فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} استئناف اعتراضي بين الجملتين ناشئ عن جملة: {فهل أنتم مسلمون} [هود: 14] لأنّ تلك الجملة تفرّعت على نهوض الحجة فإن كانوا طالبين الحق والفوز فقد استتبّ لهم ما يقتضي تمكن الإسلام من نفوسهم، وإن كانوا إنّما يطلبون الكبرياء والسيادة في الدنيا ويأنفون من أن يكونوا تبعًا لغيرهم فهم مريدون الدنيا فلذلك حذّرُوا من أن يغتروا بالمتاع العاجل وأعْلِموا بأنّ وراء ذلك العذابَ الدائم وأنّهم على الباطل، فالمقصود من هذا الكلام هو الجملة الثانية، أعني جملة: {أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلاّ النّار} إلخ...
وما قبل ذلك تمهيد وتنبيه على بوارق الغرور ومزالق الذهول.
ولمّا كان ذلك هو حالهم كان في هذا الاعتراض زيادة بيان لأسباب مكابرتهم وبعدهم عن الإيمان، وفيه تنبيه المسلمين بأن لا يغتروا بظاهر حسن حال الكافرين في الدنيا، وأن لا يحسبوا أيضًا أنّ الكفر يوجب تعجيل العذاب فأوقظوا من هذا التوهم، كما قال تعالى: {لا يغرنّك تقلّب الذين كفروا في البلاد متاعٌ قليلٌ ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد} [آل عمران: 196، 197].
وفعل الشرط في المقام الخطابي يفيد اقتصار الفاعل على ذلك الفعل، فالمعنى من كان يريد الحياة الدنيا فقط بقرينة قوله: {أولئك الذين ليس لَهمْ في الآخرة إلاّ النّار} إذ حصر أمرهم في استحقاق النار وهو معنى الخلود.
ونظير هذه الآية: {من كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذمومًا مدحورًا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورًا} [الإسراء: 18، 19].
فالمعنى من كان لا يطلب إلاّ منافع الحياة وزينتها.
وهذا لا يصدر إلاّ عن الكافرين لأنّ المؤمن لا يخلو من إرادة خير الآخرة وما آمن إلاّ لذلك، فموْرد هذه الآيات ونظائرها في حال الكافرين الذين لا يؤمنون بالآخرة.
فأمّا قوله تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتنّ تردْن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتّعْكنّ وأسرّحْكن سراحًا جميلًا وإن كنتُنّ تُردن الله ورسوله والدّار الآخرة فإنّ الله أعدّ للمُحْسنات منكُنّ أجرًا عظيمًا} [الأحزاب: 28، 29] فذلك في معنى آخر من معاني الحياة وزينتها وهو ترف العيش وزينة اللباس، خلافًا لما يَقتضيه إعراض الرسول صلى الله عليه وسلم عن كثير من ذلك الترَف وتلك الزينة.
وضمير: {إليهم} عائد إلى: {مَن} الموصولة لأنّ المراد بها الأقوام الذين اتصفوا بمضمون الصلة.
والتوفية: إعطاء الشيء وافيًا، أي كاملًا غير منقوص، أي نجعل أعمالهم في الدّنيا وافية ومعنى وفائها أنّها غير مشوبة بطلب تكاليف الإيمان والجهاد والقيام بالحق، فإن كل ذلك لا يخلو من نقصان في تمتع أصحاب تلك الأعمال بأعمالهم وهو النقصان الناشئ عن معاكسة هوى النفس، فالمراد أنهم لا يُنقصون من لذاتهم التي هيّأوها لأنفسهم على اختلاف طبقاتهم في التمتع بالدنيا، بخلاف المؤمنين فإنهم تتهيّأ لهم أسباب التمتع بالدنيا على اختلاف درجاتهم في ذلك التهيؤ فيتركون كثيرًا من ذلك لمراعاتهم مرضاة الله تعالى وحذرهم من تبعات ذلك في الآخرة على اختلاف مراتبهم في هذه المراعاة.
وعُدّي فعل: {نُوفّ} بحرف (إلى) لتضمنه معنى نوصل أو نبلغ لإفادة معنيين.
فليس معنى الآية أن من أراد الحياة وزينتها أعطاه الله مراده لأن ألفاظ الآية لا تفيد ذلك لقوله: {نُوَفّ إليهم أعمالهم}، فالتوفية: عدم النقص.
وعلقت بالأعمال وهي المساعي.
وإضافة الأعمال إلى ضمير: {هم} تفيد أنها الأعمال التي عُنوا بها وأعدُّوها لصالحهم أي نتركها لهم كما أرادوا لا نُدخل عليهم نقصًا في ذلك.
وهذه التوفية متفاوتة والقدر المشترك فيها بينهم هو خلوّهم من كُلف الإيمان ومصاعب القيام بالحق والصبر على عصيان الهوى، فكأنه قيل نتركهم وشأنهم في ذلك.
وقوله: {وهم فيها لا يُبخسون} أي في الدنيا لا يجازون على كفرهم بجزاء سَلب بعض النعم عنهم بل يتركون وشأنهم استدراجًا لهم وإمهالًا.
فهذا كالتكملة لمعنى جملة: {نوف إليهم أعمالهم فيها}، إذ البَخس هو الحط من الشيء والنقص منه على ما ينبغي أن يكون عليه ظلمًا.
وفي هذه الآية دليل لما رآه الأشعري أنّ الكفر لا يمنع من نعمة الله.
وضمير: {فيها} يجوز أن يعود إلى: {الحياة} وأن يعود إلى (الأعمال).
وجملة: {أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلاّ النار} مستأنفة، ولكن اسم الإشارة يربط بين الجملتين، وأتي باسم الإشارة لتمييزهم بتلك الصفات المذكورة قبل اسم الإشارة.
وفي اسم الإشارة تنبيه على أن المشار إليه استحق ما يذكر بعد اختياره من الحكم من أجل الصفات التي ذكرت قبل اسم الإشارة كما تقدم في قوله: {أولَئِكَ عَلى هُدى منْ ربّهم} في سورة [البقرة: 5].
و: {إلاّ النار} استثناء مفرّغ من: {ليس لهم} أي ليس لهم شيء ممّا يعطاه الناس في الآخرة إلاّ النار.
وهذا يدل على الخلود في النار فيدل على أن هؤلاء كفار عندنا.
والحَبْط: البطلان أي الانعدام.
والمراد بـ: {ما صنعوا} ما عملوا، ومن الإحسان من الدنيا كإطعام العُفاة ونحوه من مواساة بعضهم بعضًا، ولذلك عبر هنا بـ: {صنعوا} لأنّ الإحسان يسمى صنيعة.
وضمير: {فيها} يجوز أن يعود إلى: {الدنيا} المتحدث عنها فيتعلّق المجرور بفعل: {صنعوا}.
ويجوز أن يعود إلى: {الآخرة} فيتعلق المجرور بفعل (بطل)، أي انعدم أثره.
ومعنى الكلام تنبيه على أن حظهم من النعمة هو ما يحصل لهم في الدنيا وأن رحمة الله بهم لا تعدو ذلك.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر لما ذكر له فارس والروم وما هم فيه من المتعة «أولئك عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا» والباطل: الشيء الذي يذهب ضياعًا وخسرانًا. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15)}
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة: أن من عمل عملًا يريد به الحياة الدنيا أعطاه جزاء عمله في الدنيا، وليس له في الآخرة إلا النار. ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة الشورى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 20] ولكنه تعالى يبين في سوره بني إسرائيل تعليق ذلك على مشيئته جل وعلا بقوله: {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ} [الإسراء: 18] الآية وقد أوضحنا هذه المسألة غاية الإيضاح في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب في الكلام على هذه الآية الكريمة، ولذلك اختصرناها هنا. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ}.
هذه الآية الكريمة فيها التصريح بأن الكافر يُجازَى بحسناته؛ كالصدقة وصلة الرحم وقرى الضيف والتنفيس عن المكروب، في الدنيا دون الآخرة؛ لأنه تعالى قال: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} يعني الحياة الدنيا، ثم نصَّ على بطلانها في الآخرة بقوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} الآية.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا} الآية، وقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} الآية على ما قاله ابن زيد وقوله: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} على أحد القولين، وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} على أحد الأقوال الماضية في سورة الأنفال.
وقد صحَّ عنه ً صلى الله عليه وسلم أن الكافر يُجازى بحسناته في الدنيا، مع أنه جاءت آيات أُخر تدلُّ على بطلان عمل الكافر واضمحلاله من أصله، وفي بعضها التصريح ببطلانه في الدنيا مع الآخرة في كفر الرِّدَّة وفي غيرها.
أما الآيات الدالّة على بطلانه من أصله، فكقوله: {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} وكقوله: {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} الآية.
وقوله: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا}.
وأما الآيات الدالة على بطلانه في الدنيا مع الآخرة فكقوله في كفر المرتد: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} وكقوله في كفر غير المرتد: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ} إلى قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ}.
وبين الله تعالى في آيات أخر، أن الإنعام عليهم في الدنيا ليس للإكرام بل للاستدراج والإهلاك، كقوله تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}، وكقوله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} (178) سورة آل عمران وكقوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} وقوله تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ} وقوله: {قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} وقوله: {وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} إلى قوله: {وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} إلى غير ذلك من الآيات.
والجواب من أربعة أوجه:
الأول- ويظهر لي صوابه لدلالة ظاهر القرآن عليه: أن من الكفار من يثيبه الله بعمله في الدنيا، كما دلَّتْ عليه آيات وصحَّ به الحديث، ومنهم من لا يثيبه الله بعمله في الدنيا، كما دلت عليه آيات وصحَّ به الحديث، ومنهم من لا يثيبه في الدنيا، كما دلت عليه آيات أخر، وهذا مُشاهد فيهم في الدنيا، فمنهم من هو في عيش رغد، ومنهم من هو في بؤس وضيق.
ووجه دلالة القرآن على هذا، أنه تعالى أشار إليه بالتخصيص بالمشيئة في قوله: {من كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ} فهي مخصصة لعموم قوله تعالى: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ} (15) سورة هود وعموم قوله تعالى: {وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا}.
وممن صرح بأنها مخصصة لهما، الحافظ ابن حجر في فتح الباري، في كتاب الرقاق، في الكلام على قول البخاري [باب: المكثرون هم المقلون]، وقوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} الآيتين.
ويدل لهذا التخصيص قوله في بعض الكفار: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) سورة الحج} وجمهور العلماء من حمل العام على الخاص، والمطلق على المقيد، كما تقرر في الأصول.
الثاني: وهو وجيه أيضًا، أن الكافر يُثاب عن عمله بالصحة وسعة الرزق والأولاد ونحو ذلك، كما صرح به تعالى في قوله: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} يعني الدنيا، وأكد ذلك بقوله: {وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} وبظاهرها المتبادر منها كما ذكرنا.
فسرها ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، والضحاك كما نقله عنهم ابن جرير.
وعلى هذا فبطلان أعمالهم في الدنيا بمعنى أنها لم يعتد بها شرعًا في عصمة دم، ولا ميراث ولا نكاح، ولا غير ذلك، ولا تفتح لها أبواب السماء، ولا تصعد إلى الله تعالى، بدليل قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ}، ولا تُدَّخر لهم الأعمال النافعة، ولا تكون في كتاب الأبرار في عليين، وكفى بهذا بطلانًا.
أما مطلق النفع الدنيوي بها، فهو عند الله لا شيء، فلا يُنافي بطلانها؛ بدليل قوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ} وقوله: {وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون} وقوله: {وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} إلى قوله: {للمتقين} والآيات في مثل هذه كثيرة.
ومما يوضح هذا المعنى حديث: «لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرًا شربة ماء».
ذكر ابن كثير هذا الحديث في تفسير قوله تعالى: {وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً} الآيات.
ثم قال: أسنده البغوي من رواية زكريا بن منظور، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره.
ورواه الطبراني من طريق زمعة بن صالح، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، عن النبي- صلى الله عليه وسلم-: «لو عدلت الدنيا عند الله جناح بعوضة، ما أعطى كافرًا منها شيءًا».
قال مقيِّده عفا الله عنه: لا يخفى أن مراد الحافظ ابن كثير- رحمه الله- بما ذكرناه عنه، أن كلتا الطريقتين ضعيفة، إلا أن كل واحدة منهما تعتضد بالأخرى، فيصلح المجموع للاحتجاج، كما تقرر في علم الحديث من أن الطرق الضعيفة المعتبر بها يشد بعضها بعضًا، فتصلح للاحتجاج.
لا تخاصم بواحد أهل بيت فضعيفان يغلبان قويًا لأن زكريا بن منظور بن ثعلبة القُرظي، وزمعة بن صالح الجندي، كلاهما ضعيف، وإنما روى مسلم عن زمعة مقرونًا بغيره لا مستقلًا بالرواية، كما بيّنه الحافظ ابن حجر في التقريب.
الثالث: أن معنى: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ} أي نعطيهم الغرض الذي عملوا من أجله في الدنيا، كالذي قاتل ليُقال: جريء، والذي قرأ ليُقال: قارئ والذي تصدق ليُقال: جواد، فقد قيل لهم ذلك، وهو المراد بتوفيتهم أعمالهم على هذا الوجه.
ويدل له الحديث الذي رواه أبو هريرة مرفوعًا في المجاهد والقارئ والمتصدق؛ إنه يقال لكل واحد منهم: إنما عملت ليُقال، فقد قيل.
أخرجه الترمذي مطوَّلًا، وأصله عند مسلم كما قاله ابن حجر، ورواه أيضًا ابن جرير، وقد استشهد معاوية رضي الله عنه لصحة حديث أبي هريرة هذا، بقوله تعالى: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ} وهو تفسير منهم رضي الله عنهم لهذه الآية بما يدل لهذا الوجه الثالث.
الرابع: أن المراد بالآية المنافقون الذين يخرجون للجهاد، لا يريدون وجه الله، وإنما يريدون الغنائم فإنهم يُقسم لهم فيها في الدنيا ولا حظَّ لهم من جهادهم في الآخرة، والقسم لهم منهم هو توفيتهم أعمالهم على هذا القول، والعلم عند الله تعالى. اهـ.