فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



كل هذه الأمور لم يقدر العقل إلا على الحكم عليها جملة، وإن لم يعرف التفصيل.
لقد عرف العقل أن وراء هذا الكون خالقًا، صانعًا، حكيمًا، لكنه لم يعرف اسمًا له، وهذا أمر لا يعرفه الإنسان بالعقل، ولا يعرف أيضًا ما هو المنهج المطلوب لهذا الخالق، وبماذا يجزي المطيع له، ولا بماذا يعاقب العاصي له.
إذن: لابد من بلاغ عن الله تعالى يدل على القوة التي اقتنعت بها جملة.
والمفكرون بالعقل في الكون يعلمون أن وراء هذا الكون خالقًا، لكن لا يعرفون اسمه، ولا مطلوبه.
إذن: فأنت لا تعرف اسم الله إلا منه، عن طريق الوحي إلى رسوله، ولا تعرف مطلوب الله إلا من الرسول الذي أنزل عليه البلاغ.
ومن رحمة الله بالإنسان أنه سبحانه قد أرسل رسولًا، ومع هذا الرسول معجزة هي القرآن؛ لأن العقل حتى حين يهتدي إلى قوة القادر الأعلى سبحانه، فإنها ستظل بالنسبة له مبهمة، وحين أنزل الحق سبحانه القرآن الكريم فقد أنزله رحمة بعباده وبينة لهم.
{أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} [هود: 17].
فالقرآن حجة ونور، وهو يهدي البصيرة الفطرية والموجودة في الإنسان: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} [هود: 17] هو من أنزل عليه الوحي، ويخبرنا عن الحق سبحانه وتعالى ما يوضح لنا أن الخالق الأعلى والقوة المطلقة هو الله سبحانه ويوضح لنا الشاهد مطلوب الله تعالى.
ونحن هنا أمام ثلاثة شهود:
الشاهد الأول: هو الحجة والبينة.
والشاهد الثاني: هو البرهان والبصيرة التي يهتدي إليها العقل، والرسول هو من يبين لنا المنهج بعد الإجمال.
وهذا الرسول جاء من قبله كتاب موسى: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى إِمَامًا وَرَحْمَةً} [هود: 17].
وهذا هو الشاهد الثالث.
ومن لا يلتفت إلى المدلول بالأدلة الثلاثة مقصِّر؛ فمن عنده تلك البينة، ومن سمع الشاهد من الرسول، والشاهد الذي قبله، وهو كتاب موسى عليه السلام وشاهد بعده إلى نفس قوم موسى لابد أن يقوده ذلك إلى الإيمان.
وقول الحق سبحانه: {أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ} [هود: 17].
إشارة إلى من التفتوا إلى الأدلة: بينة، وشاهدًا، وشاهدًا من قبله.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب فالنار مَوْعِدُهُ} [هود: 17].
والكفر كما علمنا هو الستر، والكفر في ذاته دليل على الإيمان، فلا يفكر أحد بغير موجود.
فوجود المكفور به سابق على الكفر، والكفر طارئ عليه.
إذن: فالكفر طارئ على الإيمان؛ لأن الإيمان هو أصل الفطرة.
{وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب فالنار مَوْعِدُهُ} [هود: 17].
وكلمة أحزاب جمع حزب. والحزب هو الجماعة الملتقية على مبدأ تتحمس لتنفيذه، مثل الأحزاب التي نراها في الحياة السياسية، وهي أحزاب بشرية تتصارع في المناهج والغايات، وهم أحرار في ذلك؛ لأنهم يتصارعون بفكر البشر.
أما في العقيدة الأولى، فَمنَ المُخطِّط الأعلى، وهو الحق سبحانه وتعالى، فالمنهج يأتي منه؛ لأن هذا المنهج يوصل إليه؛ لذلك قال الله سبحانه عمَّن يتبعون منهجه: {أولئك حِزْبُ الله} [المجادلة: 22].
أي: أنهم يدخلون في حزب يختلف عن أحزاب البشر التي تختلف أو تتفق في فكر البشر.
وهنا يقول الحق سبحانه: {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب فالنار مَوْعِدُهُ} [هود: 17].
والمقصود بهم كفار قريش عبدة الأوثان، والصابئة واليهود والنصارى الذين لم يؤمنوا برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل منهم جماعة تمثل حزبًا، ويقول عنهم الحق سبحانه: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53].
ومن يكفر من هؤلاء برسالة رسول الله وبرسول الله فالجزاء هو النار، وبذلك بيَّن لنا الحق سبحانه أن هنالك حزبين: حزب الله، والأحزاب الأخرى، وهما فريقان كلّ منهما مواجه للآخر.
ويقول الحق سبحانه لرسوله، والمراد أيضًا أمة محمد صلى الله عليه وسلم: {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ} [هود: 17].
أي: لا تكن يا رسول الله في شك من ذلك؛ لأن رسالتك وبعثتك تقوم على أدلة البينة والفطرة والهدى والنور المطلوب من الله تعالى، والشاهد معك، كما شهد لك من جاء من قبلك أنك جئت بالمنهج الحق: {إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّكَ} [هود: 17].
والحق كما علمنا من قبل هو الشيء الثابت الذي لا يعتريه تغيير، وهذا الحق لا يمكن أن يأتي إلا من إله لا تتغير أفعاله.
ويُنهي الحق سبحانه الآية بقوله: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} [هود: 17].
وهؤلاء لا يؤمنون عنادًا؛ لأن الأدلة منصوبة بأقوى الحجج، ومَنْ يمتنع عليها هو مجرد معاند.
والحق سبحانه يقول في مثل هؤلاء المعاندين: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتها أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14].
أي: أنهم مع كفرهم يعلمون صدق الأدلة على رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى صدق بعثته، فيكون كفرهم حنيئذ كفر عناد؛ لأن الأدلة منصوبة بأقوى الحجج، فيكون من يمتنع على الإيمان بهذه الأدلة إنسانًا معاندًا. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9)}
اللام في: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان} هي الموطئة للقسم، والإنسان الجنس، فيشمل المؤمن والكافر، ويدل على ذلك الاستثناء بقوله: {إِلاَّ الذين صَبَرُواْ} وقيل: المراد: جنس الكفار، ويؤيده أن اليأس والكفران والفرح والفخر، هي أوصاف أهل الكفر لا أهل الإسلام في الغالب. وقيل المراد بالإنسان: الوليد بن المغيرة. وقيل: عبد الله بن أمية المخزومي.
والمراد بالرحمة هنا: النعمة من توفير الرزق والصحة والسلامة من المحن: {ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ} أن سلبناه إياها: {إِنَّهُ لَيَئُوسٌ} أي: آيس من الرحمة، شديد القنوط من عودها، وأمثالها، والكفور: عظيم الكفران، وهو الجحود بها قاله ابن الأعرابي؛ وفي إيراد صيغتي المبالغة في: {لَيَئُوسٌ كَفُورٌ} ما يدلّ على أن الإنسان كثير اليأس، وكثير الجحد عند أن يسلبه الله بعض نعمه، فلا يرجو عودها، ولا يشكر ما قد سلف له منها.
وفي التعبير بالذوق ما يدل على أنه يكون منه ذلك عند سلب أدنى نعمة ينعم الله بها عليه، لأن الإذاقة والذوق: أقلّ ما يوجد به الطعم، والنعماء: إنعام يظهر أثره على صاحبه، والضرّاء: ظهور أثر الإضرار على من أصيب به.
والمعنى: أنه إن أذاق الله سبحانه العبد نعماءه من الصحة والسلامة، والغنى بعد أن كان في ضرّ من فقر أو مرض أو خوف، لم يقابل ذلك بما يليق به من الشكر لله سبحانه، بل يقول ذهب السيئات: أي المصائب التي ساءته من الضرّ والفقر والخوف والمرض عنه وزال أثرها، غير شاكر لله، ولا مثن عليه بنعمه: {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} أي: كثير الفرح بطرًا وأشرًا، كثير الفخر على الناس، والتطاول عليهم بما يتفضل الله به عليه من النعم، وفي التعبير عن ملابسة الضرّ له بالمس مناسبة للتعبير في جانب النعماء بالإذاقة، فإن كلاهما لأدنى ما يطلق عليه اسم الملاقاة، كما تقدّم: {إِلاَّ الذين صَبَرُواْ} فإن عادتهم الصبر عند نزول المحن، والشكر عند حصول الممن.
قال الأخفش: هو استثناء ليس من الأوّل: أي ولكن الذين صبروا وعملوا الصالحات في حالتي النعمة والمحنة.
وقال الفراء؛ هو استثناء من لئن أذقناه: أي من الإنسان، فإن الإنسان بمعنى الناس، والناس: يشمل الكافر والمؤمن، فهو استثناء متصل، والإشارة بقوله: {أولئك} إلى الموصول باعتبار اتصافه بالصبر وعمل الصالحات: {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} لذنوبهم: {وَأَجْرٌ} يؤجرون به لأعمالهم الحسنة: {كَبِيرٌ} متناه في الكبر.
ثم سلَّى الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ} أي: فلعلك لعظم ما تراه منهم من الكفر والتكذيب، واقتراح الآيات التي يقترحونها عليه على حسب هواهم، وتعنتهم تارك بعض ما يوحى إليك مما أنزله الله عليك وأمرك بتبليغه، مما يشق عليهم سماعه أو يستشقون العمل به، كسبّ آلهتهم وأمرهم بالإيمان بالله وحده.
قيل: وهذا الكلام خارج مخرج الاستفهام: أي هل أنت تارك؟ وقيل: هو في معنى النفي مع الاستبعاد: أي لا يكون منك ذلك، بل تبلغهم جميع ما أنزل الله عليك، أحبوا ذلك أم كرهوه، شاءوا أم أبوا: {وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} معطوف على: {تارك}، والضمير في به راجع إلى ما أو إلى: {بعض}، وعبر بضائق دون ضيق لأن اسم الفاعل فيه معنى الحدوث والعروض والصفة المشبهة فيها معنى اللزوم: {أَن يَقُولُواْ} أي: كراهة أن يقولوا، أو مخافة أن يقولوا أو لئلا يقولوا: {لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ} أي: هلا أنزل عليه كنز: أي مال مكنوز مخزون ينتفع به: {أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ} يصدّقه ويبين لنا صحة رسالته.
ثم بيّن سبحانه أن حاله صلى الله عليه وسلم مقصور على النذارة، فقال: {إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ} ليس عليك إلا الإنذار بما أوحي إليك، وليس عليك حصول مطلوبهم وإيجاد مقترحاتهم: {والله على كُلّ شَئ وَكِيلٌ} يحفظ ما يقولون، وهو فاعل بهم ما يجب أن يفعل.
قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} أم هي المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة، وأضرب عما تقدّم من تهاونهم بالوحي، وعدم قنوعهم بما جاء به من المعجزات الظاهرة، وشرع في ذكر ارتكابهم لما هو أشدّ من ذلك، وهو افتراؤهم عليه بأنه افتراه، والاستفهام للتوبيخ والتقريع، والضمير المستتر في: {افتراه} للنبي صلى الله عليه وسلم، والبارز إلى ما يوحى.
ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عليهم بما يقطعهم ويبين كذبهم ويظهر به عجزهم، فقال: {قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ} أي: مماثلة له في البلاغة، وحسن النظم، وجزالة اللفظ، وفخامة المعاني.
ووصف السور بما يوصف به المفرد، فقال: مثله، ولم يقل أمثاله، لأن المراد مماثلة كل واحد من السور، أو لقصد الإيماء إلى وجه الشبه، ومداره المماثلة في شيء واحد، وهو البلاغة البالغة إلى حدّ الإعجاز، وهذا إنما هو على القول بأن المطابقة في الجمع والتثنية، والإفراد شرط، ثم وصف السور بصفة أخرى، فقال: {مُفْتَرَيَاتٍ وادعوا} للاستظهار على المعارضة بالعشر السور: {مَنِ استطعتم} دعاءه، وقدرتم على الاستعانة به، من هذا النوع الإنساني، وممن تعبدونه وتجعلونه شريكًا لله سبحانه.
وقوله: {مِن دُونِ الله} متعلق ب: {ادعوا}: أي ادعوا من استطعتم متجاوزين الله تعالى: {إِن كُنتُمْ صادقين} فيما تزعمون من افترائي له.
{فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} أي: فإن لم يفعلوا ما طلبته منهم، وتحدّيتهم به من الإتيان بعشر سور مثله، ولا استجابوا إلى المعارضة المطلوبة منهم، ويكون الضمير في لكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، أو للنبي صلى الله عليه وسلم وحده، وجمع تعظيمًا وتفخيمًا: {فاعلموا} أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين أو للرسول صلى الله عليه وسلم وحده على التأويل الذي سلف قريبًا.
ومعنى أمرهم بالعلم، أمرهم بالثبات عليه؛ لأنهم عالمون بذلك من قبل عجز الكفار عن الإتيان بعشر سور مثله، أو المراد بالأمر بالعلم: الأمر بالازدياد منه، إلى حدّ لا يشوبه شك، ولا تخالطه شبهة، وهو علم اليقين.
والأوّل: أولى.
ومعنى: {أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ الله} أنه أنزل متلبسًا بعلم الله المختص به، الذي لا تطلع على كنهه العقول، ولا تستوضح معناه الأفهام، لما اشتمل عليه من الإعجاز الخارج عن طوق البشر: {وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ} أي: واعلموا أن الله هو المتفرد بالألوهية لا شريك له، ولا يقدره غيره على ما يقدر عليه.
ثم ختم الآية بقوله: {فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} أي: ثابتون على الإسلام، مخلصون له، مزدادون من الطاعات، لأنه قد حصل لكم بعجز الكفار عن الإتيان بمثل عشر سور من هذا الكتاب طمأنينة فوق ما كنتم عليه، وبصيرة زائدة، وإن كنتم مسلمين من قبل هذا فإن الثبوت عليه وزيادة البصيرة فيه والطمأنينة به مطلوب منكم.
وقيل: إن الضمير في: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ} للموصول في: {من استطعتم}، وضمير: {لكم}، للكفار، الذين تحدّاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك ضمير: {فاعلموا} والمعنى: فإن لم يستجب لكم من دعوتموهم للمعاضدة والمناصرة على الإتيان بعشر سور من سائر الكفار ومن يعبدونهم، ويزعمون أنهم يضرّون وينفعون، فاعلموا أن هذا القرآن الذي أنزله الله على هذا الرسول، خارج عن قدرة غيره سبحانه وتعالى، لما اشتمل عليه من الإعجاز الذي تتقاصر دونه قوّة المخلوقين، وأنه أنزل بعلم الله الذي لا تحيط به العقول، ولا تبلغه الأفهام، واعلموا أنه المنفرد بالألوهية لا شريك له، فهل أنتم بعد هذا مسلمون؟ أي: داخلون في الإسلام، متبعون لأحكامه، مقتدون بشرائعه.
وهذا الوجه أقوى من الوجه الأوّل من جهة، وأضعف منه من جهة، فأما جهة قوّته.
فلا تساق الضمائر وتناسبها، وعدم احتياج بعضها إلى تأويل، وأما ضعفه، فَلِما في ترتيب الأمر بالعلم على عدم الاستجابة ممن دعوهم واستعانوا بهم من الخفاء واحتياجه إلى تكلف، وهو أن يقال: إن عدم استجابة من دعوهم واستعانوا بهم من الكفار والآلهة مع حرصهم على نصرهم، ومعاضدتهم، ومبالغتهم في عدم إيمانهم واستمرارهم على الكفر، يقيد حصول العلم لهؤلاء الكفار، بأن هذا القرآن من عند الله، وأن الله سبحانه هو الإله وحده لا شريك له، وذلك يوجب دخولهم في الإسلام، واعلم أنه قد اختلف التحدّي للكفار بمعارضة القرآن، فتارة وقع بمجموع القرآن، كقوله: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرءان لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء: 88] وبعشر سور كما في هذه الآية، وذلك لأن العشرة أوّل عقد من العقود، وبسورة منه كما تقدّم، وذلك لأن السورة أقلّ طائفة منه.
ثم إن الله سبحانه توعد من كان مقصور الهمة على الدنيا لا يطلب غيرها ولا يريد سواها، فقال: {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} قال الفراء: إن: {كان} هذه زائدة، ولهذا جزم الجواب.
وقال الزجاج: {من كان} في موضع جزم بالشرط، وجوابه: {نوفّ إليهم}: أي من يكن يريد.
واختلف أهل التفسير في هذه الآية، فقال الضحاك: نزلت في الكفار، واختاره النحاس بدليل الآية التي بعدها: {أُوْلَئِكَ الذين لَيْسَ لَهُمْ في الآخرة إِلاَّ النار}.
وقيل: الآية واردة في الناس على العموم، كافرهم ومسلمهم.
والمعنى: أن من كان يريد بعمله حظّ الدنيا يكافأ بذلك، والمراد بزينتها: ما يزينها ويحسنها من الصحة والأمن، والسعة في الرزق، وارتفاع الحظّ، ونفاذ القول، ونحو ذلك.
وإدخال: {كان} في الآية يفيد أنهم مستمرّون على إرادة الدنيا بأعمالهم، لا يكادون يريدون الآخرة، ولهذا قيل: إنهم مع إعطائهم حظوظ الدنيا يعذّبون في الآخرة، لأنهم جرّدوا قصدهم إلى الدنيا، ولم يعملوا للآخرة.
وظاهر قوله: {نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} أن من أراد بعمله الدنيا حصل له الجزاء الدنيوي ولا محالة، ولكن الواقع في الخارج يخالف ذلك، فليس كل متمنّ ينال من الدنيا أمنيته، وإن عمل لها وأرادها، فلابد من تقييد ذلك بمشيئة الله سبحانه.
قال القرطبي: ذهب أكثر العلماء إلى أن هذه الآية مطلقة، وكذلك الآية التي في الشورى: {وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا} [الشورى: 20].