فصل: قال صاحب روح البيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال صاحب روح البيان:

{وَمَا} نافية من صلة دابة عام لكل حيوان يحتاج إلى الرزق صغيرًا كان أو كبيرًا ذكرًا أو أنثى سليمًا أو معيبًا طائرًا أو غيره لأن الطير يدب أي: يتحرك على رجليه في بعض حالاته في الأرض متعلق بمحذوف هو صفة لدابة أي: ما فرد من أفراد الدواب يستقر في قطر من أقطار الأرض إلا على الله رزقها غذاؤها ومعاشها اللائق لتكفله إياه تفضلًا ورحمة.
قال في التبيان: هو إيجاب كرم لا وجوب حق، انتهى.
لأنه لا حق للمخلوق على الخالق ولذا قال: في الجامع الصغير يكره أن يقول الرجل في دعائه بحق نبيك أو بيتك أو عرشك أو نحوه إلا أن يحمل على معنى الحرمة كما في شرح الطريقة.
وقال: في بحر العلوم إنما قال: على الله بلفظ الوجوب دلالة على أن التفضل رجع واجبًا كنذور العباد.
وقال غيره: أتى بلفظ الوجوب مع أن الله تعالى لا يجب عليه شيء عند أهل السنة والجماعة اعتبارًا لسبق الوعد وتحقيقًا لوصوله إليها ألبتة وحملًا للمكلفين على الثقة به تعالى في شأن الرزق، والإعراض عن إتعاب النفس في طلبه ففي كلمة على هنا استعارة تبعية شبه إيصال الله رزق كل حيوان إليه تفضلًا وإحسانًا على ما وعده بإيصال من يوصله، وجوبًا في انتفاء التخلف فاستعملت كلمة على ويعلم مستقرها ومستودعها يحتمل وجوهًا.
الأول: ما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن مستقرها المكان الذي تأوي إليه ليلًا، أو نهارًا، أو تستقر فيه وتستكن ومستودعها الموضع الذي تدفن فيه إذا ماتت بلا اختيار منها كالشيء المستودع قال عبد الله: إذا كان مدفن الرجل بأرض أدته الحاجة إليها حتى إذا كان عند انقضاء أمره قبض فتقول الأرض يوم القيامة هذا ما استودعتني.
والثاني: مستقرها محل قرارها في أصلاب الآباء، ومستودعها موضعها في الأرحام وما يجري مجراها من البيض ونحوه، وسميت الأرحام مستودعًا، لأنها يوضع فيها من قبل شخص آخر بخلاف وضعها في الأصلاب فأن النطفة بالنسبة إلى الأصلاب في حيذها الطبيعي ومنشأها الخلقي.
والثالث: مستقرها مكانها من الأرض حين وجودها بالفعل، ومستودعها حيث تكون مودعة فيه قبل وجودها بالفعل من صلب أو رحم أو بيضة، ولعل تقديم محلها باعتبار حالتها الأخيرة لرعاية المناسبة بينها وبين عنوان كونها دابة في الأرض.
والرابع: مستقرها في العدم يعلم أنه كيف قدرها مستعدة لقبول تلك الصورة المختصة بها ومستودعها لغرض تؤول إليه عند استكمال صورتها، وأيضًا يعلم مستقر روح الإنسان خاصة في عالم الأرواح لأنهم كانوا في أربعة صفوف كان في الصف الأول: أرواح الأنبياء وأرواح خواص الأولياء، وفي الصف الثاني: أرواح الأولياء وأرواح خواص المؤمنين، وفي الصف الثالث: أرواح المؤمنين والمسلمين، وفي الصف الرابع أرواح الكفار والمنافقين ويعلم مستودع روحه عند استكمال مرتبة كل نفس منهم من دركات النيران، ودرجات الجنان إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر.
كل أي: كل واحد من الدواب ورزقها ومستقرها ومستودعها.
في كتاب مبين أي: مثبت في اللوح المحفوظ البين لمن ينظر فيه من الملائكة أو المظهر لما ثبت فيه للناظرين.
وفي التأويلات النجمية: في كتاب مبين أي: عنده في أم الكتاب الذي لا تغير فيه من المحو والإثبات انتهى.
وقد اتفقوا على أن أربعة أشياء لا تقبل التغير أصلًا، وهي: العمر، والرزق، والأجل، والسعادة أو الشقاوة.
فعلى العاقل أن لا يهتم لأجل رزقه ويتوكل على الله فإنه حسبه روى أن موسى عليه السلام عند نزول الوحي عليه بالذهاب إلى فرعون للدعوة إلى الإيمان تعلق قلبه بأحوال أهله قائلًا يا رب من يقوم بأمر عيالي؟ فأمره الله تعالى أن يضرب بعصاه صخرة فضربها فانشقت وخرج منها صخرة ثانية، ثم ضرب بعصاه عليها فانشقت وخرجت منها صخرة ثالثة، ثم ضربها بعصاه فخرجت منها دودة وفي فمها شيء يجري مجرى الغذاء لها، ورفع الحجاب عن سمع موسى فسمع الدودة تقول: سبحان من يراني ويسمع كلامي ويعرف مكاني ويذكرني ولا ينساني.
وعن أنس رضي الله عنه قال: خرجت مع رسول الله يومًا إلى المفازة في حاجة لنا فرأينا طيرًا يلحن بصوت جهوري فقال عليه السلام: أتدري ما يقول هذا الطير يا أنس؟ قلت: الله ورسوله أعلم بذلك قال: إنه يقول يا رب، أذهبت بصري وخلقتني أعمى فارزقني فأني جائع قال: أنس فبينما نحن ننظر إليه إذ جاء طائر آخر وهو الجراد ودخل في فم الطائر فابتلعه ثم رفع الطائر صوته وجعل يلحن فقال عليه السلام: أتدري ما يقول الطير يا أنس؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: أنه يقول الحمد الذي لم ينس من ذكره وفي رواية: من توكل على الله كفاه كما في إنسان العيون.
قيل: كان مكتوبًا على سيف الحسين بن علي رضي الله عنه أربع كلمات، الرزق مقسوم، والحريص محروم، والبخيل مذموم، والحاسد مغموم، وفي الحديث: من جاع أواحتاج وكتمه عن الناس وأفضى به إلى الله تعالى كان حقًا على الله أن يفتح له رزق سنة كما في روضة العلماء.
وحقيقة التوكل في الرزق وغيره عند المشايخ الانقطاع عن الأسباب بالكلية ثقة بالله تعالى.
وهذا لأهل الخصوص فأما أهل العموم فلابد لهم من التسبب. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} عطف على جملة: {يعلم ما يُسرّون وما يعلنون} [هود: 5].
والتقدير: وما من دابّة إلاّ يعلم مُستقرها ومُستودعها، وإنما نُظم الكلام على هذا الأسلوب تفننًا لإفادة التنصيص على العموم بالنفي المؤكد بـ (من)، ولإدماج تعميم رزق الله كل دابّة في الأرض في أثناء إفادة عموم علمه بأحوال كل دابة، فلأجل ذلك أخّرَ الفعل المعطوف لأن في التذكير بأن الله رازق الدواب التي لا حيلة لها في الاكتساب استدلالًا على أنّه عليم بأحوالها، فإن كونه رازقًا للدواب قضية من الأصول الموضوعة المقبولة عند عموم البشر، فمن أجل ذلك جعل رزق الله إياها دليلًا على علمه بما تحتاجه.
والدابة في اللغة: اسم لما يدب أي يمشي على الأرض غير الإنسان.
وزيادة: {في الأرض} تأكيد لمعنى: {دابة} في التنصيص على أن العموم مستعمل في حقيقته.
والرزق: الطعام، وتقدم في قوله تعالى: {وجد عندها رزقًا} [آل عمران: 37].
والاستثناء من عموم الأحوال التابع لعموم الذوات والمدلول عليه بذكر رزقها الذي هو من أحوالها.
وتقديم: {على الله} قبل متعلقه وهو: {رزقها} لإفادة القصر، أي على الله لا على غيره، ولإفادة تركيب: {على الله رزقها} معنى أن الله تكفّل برزقها ولم يهمله، لأن (على) تدل على اللزوم والمحقوقية، ومعلوم أن الله لاَ يُلْزمُهُ أحدٌ شيئًا، فما أفاد معنى اللزوم فإنّما هو التزامه بنفسه بمقتضى صفاته المقتضية ذلك له كما أشار إليه قوله تعالى: {وعدًا علينا} [الأنبياء: 104] وقوله: {حقًا علينا} [يونس: 103].
والاستثناء من عموم ما يسند إليه رزق الدواب في ظاهر ما يبدو للناس أنّه رزق من أصحاب الدواب ومن يربونها، أي رزْقها على الله لا على غيره.
فالمستثنى هو الكون على الله، والمستثنى منه مطلق الكون مما يُتخيّل أنه رزاق فحصر الرزق في الكون على الله مجاز عقلي في العرف باعتبار أن الله مسبب ذلك الرزق ومُقدره.
وجملة: {ويعلم مُستقرّها ومُستودَعَها} عطف على جملة الاستثناء لا على المستثنى، أي والله يعلم مستقر كلّ دابة ومستودَعها.
فليس حكم هذه الجملة بداخل في حيّز الحصر.
والمستقَرّ: محلّ استقرارها.
والمستودع: محلّ الإيداع، والإيداع: الوضع والدخر.
والمراد به مستودعها في الرحم قبل بروزها إلى الأرض كقوله: {وهو الذي أنشأكم من نفس واحدةٍ فمستقرً ومستودعً} في سورة [الأنعام: 98].
وتنوين {كلّ} تنوين عوض عن المضاف إليه اختصار، أي كلّ رزقها ومستقرها ومستودعها في كتاب مبين، أي كتابة، فالكتاب هنا مصدر كقوله: {كتابَ الله عليكم} [النساء: 24].
وهو مستعمل في تقدير العلم وتحقيقه بحيث لا يقبل زيادة ولا نقصانًا ولا تخلفًا.
كما أن الكتابة يقصد منها أن لا يزاد في الأمر ولا ينقص ولا يبطل.
قال الحارث بن حلزة:
حذر الجور والتطاخي وهل ينق ** ض ما في المهارق الأهواء

والمُبين: اسم فاعل أبان بمعنى: أظهر، وهو تخييل لاستعارة الكتاب للتقدير.
وليس المراد أنّه موضح لمن يطَالعه لأن علم الله وقدره لا يطلع عليه أحد. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}
وحين يذكر القرآن الكريم لقطة توضح صفة ما، فهو يأتي بما يتعلق بهذه الصفة، وما دام الحق سبحانه عليمًا بذات الصدور، فهذا علم بالأمور السلبية غير الواضحة، والحق سبحانه يعلم الإيجابيات أيضًا، فهو يعلم النية الحسنة أيضًا، ولكن الكلام هنا يخص جماعة يثنون صدورهم.
وجاء في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، وبيَّن أنه عليم بكل شيء.
وقال سبحانه: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود: 6].
والدابة: كا ما يدب على الأرض، وتستخدم في العرف الخاص للدلالة على أي كائن يدب على الأرض غير الإنسان.
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38].
وذكر الحق سبحانه وتعالى عن موسى عليه السلام أنه شُغِل حينما كُلِّف بخواطر عن أهله، وتساءل: كيف أذهب لأداء الرسالة وأترك أهلي؟
فأوحى الله سبحانه أن يضرب حجرًا فانفلق الحجر عن صخرة، فأمره الحق سبحانه أن يضرب الصخرة، فضربها فانفلقت ليخرج له حجر، فضرب الحجر فانشق له عن دودة تلوك شيئًا كأنما تتغذى به، فقال: إن الذي رزق هذه في ظلمات تلك الأحجار كلها لن ينسى أهلي على ظهر الأرض. ومضى موسى عليه السلام إلى رسالته.
وهذا أمر طبيعي؛ لأن الحق سبحانه خالق كل الخلق، ولابد أن يضمن له استبقاء حياة واستبقاء نوع؛ فاستبقاء الحياة بالقوت، واستبقاء النوع بالزواج والمصاهرة.
إذن: فمن ضمن ترتيبات الخلق أن يوفر الحق سبحانه وتعالى استبقاء الحياة بالقوت، واستبقاء النوع بالتزاوج.
ولذلك نقول دائمًا: يجب أن نفرق بين عطاء الإله وعطاء الرب، فالإله سبحانه هو رب الجميع، لكنه إله من آمن به.
وما دام الحق سبحانه هو رب الجميع، فالجميع مسئولون منه؛ فالشمس تشرق على المؤمن وعلى الكافر، وقد يستخرج الكافر من الشمس طاقة شمسية وينتفع بها، فلماذا لا يأخذ المؤمن بالأسباب؟
والهواء موجود للمؤمن والكافر؛ لأنه عطاء ربوبية، فإن استفاد الكافر من الهواء ودرسه، واستخدم وخواصه أكثر من المؤمن؛ فعلى المؤمن أن يجدَّ ويكدَّ في الأخذ بالأسباب.
إذن: فهناك عطاء للربوبية يشترك فيه الجميع، لكن عطاء الألوهية إنما يكون في العبادة، وهو يُخرجك من مراداتك إلى مرادات ربك، فحين تطلب منك شهواتك أن تفعل أمرًا فيقول لك المنهج: لا.
وفي هذا تحكم منك في الشهوات، وارتقاء في الاختبارات، أما في الأمور الحياتية الدنيا، فعطاء الربوبية لكل كائن ليستبقي حياته.
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} [هود: 6].
وكلمة {على} تفيد أن الرزق حق للدابة، لكنها لم تفرضه هي على الله سبحانه وتعالى، ولكنه سبحانه قد ألزم نفسه بهذا الحق.
ويقول سبحانه: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود: 6]. ولأنه سبحانه هو الذي يرزق الدابة فهو يعلم مستقرها وأين تعيش؛ ليوصل إليها هذا الرزق. والمستقر: هو مكان الاستقرار، والمستودع: هو مكان الوديعة.
والحق سبحانه يُعْلِمنا بذلك ليطمئن كل إنسان أن رزقه يعرف عنوانه، والإنسان لا يعلم عنوان الرزق.
فالرزق يأتي لك من حيث لا تحتسب، لكن السعي إلى الرزق شيء آخر؛ فقد تسعى إلى رزق ليس لك، بل هو رزق لغيرك.
فمثلًا: أنت قد تزرع أرضك قمحًا فيأتي لك سفر للخارج، وتترك قمحك؛ ليأكله غيرك، وتأكل أنت من قمح غيرك.
ولذلك يقول الحق سبحانه: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [هود: 6].
أي: أن كل أمر مكتوب، وهناك فرق بين أن تفعل ما تريد، ولكن لا يحكم إرادتك مكتوب؛ فما يأتي على بالك تفعله، وبين أن تفعل أمرًا قد وضعت خطواته في خطة واضحة مكتوبة، ثم تأتي أفعالك وفقًا لما كتبته.
ومن عظمة الخالق سبحانه أن كتب كل شيء، ثم يأتي كل ما في الحياة وفق ما كتب.
والدليل على ذلك على سبيل المثال أن الله سبحانه كان يوحي إلى رسوله بالسورة من القرآن الكريم، وبعد ذلك يُسرِّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، فيتلو السورة على أصحابه، فمن يستطيع الكتابة فهو يكتب، ومن يحفظ فهو يحفظ.
ثم يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة، فيقرأ السورة كما كُتِبَتْ، ويأتي كل نجم من القرآن في مكانه الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته، فكيف كان يحدث ذلك؟
لقد حدث ذلك بما جاء به الحق سبحانه، وأبلغه لرسوله صلى الله عليه وسلم: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} [الأعلى: 6]. اهـ.