فصل: تفسير الآية رقم (8):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (8):

قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان ما تقدم عنهم من الأفعال ومضى من الأقوال مظنة لمعاجلتهم بالأخذ، وكان الواقع أنه تعالى يعاملهم بالإمهال فضلًا منه وكرمًا، حكى مقالتهم في مقابلة رحمته لهم فقال: {ولئن أخرنا} أي بما لنا من العظمة التي لا يفوتها شيء: {عنهم} أي الكفار: {العذاب} أي المتوعد به: {إلى أمة} أي مدة من الزمان ليس فيها كدر: {معدودة} أي محصورة الأيام أي قصيرة معلومة عندنا حتى تعد الأنفاس: {ليقولن} على سبيل التكرار: {ما يحبسه} أي العذاب عن الوقوع استعجلًا له تكذيبًا واستهزاء، وهو تهديد لهم بأنه آتيهم عن قريب فليعتدوا لذلك.
ولما كان العاقل لا ينبغي أن يسأل عن مثل ذلك إلا بعد قدرته على الدفع، أعرض عن جوابهم وذكر لهم أنهم عاجزون عن دفاعه عند إيقاعه إعلامًا بأنهم عكسوا في السؤال، وتحقيقًا لأن ما استهزؤوا به لا حق بهم لا محالة، فقال مؤكدًا لشديد إنكارهم: {ألا يوم} وهو منصوب بخبر ليس الدال على جواز تقدم الخبر: {يأتيهم ليس} أي العذاب: {مصروفًا عنهم} أي بوجه من الوجوه؛ وقدم الماضي موضع المستقبل تحقيقًا ومبالغة في التهديد فقال: {وحاق بهم} أي أدركهم إذ ذاك على سبيل الإحاطة: {ما كانوا} أي بجبلاتهم وسيئ طبائعهم، وقدم الظرف إشارة إلى شدة إقبالهم على الهزء به حتى كأنهم لا يهزؤون بغيره فقال: {به} ولما كان استعجالهم استهزاء، وضع موضع يستعجلون قوله: {يستهزءون} أي يوجدون الهزء به إيجادًا عظيمًا حتى كأنهم يطلبون ذلك. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ}
اعلم أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم يكذبون الرسول صلى الله عليه وسلم بقولهم: {إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} فحكى عنهم في هذه الآية نوعًا آخر من أباطيلهم وهو أنه متى تأخر عنهم العذاب الذي توعدهم الرسول صلى الله عليه وسلم به أخذوا في الاستهزاء ويقولون: ما السبب الذي حبسه عنا؟
فأجاب الله تعالى بأنه إذا جاء الوقت الذي عينه الله لنزول ذلك العذاب الذي كانوا يستهزؤن به لم ينصرف ذلك العذاب عنهم وأحاط بهم ذلك العذاب.اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {ولئن أخْرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة}
فيه وجهان:
أحدهما: يعني إلى فناء أمة معلومة، ذكره علي بن عيسى.
الثاني: إلى أجل معدود، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وجمهور المفسرين. وتكون الأمة عبارة عن المدة، واصلها الجماعة فعبر بها عن المدة لحلولها في مدة.
{ليقولن ما يحبسه} يعني العذاب. وفي قولهم ذلك وجهان:
أحدهما: أنهم قالوا ذلك تكذيبًا للعذاب لتأخره عنهم.
الثاني: أنهم قالوا ذلك استعجالًا للعذاب واستهزاء، بمعنى ما الذي حبسه عنا؟. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {ولئن أخَّرنا عنهم العذاب}
قال المفسرون: هؤلاء كفار مكة، والمراد بالأمَّة المعدودة: الأجل المعلوم، والمعنى: إلى مجيء أمة وانقراض أخرى قبلها.
{ليقولن ما يحبسه} وإِنما قالوا ذلك تكذيبا واستهزاءً.
قوله تعالى: {ألا يوم يأتيهم} وقال: {ليس مصروفًا عنهم}.
وقال بعضهم: لا يُصرف عنهم العذاب إِذا أتاهم.
وقال آخرون: إِذا أخذتهم سيوف رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تُغمد عنهم حتى يباد أهل الكفر وتعلوَ كلمة الإِخلاص.
قوله تعالى: {وحاق بهم} قال أبو عبيدة: نزل بهم وأصابهم.
وفي قوله: {ما كانوا به يستهزؤن} قولان:
أحدهما: أنه الرسول والكتاب، قاله أبو صالح عن ابن عباس، فيكون المعنى: حاق بهم جزاء استهزائهم.
والثاني: أنه العذاب، كانوا يستهزئون بقولهم: {ما يحسبه}، وهذا قول مقاتل. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ}
اللام في: {لَئِنْ} للقسم، والجواب: {لَيَقُولُنَّ}.
ومعنى: {إلَى أُمَّةٍ} إلى أَجل معدود وحين معلوم؛ فالأمّة هنا المدّة؛ قاله ابن عباس ومجاهد وقَتَادة وجمهور المفسّرين.
وأصل الأمّة الجماعة؛ فعبّر عن الحين والسنين بالأمّة لأن الأمّة تكون فيها.
وقيل: هو على حذف المضاف؛ والمعنى إلى مجيء أمّة ليس فيها من يؤمن فيستحقون الهلاك.
أو إلى انقراض أمّة فيها من يؤمن فلا يبقى بعد انقراضها من يؤمن.
والأمّة اسم مشترك يقال على ثمانية أوجه: فالأمّة تكون الجماعة؛ كقوله تعالى: {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس} [القصص: 23].
والأمّة أيضًا أتباع الأنبياء عليهم السلام.
والأمّة الرجل الجامع للخير الذي يُقتدى به؛ كقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا} [النحل: 120].
والأمّة الدِّين والمِلّة؛ كقوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا على أُمَّةٍ} [الزخرف: 23].
والأمة الحين والزمان؛ كقوله تعالى: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} وكذلك قوله تعالى: {وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45] والأمّة القامة، وهو طول الإنسان وارتفاعه؛ يقال من ذلك: فلان حسن الأُمَّة أي القامة.
والأمّة الرجل المنفرد بدينه وحده لا يُشْرِكُه فيه أحد؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يُبَعث زيدُ بن عمرو بن نُفَيْل أمّة وحده». والأمة الأم؛ يقال: هذه أمّة زيد، يعني أمّ زيد.
{لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} يعني العذاب؛ وقالوا هذا إما تكذيبًا للعذاب لتأخره عنهم، أو استعجالًا واستهزاء؛ أي ما الذي يحبسه عنا.
{أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} قيل: هو قتل المشركين ببدر؛ وقتل جبريل المستهزئين على ما يأتي.
{وَحَاقَ بِهِم} أي نزل وأحاط.
{مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} أي جزاء ما كانوا به يستهزئون، والمضاف محذوف. اهـ.

.قال الخازن:

{ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة} يعني إلى أجل محدود وأصل الأمة في اللغة الجماعة من الناس فكأنه قال سبحانه وتعالى إلى انقراض أمة ومجيء أمة أخرى: {ليقولن ما يحبسه} يعني: أي شيء يحبس العذاب وإنما يقولون ذلك استعجالًا بالعذاب واستهزاء يعنون أنه ليس بشي قال الله: {ألا يوم يأتيهم} يعني العذاب: {ليس مصروفًا عنهم} أي لا يصرفه عنهم شيء: {وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} يعني ونزل بهم وبال استهزائهم. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ}
{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب} المترتِّبَ على بعثهم أو العذابَ الموعود في قوله تعالى: {وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} وقيل: عذابُ يومِ بدر، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قتلُ جبريلَ عليه السلام للمستهزِئين، والظاهرُ أن المرادَ به العذابُ الشاملُ للكفرة دون ما يُخَصّ ببعض منهم، على أنه لم يكن موعودًا يستعجل منه المجرمون: {إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} إلى طائفة من الأيام قليلةٍ لأن ما يحصُره العدُّ قليلٌ: {لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} أي أيُّ شيءٍ يمنعه من المجيء فكأنه يريده فيمنعه مانعٌ وإنما كانوا يقولونه بطريق الاستعجالِ استهزاءً لقوله تعالى: {مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ} ومرادُهم إنكارُ المجيءِ والحبْسِ رأَسًا لا الاعترافُ به والاستفسارُ عن حابسه: {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ} ذلك: {لَيْسَ مَصْرُوفًا} محبوسًا: {عَنْهُمْ} على معنى أنه لا يرفعه رافعٌ أبدًا إن أريد به عذابُ الآخرة أو لا يدفعه عنكم دافعٌ بل هو واقعٌ بكم إن أريد به عذابُ الدنيا، ويومَ منصوبٌ بخبر ليس مقدمًا عليه، واستدل به البصريون على جواز تقديمِه على ليس إذ المعمولُ تابعٌ للعامل فلا يقع إلا حيث يقعُ متبوعُه، ورُدَّ بأن الظرفَ يجوز فيه ما لا يجوز في غيره توسّعًا وبأنه قد يُقدّم المعمولُ حيث لا مجالَ لتقدم العامِلِ كما في قوله تعالى: {فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السائل فَلاَ تَنْهَرْ} فإن اليتيمَ والسائلَ مع كونهما منصوبين بالفعلين المجزومين قد تقدما على لا الناهيةِ مع امتناع تقدمِ الفعلين عليهما. قال أبو حيان: وقد تتبعتُ جملةً من دواوين العربِ فلم أظفَرْ بتقديم خبرِ ليس عليها ولا بتقديمِ معمولِه إلا ما دل عليه ظاهرُ هذه الآيةِ الكريمةِ وقولُ الشاعر:
فيأبى فما يزدادُ إلا لجاجة ** وكنتُ أبيًا في الخنا لست أُقدِمُ

{وَحَاقَ بِهِم} أي أحاط بهم: {مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ} أي العذابُ الذي كانوا يستعجلون به استهزاءً، وفي التعبير عنه بالموصول تهويلٌ لمكانه وإشعارٌ بعليّة ما ورد في حيز الصلةِ من استهزائهم به لنزوله وإحاطتِه، والتعبيرُ عنها بالماضي واردٌ على عادة الله تعالى في أخباره لأنها في تحققها وتيقُّنها بمنزلة الكائنةِ الموجودةِ، وفي ذلك من الفخامة والدلالةِ على علو شأنِ المُخْبَرِ به ما لا يخفى. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ} أي المترتب على بعثهم أو الموعود بقوله سبحانه: {وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود: 3] وقيل: عذاب يوم بدر، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قتل جبريل عليه السلام المستهزئين وهم خمسة نفر أهلكوا قبل بدر، والظاهر أن المراد العذاب الشامل للكفرة، ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: لما نزل: {اقترب لِلنَّاسِ حسابهم} [الأنبياء: 1] قال ناس: إن الساعة قد اقتربت فتناهوا فتناهى القوم قليلًا ثم عادوا إلى أعمالهم أعمال السوء فأنزل الله سبحانه: {أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1] فقال أناس من أهل الضلالة: هذا أمر الله تعالى قد أتى فتناهى القوم ثم عادوا إلى عكرهم عكر السوء فأنزل الله تعالى هذه الآية: {إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} أي طائفة من الأيام قليلة لأن ما يحصره العد قليل.
وقيل: المراد من الأمة الجماعة من الناس أي ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى جماعة يتعارفون ولا يكون فيهم مؤمن؛ ونقل هذا عن علي بن عيسى، وعن الجبائي أن المعنى إلى أمة بعد هؤلاء نكلفهم فيعصون فتقتضى الحكمة إهلاكهم وإقامة القيامة، وروى الإمامية وهم بيت الكذب عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن المراد بالأمة المعدودة أصحاب المهدي في آخر الزمان وهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا كعدة أهل بدر: {لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} أي أيّ شيء يمنعه من المجيء فكأنه يريده ويمنعه مانع، وكانوا يقولون ذلك بطريق الاستعجال وهو كناية عن الاستهزاء والتكذيب لأنهم لو صدقوا به لم يستعجلوه وليس غرضهم الاعتراف بمجيئه والاستفسار عن جابسه كما يرشد إليه ما بعد.
{أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ} ذلك العذاب الأخروي أو الدنيوي: {لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} أي أنه لا يرفعه رافع أبدًا، أو لا يدفعه عنهم دافع بل هو واقع بهم، والظاهر أن: {يَوْمٍ} منصوب بمصروفا الواقع خبر ليس، واستدل بذلك جمهور البصريين على جواز تقديم خبرها عليها كما يجوز تقديمه على اسمها بلا خلاف معتدّ به لأن تقديم المعمول يؤذن بتقديم العامل بطريق الأولى وءلا لزم مزية الفرع على أصله، وذهب الكوفيون والمبرد إلى عدم الجواز وادعوا أن الآية لا تصلح حجة لأن القاعدة المشار إليها غير مطردة ألا ترى قوله سبحانه: {فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ} [الضحى: 9] كيف تقدم معمول الفعل مع امتناع تقديمه لأن الفعل لا يلي أما، وجاء عن الحجازيين أنهم يقولون ما اليوم زيد ذاهبًا مع أنه لا يجوز تقديم خبر ما اتفاقًا، وأيضًا المعمول فيها ظرف والأمر فيه مبني على التسامح مع أنه قيل: إنه متعلق بفعل محذوف دل عليه ما بعده، والتقدير ألا يصرف عنهم العذاب أو يلازمهم يوم يأتيهم، ومنهم من جعله متعلقًا بيخافون محذوفًا أي ألا يخافون يوم إلخ، وقيل: هو مبتدأ لا متعلق بمصروفًا ولا بمحذوف، وبني على الفتح لإضافته للجملة، ونظير ذلك قوله سبحانه: {هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين} [المائدة: 119] على قراءة الفتح، وأنت تعلم أن في بناء الظرف المضاف لجملة صدرها مضارع معرف خلافًا بين النحاة، وأن الظاهر تعلقه بمصروفا نعم عدم صلاحية الآية للاحتجاج مما لا ريب فيه، وفي البحر قد تتبعت جملة من دواوين العرب فلم أظفر بتقديم خبر ليس عليها ولا بتقديم معموله إلا ما دل عليه ظاهر هذه الآية الكريمة، وقول الشاعر:
فيأبى فما يزداد إلى لجاجة ** وكنت أبيًا في الخنى لست أقدم

{وَحَاقَ بِهِم} أي نزل وأحاط، وأصله حق فهو كزل وزال وذم وذام والمراد يحيق بهم.
{مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ} إلا أنه عبر بالماضي لتحقق الوقوع، والمراد بالموصول العذاب وعبر به عنه تهويلًا لمكانه، وإشعارًا بعلية ما ورد في حيز الصلة من استهزائهم به لنزوله وإحاطته ووضع الاستهزاء موضع الاستعجال لأنه كان استهزاءًا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ}.
مناسبته لما قبله أن في كليهما وصف فنّ من أفانين عناد المشركين وتهكمهم بالدعوة الإسلامية، فإذا خبّرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالبعث وأنّ شركهم سببٌ لتعذيبهم جعلوا كلامه سحرًا، وإذا أنذرهم بعقوبة العذاب على الإشراك استعجلوه، فإذا تأخّر عنهم إلى أجل اقتضته الحكمة الربّانيّة استفهموا عن سبب حبسه عنهم استفهام تَهكم ظنًا أن تأخره عجز.
واللام موطئة للقسم.
وجملة: {ليقولن مَا يَحبسه} جواب القسم مغنية من جواب الشرط.
والأمّة: حقيقتها الجماعة الكثيرة من النّاس الذين أمْرُهُمْ واحد، وتطلق على المُدة كأنهم رَاعَوا أنّها الأمد الذي يظهر فيه جيل فأطلقت على مطلق المدة، أي بعد مدة.
و: {معدودة} معناه مقدرة، أي مؤجلة.
وفيه إيماء إلى أنّها ليست مديدة لأنّه شاع في كلام العرب إطلاق العَدّ والحساب ونحوهما على التّقليل، لأن الشيء القليل يمكن ضبطه بالعدد، ولذلك يقولون في عكسه: بغير حساب، مثل: {والله يرزق من يشاء بغير حساب} [البقرة: 212].
والحبس: إلزام الشيء مكانًا لا يتجاوزه.
ولذلك يستعمل في معنى المنع كما هنا، أي ما يمنع أن يصل إلينا ويحل بنا وهم يريدون التهكم.
{أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ}.
هذه الجملة واقعة موقع الجواب عن كلامهم إذ يقولون ما يحبس عنا العذاب، فلذلك فصلت كما تفصل المحاورة.
وهذا تهديد وتخويف بأنّه لا يصرف عنهم ولكنه مؤخر.
وافتُتح الكلام بحرف التّنبيه للاهتمام بالخبر لتحقيقه وإدخال الروع في ضمائرهم.
وتقديم الظرف للإيماء بأنّ إتيان العذاب لا شك فيه حتى أنه يوقّت بوقت.
والصرف: الدفع والإقصاء.
والحَوْق: الإحاطة.
والمعنى: أنه حالّ بهم حلولًا لا مخلص منه بحال.
وجملة: {وحَاقَ بهم} في موضع الحال أو معطوفة على خبر: {ليس}.
وصيغة المضي مستعملة في معنى التحقق، وهذا عذاب القتل يوم بدر.
وماصدق: {ما كانوا به يستهزئون} هو العذاب، وباء: {به} سببية أي بسبب ذكره فإن ذكر العذاب كان سببًا لاستهزائهم حين توعدهم به النّبيء صلى الله عليه وسلم.
والإتيان بالموصول في موضع الضمير للإيماء إلى أن استهزاءهم كان من أسباب غضب الله عليهم.
وتقديره إحاطة العذاب بهم بحيث لا يجدون منه مخلصًا. اهـ.