فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وإن اندرج في العموم المراؤون من أهل القبلة كما ترى أحدهم إذا صلى إمامًا يتنغم بألفاظ القرآن، ويرتله أحسن ترتيل، ويطيل ركوعه وسجوده، ويتباكى في قراءته، وإذا صلى وحده اختلسها اختلاسًا، وإذا تصق أظهر صدقته أمام من يثني عليه، ودفعها لمن لا يستحقها حتى يثني عليه الناس، وأهل الرباط المتصدق عليهم.
وأين هذا من رجل يتصدق خفية وعلى من لا يعرفه، كما جاء في: «السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه» وهذه مبالغة في إخفاء الصدقة جدًا، وإذا تعلم علمًا راءى به وتبجح، وطلب بمعظمه يسير حطام من عرض الدنيا.
وقد فشا الرياء في هذه الآية فشوًا كثيرًا حتى لا تكاد ترى مخلصًا لله لا في قول، ولا في فعل، فهؤلاء من أول من تسعر بهم النار يوم القيامة.
وقرأ الجمهور: نوفّ بنون العظمة، وطلحة بن ميمون: يوف بالياء على الغيبة.
وقرأ زيد بن علي: يوف بالياء مخففًا مضارع أوفى.
وقرئ توف بالتاء مبنيًا للمفعول، وأعمالهم بالرفع، وهو على هذه القراءات مجزوم جواب الشرط، كما انجزم في قوله: {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه} وحكي عن الفراء أنّ كان زائدة، ولهذا جزم الجواب.
ولعله لا يصح، إذ لو كانت زائدة لكان فعل الشرط يريد، وكان يكون مجزومًا، وهذا التركيب من مجيء فعل الشرط ماضيًا والجواب مضارعًا ليس مخصوصًا بكان، بل هو جائز في غيرها.
كما روي في بيت زهير:
ومن أهاب أسباب المنايا ينلنه ** ولو رام أن يرقى السماء بسلم

وقرأ الحسن: نوفي بالتخفيف وإثبات الياء، فاحتمل أن يكون مجزومًا بحذف الحركة المقدرة على لغة من قال: ألم يأتيك وهي لغة لبعض العرب، واحتمل أن يكون مرفوعًا كما ارتفع في قول الشاعر:
وإن شل ريعان الجميع مخافة ** يقول جهارًا ويلكم لا تنفروا

والحصر في كينونة النار لهم ظاهر في أنّ الآية في الكفار، فإنْ اندرج أهل الرياء فيها فيكون المعنى في حقهم: ليس يجب لهم ولا يحق لهم إلا النار كقوله: {فجزاؤه جهنم} وجائز أن يتغمدهم الله برحمته وهو ظاهر قول ابن عباس وابن جبير.
والضمير في قوله: ما صنعوا فيها، الظاهر أنه عائد على الآخرة، والمحرور متعلق بحبط، والمعنى: وظهر حبوط ما صنعوا في الآخرة.
ويجوز أن تتعلق بقوله: صنعوا، فيكون عائدًا على الحياة الدنيا، كما عاد عليها في فيها قبل.
وما في فيما صنعوا بمعنى الذي.
أو مصدرية، وباطل وما بعده توكيد لقوله: وحبط ما صنعوا، وباطل خبر مقدم إن كان من عطف الجمل، وما كانوا هو المبتدأ، وإن كان خبرًا بعد خبرٍ ارتفع ما بباطل على الفاعلية.
وقرأ زيد بن علي: وبطل جعله فعلًا ماضيًا.
وقرأ أبي، وابن مسعود: وباطلًا بالنصب، وخرجه صاحب اللوامح على أنه مفعول ليعملون، فهو معمول خبر كان متقدمًا.
وما زائدة أي: وكانوا يعملون باطلًا، وفي جواز هذا التركيب خلاف بين النحويين.
وهو أن يتقدم معمول الخبر على الجملة بأسرها من كان اسمها وخبرها، ويشهد للجواب قوله تعالى: {أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون} ومن منع تأول.
وأجاز الزمخشري أن ينتصب باطلًا على معنى المصدر على بطل بطلانا ما كانوا يعملون، فتكون ما فاعلة، وتكون من إعمال المصدر الذي هو بدل من الفعل في غير الاستفهام والأمر، وحق أن يبطل أعمالهم لأنها لم تعمل لوجه صحيح، والعمل الباطل لا ثواب له. اهـ.

.قال أبو السعود:

{مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا} أي ما يزيِّنها ويحسِّنها من الصحة والأمنِ والسعةِ في الرزق وكثرةِ الأولادِ والرياسةِ وغيرِ ذلك، والمرادُ بالإرادة ما يحصُل عند مباشرةِ الأعمالِ لا مجردُ الإرادةِ القلبية لقوله تعالى: {نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} وإدخالُ كان عليها للدِلالة على استمرارها منهم بحيث لا يكادون يريدون الآخِرةَ أصلًا، وليس المرادُ بأعمالهم أعمالَ كلِّهم فإنه لا يجد كلُّ متمنَ ما يتمناه ولا كلُّ أحدٍ ينال كلَّ ما تهواه، فإن ذلك منوطٌ بالمشيئة الجاريةِ على قضية الحِكمة كما نطَق به قولُه تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ} ولا كلَّ أعمالِهم بل بعضَها الذي يترتب عليه الأمورُ المذكورةُ بطريق الأجرِ والجزاءِ من أعمال البرِّ وقد أُطلقت وأريد بها ثمراتُها، فالمعنى نوصِلُ إليهم ثمراتِ أعمالِهم في الحياة الدنيا كاملةً، وقرئ يُوفِّ على الإسناد إلى الله عز وجل وتُوَفَّ بالفوقانية على البناء للمفعول ورفعِ أعمالَهم، وقرئ {نُوْفي} بالتخفيف والرفع لكون الشرط ماضيًا كقوله:
وإن أتاه خليلٌ يومَ مسغَبة ** يقولُ لا غائبٌ مالي ولا حرِمُ

{وَهُمْ فِيهَا} أي في (الحياة) الدنيا: {لاَ يُبْخَسُونَ} أي لا يُنقَصون، وإنما عبّر عن ذلك بالبخْس الذي هو نقصُ الحقِّ مع أنه ليس لهم شائبةُ حقَ فيما أوتوه كما عبّر عن إعطائه بالتوفية التي هي إعطاءُ الحقوقِ مع أن أعمالَهم بمعزل من كونها مستوجبةً لذلك بناءً للأمر على ظاهر الحالِ ومحافظةً على صور الأعمالِ ومبالغةً في نفي النقص، كأن ذلك نقصٌ لحقوقهم فلا يدخُل تحت الوقوعِ والصدورِ عن الكريم أصلًا، والمعنى أنهم فيها خاصةً لا يُنقصون ثمراتِ أعمالِهم وأجورَها نقصًا كليًا مطردًا ولا يُحرَمونها حِرمانًا كليًا، وأما في الآخرة فهم في الحِرمان المطلقِ واليأسِ المحقق كما ينطِق به قوله تعالى: {أولئك} فإنه إشارةٌ إلى المذكورين باعتبار إرادتِهم الحياةَ الدنيا أو باعتبار توْفيتِهم أجورَهم من غير بخسٍ أو باعتبارهما معًا. وما فيه من معنى البُعدِ للإيذان ببُعد منزلتِهم في سوء الحالِ أي أولئك المُريدون للحياة الدنيا وزينتِها المُوَفَّوْن فيها ثمراتِ أعمالِهم من غير بخس: {الذين لَيْسَ لَهُمْ في الآخرة إِلاَّ النار} لأن هِممَهم كانت مصروفةً إلى الدنيا وأعمالَهم مقصورةً على تحصيلها وقد اجتنَوْا ثمرتَها ولم يكونوا يريدون بها شيئًا آخرَ، فلا جرمَ لم يكن لهم في الآخرة إلا النارُ وعذابُها المخلّد: {وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا} أي ظهر في الآخرة حُبوطُ ما صنعوه من الأعمال التي كانت تؤدِّي إلى الثواب لو كانت معمولةً للآخرة أو حبط ما صنعوه في الدنيا من أعمال البِرِّ إذ شرْطُ الاعتدادِ بها الإخلاصُ: {وباطل} أي في نفسه: {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} في أثناء تحصيلِ المطالبِ الدنيويةِ، ولأجل أن الأولَ من شأنه استتباعُ الثوابِ والأجرِ وأن عدمَه لعدم مقارنتِه للإيمان والنيةِ الصحيحةِ وأن الثانيَ ليس له جهةٌ صالحة قطُّ عُلّق بالأول الحُبوطُ المؤذِنُ بسقوط أجرِه بصيغة الفِعل المنبئ عن الحدوث وبالثاني البُطلانُ المُفصِحُ عن كونه بحيث لا طائلَ تحته أصلًا بالاسمية الدالةِ على كون ذلك وصفًا لازمًا له ثابتًا فيه، وفي زيادة كان في الثاني دون الأول إيماءٌ إلى أن صدورَ البرِّ منهم وإن كان لغرض فاسدٍ ليس في الاستمرار والدوامِ كصدور الأعمالِ التي هي من مقدّمات مطالبِهم الدنية، وقرئ وبطَل على الفعل أي ظهر بطلانُه حيث علم هناك أن ذلك وما يستتبعه من الحظوط الدنيويةِ مما لا طائلَ تحته أو انقطع أثرُه الدنيويُّ فبطَل مطلقًا، وقرئ وباطلًا ما كانوا يعملون على أن ما إبهاميةٌ أو في معنى المصدر كقوله:
ولا خارجًا مِنْ فِيَّ زورُ كلامِ

وعن أنس رضي الله عنه أن المرادَ بقوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ} إلخ اليهودُ والنصارى إن أعطَوا سائلًا أو وصَلوا رحِمًا عُجّل لهم جزاءُ ذلك بتوسعة في الرزق وصِحةٍ في البدن، وقيل: هم الذين جاهدوا من المنافقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسْهم لهم في الغنائم، وأنت خبيرٌ بأن ذلك إنما كان بعد الهجرةِ، والسورةُ مكيةٌ، وقيل: هم أهلُ الرياءِ. يقال للقرّاء منهم: أردتَ أن يقال فلانٌ قارئ فقد قيل ذلك وهكذا لغيره ممن يعمل أعمالَ البِرِّ لا لوجه الله تعالى فعلى هذا لابد من تقييد قوله: {لَيْسَ لَهُمْ إِلاَّ النار} بأنْ ليس لهم بسبب أعمالِهم الريائيةِ إلا ذلك، والذي تقتضيه جزالةُ النظمِ الكريمِ أن المرادَ به مطلقُ الكفَرة بحيث يندرِجُ فيهم القادحون في القرآن العظيمِ اندراجًا أوليًا فإنه عز وعلا لما أمر نبيَّه عليه الصلاة والسلام والمؤمنين بأن يزدادوا علمًا ويقينًا بأن القرآنَ منزلٌ بعلم الله وبأن لا قُدرةَ لغيره على شيء أصلًا وهيّجهم على الثبات على الإسلام والرسوخِ فيه عند ظهورِ عجزِ الكفرةِ وما يدْعون من دون الله عن المعارضة وتبيّن أنهم ليسوا على شيء أصلًا اقتضى الحالُ أن يتعرّض لبعض شؤونِهم الموهمةِ لكونهم على شيء في الجملة من نيلهم الحظوظَ العاجلةَ واستيلائهم على المطالب الدنيويةِ وبيانِ أن ذلك بمعزل عن الدلالة عليه، ولقد بُيِّن ذلك أيَّ بيانٍ. اهـ.

.قال الألوسي:

{مَن كَانَ يُرِيدُ} أي بأعماله الصالحة بحسب الظاهر: {الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا} أي ما يزينها ويحسنها من الصحة والأمن وكثرة الأموال والأولاد والرياسة وغير ذلك، وإدخال: {كَانَ} للدلالة على الاستمرار أي من يريد ذلك بحيث لا يكاد يريد الآخرة أصلًا: {نُوَفّ إِلَيْهِمْ أعمالهم فِيهَا} أي نوصل إليهم أجور أعمالهم في الدنيا وافية، فالكلام على حذف مضاف، وقيل: الأعمال عبارة عن الأجور مجازًا، وإليه يشير كلام شيخ الإسلام والأول أولى، و: {نُوَفّ} متضمن معنى نوصل ولذا عدي بإلى، وإلا فهو مما يتعدى بنفسه، وقيل: إنه مجاز عن ذلك، وقرأ طلحة بن ميمون يوف بالياء، وإسناد الفعل إلى الله تعالى، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما يوف بالياء مخففًا مضارع أوفى، وقرئ توف بالتاء مبنيًا للمفعول، ورفع: {أعمالهم} والفعل في كل ذلك مجزوم على أنه جواب الشرط كما انجزم في قوله سبحانه: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ في حَرْثِهِ} [الشورى: 20] وحكى الفراء أن: {كَانَ} زائدة ولذا جزم الجواب، وتعقبه أبو حيان بأنه لو كانت زائدة لكان فعل الشرط: {يُرِيدُ} وكان يكون مجزومًا، وأجيب بأنه يحتمل أنه أراد بكونها زائدة أنها غير لازمة في المعنى، وقرأ الحسن نوفي بالتخفيف وإثبات الياء، وذلك إما على لغة من يجزم المنقوص بحذف الحركة المقدرة كما في قوله:
ألم يأتيك والأنباء تنمي

أو على ما سمع في كلام العرب إذا كان الشرط ماضيًا من عدم جزم الجزاء وإما لأن الأداة لما لم تعمل في الشرط القريب ضعفت عن العمل في لفظ الجزاء البعيد فعملت في محله.
ونقل عن عبد القاهر أنها لا تعمل فيه أصلًا لضعفها، والمشهور فيه عن النحاة مذهبان: كون الجزاء في نية التقديم.
وكونه على تقدير الفاء والمبتدأ، ويمكن أن يرد ذلك إلى هذا، وليس هذا مخصوصًا فيما إذا كان الشرط كان على الصحيح لمجيئه في غيره كثيرًا، ومنه:
وإن أتاه خليل يوم مسغبة ** يقول لا غائب مالي ولا حرم

{وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} أي لا ينقصون، والظاهر أن الضمير المجرور للحياة الدنيا وقيل: الأظهر أن يكون للأعمال لئلا يكون تكرارًا بلا فائدة، وردّ بأن فائدته إفادته من أول الأمر أن عدم البخس ليس إلا في الدنيا فلو لم يذكر توهم أنه مطلق على أنه لا يجوز أن يكون للتأكيد ولا ضرر فيه، وإنما عبر عن ذلك بالبخس الذي هو نقص الحق، ولذلك قال الراغب: هو نقص الشيء على سبيل الظلم مع أنه ليس لهم شائبة حق فيما أوتوه كما عبر عن إعطائه بالتوفية التي هي إعطاء الحقوق مع أن أعمالهم بمعزل من كونها مستوجبة لذلك كما قال بعض المحققين بناءًا للأمر على ظاهر الحال ومحافظة على صور الأعمال ومبالغة في نفي النقص كأن ذلك نقص لحقوقهم فلا يدخل تحت الوقوع والصدور عن الكريم أصلًا لكن ينبغي أن يعلم أن هذا ليس على إطلاقه بل الأمر دائر على المشيئة الجارية على قضية الحكمة كما نطق به قوله سبحانه: {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ} [الإسراء: 18].
وأخرج النحاس في ناسخه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هذه الآية نسخت الآية التي نحن فيها، وأنت تعلم أنه لا نسخ في الأخبار، ولعل هذا إن صح محمول على المسامحة.
{أولئك} إشارة إلى المذكورين باعتبار استمرارهم على إرادة الحياة الدنيا، أو باعتبار توفيتهم أجورهم فيها من غير نجس، أو باعتبارهما معًا، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في سوء الحال: {الذين لَيْسَ لَهُمْ في الآخرة إِلاَّ النار} لأن هممهم كانت مصروفة إلى اقتناص الدنيا وأعمالهم كانت ممدودة ومقصورة على تحصيلها؛ وقد ظفروا بما يترتب على ذلك ولم يريدوا به شيئًا آخر فلا جرم لم يكن لهم في الآخرة إلا النار وعذابها المخلد.
{وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا} أي في الآخرة كما هو الظاهر، فالجار متعلق بحبط و: {مَا} تحتمل المصدرية والموصولية أي ظهر في الآخرة حبوط صنعهم، أو الذي صنعوه من الأعمال التي كانت تؤدي إلى الثواب الأخروي لو كانت معمولة للآخرة، ويجوز أن يعود الضمير إلى الدنيا فيكون الجار متعلقًا بصنعوا و: {مَا} على حالها، والمراد بحبوط الأعمال عدم مجازاتهم عليها لفقد الاعتداد بها لعدم الإخلاص الذي هو شرط ذلك، وقيل: لجزائهم عليها في الدنيا: {وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} قال أبو حيان: هو تأكيد لقوله سبحانه: {حَبِطَ} إلخ، والظاهر أنه حمل: {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} على معنى: {مَا صَنَعُواْ} والبطلان على عدم النفع وهو راجع إلى معنى الحبوط.
ولما رأى بعضهم أن التأسيس أولى من التأكيد أبقى ما: {يَعْمَلُونَ} على ذلك المعنى، وحمل بطلان ذلك على فساده في نفسه لعدم شرط الصحة، وقال: كأن كلًا من الجملتين علة لما قبلها على معنى ليس لهم في الآخرة إلا النار لحبوط أعمالهم وعدم ترتب الثواب عليها لبطلانها وكونها ليست على ما ينبغي، والأولى ما صنعه المولى أبو السعود عليه الرحمة حيث حمل البطلان على الفساد في نفسه، و: {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} على أعمالهم في أثناء تحصيل المطالب الدنيوية، ثم قال: ولأجل أن الأول من شأنه استتباع الثواب والأجر وأن عدمه لعدم مقارنته للإيمان والنية الصحيحة، وأن الثاني ليس له جهة صالحة قط علق بالأول الحبوط المؤذن بسقوط أجره بصيغة الفعل المنبئ عن الحدوث، وبالثاني البطلان المفصح عن كونه بحيث لا طائل تحته أصلًا بالاسمية الدالة على كون ذلك وصفًا لازمًا له ثابتًا فيه، وفي زيادة كان في الثاني دون الأول إيماءً إلى أن صدور أعمال البر منهم وإن كان لغرض فاسد ليس في الاستمرار والدوام كصدور الأعمال التي هي مقدمات مطالبهم الدنيئة انتهى.
ويحتمل عندي على بعد أن يراد بما كانوا يعملون هو ما استمروا عليه من إرادة الحياة الدنيا وهو غير ما صنعوه من الأعمال التي نسب إليها الحبوط وإطلاق مثل ذلك على الإرادة مما لا بأس به لأنها من أعمال القلب، ووجه الإتيان بكان فيه موافقته لما أشار هو إليه، وفي الجملة تصريح باستمرار بطلان تلك الإرادة وشرح حالها بعد شرح حال المريد وشرح أعماله أراد بها الحياة الدنيا وزينتها، وأيًا مّا كان فالظاهر أن: {باطل} خبر مقدم و: {إِلَيْكَ مَا كَانُواْ} هو المبتدأ، وجوز في البحر كون: {باطل} خبرًا بعد خبر، و: {فِى مَا} مرتفعة به على الفاعلية، وقرئ وبطل بصيغة الفعل أي ظهر بطلانه حيث علم هناك أن ذاك وما يستتبعه من الحظوظ الدنيوية مما لا طائل تحته أو انقطع أثره الدنيوي فبطل مطلقًا، وقرأ أبي وابن مسعود وباطلًا بالنصب ونسب ذلك إلى عاصم وخرجه صاحب اللوامح على أن: {مَا} سيف خطيب وباطل مفعول ليعلمون وفيه تقديم معمول: {كَانَ} وفيه كتقديم الخبر خلاف، والأصح الجواز لظاهر قوله تعالى: {أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} [سبأ: 40] ومن منع تأول، وجوز أن يكون منصوبًا بيعملون و: {مَا} إبهامية صفة له أي باطلًا أي باطل، ونظير ذلك حديث ما على قصره ولأمر ما جدع قصير أنفه، وأن يكون مصدرًا بوزن فاعل، وهو منصوب بفعل مقدر، و: {مَا} اسم موصول فاعله أي بطل بطلانًا الذي كانوا يعملونه، ونظيره خارجًا في قول الفرزدق:
ألم ترني عاهدت ربي وأنني ** لبين رتاج قائمًا ومقام

عليّ حلفة لا أشتم الدهر مسلما

ولا خارجًا من في زور كلام فإنه أراد ولا يخرج من في زور كلام خروجًا، وفي ذلك على ما في البحر إعمال المصدر الذي هو بدل من الفعل في غير الاستفهام والأمر هذا، والظاهر أن الآية في مطلق الكفرة الذين يعملون البر لا على الوجه الذي ينبغي، وأخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم. وغيرهما عن أنس رضي الله تعالى عنه أنها نزلت في اليهود والنصارى، ولعل المراد كما قال ابن عطية أنهم سبب النزول فيدخلون فيها لا أنها خاصة بهم ولا يدخل فيها غيرهم، وقال الجبائي: هي في الذين جاهدوا من المنافقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الله تعالى حظهم من ذلك سهمهم في الغنائم، وفيه أن ذلك إنما كان بعد الهجرة والآية مكية، وقيل: في أهل الرياء يقال لقارئ القرآن منهم: أردت أن يقال: فلان قارئ، فقد قيل: اذهب فليس لك عندنا شيء، وهكذا لغيره من المتصدق والمقتول في الجهاد وغيرهما ممن عمل من أعمال البر لا لوجه الله تعالى، وربما يؤيد ذلك ما روي عن معاوية حين حدثه أبو هريرة بما تضمن ذلك فبكى، وقال: صدق الله ورسوله صلى الله عليه وسلم: {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا} إلى قوله سبحانه: {وباطل مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [هود: 61] وعليه فلابد من تقييد قوله عز وجل: {لَيْسَ لَهُمْ في الآخرة إِلاَّ النار} بأن ليس لهم بسبب أعمالهم الريائية إلا ذلك وهو خلاف الظاهر، والسياق يقتضي أنها في الكفرة مطلقًا وبرهم كما قلنا، ومن هنا اشتهر أن الكافر يعجل له ثواب أعماله في الدنيا بتوسعة الرزق وصحة البدن وكثرة الولد ونحو ذلك وليس لهم في الآخرة من نصيب لكن ذهب جماعة إلى أنه يخفف بها عنه عذاب الآخرة، ويشهد له قصة أبي طالب، وذهب آخرون إلى أن ما يتوقف على النية من الأعمال لا ينتفع الكافر به في الآخرة أصلًا لفقدان شرطه إذ لم يكن من أهل النية لكفره، وما لا ينتفع به ويخفف به عذابه، وبذلك يجمع بين الظواهر المقتضى بعضها للانتفاع في الجملة وبعضها لعدمه أصلًا فتدبر.
ووجه ارتباط هذه الآية بما قبلها على ما في مجمع البيان أنه سبحانه لما قال: {فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ}؟ فكأن قائلًا قال: إن أظهرنا الإسلام لسلامة النفس والمال يكون ماذا؟ فقيل: {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا} [هود: 15] إلخ، أو يقال: إن فيما قبل ما يتضمن إقناط الكفرة من أن يجيرهم آلهتهم من بأس الله عز سلطانه كما تقدم، وذكره بعض المحققين فلا يبعد أن يكون سماعهم ذلك سببًا لعزمهم على إظهار الإسلام، أو فعل بعض الأعمال الصالحة ظنًا منهم أن ذلك مما يجيرهم وينفعهم فشرح لهم حكم مثل ذلك بقوله سبحانه: {مَن كَانَ يُرِيدُ} [هود: 15] إلخ لكن أنت تعلم أن هذا يحتاج إلى ادعاء أن ذلك العزم من باب الاحتياط، وفي البحر في بيان المناسبة أنه سبحانه لما ذكر شيئًا من أحوال الكفار في القرآن ذكر شيئًا من أحوالهم الدنيوية وما يؤولون إليه في الآخرة، وأبو السعود بين ذلك على وجه يقوي به ما ادعاه من أنسبية كون الخطاب فيما سلف له عليه الصلاة والسلام والمؤمنين، فقال: والذي يقتضيه جزالة النظم الكريم أن المراد مطلق الكفرة بحيث يندرج فيهم القادحون في القرآن العظيم اندراجًا أوليًا فإنه عز وجل لما أمر نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن يزدادوا علمًا ويقينًا بأن القرآن منزل بعلم الله سبحانه وبأن لا قدرة لغيره سبحانه على شيء أصلًا وهيجهم على الثبات على الإسلام والرسوخ فيه عند ظهور عجز الكفرة وما يدعون من دون الله تعالى عن المعارضة وتبين أنهم ليسوا على شيء أصلًا اقتضى الحال أن يتعرض لبعض شؤونهم الموهمة لكونهم على شيء في الجملة من نيلهم الحظوظ العاجلة واستوائهم على المطالب الدنيوية، وبيان أن ذلك بمعزل عن الدلالة عليه، ولقد بين ذلك أي بيان انتهى، ولا يخفى أنه يمكن أن يقرر هذا على وجه لا يحتاج فيه إلى توسط حديث جعل الخطاب السابق له صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فليفهم، واستدل في الأحكام بالآية على أن ما سبيله أن لا يفعل إلا على وجه القربة لا يجوز أخذ الأجرة عليه لأن الأجرة من حظوظ الدنيا فمن أخذ عليه الأجرة خرج من أن يكون قربة بمقتضى الكتاب والسنة، وادعى الكيا أنها مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» وتدل على أن من صام في رمضان لا عن رمضان لا يقع عن رمضان، وعلى أن من توضأ للتبرد أو التنظف لا يصح وضوؤه، وفي ذلك خلاف مبسوط بما له وعليه في محله. اهـ.