فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} أي: ما يوحى إليك، وفي (أم) وجهان منقطعة مقدرة بـ (بل والهمزة الإنكارية) أي: بل أيقولون. ومتصلة والتقدير: أيكتفون بما أوحينا إليك، وهو ما في الإعجاز، أم يقولون ليس من عند الله.
{قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ} أي: للاستعانة: {مَنِ اسْتَطَعْتُم} أي: من الإنس والجن، وقوله: {مِّن دُونِ اللّهِ} متعلق بـ: {ادْعُواْ}، أي: متجاوزين الله تعالى: {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي: في أني افتريته، فأنتم عرب فصحاء مثلي، لاسيما وقد زاولتم أساليب النظم والنثر والخطب.
{فَإِن لم يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ} أي: بما لا يعلمه غيره من نظم معجز للخلق، وإخبار بغيوب لا سبيل لهم إليها: {وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} أي: واعلموا عند ذلك أن لا إله إلا الله، وأن توحيده واجب، والإشراك به ظلم عظيم: {فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} أي: مبايعون بالإسلام، منقادون لتوحيد الله، وتصديق رسوله بعد هذه الحجة القاطعة؟.

.قال صاحب الميزان:

قوله تعالى: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور} قد تقدم من الكلام ما يصح به أخذ {أم} متصلة لكون قوله: {فلعلك تارك} إلخ، في معنى الاستفهام، والتقدير: أفأنت تارك بعض ما يوحى اليك خوفا من اقتراحهم المعجزة أم يقولون إنك افتريته علينا فإن من المستبعد أن يقرء عليهم كلامي ثم لا يؤمنوا به وقيل: إن أم مقطعة والمعنى: بل يقولون افتراه.
وقوله: {قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات} في الكلام تحد ظاهر والضمير راجع إلى القرآن أو إلى السورة بما أنها قرآن والفاء في {فأتوا} تفيد تفريع الأمر على قوله: {افتراه} وفي الكلام حذف وإيصال رعاية للايجاز، والتقدير: قل لهم: إن كان هذا القرآن مما افتريته على الله كان من عندي وكان من الجائز أن يأتي بمثله غيرى فإن كنتم صادقين في دعواكم ومجدين غير هازلين فأتوا بعشر سور مثله مفتريات واستعينوا في ذلك بدعوة كل من تستطيعون من دون الله من اوثانكم الذين تزعمون انهم آلهة تتسرعون إليهم في الحاجات وغيرهم من سائر الخلق حتى يتم لكم جميع الأسباب والوسائل ولا يبقى أحد ممن يطمع في تأثير إعانته ويرجى نفعه في ذلك فلو كان من عندي لا من عند الله جاز أن تأتوا حينئذ بمثله.
وقد بان بهذا البيان ان التحدي بالقرآن في الآية الكريمة ليس من حيث نظمه وبلاغته فحسب فإنه تعالى يأمرهم بالاستمداد من كل من استطاعوا دعوته من دون الله سواء في ذلك آلهتهم وغير آلهتهم وفيهم من لا يعرف الكلام العربي أو جزالة نظمه وصفة بلاغته فالتحدي عام لكل ما يتضمنه القرآن الكريم من معارف حقيقية والحجج والبراهين الساطعة والمواعظ الحسنة والاخلاق الكريمة والشرائع الإلهية والاخبار الغيبية والفصاحة والبلاغة نظير ما في قوله تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا}
أسرى: 88، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في الكلام على إعجاز القرآن في الجزء الأول من الكتاب.
وبذلك يظهر فساد ما قيل إن جهة إعجاز القرآن انما هي البلاغة والفصاحة في هذا النظم المخصوص لأنه لو كان جهة الاعجاز غير ذلك لما قنع في المعارضة بالافتراء والاختلاق لأن البلاغة ثلاث طبقات فأعلى طبقاتها معجز وأدناها وأوسطها ممكن فالتحدي في الآية انما وقع في الطبقة العليا منها، ولو كان وجه الاعجاز الصرفة لكان الركيك من الكلام ابلغ في باب الاعجاز.
والمثل المذكور في الآية لا يجوز أن يكون المراد به مثله في الجنس لأن مثله في الجنس يكون حكايته فلا يقع بها التحدي، وإنما يرجع في ذلك إلى ما هو متعارف بين العرب في تحدى بعضهم بعضا كما اشتهر من مناقضات امرئ القيس وعلقمة وعمر بن كلثوم والحارث بن حلزة وجرير والفرزدق وغيرهم. انتهى.
فإن فيه أولا: أن لو كانت جهة الاعجاز في القرآن هي بلاغته فحسب وهى أمر لا يعرفه غير العرب لم يكن لتشريك غيرهم في التحدي معنى، ولم يرجع قوله: {وادعوا من استطعتم من دون الله} على ما فيه من العموم وكذا قوله: {لئن اجتمعت الانس والجن} الآية إلى معنى محصل ولكان من الواجب أن يقال: (لئن اجتمعت العرب) وادعوا من استطعتم من آلهتكم ومن أهل لغتكم.
وثانيا: أنه لو كانت جهة الاعجاز هي البلاغة فقط لم يصح الاحتجاج بمثل قوله: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} النساء: 82، الظاهر في نفى مطلق الاختلاف فإن اكثر الاختلافات وهى التى يرجع إلى المعاني لا تضر بلاغة اللفظ.
وثالثا: أنه تعالى يتحدى بمثل قوله: {فليأتوا بحديث مثله} الطور: 34، وبقوله في سورة يونس: {فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله} آية 38، وقد استفدنا فيما تقدم أن سورة يونس قبل سورة هود في ترتيب النزول.
ويؤيده الاثر، ثم بقوله في هذه السورة: {فإتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله} ولو كان جهة الاعجاز هي البلاغة خاصة لكانت هذه التحديات خارجة عن النظم الطبيعي إذ لا يصح أن يكلف البلغاء من العرب المنكرين لكون القرآن من عند الله بإتيان مثل سورة منه ثم بعده بإتيان عشر سور مفتريات بل مقتضى الطبع أن يتحدى بتكليفهم بإتيان مثل القرآن أجمع فإن عجزوا فبإتيان عشر سور مثله مفتريات فإن عجزوا فبإتيان سورة مثله.
وقد ذكر بعضهم في التفصى عن هذا الاشكال أن الترتيب بين السور ونزول بعضها قبل بعض لا يستلزم الترتيب بين آيات السور فكم من آية مكية موضوعة في سورة مدنية وبالعكس فمن الجائز حينئذ أن تكون آيات التحدي بتمام القرآن نازلة قبل غيرها مطلقا ثم تكون آية التحدي بعشر سور مفتريات نازلة بعدها، وآية التحدي بسورة واحدة نازلة بعد الجميع.
وفيه: أنه إنما ينفع لو صح نزول الآيات على ما صوره وإلا فالاشكال على حاله والحق أن القرآن معجز في جميع صفاته المختصة به من بلاغة وفصاحة وما فيه من المعارف الحقيقية والاخلاق الكريمة والشرائع الإلهية والقصص والعبر والاخبار بالمغيبات وما له من السلطان على القلوب والجمال الحاكم في النفوس.
وأما الوجه في التحدي بعشر سور مع ما في سورة يونس من التحدي بواحدة فقد قال في المجمع: فإن قيل: لم ذكر التحدي مرة بعشر سور ومرة بسورة ومرة بحديث مثله؟ فالجواب: أن التحدي إنما يقع بما يظهر فيه الاعجاز من منظوم الكلام فيجوز أن يتحدى مرة بالاقل ومرة بالأكثر.
انتهى.
أقول: وهو يصلح وجها لاصل التحدي بالواحد والكثير وأما التحدي بالعشر بعد الواحدة ولاسيما على ما يراه من كون إعجازه بالبلاغة فحسب فلا.
وذكر بعضهم في توجيه ذلك أن القرآن الكريم معجز في جميع ما يتضمنه من المعارف والاخلاق والاحكام والقصص وغيرها وينعت به من الفصاحة والبلاغة وانتفاء الاختلاف، وإنما يظهر صحة المعارضة والاتيان بالمثل عند إتيان عدة من السور يظهر به ارتفاع الاختلاف وخاصة من بين القصص المودعة فيها مع سائر الجهات كالفصاحة والبلاغة والمعارف وغيرها.
وإنما يتم ذلك بإتيان أمثال السور الطويلة التى تشتمل على جميع الشؤون المذكورة وتتضمن المعرفة والقصة والحجة وغير ذلك كسورتي الأعراف والأنعام.
والتى نزلت من السور الطويلة القرآنية مما يشتمل على جميع الفنون المذكورة قبل سورة هود على ما ورد في الرواية هي سورة الأعراف وسورة يونس وسورة مريم وسورة طه وسورة الشعراء وسورة النمل وسورة القصص وسورة القمر وسورة ص فهذه تسع من السور عاشرتها سورة هود، وهذا الوجه هو في التحدي بأمرهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات، انتهى بتلخيص منا وقد أطنب في كلامه.
أقول: فيه أولا: أن لا تعويل على الاثر الذى عول عليه في ترتيب نزول السور فإنما هو من الاحاد التى لا تخلو عن ضعف ولا ينبغى بناء البحث التفسيرى على أمثالها.
وثانيا: أن ظاهر قوله: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات} أن رميهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالافتراء على الله سبحانه قول تقولوه بالنسبة إلى جميع السور القرآنية طويلتها وقصيرتها من غير أن يخصوا به سورة دون سورة فمن الواجب أن يجابوا بما يحسم مادة الشبهة بالنسبة إلى كل سورة قرآنية، والتحدى بما يفى بذلك، وعجزهم عن إتيان عشرسور مفتريات طويلة تجمع الفنون القرآنية لا يثبت به كون الجميع حتى السور القصار كسورتي الكوثر والعصر من عند الله اللهم إلا ببيان آخر يضم إليه واللفظ خال من ذلك.
وثالثا: أن قوله: {بعشر سور مثله} إن كان ما فيه من الضمير راجعا إلى القرآن كما هو ظاهر كلام هذا القائل أفاد التحدي بإتيان عشر سور مفتريات مثله مطلقا سواء في ذلك الطوال والقصار فتخصيص التحدي بعشر سور طويلة جامعة تقييد للفظ الآية من غير مقيد وهو تحكم وأشد منه تحكما القول بأن المراد بالمثل مثل السور العشر التى عدها.
وإن كان الضمير راجعا إلى سورة هود كان مستبشعا من القول وكيف يستقيم أن يقال لمن يقول: إن سورة الكوثر والمعوذتين من الافتراء على الله: ائت بعشر سور مفتريات مثل سورة هود ويقتصر على ذلك؟ اللهم إلا أن يهذروا بأن سورة هود وحدها من الافتراء على الله تعالى فيتحدى عندئذ بأن يأتوا بمثلها، ولم نسمع أحدا منهم تفوه بذلك.
ويمكن أن يقال في وجه الاختلاف الذى يلوح من آيات التحدي كقوله: {فأتوا بسورة مثله} يونس: 38 الظاهر في التحدي بسورة واحدة وقوله: {فأتوا بعشر سور مثله مفتريات} الظاهر في التحدي بعدد خاص فوق الواحد وقوله: {فليأتوا بحديث مثله} الطور: 34 الظاهر في التحدي بحديث يماثل القرآن وإن كان دون السورة أن كل واحدة من الآيات تؤم غرضا خاصا في التحدي.
بيان ذلك: أن جهات القرآن وشؤونه التى تتقوم به حقيقته وهو كتاب إلهى مضافا إلى ما في لفظه من الفصاحة وفي نظمه من البلاغة إنما ترجع إلى معانيه ومقاصده لست أعنى من المعنى ما يقصده علماء البلاغة في قولهم: إن البلاغة من صفات المعنى والالفاظ مطروحة في الطريق يعنون به المفاهيم من جهة ترتبها الطبعى في الذهن فإن الذى يعنون به من المعنى موجود في الكذب الصريح من الكلام وفي الهزل وفي الفحش والهجو والفرية إذا جرت على أسلوب البلاغة وتوجد في الكلام الموروث من البلغاء نظما ونثرا شيء كثير من هذه الأمور.
بل المراد من معنى القرآن ومقصده ما يصفه تعالى بأنه كتاب حكيم، ونور مبين، وقرآن عظيم، وفرقان، وهاد يهدى الى الحق وإلى طريق مستقيم، وقول فصل وليس بالهزل، وكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وذكر وأنه يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأنه شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا، وأنه تبيان لكل شيء ولا يمسه إلا المطهرون.
فمن البين أن هذه كلها صفات لمعنى القرآن.
وليست صفات لما يقصده علماء البلاغة بالمعنى البليغ الذى ربما يشتمل عليه الباطل من الكلام الذى يسميه القرآن الكريم لغوا من القول وإثما وينهى الإنسان عن تعاطيه والتفوه به وإن كان بليغا بل المعنى المتصف بهذه الصفات هو شيء من المقاصد الإلهية التى تجرى على الحق الذى لا يخالطه باطل، وتقع في صراط الهداية، ويكون الكلام المشتمل على معنى هذا نعته وغرض هذا شأنه هو الذى تتعلق العناية الإلهية بتنزيله وجعله رحمة للمؤمنين وذكرا للعالمين.
وهذا هو الذى يصح أن يتحدى به بمثل قوله: {فليأتوا بحديث مثله} فأنا لا نسمى الكلام حديثا إلا إذا اشتمل على غرض هام يتحدث به فينقل من ضمير إلى ضمير، وكذا قوله: {فأتوا بسورة مثله} فإن الله لا يسمى جماعة من آيات كتابه وإن كانت ذات عدد سورة إلا إذا اشتملت على غرض إلهى تتميز بها من غيرها.
ولولا ذلك لم يتم التحدي بالآيات القرآنية وكان للخصم أن يختار من مفردات الآيات عددا ذا كثرة كقوله تعالى: {والضحى} {والعصر} {والطور} {في كتاب مكنون} {مدهامتان} {الحاقة ما الحاقة} {وما أدراك ما الحاقة} {الرحمن} {ملك الناس} {إله الناس} {وخسف القمر} {كلا والقمر} {سندع الزبانية} إلى غير ذلك من مفردات الآيات ثم يقابل كلا منها بما يناظرها من الكلام العربي من غير أن يضمن ارتباط بعضها ببعض واشتمالها على غرض يجمعها ويخرجها في صورة الوحدة.
فالذي كلف به الخصم في هذه التحديات هو أن يأتي بكلام يماثل القرآن مضافا إلى بلاغة لفظه في بيان بعض المقاصد الإلهية المشتملة على أغراض منعوتة بالنعوت التى ذكرها الله سبحانه.
والكلام الإلهى مع ما تحدى به في آيات التحدي يختلف بحسب ما يظهر من خاصته فمجموع القرآن الكريم يختص بأنه كتاب فيه ما يحتاج إليه نوع الإنسان إلى يوم القيامة من معارف أصلية وأخلاق كريمة وأحكام فرعية، والسورة من القرآن تختص ببيان جامع لغرض من الاغراض الإلهية المتعلقة بالهدى ودين الحق على بلاغتها الخارقة، وهذه خاصة غير الخاصة التى يختص بها مجموع القرآن الكريم، والعدة من السور كالعشر والعشرين منها تختص بخاصة أخرى وهى بيان فنون من المقاصد والاغراض والتنوع فيها فإنها أبعد من احتمال الاتفاق فإن الخصم إذا عجز عن الاتيان بسورة واحدة كان من الممكن أن يختلج في باله أن عجزه عن الاتيان بها إنما يدل على عجز الناس عن الاتيان بمثلها لا على كونها نازلة من عند الله موحاة بعلمه فمن الجائز أن يكون كسائر الصفات والاعمال الإنسانية التى من الممكن في كل منها أن يتفرد به فرد من بين أفراد النوع اتفاقا لتصادق أسباب موجبة لذلك كفرد من الإنسان موصوف بأنه اطول الافراد أو اكبرهم جثة أو أشجعهم أو أسخاهم أو أجبنهم أو أبخلهم.