فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فإن كنت تركت بعض الوحى خوفا من اقتراحهم عليك الآيات فإنما أنت نذير وليس لك إلا ما شاء الله، وان يقولوا افتراه فقل لهم يأتوا بعشر سور مثله مفتريات {الخ}.
ومما تقدم يظهر أن ايراد الكلام مورد الترجي والاحتمال لرعاية ما يقتضيه المقام من طبع الاستبعاد فالمقام مقام الاستبعاد ومقتضاه ذكر كل سبب محتمل التأثير في الحادثة المستبعدة، اعتبر ذلك في ملك ينتهى إليه تمرد بعض ضعفاء رعيته فيبعث بعض عماله إلى دعوتهم إلى السمع والطاعة ويكتب في ذلك كتابا يأمره أن يقرأه عليهم ويلومهم على تمردهم واستكبارهم على ما بهم من الضعف والذلة ولمولاهم من القوة والسطوة والعزة ثم يبلغ الملك أنهم ردوا على رسوله ما بلغهم من قبله، ويكتب إليه كتابا ثانيا يأمره بقراءته عليهم وإذا فيه: لعلك لم تقرأ كتابي عليهم مخافة أن يقترحوا عليك بما لا تقدر عليه أو أنهم زعموا أن الكتاب ليس من قبلى وإنما افتريته على افتراء فإن كان الأول فإنك رسول ليس عليك إلا البلاغ وان كان الثاني فإن الكتاب بخطى كتبته بيدى وختمت عليه بخاتمي ولا يقدر أحد غيرى أن يقلدنى في ذلك.
والتأمل في هذا المثال يعطى أن المقام فيما يتضمنه الكتاب الثاني من الخطاب مقام الاستبعاد وأن القصد من ذكر الاحتمالين ترك الابلاغ وزعم الافتراء ليس هو توبيخ الرسول جدا أو احتمال زعمهم الكذب والفرية جدا، وإنما ذكر الوجهان لداعى أن يكونا كالمقدمة لذكر ما يزول به الشبهتان وهو أن الرسول ليس له من الأمر شيء حتى يقترح عليه بما يقترح، وأن الكتاب للملك ليس فيه ريب ولا شك.
ومن هنا يظهر أن قوله تعالى: {فلعلك تارك بعض ما يوحى اليك وضائق به صدرك} إلخ، ليس يفيد الترجي الجدى ولا مسوقا لتوبيخ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا مرادا به تسليته وتطييب نفسه إثر ما كان يناله من الحزن والاسى بكفرهم وجحودهم لما أتى به من الحق الصريح بل الكلام مسوق ليتوصل به إلى ذكر قوله: {إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل}.
فما ذكره بعض المفسرين أن الكلام مسرود لنهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الحزن وضيق الصدر بما كانوا يواجهونه به من الكفر والجحود، والنهى نهى تسلية وتطييب للنفس نظير ما في قوله: {ولا تحزن عليهم ولاتك في ضيق مما يمكرون} النحل: 127، وقوله: {لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين} الشعراء: 4 كلام ليس في محله. ويظهر أيضا أن قوله: {فلعلك تارك} إلخ، وقوله: {أم يقولون افتراه} إلخ، كشقى الترديد ويتصلان معا بما قبلهما من وجه واحد كما ذكرناه.
وقوله: {تارك بعض ما يوحى اليك} إنما ذكر البعض لأن الآيات السابقة متضمنة لتبليغ الوحى في الجملة أي لعلك تركت بعض ما أوحينا اليك من القرآن فما تلوته عليهم فلم ينكشف لهم الحق كل الانكشاف حتى لا يجبهوك بما جبهوك به من الرد والجحود، وذلك أن القرآن بعضه يوضح بعضا وشطرا منه يقرب شطرا منه من القبول كايات الاحتجاج توضح الآيات المشتملة على الدعاوى، وآيات الثواب والعقاب تقرب الحق من القبول بالتطميع والتخويف، وآيات القصص والعبر تستميل النفوس وتلين القلوب.
وقوله: {وضائق به صدرك أن يقولوا} إلخ، قال في المجمع: ضائق وضيق بمعنى واحد إلا أن ضائق هاهنا أحسن لوجهين: أحدهما: أنه عارض والاخر أنه أشكل بقوله تارك انتهى.
والظاهر أن ضمير {به} راجع إلى قوله: {بعض ما يوحى} وإن ذكر بعضهم أن الضمير راجع إلى قولهم: {لولا أنزل عليه كنز} إلخ، أو إلى اقتراحهم وهذا أوفق بكون قوله: {أن يقولوا} إلخ، بدلا من الضمير في {به} وما ذكرناه أوفق بكونه مفعولا له لقوله: {تارك} والتقدير: لعلك تارك ذلك مخافة أن يقولوا: لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك.
وقوله: {إنما أنت نذير} جواب عن اقتراحهم بقولهم: لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك، وقد تكرر في مواضع من كلامه تعالى ذكر ما اقترحوه اقتصر في بعضها على ذكر مجئ الملك وزيد في بعضها عليه غيره كاقتراح الاتيان بالله سبحانه ليشهد على الرسالة وأن يكون له جنة يأكل منها وأن ينزل من السماء كتابا يقرءونه.
وقد أجاب الله سبحانه عنها جميعا بمثل ما أجاب به هاهنا وهو أن رسوله ليس له إلا الرسالة فليس بيده وهو بشر رسول أن يجيبهم إلى ما اقترحوا به عليه إلا أن يشاء الله في ذلك شيئا ويأذن في إتيان آية كما قال: {وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله} المؤمن: 78.
ثم عقب قوله: {إنما أنت نذير} بقوله: {والله على كل شيء وكيل} لتتميم الجواب عن اقتراحهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمعجزات ومحصله: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشر مثلهم ولم يؤمر إلا بالانذار وهو الرسالة بإعلام الخطر، والقيام بالامور كلها وتدبيرها سواء كانت جارية على العادة أو خارقة لها إنما هو إلى الله سبحانه فلا وجه لتعلقهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما ليس إليه.
وذلك أن الله سبحانه هو الموجد للأشياء كلها وفاطرها وهو القائم على كل شيء فيما يجرى عليه من النظام فما من شيء إلا وهو تعالى المبدء في أمره وشأنه والمنتهى سواء الأمور الجارية على العادة والخارقة لها فهو تعالى الذى يسلم إليه أمره ويدبر شأنه فهو تعالى الوكيل عليه فإن الوكيل هو الذى يسلم إليه الأمر وينفذ فيه منه الحكم فهو تعالى على كل شيء وكيل.
وبذلك يظهر أن قوله: {والله على كل شيء وكيل} بمعونة من قوله: {إنما إنت نذير} يفيد قصر القلب فإنهم سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمراليس إليه وإنما هو إلى الله تعالى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ}
تفريع على قولِه: {وَلَئِنْ قُلْت إنّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْد الْمَوْت} إلَى قوله: {يَسْتَهْزئُون} [هود: 7، 8] مِن ذكر تكذيبهم وعنادهم.
يشير هذا التّفريع إلى أنّ مضمون الكلام المفرع عليه سبب لتوجيه هذا التوقع لأنّ من شأن المفرع عليه اليأس من ارعوائهم لتكرر التكذيب والاستهزاء يأسًا قد يَبْعَثُ على ترك دعائهم، فذلك كله أفيد بفاء التفريع.
والتوقع المستفاد من (لعل) مستعمل في تحذير من شأنه التبليغ.
ويجوز أن يقدّر استفهام حذفت أداته.
والتقدير: ألَعَلّكَ تارك.
ويكون الاستفهام مستعملًا في النفي للتحذير، وذلك نظير قوله تعالى: {لَعَلّكَ بَاخِعٌ نفسك ألاّ يكونوا مؤمنين} [الشعراء: 3].
والاستفهام كناية عن بلوغ الحالة حدًا يوجِبُ توقع الأمر المستفهَم عنه حتى أنّ المتكلّم يستفهم عن حصوله.
وهذا أسلوب يقصد به التحريك من همة المخاطب وإلهابُ همته لدفع الفتور عنه، فليس في هذا تجويز ترك النّبيّء صلى الله عليه وسلم تبليغ بعض ما يوحى إليه، وذلك البعض هو مّا فيه دعوتهم إلى الإيمان وإنذارهم بالعذاب وإعلامهم بالبعث كما يدل عليه قوله تعالى في آية أخرى: {وإذَا لَمْ تَأتِهِمْ بِآيَةٍ قَالوا لَوْلاَ اجْتَبَيْتهَا} [الأعراف: 203].
والمعنى تحذيره من التأثّر بعنادهم وتكذيبهم واستهزائهم، ويستتبع ذلك تأييسَ المشركين من تركه ذكر البعث والإنذار بالعذاب، فالخطاب مستعمل في حقيقته ومراد منه مع ذلك علم السامعين بمضمونه.
{وضائق}: اسم فاعل من ضاق.
وإنما عدل عن أن يقال (ضيّق) هنا إلى: {ضائق} لمراعاة النظير مع قوله: {تارك} لأنّ ذلك أحسن فصاحة.
ولأنّ: {ضائق} لاَ دَلالَة فيه على تمكّن وصف الضّيْق من صدره بخلاف ضيّق، إذ هو صفة مشبهة وهي دالة على تمكن الوصف من الموصوف، إيماء إلى أنّ أقْصَى ما يتوهّم توقعه في جانبه صلى الله عليه وسلم هو ضَيْق قليل يعرض له.
والضيق مستعمل مجازًا في الغم والأسف، كما استعمل ضده وهو الانشراح في الفرح والمسرة.
و: {ضائق} عطف على: {تارك} فهو وفاعله جملة خبر عن (لعلّك) فيتسلط عليه التفريع.
والباء في: {بِه} للسببية، والضمير المجرور بالباء عائد على ما بعده وهو: {أن يقولوا}.
و: {أن يقولوا} بدل من الضمير.
ومثل ذلك مستعمل في الكلام كقوله تعالى: {وأسروا النّجْوَى الّذينَ ظَلَموا} [الأنبياء: 3]، فيكون تحذيرًا من أن يضيق صدره لاقتراحهم الآيات بأن يقولوا: {لولا أنزل عليه كنزٌ أو جاء معه ملكٌ}، ويحصل مع ذلك التحذير من أن يضيق صدره من قولهم: {إن هذا إلاّ سِحْرٌ مبِين} [هود: 7]، ومن قولهم: ما يَحْبس العذاب عنا، بواسطة كون: {ضائق} داخلًا في تفريع التحذير على قولَيْهم السّابقَيْن.
وإنما جيء بالضمير ثم أبدل منه لقصد الإجمال الذي يعقبه التفصيل ليكون أشد تمكّنًا في الذهن، ولقصد تقديم المجرور المتعلق باسم الفاعل على فاعله تنبيهًا على الاهتمام بالمتعلّق لأنّه سبب صدور الفعل عن فاعله فجيء بالضمير المفسر فيما بعدُ لما في لفظ التفسير من الطول، فيحصل بذكره بُعد بين اسم الفاعل ومرفوعه، فلذلك اختصر في ضمير يعود عليه، فحصَل الاهتمام وقُوّيَ الاهتمام بما يدل على تمكنه في الذهن.
ومعظم المفسرين جعلوا ضمير: {به} عائدًا إلى: {بعض ما يوحى إليك}.
على أن ما يوحى إليه سبب لضيق صدره، أي لا يضيق له صدرك، وجعلوا: {أن يقولوا} مجرورًا بلام التعليل مقدرة.
وعليه فالمضارع في قوله: {أن يقولوا} بمعنى المضي لأنهم قالوا ذلك.
واللام متعلقة بـ: {ضائق} وليس المعنى عليه بالمتين.
و: {لولا}: للتحضيض، والكنز: المال المكنوز أي المخبوء.
وإنزاله: إتيانه من مكان عَال أي من السماء.
وهذا القول صدر من المشركين قبل نزول هذه الآية فلذلك فالفعل المضارع مراد به تجدد هذا القول وتكرره منهم بقرينة العلم بأنه صدر منهم في الماضي، وبقرينة التحذير من أن يكون ذلك سببًا في ضيق صدره لأن التحذير إنما يتعلق بالمستقبل.
ومرادهم بـ: {جاء معه ملك} أن يجيء ملك من الملائكة شاهدًا برسالته، وهذا من جهلهم بحقائق الأمور وتوهمهم أنّ الله يعبأ بإعراضهم ويتنازل لإجابة مقترح عنادهم، ومن قصورهم عن فهم المعجزات الإلهية ومَدى التأييد الربّاني.
وجملة: {إنّمَا أنْتَ نَذيرٌ} في موقع العلّة للتحذير من تركه بعض ما يوحى إليه وضيق صدره من مقالتهم.
فكأنه قيل لا تترك إبلاغهم بعض ما يوحى إليك ولا يضق صدرك من مقالهم لأنك نذيرٌ لاَ وَكيل على تحصيل إيمانهم، حتى يترتب على يأسك من إيمانهم تركُ دعوتهم.
والقصر المستفاد من: {إنما} قصر إضافي، أي أنت نذير لا موكّل بإيقاع الإيمان في قلوبهم إذ ليس ذلك إليك بل هو لله، كما دلّ عليه قوله قبله: {فَلَعَلّك تَاركٌ بعضَ مَا يوحَى إلَيْكَ وَضَائِقٌ بِه صَدْرُكَ} فهو قصر قلب.
وفيه تعريض بالمشركين برد اعتقادهم أنّ الرسول يأتي بما يُسأل عنه من الخوارق فإذا لم يأتهم به جعلوا ذلك سندًا لتكذيبهم إيّاه ردًا حاصلًا من مستتبعات الخطاب، كما تقدم عند قوله تعالى: {فَلَعَلّكَ تَاركٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إلَيْكَ} إذ كثر في القرآن ذكر نحو هذه الجملة في مقام الردّ على المشركين والكافرين الذين سألوا الإتيان بمعجزات على وفق هواهم.
وجملة: {وَاللّه عَلَى كُلّ شَيْء وَكِيل} تذييل لقوله: {فَلَعَلّكَ تَاركٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إلَيْكَ} إلى هنا، وهي معطوفة على جملة: {إنما أنت نذير} لما اقتضاه القصر من إبطال أن يكون وكيلًا على إلجائهم للإيمان.
ومما شمله عموم: {كل شيء} أن الله وكيل على قلوب المكذبين وهم المقصود، وإنما جاء الكلام بصيغة العموم ليكون تذييلًا وإتيانًا للغرض بما هو كالدّليل، ولينتقل من ذلك العموم إلى تسلية النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله مطلع على مكر أولئك، وأنه وكيل على جزائهم وأن الله عالم ببذل النبي جهده في التبليغ. اهـ.

.قال الشعراوي:

{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ}
وهنا نجد الحق سبحانه يأتي بصيغة الاستفهام في قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ} [هود: 12].
وهو استفهام في معرض النهي.
ولله المثل الأعلى أنت قد تقول لابنك لتحثَّه على الاجتهاد: لعلَّك سُررت من فشل فلان وفَحْوَى هذا الخطاب، استفهام في معرض النهي، وهو استفهام يحمل الرجاء. وهنا تجد أن الراجي هو ربك سبحانه وتعالى الذي أرسلك بالدعوة. ولذلك يأتي قول الحق سبحانه مُبيِّنًا: لا يضيق صدرك يا رسول الله من هؤلاء المتعنتين، الذين يريدون أن يخرجوك عن مقامك الذي تلحُّ دائمًا في التأكيد عليه، فأنت تؤكد لهم دائمًا أنك بشرٌ، وكان المفروض فيهم أن تكون مطلوباتهم منك على مقدار ما أقررت على نفسك، فأنت لم تَقُلْ أبدًا عن نفسك إنك إله، ليطلبوا منك آيات تُخالف النواميس، بل أنت مُبلِّغ عن الله تعالى.
وإياك أن يضيق صدرك فلا تُبلغهم شيئًا مما أنزِلَ إليك؛ لأن البلاغَ هو الحُجَّة عليهم، فلو ضاق صدرُك منهم، وانقصتَ البلاغ الموكَّل إليك؛ لأنهم كلما أبلغوا بآية كذَّبوها، فاعلمْ أن الله سبحانه وتعالى سوف يزيد عقابهم بقدر ما كذَّبوا.
وكلمة {ضائق} اسم فاعل، ويعني أن الموصوف به لن يظل محتفظًا بهذه الصفة لتكون لازمة له، ولكنها تعبِّر عن مرحلة من المراحل، مثلما نقول: فلان نَاجِر أي: أنه قادر على القيام بأعمال النجارة مرَّة واحدة أو قليلًا ولا يحترف هذا العمل.
وكذلك كلمة {ضائق} وهي تعبِّر في مرحلة لا أكثر مِنْ فَرْط ما قابلوا الرسول صلى الله عليه وسلم من إنكار، وما طالبوا به من أشياء تخرج عن نطاق إنسانيته، فقد طالبوا هنا أن ينزل عليه كَنْزٌ.
وقد جاء الحق سبحانه بذكر مسألة الكنز؛ ليدلنا على مدى ما عندهم من قيم الحياة، فقيمة القيم عندهم تركزَّتْ في المال؛ ولذلك تمنَّوا لو أن هذا القرآن قد نزل على واحد من الأثرياء، مصداقًا لقول الحق سبحانه: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].
إذن: فلم يكن اعتراضهم على القرآن، بل على مَنْ نزل عليه القرآن. وفي الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها، طلبوا أن ينزل إليه كَنْزٌ، وقد ظنوا أن الثراء سيلهيه هو ومَنْ معه عن الدعوة إلى الله تعالى ونسوا أنهم قد عرضوا الثروة عليه من قبل.
وهكذا وضح لمن عرض عليه هذا الأمر أن مسألة الكنز لا تشغله صلى الله عليه وسلم.
والكَنْزُ لغويًّا هو الشيء المجتمع، فإن كانت الماشية مثلًا مليئة باللحم يقال لها: مُكْتَنِزَةٌ لحمًا ولكن كلمة الكنز أطلقت على الشيء الذي هو ثمن لأي شيءٍ، وهو الذهب.
ولذلك قال الحق سبحانه: {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34].
ونحن نعلم أن هناك فارقًا بين الرزق المباشر والرزق غير المباشر، فالرزق الغير مباشر هو ما تنتفع به، طعامًا أو شرابًا، وهناك شيء يأتي لك بالرزق الغير مباشر؛ لكنه لا يُغني عن الرزق المباشر المستمر.
فلو أن إنسانًا في صحراء ومعه قناطير مقنطرة من الذهب، ولا يجد طعامًا ولا شربة ماء، ماذا يفعل له الذهب ولو عرض عليه إنسانٌ آخر رغيف خبز وشربة ماء مقابل كل ما يملك من ذهب لوافق على الفور. وهنا لا يكون التقييم أن قنطار الذهب مقابل الرغيف وشربة الماء، ولكن قنطار الذهب هنا مقابل استمرار الحياة وضرورة الحاجة.