فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وما كانوا يبصرون أي: ينظرون إليه لبغضهم فيه.
ألا ترى إلى حشو الطفيل بن عمرو أذنيه من الكرسف، وإباية قريش أن يسمعوا ما نقل إليهم من كلام الرسول حتى تردّهم عن ذلك مشيختهم؟ أو إخبار عن حالهم إذا ضعف لهم العذاب أي: أنه تعالى حتم عليهم بذلك، فهم لا يسمعون لذلك سماعًا ينتفعون به، ولا يبصرون لذلك.
وقيل: الضمير في كانوا عائد على أولياؤهم آلهتهم أي: فما كان لهم في الحقيقة من أولياء وإن كانوا يعتقدون أنهم أولياء.
ويعني أنه من لا يستطيع أن يسمع ولا يبصر فكيف يصلح للولاية؟ ويكون يضاعف لهم العذاب اعتراضًا، وما على هذه الأقوال نفي.
وقيل: ما مصدرية أي: يضاعف لهم العذاب مدة استطاعتهم السمع وأبصارهم، والمعنى: أن العذاب وتضعيفه دائم لهم متماد.
وأجاز الفراء أن تكون ما مصدرية، وحذف حرف الجر منها كما يحذف مع أنْ وأن أختيها، وهذا فيه بعد في اللفظ وفي المعنى.
وقال الزمخشري: أراد أنهم لفرط تصامّهم عن اتباع الحق وكراهتهم له كأنهم لا يستطيعون السمع، ولعل بعض المجبرة يتوثب إذا عثر عليه فيوعوع به على أهل العدل، كأنه لم يسمع الناس يقولون في كل لسان هذا الكلام لا أستطيع أسمعه، وهذا مما يمجه سمعي انتهى.
يعني: أنه يمكن أن يستدل به على أنّ العبد لا قدرة له، لأن الله تعالى قد نفى عنه استطاعة السمع، وإذا انتفت الاستطاعة منه انتفت قدرته.
والزمخشري على عادته في السفه على أهل السنة وخسرانهم أنفسهم، كونهم اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله تعالى، فخسروا في تجارتهم خسرانًا لا خسران أعظم منه.
وهو على حذف مضاف أي: راحة أو سعادة أنفسهم، وإلا فأنفسهم باقية معذبة.
وبطل عنهم ما افتروه من عبادة الآلهة، وكونهم يعتقدون شفاعتها إذا رأوا أنها لا تشفع ولا تنفع.
لا جرم مذهب الخليل وسيبويه أنهما ركبا من لا وجرم، وبنيا، والمعنى: حق، وما بعده رفع به على الفاعلية.
وقال الحوفي: جرم منفي بلا بمعنى حق، وهو مبني مع لا في موضع رفع بالابتداء، وأنهم في موضع رفع على خبر جرم.
وقال قوم: إنّ جرم مبنية مع لا على الفتح نحو قولك: لا رجل، ومعناها لابد ولا محالة.
وقال الكسائي: معناها لا ضد ولا منع، فتكون اسم لا وهي مبنية على الفتح كالقول الذي قبله، وتكون جرم هنا من معنى القطع، نقول: جرمت أي قطعت.
وقال الزجاج: لا تركيب بينهما ولا ردّ عليهم.
ولما تقدّم من كل ما قبلها مما قالوا: إن الأصنام تنفعهم.
وجرم فعل ماض معناه كسب، والفاعل مضمر أي كسب هو، أي: فعلهم، وإنّ وما بعدها في موضع نصب على المفعول به، وجرم القوم كاسبهم.
وقال الشاعر:
نصبنا رأسه في جذع نخل ** بما جرمت يداه وما اعتدينا

وقال آخر:
جريمة ناهض في رأس نيق ** ترى لعظام ما جمعت صليبا

ويقال: لا جرم بالكسر، ولا جر بحذف الميم.
قال النحاس: وزعم الكسائي أنّ فيها أربع لغات: لا جرم، ولا عن ذا جرم، ولا أن ذا جرم، قال: وناس من فزارة يقولون: لا جرم.
وحكى الفراء فيه لغتين أخريين، قال: بنو عامر يقولون: لا ذا جرم، وناس من العرب يقولون: لا جرم بضم الجيم.
وقال الجبائي في نوادره: حكى عن فزارة لا جرّ والله لا أفعل ذاك، قال: ويقال لا ذا جرم، ولا ذو جرم، ولا عن ذا جرم، ولا أن ذا جرم، ولا أن جرم، ولا عن جرم، ولا ذا جر، والله بغير ميم لا أفعل ذاك.
وحكى بعضهم بغير لا جرم: أنك أنك فعلت ذاك، وعن أبي عمرو: لأجرم أنّ لهم النار على وزن لا كرم، ولا جر حذفوه لكثرة الاستعمال كما قالوا: سو ترى يريدون سوف ترى.
ولما كان خسران النفس أعظم الخسران، حكم عليهم بأنهم هم الزائدون في الخسران على كل خاسر من سواهم من العصاة مآله إلى الراحة، وإلى انقطاع خسرانه بخلاف هؤلاء، فإنّ خسرانهم لا انقطاع له. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا} بأن نسَب إليه ما لا يليق به كقولهم للملائكة بناتُ الله تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا وقولِهم لآلهتهم: {هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله} يعني أنهم مع كفرهم بآيات الله تعالى مفترون عليه كذبًا، وهذا التركيُب وإن كان سبكُه على إنكار أن يكون أحدٌ أظلمَ منهم من غير تعرضٍ لإنكار المساواةِ ونفيِها ولكنّ المقصودَ به قصدًا مطردًا إنكارُ المساواةِ ونفيُها وإفادةُ أنهم أظلم من كل ظالمٍ كما ينبئ عنه ما سيتلى من قوله عز وجل: {لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ في الآخرة هُمُ الأخسرون} فإذا قيل: مَنْ أكرمُ من فلان أو لا أفضلَ منه فالمرادُ منه حتمًا أنه أكرمُ من كل كريمٍ وأفضلُ من كل فاضل: {أولئك} الموصوفون بالظلم البالغِ الذي هو الافتراءُ على الله تعالى، وبهذه الإشارة حصَلت الغُنيةُ عن إسناد العَرضِ إلى أعمالهم واكتُفي بإسناده إليهم حيث قيل: {يُعْرَضُونَ} لأن عرضَهم من تلك الحيثيةِ وبذلك العنوانِ عرضٌ لأعمالهم على وجهٍ أبلغَ فإن عرضَ العاملِ بعمله أفظعُ من عرض عملِه مع غَيْبته: {على رَبّهِمْ} الحقِّ، وفيه إيماءٌ إلى بطلان رأيِهم في اتخاذهم أربابًا من دون الله عز وجل: {وَيَقُولُ الاشهاد} عند العَرْض من الملائكة والنبيين أو من جوارحهم وهو جمعُ شاهد أو شهيد كأصحاب وأشراف: {هَؤُلاء الذين كَذَبُواْ على رَبّهِمْ} بالافتراء عليه كأن ذلك أمرٌ واضحٌ غنيٌّ عن الشهادة بوقوعه، وإنما المحتاجُ إلى الشهادة تعيينُ مَنْ صدر عنه ذلك فلذلك لا يقولون: هؤلاء كذبوا على ربهم ويجوز أن يكون المرادُ بالأشهاد الحضّارَ وهم جميعُ أهلِ الموقفِ على ما قاله قتادة ومقاتل ويكون قولُهم: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ذمًا لهم بذلك لا شهادةً عليهم كما يُشعر به قوله تعالى: {وَيَقُولُ} دون: {وَيُشْهِدُ} إلخ، وتوطئةً لما يعقُبه من قوله تعالى: {أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} بالافتراء المذكورِ ويجوز أن يكون هذا على الوجه الأولِ من كلام الله تعالى وفيه تهويلٌ عظيمٌ لما يحيق بهم من عاقبة ظلمِهم اللهم إنا نعوذُ بك من الخِزْي على رؤوس الأشهادِ: {الذين يَصُدُّونَ} أي كلَّ من يقدِرون على صدّه أو يفعلون الصد: {عَن سَبِيلِ الله} عن دينه القويمِ: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} انحرافًا أي يصفونها بذلك وهي أبعدُ شيءٍ منه أو يبغون أهلَها أن ينحرفوا عنها يقال: بغَيتك خيرًا أو شرًا أي طلبتُ لك، وهذا شاملٌ لتكذيبهم بالقرآن وقولِهم إنه ليس من عند الله: {وَهُمْ بالآخرة هُمْ كافرون} أي يصِفونها بالعِوَج والحالُ أنهم كافرون بها لا أنهم يؤمنون بها ويزعُمون أن لها سبيلًا سويًا يهدون الناسَ إليه، وتكريرُ الضمير لتأكيد كفرِهم واختصاصِهم به كأن كفرَ غيرِهم ليس بشيء عند كفرهم: {أولئك} مع ما وُصف من أحوالهم الموجيةِ للتدمير: {لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ} الله تعالى مُفْلِتين بأنفسهم من أخذه لو أراد ذلك: {فِى الأرض} مع سَعتها وإن هربوا منها كل مَهْرب.
{وَمَا كَانَ لَهُمْ مّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء} ينصُرونهم من بأسه ولكن أُخِّر ذلك لحكمة تقتضيه، والجمعُ إما باعتبار أفراد الكفَرة كأنه قيل: وما كان لأحد منهم من وليَ أو باعتبار تعدّدِ ما كانوا يدعون من دونه الله تعالى فيكون ذلك بيانًا لحال آلهتِهم من سقوطها عن رتبة الولاية: {يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب} استئنافٌ يتضمن حكمةَ تأخيرِ المؤاخذة وقرأ ابنُ كثير، وابنُ عامرٍ، ويعقوبُ بالتشديد: {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع} لفَرْط تصامِّهم عن الحق وبُغضِهم له كأنهم لا يقدرون على السمع، ولما كان قبحُ حالِهم في عدم إذعانِهم للقرآن الذي طريقُ تلقّيه السمعُ أشدَّ منه في عدم قَبولِهم لسائر الآياتِ المنوطةِ بالإبصار، بالغَ في نفي الأولِ عنهم حيث نفى عنهم الاستطاعةَ واكتفى في الثاني بنفي الإبصارِ فقال تعالى: {وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} لتعاميهم عن آيات الله المبسوطةِ في الأنفس والآفاقِ وهو استئنافٌ وقع تعليلًا لمضاعفة العذابِ وقيل: هو بيانٌ لما نُفي من ولاية الآلهةِ فإن ما لا يسمع ولا يُبصر بمعزل من الولاية، وقوله تعالى: {يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب} اعتراضٌ وسِّط بينهما نعيًا عليهم من أول الأمرِ سوءَ العاقبة.
{أولئك} المنعوتون بما ذكر من القبائح: {الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم} باشتراء عبادةِ الآلهةِ بعبادة الله عز سلطانُه: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} من الآلهة وشفاعتِها أو خسِروا ما بذلوا وضاع عنهم ما حصَلوا فلم يبقَ معهم سوى الحسرةِ والندامة: {لاَ جَرَمَ} فيه ثلاثةُ أوجةٍ:
(الأولُ) أن لا نافيةٌ لما سبق وجَرَم فعلٌ بمعنى حقَّ وأن مع ما في حيزه فاعلُه والمعنى لا ينفعهم ذلك الفعلُ حقَّ: {أَنَّهُمْ في الآخرة هُمُ الأخسرون} وهذا مذهبُ سيبويه.
(والثاني) جرَمَ بمعنى كسب وما بعده مفعولُه، وفاعلُه ما دل عليه الكلامُ أي كسب ذلك خُسرانَهم فالمعنى ما حصل من ذلك إلا ظهورُ خُسرانِهم.
(والثالثُ) أن لا جرم بمعنى لابد أنهم في الآخرة هم الأخسرون، وأيًا ما كان فمعناه أنهم أخسرُ من كل خاسر فتبين أنهم أظلمُ من كل ظالم، وهذه الآياتُ الكريمة كما ترى مقرِّرةٌ لما سبق من إنكار المماثلةِ بين مَنْ كان على بينة من ربه وبين مَنْ كان يريد الحياةَ الدنيا أبلغَ تقريرٍ فإنهم حيث كانوا أظلمَ من كل ظالمٍ وأخسَر من كل خاسرٍ لم يُتصوَّرْ مماثلةٌ بينهم وبين أحدٍ من الظَّلَمةِ الأخسرين فما ظنُّك بالمماثلة بينهم وبين مَنْ هو في أعلى مدارجِ الكمالِ. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا} بأن نسب إليه ما لا يليق به كقولهم: الملائكة بنات الله تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، وقولهم لآلهتهم: {هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله} [يونس: 18] والمراد من الآية ذم أولئك الكفرة بأنهم مع كفرهم بآيات الله تعالى مفترون عليه سبحانه، ويجوز أن تكون لنوع آخر من الدلالة على أن القرآن ليس بمفترى، فإن من يعلم حال من يفتري على الله سبحانه كيف يرتكبه، وأن تكون من الكلام المنصف أي لا أحد أظلم مني أن أقول لما ليس بكلام الله تعالى إنه كلامه كما زعمتم، أو منكم إن كنتم نفيتم أن يكون كلامه سبحانه مع تحقق أنه كلامه جل وعلا، وفيه من الوعيد والتهويل ما لا يخفى، ويجوز عندي إذا كان ما قبل في مؤمني أهل الكتاب أن يكون هذا في بيان حال كفرتهم الذين أسندوا إليه سبحانه ما لم ينزله من المحرف الذي صنعوه ونفوا عنه سبحانه ما أنزله من القرآن أو من نعت النبي صلى الله عليه وسلم، وأيًا مّا كان فالمراد نفي أن يكون أظلم من ذلك أو مساويًا في الظلم على ما تقدم: {أولئك} أي الموصوفون بالظلم البالغ وهو الافتراء: {يُعْرَضُونَ} من حيث أنهم موصوفون بذلك: {على رَبّهِمْ} أي مالكهم الحق والمتصرف فيهم حسبما يريد، وفيه على ما قيل: إيماءً إلى بطلان رأيهم في اتخاذهم أربابًا من دونه سبحانه وتعالى، وجعل بعضهم الكلام على تقدير المضاف أي تعرض أعمالهم، أو على ارتكاب المجاز ولا يحتاج إلى ذلك على ما أشير إليه لأن عرضهم من تلك الحيثية وبذلك العنوان عرض لأعمالهم على وجه أبلغ فإن عرض العامل بعمله أفظع من عرض عمله مع غيبته، والظاهر أنه لا حذف في قوله سبحانه: {على رَبّهِمْ} ويفوض من يقف على الله.
وقيل: هناك مضاف محذوف أي على ملائكة ربهم وأنبياء ربهم وهم المراد بالإشهاد في قوله تعالى: {وَيَقُولُ الاشهاد} وتفسيرهم بالملائكة مطلقًا هو المروى عن مجاهد، وعن ابن جريج تفسيرهم بالحفظة من الملائكة عليهم السلام، وقيل: المراد بهم الملائكة والأنبياء والمؤمنون، وقيل: جوارحهم، وعن مقاتل وقتادة هم جميع أهل الموقف، وهو جمع شاهد بمعنى حاضر كصاحب وأصحاب بناءًا على جواز جمع فاعل على أفعال، أو جمع شهيد بمعناه كشريف وأشراف أي ويقول الحاضرون عند العرض أو في موقف القيامة: {هَؤُلاء الذين كَذَبُواْ على رَبّهِمْ} ويحتمل أن يكون شهادة على تعيين من صدر منه الكذب كأن وقوعه أمر واضح غني عن الشهادة، وإنما المحتاج إليها ذلك ولذا لم يقولوا: هؤلاء كذبوا بدون الموصول، ويحتمل أن يكون ذمًا لهم بتلك الفعلة الشنيعة لا شهادة عليهم كما يشعر به قوله تعالى: {وَيَقُولُ} دون ويشهد، وتوطئة لما يعقبه من قوله تعالى: {أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} أي بالافتراء المذكور، والظاهر أن هذا من كلام الأشهاد على الاحتمالين، ويؤيده ما أخرجه الشيخان وخلق كثير عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله تعالى يدني المؤمن حتى يضع كنفه عليه ويستره من الناس ويقرره بذنوبه ويقول له: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: رب أعرف حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ثم يعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون فيقول: الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين» وجوز على الاحتمال الأول أن يكون من كلام الله تعالى، وحينئذٍ يجوز أن يراد بالظالمين ما يعم الظالمين بالافتراء والظالمين بغير ذلك، ويدخل فيه الأولون دخولًا أوليًا، ويؤيده ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران قال: إن الرجل ليصلي ويلعن نفسه في قراءته فيقول: ألا لعنة الله على الظالمين وهو ظالم.
وربما يجوز ذلك على الاحتمال الثاني أيضًا، وأيًا مّا كان فهؤلاء الذين مبتدأ وخبر، واحتمال أن يكون: {هَؤُلاء} مبتدأ، و: {الذين} تابع له، وجملة: {أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} خبره، وقد أقيم الظاهر مقام المضمر أي عليهم لذمهم بمبدأ الاشتقاق مع الإشارة إلى علة الحكم كما ترى، وجملة يقول الإشهاد قيل: مستأنفة على أنها جواب سؤال مقدر كأن سائلًا سأل إذ سمع أنهم يعرضون على ربهم ماذا يكون إذ ذاك؟ فأجيب بما ذكر، وقيل وهو الظاهر إنها معطوفة على جملة: {يُعْرَضُونَ} على معنى أولئك يعرضون ويقول الأشهاد في حقهم، أو ويقول أشهادهم والحاضرون عند عرضهم: {هَؤُلاء} إلخ، وكأن هذا لبيان أنها مرتبطة في التقدير بالمبتدأ كارتباط الجملة المعطوفة هي عليها به، وقيل: كفى اسم الإشارة القائم مقام الضمير للتحقير رابطًا فتدبر.
{الذين يَصُدُّونَ} أي كل من يقدرون على صده أو يفعلون الصد: {عَن سَبِيلِ الله} أي دينه القويم وإطلاق ذلك عليه كالصراط المستقيم مجاز: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} أي يطلبون لها انحرافًا، والمراد أنهم يصفونها بذلك وهي أبعد شيء عنه، وإطلاق الطلب على الوصف مجاز من إطلاق السبب على المسبب، ويجوز أن يكون الكلام على حذف مضاف أي يبغون أهلها أن ينحرفوا عنها ويرتدوا، وقيل: المعنى يطلبونها على عوج ونصب: {عِوَجَا} على أنه مفعول به، وقيل: على أنه حال ويؤول بمعوجين: {وَهُمْ بالآخرة هُمْ كافرون} أي والحال أنهم لا يؤمنون بالآخرة، وتكرير الضمير لتأكيد كفرهم واختصاصهم به لأنه بمنزلة الفصل فيفيد الاختصاص وضربًا من التأكيد، والاختصاص ادعائي مبالغة في كفرهم بالآخرة كأن كفر غيرهم بها ليس بكفر في جنبه، وقيل: إن التكرير للتأكيد وتقديم: {بالآخرة} للتخصيص، والأولى كون تقديمه لرؤوس الآي.
{أولئك} الموصوفون بما يوجب التدمير: {لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ} لله تعالى مفلتين أنفسهم من أخذه لو أراد ذلك: {فِى الأرض} مع سعتها وإن هربوا منها كل مهرب وجعلها بعضهم كناية عن الدنيا: {وَمَا كَانَ لَهُمْ مّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء} ينصرونهم من بأسه ولكن أخر ذلك لحكمة تقتضيه، و: {مِنْ} زائدة لاستغراق النفي، وجمع: {أَوْلِيَاء} إما باعتبار أفراد الكفرة كأنه قيل: وما كان لأحد منهم من ولي، أو باعتبار تعدد ما كانوا يدعون من دون الله تعالى فيكون ذلك بيانًا لحال آلهتهم من سقوطها عن رتبة الولاية: {يضاعف لَهُمْ العذاب} جملة مستأنفة بين فيها ما يكون لهم ويحل بهم، وادعى أنها تتضمن حكمة تأخير المؤاخذة، وزعم بعضهم أنها من كلام الأشهاد، وهي دعائية ليس بشيء.
وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب يضعف بالتشديد: {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع} أي أنهم كانوا يستثقلون سماع الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ويستكرهونه إلى أقصى الغايات حتى كأنهم لا يستطيعونه، وهو نظير قول القائل: العاشق لا يستطيع أن يسمع كلام العاذل، ففي الكلام استعارة تصريحية تبعية، ولا مانع من اعتبار الاستعارة التمثيلية بدلها وإن قيل به، وبالجملة لا ترد الآية على المعتزلة وكذا على أهل السنة لأنهم لا ينفون الاستطاعة رأسًا وإن منعوا إيجاد العبد لشيء مّا، وكأنه لما كان قبح حالهم في عدم إذعانهم للقرآن الذي طريق تلقيه السمع أشد منه في عدم قبولهم سائر الآيات المنوطة بالإبصار.