فصل: قال نظام الدين النيسابورى في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان} هو للجنس: {مِنَّا رَحْمَةً} نعمة من صحة وأمن وجدة.
واللام في: {لئن} لتوطئة القسم: {ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ} ثم سلبناه تلك النعمة وجواب القسم: {إِنَّهُ لَيَئُوسٌ} شديد اليأس من أن يعود إلى مثل تلك النعمة المسلوبة قاطع رجاءه من سعة فضل الله من غير صبر ولا تسليم لقضائه: {كَفُورٌ} عظيم الكفران لما سلف له من التقلب في نعمة الله نسّاء له: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ} وسعنا عليه النعمة بعد الفقر الذي ناله: {لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السيئات عَنّي} أي المصائب التي ساءتني: {إِنَّهُ لَفَرِحٌ} أشر بطر: {فَخُورٌ} على الناس بما أذاقه الله من نعمائه قد شغله الفرح والفخر عن الشكر: {إِلاَّ الذين صَبَرُواْ} في المحنة والبلاء: {وَعَمِلُواْ الصالحات} وشكروا في النعمة والرخاء: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ} لذنوبهم: {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} يعني الجنة كانوا يقترحون عليه آيات تعنتا لا استرشادًا لأنهم لو كانوا مسترشدين لكانت آية واحدة مما جاء به كافية في رشادهم.
ومن اقتراحاتهم: {لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك} [الفرقان: 7] وكانوا لا يعتدون بالقرآن ويتهاونون به فكان يضيق صدر رسول صلى الله عليه وسلم أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون منه فهيجه لأداء الرسالة وطرح المبالاة بردهم واستهزائهم واقتراحهم بقوله: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ} أي لعلك تترك أن تلقيه إليهم وتبلغه إياهم مخافة ردهم له وتهاونهم به: {وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} بأن تتلوه عليهم ولم يقل ضيق ليدل على أنه ضيق عارض غير ثابت لأنه عليه السلام كان أفسح الناس صدرًا ولأنه أشكل ب: {تارك}، {أَن يَقُولُواْ} مخافة أن يقولوا: {لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ} هلا أنزل عليه ما اقترحنا من الكنز لننفقه والملائكة لنصدقه ولم أنزل عليه ما لا نريده ولا نقترحه: {إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ} أي ليس عليك إلا أن تنذرهم بما أوحي إليك وتبلغهم ما أمرت بتبليغه، ولا عليك أن ردوا أو تهاونوا: {والله على كُلّ شَئ وَكِيلٌ} يحفظ ما يقولون وهو فاعل بهم ما يجب أن يفعل، فتوكل عليه وكل أمرك إليه وعليك بتبليغ الوحي بقلب فسيح وصدر منشرح غير ملتفت إلى استكبارهم ولا مبال بسفههم واستهزائهم.
{أَمْ يَقُولُونَ} {أم} منقطعة: {افتراه} الضمير لما يوحى إليك: {قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ} تحداهم أولا بعشر سور ثم بسورة واحدة كما يقول المخابر في الخط لصاحبه: اكتب عشر أسطر نحو ما أكتب فإذا تبين له العجز عن ذلك قال: اقتصرت منك على سطر واحد: {مّثْلِهِ} في الحسن والجزالة.
ومعنى: {مثله} أمثاله ذهابًا إلى مماثلة كل واحدة منها له: {مُفْتَرَيَاتٍ} صفة ل: {عشر سور}.
لما قالوا افتريت القرآن واختلقته من عندك وليس من عند الله، أرضى معهم العنان وقال: هبوا أني اختلقته من عند نفسي فأتوا أنتم أيضًا بكلام مثله مختلق من عند أنفسكم فأنتم عرب فصحاء مثلي: {وادعوا مَنِ استطعتم مّن دُونِ الله} إلى المعاونة على المعارضة: {إِن كُنتُمْ صادقين} أنه مفترى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فاعلموا أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ الله وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ} أي أنزل ملتبسًا بما لا يعلمه إلا الله من نظم معجز للخلق وإخبار بغيوب لا سبيل لهم إليه واعلموا عند ذلك أن لا إله إلا الله وحده وأن توحيده واجب والإشراك به ظلم عظيم، وإنما جمع الخطاب بعد إفراده وهو قوله: {لكم فاعلموا} بعد قوله: {قل} لأن الجمع لتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كانوا يحدثونهم أو لأن الخطاب للمشركين.
والضمير في: {فإن لم يستجيبوا} لمن استطعتم أي فإن لم يستجب لكم من تدعونه من دون الله إلى المظاهرة على المعارضة لعلمهم بالعجز عنه فاعلموا أنما أنزل بعلم الله أي بإذنه أو بأمره: {فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} متبعون للإسلام بعد هذه الحجة القاطعة.
ومن جعل الخطاب للمسلمين فمعناه فاثبتوا على العلم الذي أنتم عليه وازدادوا يقينًا على أنه منزل من عند الله وعلى التوحيد فهل أنتم مسلمون مخلصون.
{مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} نوصل إليهم أجور أعمالهم وافيه كاملة من غير بخس في الدنيا، وهو ما يرزقون فيها من الصحة والرزق، وهم الكفار أو المنافقون: {أُوْلَئِكَ الذين لَيْسَ لَهُمْ في الأخرة إِلاَّ النار وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا} وحبط في الآخرة ما صنعوه أو صنيعهم أي لم يكن لهم ثواب لأنهم لم يزيدوا به الآخرة إنما أرادوا به الدنيا وقد وفى إليهم ما أرادوا: {وباطل مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي كان عملهم في نفسه باطلًا لأنه لم يعمل لغرض صحيح والعمل الباطل لا ثواب له: {أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} أمن كان يريد الحياة الدنيا كما كان على بينة من ربه أي لا يعقبونهم في المنزلة ولا يقاربونهم يعني أن بين الفريقين تباينًا بينا وأراد بهم من آمن من اليهود كعبد الله بن سلام وغيره كان على بينة من ربه أي على برهان من الله وبيان أن دين الإسلام وهو دليل العقل: {وَيَتْلُوهُ} ويتبع ذلك البرهان: {شَاهِدٌ} يشهد بصحته وهو القرآن: {مِنْهُ} من الله أو من القرآن فقد مر ذكره آنفًا: {وَمِن قَبْلِهِ} ومن قبل القرآن: {كِتَابُ موسى} وهو التوراة أي ويتلو ذلك البرهان أيضًا من قبل القرآن كتاب موسى عليه السلام: {إِمَامًا} كتابًا مؤتمًا به في الدين قدوة فيه: {وَرَحْمَةً} ونعمة عظيمة على المنزل إليهم وهما حالان: {أولئك} أي من كان على بينة: {يُؤْمِنُونَ بِهِ} بالقرآن: {وَمن يَكْفُرْ بِهِ} بالقرآن: {مّن الأحزاب} يعني أهل مكة ومن ضامهم من المتحزبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فالنار مَوْعِدُهُ} مصيره ومورده: {فَلاَ تَكُ في مِرْيَةٍ} شك: {مِنْهُ} من القرآن أو من الموعد: {إِنَّهُ الحق مِن رَّبّكَ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ على رَبّهِمْ} يحبسون في الموقف وتعرض أعمالهم: {وَيَقُولُ الأشهاد هَؤُلاء الذين كَذَبُواْ على رَبّهِمْ} ويشهد عليهم الأشهاد من الملائكة والنبيين بأنهم الكذابون على الله بأنه اتخذ ولدًا وشريكًا: {أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} الكاذبين على ربهم والأشهاد جمع شاهد كأصحاب وصاحب أو شهيد كشريف وأشراف: {الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} يصرفون الناس عن دينه: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} يصفونها بالاعوجاج وهي مستقيمة أو يبغون أهلها أن يعوجوا بالارتداد: {وَهُمْ بالأخرة هُمْ كافرون} {هم} الثانية لتأكيد كفرهم بالآخرة واختصاصهم به: {أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ} أي ما كانوا: {مُعْجِزِينَ في الأرض} بمعجزين الله في الدنيا أن يعاقبهم لو أراد عقابهم: {وَمَا كَانَ لَهُمْ مّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاء} من يتولاهم فينصرهم منه ويمنعهم من عقابه ولكنه أراد إنظارهم وتأخير عقابهم إلى هذا اليوم وهو من كلام الأشهاد: {يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب} لأنهم أضلوا الناس عن دين الله يضعّف مكي وشامي: {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع} أي استماع الحق: {وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} الحق: {أُوْلَئِكَ الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ} حيث اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله: {وَضَلَّ عَنْهُم} وبطل عنهم وضاع ما اشتروه وهو: {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} من الآلهة وشفاعتها.
{لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ في الأخرة هُمُ الأخسرون} بالصد والصدود وفي لا جرم أقوال أحدها أن لا رد لكلام سابق أي ليس الأمر كما زعموا ومعنى: {جرم} كسب وفاعله مضمر و: {أنهم في الآخرة} في محل النصب والتقدير كسب قولهم خسرانهم في الآخرة وثانيها أن: {لا جرم} كلمتان ركبتا فصار معناهما حقًا و{أن} في موضع رفع بأنه فاعل لحق أي حق خسرانهم، وثالثها أن معناه لا محالة.
{إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَأَخْبَتُواْ إلى رَبّهِمْ} واطمأنوا إليه وانقطعوا إلى عبادته بالخشوع والتواضع من الخبت وهي الأرض المطمئنة: {أُوْلَئِكَ أصحاب الجنة هُمْ فِيهَا خالدون}، {مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع} شبه فريق الكافرين بالأعمى والأصم وفريق المؤمنين بالبصير والسميع: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ} يعني الفريقين: {مَثَلًا} تشبيها وهو نصب على التمييز: {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} فتنتفعون بضرب المثل. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابورى في الآيات السابقة:

{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} إلى قوله تعالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)}
التفسير:
{آلر} إن كان اسمًا للسورة فما بعده خبره، وإن كان واردًا على سبيل التعديد أو كان معناه أنا الله أرى فقوله: {كتاب} خبر مبتدأ محذوف أي هذا الكتاب. والإِشارة إما إلى هذا البعض وإما إلى مجموع القرآن. ومعنى: {أحكمت} نظمت نظمًا رصينًا من غير نقض ونقص، أو جعلت حكيمة من حكم بالضم إذا صار حكيمًا. أو منعت من الفساد والبطلان من قوله: أحكمت الدابة وضعت عليها الحكمة لتمنعها من الجماح. أي لم ينسخ بكتاب سواه كما نسخ سائر الكتب وذلك لاشتماله على العلوم النظرية والعلمية والظاهرية والباطنية وعلى أصول جميع الشرائع، فلا محالة لا يتطرق إليه تبديل وتغيير: {ثم فصلت} كما تفصل القلائد بالفرائد من دلائل التوحيد والنبوة والأحكام والمواعظ والقصص، لكل معنى من هذه المعاني من هذه المعاني فصل انفرد به. أو جعلت فصولًا سورة سورة وآية وآية، أو فرقت في التنزيل ولم تنزل جملة واحدة، أو فصل فيها تكاليف العباد وبين ما يحتاجون إليه في إصلاح المعاش والمعاد.
ومعنى {ثم} التراخي في الحال كقولك: فلان كريم الأصل ثم كريم الفعل. و: {أحكمت} صفة كتاب. و: {من لدن} صفة ثانية أو خبر بعد خبر أو صلة لأحكمت وفصلت أي من عنده إحكامها وتفصيلها. وفي قوله: {حكيم خبير} لف ونشر لأن المعنى أحكمها حكيم وفصلها خبير عالم بمواقع الأمور. احتج الجبائي بقوله: {أحكمت ثم فصلت} على كون القرآن محدثًا لأن الإحكام والتفصيل يكون بجعل جاعل، وكذا بقوله: {من لدن} لأن القديم لا يصدر من القديم. وأجيب بأنه لا نزاع في حدوث الأصوات والحروف وإنما النزاع في الكلام النفسي. وقوله: {ألا تعبدوا إلا الله} مفعول له أي لأجل ذلك أو يكون {أن} مفسرة لأن في تفصيل الآيات معنى القول كأنه قيل: ثم قيل للنبي صلى الله عليه وسلم قل لهم لا تعبدوا. وجوز في الكشاف أن يكون كلامًا مبتدأ منقطعًا عما قبله محكيًا على لسان النبي صلى الله عليه وسلم يغري أمته على اختصاص الله بالعبادة كأنه قال: ترك عبادة غير الله مثل: {فضرب الرقاب} [محمد: 4] والضمير في: {منه} لله عز وجل حالًا من: {نذير وبشير} أي إنني لكم نذير من جهته إن لم تخصوه بالتعبد، وبشير إن خصصتموه بذلك. ويجوز أن يكون: {منه} صلة لنذير أي أنذركم منه ومن عذابه، ويكون صلة بشير محذوفًا أي أبشركم بثوابه. ثم عطف على قوله: {أن لا تعبدوا} قوله: {وأن استغفروا} أي اطلبوا من ربكم المغفرة لذنوبكم. ن ثم بين الشيء الذي به يطلب ذلك وهو التوبة فقال: {ثم توبوا إليه} فالتوبة مطلوبة لكونها من متممات الاستغفار، وما كان آخرًا في الحصول كان أولًا في الطلب، فلهذا قدم الاستغفار على التوبة. وقيل استغفروا أي توبوا ثم قال: {توبوا} أي أخلصوا التوبة واستقيموا عليها. وقيل: استغفرا من سالف الذنوب ثم توبوا من أنف الذنوب. وقيل: استغفروا من الشرك ثم ارجعوا إليه بالطاعة. وقيل: الاستغفار أن يطلب من الله الإعانة في إزالة ما لا ينبغي، والتوبة سعي الإنسان في الطاعة والاستعانة بفضل الله مقدم على الاستعانة بسعي النفس. ثم رتب على الامتثال أمرين: الأول التمتع بالمنافع الدنيوية إلى حين الوفاة كقوله: {فلنحيينه حياة طيبة} [النحل: 97]. سؤال: كيف الجميع بين هذا وبين قوله تعالى: {ولولا أن يكون الناس أمة واحدة} [الزخرف: 33] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدنيا سجن المؤمن» «البلاء موكل بالأنبياء ثم بالأولياء»؟ وأجيب بأن المراد أن لا يهلكهم بعذاب الاستئصال أو يرزقهم كيف كان. والجواب الثاني أن الإِنسان إذا كان مشغولًا بطاعة الله مستغرقًا في نور معرفته وعبادته كان مبتهجًا في نفسه مسرورًا في ذاته، هينًا عليه ما فاته من اللذات العاجلة، قانعًا بما يصيبه من الخيرات الزائلة.
الثاني قوله: {ويؤت} أي في الآخرة: {كل ذي فضل فضله} أي موجب فضل ذلك الشخص ومقتضاه يعني الجزاء المرتب على عمله بحسب تزايد الطاعات. وتسمية العمل الحسن فضلًا تشريف ويجوز أن يعود الضمير في: {فضله} إلى الله تعالى. وفيه تنبيه على أن الدرجات في الجنة تتفاضل بحسب تزايد الطاعات. ثم أوعد على مخالفة الأمر فقال: {وإن تولوا} أي تتولوا فحذفت إحدى التاءين والمعنى إن تعرضوا عن الإِخلاص في العبادة وعن الاستغفار والتوبة: {فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير} هو يوم القيامة الموصوف بالعظم والثقل أيضًا: {ويذورن وراءهم يومًا ثقيلًا} [الدهر: 27]. ثم بين كبر عذاب ذلك اليوم بقوله: {إلى الله مرجعكم} أي لا حكم في ذلك اليوم إلا لله ولا رجوع إلا إلى جزائه، وهو مع ذلك كامل القدرة نافذ الحكم فما ظنكم بعذاب يكون المعذب به مثله. وفيه من التهديد ما فيه ولكن الآية تتضمن البشارة من وجه آخر. وذلك أن الحاكم الموصوف بمثل هذه العظمة والقدرة الاستقلال في الحكم إذا رأى عاجزًا مشرفًا على الهلاك فإنه يرحم عليه ولا يقيم لعذابه وزنًا. اللهم لا تخيب رجاءنا فإنك واسع المغفرة. ثم ذكر أن التولي عن الأوامر المذكورة باطنًا كالتولي عنها ظاهرًا فقال: {ألا إنهم يثنون} يقال ثنى صدره عن الشيء إذا ازورَّ عنه وانحرف وطوى عنه كشحًا.
قال المفسرون: وهاهنا إضمار أي يثنون صدورهم ويريدون: {ليستخفوا منه} أي من الله. ثم كرر كلمة: {ألا} تنبيهًا على وقت استخفائهم وهو: {حين يستغشون ثيابهم} أي يريدون الاستخفاء في وقت استغشاء الثياب. قال الكلبي: ثني صدورهم كناية عن نفاقهم لما روي أن طائفة من المشركين منهم الأخنس بن شريق قالوا: إذا أغلقنا أبوابنا وأبوابنا وأرخينا ستورنا واستغشينا ثيابنا وثنينا صدورنا على عداوة محمد فكيف يعلم بنا. وعلى هذا لا حاجة إلى الإضمار. وقيل: إنه حقيقة، وذلك أن بعض الكفار كان إذا مر به رسول الله عليه وسلم ثنى صدره وولى ظهره واستغشى ثيابه لئلا يسمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يتلو من القرآن، وليقول في نفسه ما يشتهي من الطعن. ثم استأنف قوله: {يعلم ما يسرون وما يعلنون} تنبيهًا على أنه لا فائدة لهم في الاستخفاء لأنه تعالى عالم بالسرائر كما أنه عالم بالظواهر. ثم أكد كونه عالمًا بكل المعلومات بكونه كافلًا لأرزاق جميع الحيوانات ضامنًا لمصالحها ومهامها فضلًا وامتنانًا وكرمًا وإحسانًا فقال: {وما من دابة} الآية. والمستقر مكانها من الأرض، والمستودع ما قبل ذلك من الأمكنة من صلب أو رحم أو بيضة. وقال الفراء: مستقرها حيث تأوي إليه ليلًا أو نهارًا، ومستودعها موضعها الذي تموت فيه. وقد مر تمام الأقوال في سورة الأنعام.
واستدل الأشاعرة بالآية على أن الحرام رزق لأنها تدل على أن إيصال الرزق إلى كل حيوان واجب على الله بحسب الوعد عندنا أو بحسب الاستحقاق عند المعتزلة شبه النذر. ثم إنا نرى إنسانًا لا يأكل من الحال طول عمره وقد سماه الله تعالى رزقًا. ثم ختم الآية بقوله: {كل في كتاب مبين} أي كل واحد من الدواب. ورزقها ومستقرها ومستودعها ثابت في علم الله أو في اللوح المحفوظ. وقد ذكرنا فائدته في قوله: {ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} [الأنعام: 59] يروى أن موسى عليه السلام عند نزول الوحي عليه تعلق قلبه بأهله فأمره الله تعالى أن يضرب بعصاه صخرة فانشقت فخرجت منها صخرة ثانية، ثم ضرب فانشقت فخرجت ثالثة، ثم ضربها فخرجت دودة كالذرة وفي فمها شيء يجري مجرى الغذاء لها، فسمع الدودة تقول: سبحان من يراني ويسمع كلامي ويعرف مكاني ويذكرني ولا ينساني. ثم أكد دلائل قدرته بقوله: {وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء} قال كعب الأحبار: خلق الله ياقوته خضراء، ثم نظر إليها بالهيبة فصارت ماء يرتعد، ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها ووضع العرض على الماء، وقال أبو بكر الأصم: هذا كقولك: لا سماء إلا على الأرض وليس ذلك على سبيل كون أحدهما ملصقًا بالآخر. وعلى هذا فيكون الآن أيضًا عرشًا على الماء. وقال في الكشاف: المراد أنه ما كان تحت العرش خلق سوى الماء، وفيه دليل على أن العرش والماء كانا مخلوقين قبل السموات والأرض، وعلى أن الملائكة خلقت قبل العرش والماء ليعتبرا بهما وإلا لزم أن يكون خلقهما قبل أن يعتبر بهما عبثًا إذ لا يتصور عود نفعهما إليه تعالى. وقال أبو مسلم: العرش البناء أي الماء بناؤه للسموات كان على الماء. وقال حكماء الإسلام: المراد بالماء تحركه شبه سيلان الماء أي وكان عرشه يتحرك. وبالجملة مقصود الآية بيان كمال قدرته في إمساك الجرم العظيم على الصغير. أما قوله: {ليبلوكم} فالمعتزلة قالوا: اللام للتعليل، وذلك أنه خلق هذا العالم الكبير لأجل مصالح المكفلين وأن يعاملهم معاملة المختبر المبتلى لأحوالهم كيف يعملون فيجازي كل فريق بما يستحقه. والأشاعرة قالوا: إن أحكامه غير معللة بالمصالح ومعناه أنه فعل فعلًا لو كان يفعله من يجوز عليه رعاية المصالح لما فعله إلا لهذا الغرض. وإنما علق فعل البلوى لما في الاختبار من معنى العلم لأنه طريق إلى العلم فهو ملابس له كالنظر والاستماع في قولك: انظر أيهم أحسن وجهًا واسمع أيهم أحسن كلامًا. قال في الكشاف: الذين هم أحسن عملًا هم المتقون. وإنما خصهم بالذكر وطرح ذكر من وارءهم من الفساق والكفار تشريفًا لهم. قلت ويجوز أن يقال إن أحسن بمعنى حسن ليشمل الخطاب جميع المكلفين.