أَنَّ لِتَنْغِيصِ الْحَيَاةِ فِي الدُّنْيَا وَسَلْبِ النِّعَمِ مِنْ أَهْلِهَا أَسْبَابًا تَرْجِعُ كُلُّهَا إِلَى الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ وَالذُّنُوبِ الْمُحَرَّمَةِ، وَهِيَ لَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً إِلَّا لِأَنَّهَا ضَارَّةٌ مُفْسِدَةٌ لِلدِّينِ، أَوْ مُزِيلَةٌ لِلْحَيَاةِ أَوْ لِلْعَقْلِ أَوْ لِلصِّحَّةِ أَوْ لِنِظَامِ الِاجْتِمَاعِ الْمَالِيِّ وَالْمَدَنِيِّ، وَإِنَّمَا تَكُونُ مَفْسَدَةً بِإِصْرَارِ فَاعِلِيهَا عَلَيْهَا، فَإِذَا كَانَ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُ يَنْدَمُ وَيُبَادِرُ إِلَى التَّوْبَةِ مِنْ قَرِيبٍ، وَيُصْلِحُ مَا نَجَمَ مِنْ فَسَادِهَا بِالْعَمَلِ الْمُضَادِّ لَهُ، امْتَنَعَ ذَلِكَ الْفَسَادُ وَزَالَ أَثَرُهُ؛ وَلِهَذَا اشْتَرَطَ فِي التَّوْبَةِ الْمَقْبُولَةِ مَا اشْتَرَطَ وَوُصِفَتْ فِي الْقُرْآنِ بِمَا وُصِفَتْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} (4: 17) وَقَوْلِهِ: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} (5: 39) وَفِي مَعْنَاهُ آيَاتٌ أُخْرَى، وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (3: 135) وَقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُهَا فِي مَوَاضِعِهَا.
وَهَذِهِ السُّنَّةُ الرَّبَّانِيَّةُ مُطَّرِدَةٌ فِي ذُنُوبِ الْأُمَمِ الْمَقْصُودَةِ بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ مِنْ هَذَا الْخِطَابِ، وَهِيَ فِيهَا أَظْهَرُ مِنْهَا فِي ذُنُوبِ الْأَفْرَادِ (كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ عَدِيدَةٍ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ) فَالْأُمَمُ الَّتِي تُصِرُّ عَلَى الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ، يُهْلِكُهَا اللهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا بِالضَّعْفِ وَالشِّقَاقِ وَخَرَابِ الْعُمْرَانِ، حَتَّى تَزُولَ مَنَعَتُهَا، وَتَتَمَزَّقَ دَوْلَتُهَا، فَتَنْقَرِضَ أَوْ تَسْتَوْلِيَ عَلَيْهَا دَوْلَةٌ أُخْرَى، فَهَذَا مَعْرُوفٌ فِي تَوَارِيخِ الْأُمَمِ مِنْ أَحْوَالِهَا الْعَامَّةِ فِي كُلِّ عَصْرٍ، وَأَمَّا أَقْوَامُ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- فِي عُصُورِهِمْ فَقَدْ أَهْلَكَ اللهُ الْمُصِرِّينَ مِنْهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ، بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِعَذَابِ الْخِزْيِ وَالِاسْتِئْصَالِ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعِهَا، وَأَقْرَبُهَا عَهْدًا أَوَاخِرُ سُورَةِ يُونُسَ عليه السلام وَالْآيَةُ تَتَضَمَّنُ نَجَاةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ مِنْ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ يُونُسَ أَيْضًا، وَسَنَعُودُ إِلَى بَيَانِ هَذَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ (100- 103) الَّتِي خُتِمَتْ بِهَا قَصَصُ الرُّسُلِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} فَهُوَ عَامٌّ مُطْلَقٌ فِي جَزَاءِ الْأَفْرَادِ فِي الْآخِرَةِ، مُقَيَّدٌ فِي جَزَائِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَمَعْنَاهُ مَعَ الَّذِي قَبْلَهُ: إِنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُونَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ قَوْمِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ، إِنْ تَجْتَنِبُوا الشِّرْكَ وَتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتَسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ، وَتَتُوبُوا إِلَيْهِ عَقِبَ كُلِّ ذَنْبٍ يَقَعُ مِنْكُمْ، يُمَتِّعْكُمْ بِجُمْلَتِكُمْ وَمَجْمُوعِكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا تَكُونُونَ بِهِ خَيْرَ الْأُمَمِ نِعْمَةً وَقُوَّةً وَعِزَّةً وَدَوْلَةً، وَيُعْطِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ مِنْ عِلْمٍ وَعَمَلٍ جَزَاءَ فَضْلِهِ فِي الْآخِرَةِ مُطَّرِدًا كَامِلًا، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَقَدْ يَكُونُ هَذَا الْجَزَاءُ جُزْئِيًّا نَاقِصًا، وَمَشُوبًا لَا خَالِصًا، وَلَا يَكُونُ عَامًّا كَامِلًا مُطَّرِدًا لِقِصَرِ أَعْمَارِ الْأَفْرَادِ، وَالتَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ فِي سُنَنِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ، وَهَذَا مِنْ أَدِلَّةِ الْبَعْثِ وَجَزَاءِ الْآخِرَةِ الَّذِي يَظْهَرُ فِيهِ عَدْلُهُ تَعَالَى كَامِلًا شَامِلًا.
وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ الَّذِي وَفَّقَنَا اللهُ تَعَالَى لَهُ يَظْهَرُ مَا بَيَّنَّاهُ مِرَارًا مِنْ أَنَّ ثَمَرَةَ الدِّينِ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كِلْتَيْهِمَا، وَقَدْ غَفَلَ عَنْهُ الْمُفَسِّرُونَ الَّذِينَ يُعَارِضُونَ أَمْثَالَ هَذِهِ النُّصُوصِ بِمَا جَعَلُوهُ أَصْلًا يُرْجِعُونَهَا إِلَيْهِ بِالتَّأْوِيلِ، كَأَحَادِيثِ ذَمِّ الدُّنْيَا وَتَسْمِيَتِهَا «سِجْنَ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةَ الْكَافِرِ» وَمَا يَصِحُّ مِنْهَا كَهَذَا الْحَدِيثِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى النِّسْبَةِ بَيْنَهُمَا، بِالْإِضَافَةِ إِلَى حَالِ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَحَدِيثِ: «أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ» وَهُوَ صَحِيحٌ أَيْضًا، وَالْبَلَاءُ الِاخْتِبَارُ- يَكُونُ فِي النِّعَمِ وَالنِّقَمِ، وَالْخَيْرِ وَالشَّرِّ- يُظْهِرُ اسْتِعْدَادَ النَّاسِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا كَمَا تَرَاهُ قَرِيبًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ (7) فَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ مِمَّا وَعَدَ اللهُ بِهِ رُسُلَهُ وَبَلَّغُوهُ أَقْوَامَهُمْ وَصَدَّقَهُ الْوَاقِعُ، فَكَانَتِ الْعَاقِبَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ فِي خِلَافَةِ الْأَرْضِ وَمِلْكِهَا وَنَعِيمِهَا مَا ثَبَتُوا عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْهُ هَذِهِ الْبِشَارَةُ، وَيُقَابِلُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْإِنْذَارِ: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} أَيْ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا مُعْرِضِينَ عَمَّا دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَعَدَمِ عِبَادَةِ غَيْرِهِ، وَمِنَ الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٌ هَوْلُهُ، شَدِيدٌ بَأْسُهُ، وَهُوَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ أَقْوَامَ الرُّسُلِ الَّذِينَ عَانَدُوهُمْ وَأَصَرُّوا عَلَى تَكْذِيبِهِمْ وَعِصْيَانِهِمْ، أَوْ مَا دُونَهُ مِنْ عَذَابِ الْمُصِرِّينَ، فِي إِثْرِ نَصْرِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَهَذِهِ بَرَاعَةُ اسْتِهْلَالٍ لِلْقِصَصِ الْمُفَصَّلَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْيَوْمِ الْكَبِيرِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْجَزَاءُ الْأَكْبَرُ، وَهُوَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ: {إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ} أَيْ إِلَيْهِ تَعَالَى رُجُوعُكُمْ بَعْدَ مَوْتِكُمْ جَمِيعًا أُمَمًا وَأَفْرَادًا لَا يَتَخَلَّفُ أَحَدٌ مِنْكُمْ فَتَلْقَوْنَ جَزَاءَكُمْ تَامًّا {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وَمِنْهُ بَعْثُكُمْ وَحَشْرُكُمْ وَجَزَاؤُكُمْ.
قَدَّمَ وَصْفَ الرَّسُولِ بِالنَّذِيرِ عَلَى وَصْفِهِ بِالْبَشِيرِ، ثُمَّ قَدَّمَ بِشَارَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَخَّرَ إِنْذَارَ الْكَافِرِينَ الْمُصِرِّينَ تَأْلِيفًا لَهُمْ؛ لِأَنَّ تَوَالِيَ الْإِنْذَارِ مُنَفِّرٌ مِنَ الِاسْتِمَاعِ، مُغْرٍ بِالتَّوَلِّي وَالْإِعْرَاضِ، عَلَى أَنَّ هَذَا التَّأْلِيفَ لَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِمْ كَمَا تَرَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} هَذَا بَيَانٌ مُسْتَأْنَفٌ لِحَالِ الْمُشْرِكِينَ وَصِفَتِهِمْ عِنْدَ تَبْلِيغِهِمُ الدَّعْوَةَ وَإِقَامَةَ الْحُجَّةِ، افْتُتِحَتْ بِأَدَاةِ التَّنْبِيهِ لِيَتَأَمَّلَهَا السَّامِعُ وَيَتَصَوَّرَهَا فِي صِفَتِهَا الْغَرِيبَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَعْرَاضِ الْحَيْرَةِ وَالْعَجْزِ وَمُنْتَهَى الْجَهْلِ، يُقَالُ: ثَنَى الثَّوْبَ إِذَا عَطَفَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَطَوَاهُ، وَأَثْنَاءُ الثَّوْبِ أَطْوَاؤُهُ وَمَطَاوِيهِ، وَثَنَاهُ عَنْهُ لَوَاهُ وَحَوَّلَهُ، وَثَنَاهُ عَلَيْهِ أَطْبَقَهُ وَطَوَاهُ لِيُخْفِيَهُ فِيهِ، وَثَنَى عِنَانَهُ عَنِّي أَيْ تَحَوَّلَ وَأَعْرَضَ، وَثَنَى عِطْفَهُ أَيْ أَعْرَضَ بِجَانِبِهِ تَكَبُّرًا، وَمِنْهُ فِي الْمُجَادِلِ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} 22: 9 وَالِاسْتِخْفَاءُ مُحَاوَلَةُ الْخَفَاءِ، وَمِنْهُ: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ} (4: 108) وَاسْتِغْشَاءُ الثِّيَابِ التَّغَطِّي بِهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ عليه السلام: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} (71: 7) وَهُوَ بِمَعْنَى مَا نَحْنُ فِيهِ، {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ}، فَسَّرَ بَعْضُهُمْ ثَنْيَ الصُّدُورِ هُنَا بِالْإِعْرَاضِ التَّامِّ، وَالِاسْتِدْبَارِ لِلرَّسُولِ عِنْدَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ ثَنْيِ الْعِطْفِ وَالْجَانِبِ، وَفَسَّرَهُ آخَرُونَ بِطَيِّهَا عَلَى مَا هُوَ مَكْنُونٌ فِيهَا مِنَ الْكَرَاهَةِ وَالْعَدَاوَةِ لَهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ تَصْوِيرًا لِمَا كَانَ يُحَاوِلُهُ بَعْضُ الْكُفَّارِ، ثُمَّ الْمُنَافِقِينَ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ مِنَ الِاسْتِخْفَاءِ بِتَنْكِيسِ الرَّأْسِ، وَثَنْيِ الصَّدْرِ عَلَى الْبَطْنِ كَمَا يُطْوَى الثَّوْبُ، حَتَّى يَخْفَى فَاعِلُهُ بَيْنَ الْجَمْعِ، خَجَلًا مِمَّا فِيهِ مِنَ الْقَرْعِ وَالصُّدَاعِ، فَالْمَعْنَى: أَلَا إِنَّ هَؤُلَاءِ الْكَافِرِينَ الْكَارِهِينَ لِدَعْوَةِ التَّوْحِيدِ يَحْنُونَ ظُهُورَهُمْ وَيُنَكِّسُونَ رُءُوسَهُمْ كَأَنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ طَيَّ صُدُورِهِمْ عَلَى بُطُونِهِمْ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ مَعْنًى بَلِيغٌ وَوَاقِعٌ وَأَدْنَى إِلَى التَّعْلِيلِ بِقَوْلِهِ: {لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} أَيْ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ تِلَاوَتِهِ لِلْقُرْآنِ فَلَا يَرَاهُمْ عِنْدَ وُقُوعِ هَذِهِ الْقَوَارِعِ عَلَى رُءُوسِهِمْ، أَوْ لِيَسْتَخْفُوا مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الشَّأْنِ الْمُظْهِرِ لِخِزْيِهِمْ وَجَهْلِهِمْ، الْمُثْبِتِ لِعَجْزِهِمْ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَتَبَادَرُ إِلَى فَهْمِي كُلَّمَا تَلَوْتُ الْآيَةَ أَوْ سَمِعْتُهَا قَبْلَ الِاطِّلَاعِ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا قِيلَ فِي تَفْسِيرِهَا عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُجَامِعُ مَا قَبْلَهُ فَيَصْدُقُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى فَرِيقٍ مِنَ الْكُفَّارِ، وَيُنَاسِبُ الْأَوَّلَ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِخْفَاءُ مِنَ اللهِ- عَزَّ وَجَلَّ- وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَدَّادٍ قَالَ: كَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا مَرَّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثَنَى صَدْرَهُ لِكَيْ لَا يَرَاهُ فَنَزَلَتْ.
وَعَنْ أَبِي رَزِينٍ قَالَ: كَانَ أَحَدُهُمْ يَحْنِي ظَهْرَهُ وَيَسْتَغْشِي بِثَوْبِهِ، وَعَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ فِي قَوْلِهِ: {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} يَقُولُ: يُطَأْطِئُونَ رُءُوسَهُمْ، وَيَحْنُونَ ظُهُورَهُمْ، أَيْ أَلَا فَلْيَعْلَمُوا أَنَّ ثَنْيَ صُدُورِهِمْ وَتَنْكِيسَ رُءُوسِهِمْ؛ لِيَسْتَخْفُوا مِنَ الدَّاعِي لَهُمْ إِلَى تَوْحِيدِ رَبِّهِمْ، أَوْ مِنْ ظُهُورِ حُجَّتِهِ عَلَيْهِمْ، لَا يُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا مِنْ ظُهُورِ فَضِيحَتِهِمْ، فَإِنَّهُمْ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ فَيُغَطُّونَ بِهَا جَمِيعَ أَبْدَانِهِمْ عِنْدَ النَّوْمِ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَيَخْلُونَ بِخَوَاطِرِهِمْ وَمَا يُبَيِّتُونَ مِنَ السُّوءِ وَالْمَكْرِ، فَإِنَّ رَبَّهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ مِنْهَا لَيْلًا، ثُمَّ مَا يُعْلِنُونَ نَهَارًا. وَعَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانُوا يَحْنُونَ صُدُورَهُمْ لِكَيْلَا يَسْمَعُوا كِتَابَ اللهِ- تَعَالَى-، قَالَ تَعَالَى: {أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} وَذَلِكَ أَخْفَى مَا يَكُونُ ابْنُ آدَمَ إِذَا حَنَى ظَهْرَهُ، وَاسْتَغْشَى بِثَوْبِهِ، وَأَضْمَرَ هَمَّهُ فِي نَفْسِهِ، فَإِنَّ اللهَ لَا يَخْفَى ذَلِكَ عَلَيْهِ {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أَيْ إِنَّهُ تَعَالَى عَلِيمٌ مُحِيطٌ بِأَسْرَارِ الصُّدُورِ، وَخَوَاطِرِ الْقُلُوبِ كَالَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَالَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} (4: 108).
وَرُوِيَ فِي الْآيَةِ مَالَا يَظْهَرُ فِي مَعْنَاهَا وَلَا فِي قِرَاءَتِهَا أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لَهَا، وَهُوَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أُنَاسٍ كَانُوا يَسْتَحُونَ أَنْ يَتَخَلَّوْا فَيُفْضُوا إِلَى السَّمَاءِ، وَأَنْ يُجَامِعُوا نِسَاءَهُمْ فَيُفْضُوا إِلَى السَّمَاءِ، وَمِمَّنْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ هَذَا يَصْدُقُ فِيهِمْ، وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا ضَرْبٌ مِنْ مُرَاقَبَةِ اللهِ تَعَالَى تُذَكِّرُهُمْ بِهِ رُؤْيَةُ السَّمَاءِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي يَقْتَضِي الْأَدَبُ السَّتْرَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ اللهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَلَا يَحْجُبُ بَصَرَهُ ثَوْبٌ وَلَا ظُلْمَةُ لَيْلٍ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قُرِأَ: {أَلَا إِنَّهُمْ تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ}- بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ وَبِالتَّحْتِيَّةِ- مِنِ اثْنَوْنَى كَاحْلَوْلَى، وَكَذَا تَثْنَوِي كَتَرْعَوِي، وَفِيهَا قِرَاءَاتٌ أُخْرَى كُلُّهَا شَاذَّةٌ لَا نُعْنَى بِنَقْلِهَا وَلَا بِتَوْجِيهِهَا. اهـ.