فصل: قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{فلعلك} يا محمد: {تارك بعض ما يوحى إليك} فلا تبلغهم إياه لتهاونهم به، فإنهم كانوا يستهزؤون بالقرآن ويضحكون منه. وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة وورش يين اللفظين والباقون بالفتح: {وضائق به صدرك} أي: بتلاوته عليهم لأجل: {أن يقولوا لولا} أي: هلا: {أنزل عليه كنز} ينفقه في الاستتباع كالملوك: {أو جاء معه ملك} يصدقه كما اقترحنا، وروي عن ابن عباس: «أنّ رؤساء مكة قالوا: يا محمد اجعل لنا جبال مكة ذهبًا إن كنت رسولًا وقال آخرون: ائتنا بالملائكة ليشهدوا بنبوّتك فقال: لا أقدر على ذلك» فنزل: {إنما أنت نذير} فلا عليك إلا البلاغ لا الإتيان بما اقترحوه: {والله على كل شيء وكيل} فتوكل عليه إنه عالم بحالهم وفاعل بهم جزاء أقولهم وأفعالهم.
{أم} أي: بل: {يقولون} كفار مكة: {افتراه} أي: اختلقه من تلقاء نفسه وليس هو من عند الله، قال الله تعالى: {قل} لهم يا محمد: {فأتوا بعشر سور مثله} في البيان وحسن النظم: {مفتريات} فإنكم عربيون مثلي. قال ابن عباس: هذه السور التي وقع بها هذا التحدي معينة وهي سورة البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، والتوبة، ويونس، وهود، وقيل: التحدي وقع بمطلق السور وهو متقدّم على التحدّي بسورة واحدة، والتحدّي بسورة واحدة وقع في سورة البقرة، وفي سورة يونس، أمّا تقدم هذه السورة على سورة البقرة فظاهر؛ لأن هذه السورة مكية وسورة البقرة مدنية، وأمّا في سورة يونس فلأنّ كل واحدة من هاتين السورتين مكية، فتكون سورة هود متقدّمة في النزول على سورة يونس كما قاله الرازي، وأنكر المبرد هذا وقال: بل سورة يونس أولًا وقال معنى قوله في سورة يونس: {فأتوا بسورة مثله} (يونس). أي: مثله في الخبر عن الغيب والأحكام والوعد والوعيد، فعجزوا، فقال لهم في سورة هود: إن عجزتم عن الإتيان بسورة مثله في الأخبار والأحكام والوعد والوعيد فأتوا بعشر سور من غير وعد ولا وعيد، وإنما هي مجرّد البلاغة: {وادعوا} أي: وقل لهم يا محمد ادعوا للمعاونة على ذلك: {من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين} في أنه مفترى، والضمير في قوله تعالى: {فإن لم يستجيبوا لكم} أي: بإتيان ما دعوتموهم إليه للنبيّ صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كانوا يتحدونهم، وقال تعالى في موضع آخر: {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم} (القصص). والتعظيم للنبيّ صلى الله عليه وسلم: {فاعلموا أنما أنزل} ملتبسًا: {بعلم الله} أي: بما لا يعلمه إلا الله تعالى من نظم يعجز الخلق وإخبار بغيوب لا سبيل لهم إليه ولا يقدر عليه سواه، وقوله تعالى: {وأن} مخففة من الثقيلة، أي: وأنه: {لا إله إلا هو} وحده وأن توحيده واجب والإشراك به ظلم عظيم: {فهل أنتم مسلمون} أي: ثابتون على الإسلام راسخون مخلصون فيه إذ تحقق عندكم إعجازه مطلقًا. وقيل: الخطاب للمشركين والضمير في لم يستجيبوا لمن استطعتم، أي: فإن لم يستجب لكم من تدعونه من دون الله إلى المظاهرة على معارضته لعلمهم بالعجز عنه، وأنّ طاقتهم أقصر من أن تبلغه فاعلموا أنه منزل من عند الله، وأنّ ما دعاكم إليه من التوحيد حق، فهل أنتم بعد هذه الحجة القاطعة مسلمون، أي: أسلموا وفي مثل هذا الاستفهام إيجاب بليغ لما فيه من معنى الطلب والتنبيه على قيام الموجب وزوال العذر..
واختلف في سبب نزول قوله تعالى: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها} أي: بعمله الذي يعمل من أعمال البرّ: {نوف إليهم أعمالهم} أي: التي عملوها من خير كصدقة وصلة رحم: {فيها} أي: في الدنيا: {وهم فيها لا يبخسون} أي: نوصل إليهم أجور أعمالهم وافية كاملة من غير بخس في الدنيا وهو ما يرزقون فيها من الصحة والرياسة وسعة الرزق وكثرة الأولاد ونحو ذلك.
{أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط} أي: بطل: {ما صنعوا} أي: عملوا: {فيها} أي: الآخرة فلا ثواب لهم: {وباطل ما كانوا يعملون} لأنه لغير الله تعالى، فقال مجاهد: نزلت في أهل الرياء قال صلى الله عليه وسلم «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالو: يا رسول الله، وما الشرك الأصغر؟ قال: الرياء». والرياء هو أن يظهر الإنسان الأعمال الصالحة لتحمده الناس ويعتقدوا فيه الصلاح، فهذا هو العمل الذي لغير الله تعالى- نعوذ بالله من الخذلان- وقال أكثر المفسرين: إنّها نزلت في الكافر، وأمّا المؤمن فيريد الدنيا والآخرة، وإرادته الآخرة غالبة فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة. وعن أنس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة. وأمّا الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يعطى بها خيرًا». وقيل: نزلت في المنافقين الذين يطلبون بغزوهم مع النبيّ صلى الله عليه وسلم الغنائم من غير أن يؤمنوا بالآخرة وثوابها. وقيل في اليهود والنصارى وهو منقول عن أنس. ولما ذكر تعالى الذين يريدون بأعمالهم الحياة الدنيا وزينتها ذكر من كان يريد بعمله وجه الله تعالى والدار الآخرة بقوله تعالى: {أفمن كان على بيّنة من ربه} قيل: هو النبيّ صلى الله عليه وسلم والبينة هي القرآن: {ويتلوه} أي: يتبعه: {شاهد} يصدقه: {منه} أي: من الله تعالى وهو جبريل عليه السلام: {ومن قبله} أي: القرآن: {كتاب موسى} وهو التوراة شاهد له أيضًا وقوله تعالى: {إمامًا} أي: كتابًا مؤتمًا به في الدين: {ورحمة} أي: على المنزل عليهم؛ لأنه الوصلة إلى الفوز بسعادة الدارين حال من كتاب موسى، والجواب محذوف لظهوره، والتقدير: أفمن كان على بينة من ربه كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها وليس لهم في الآخرة إلا النار ليس مثله بل بينهم تفاوت بعيد وتباين بين. وقيل: هو من آمن من اليهود كعبد الله بن سلام وغيره، والمراد بالبينة: هو البيان والبرهان والمراد بالشاهد هو القرآن ومنه، أي: من الله ومن قبله كتاب موسى، أي: ويتلو ذلك البرهان من قبل مجيء القرآن كتاب موسى، أي: في دلالته على هذا المطلوب لا في الوجود. قال الرازي: وهذا القول هو الأظهر لقوله تعالى: {أولئك يؤمنون به} وهذه صفة جمع ولا يجوز رجوعه إلى محمد صلى الله عليه وسلم انتهى. ويجوز أن تكون للتعظيم أو له صلى الله عليه وسلم ومن تبعه وربما يكون هذا أولى كما جرى عليه بعض المفسرين، والإشارة إلى من كان على بينة، والضمير في به للقرآن وإذا كان هذا الفريق ليس له في الآخرة إلا النار فهذا الفريق ليس له في الآخرة إلا الجنة: {ومن يكفر به} أي: بالنبيّ صلى الله عليه وسلم أو القرآن: {من الأحزاب} أي: أصناف الكفار فيدخل فيهم اليهود والنصارى والمجوس: {فالنار موعده} يعني في الآخرة.
روى سعيد بن جبير عن أبي موسى أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يسمع بي يهوديّ ولا نصرانيّ فلا يؤمن بي إلا كان من أهل النار». قال أبو موسى: فقلت في نفسي: إنّ النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول مثل هذا إلا عن القرآن فوجدت الله تعالى يقول: {ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده} قال بعض العلماء: ولما دلت الآية على أنّ من يكفر به كانت النار موعده دلّ على أنّ من لا يكفر به كانت الجنة موعده وقوله تعالى: {فلا تك في مرية} أي: في شك: {منه} أي: القرآن أو الموعد: {إنه الحق من ربك} الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد غيره لأنه صلى الله عليه وسلم لم يشك قط ويؤيد ذلك قوله تعالى: {ولكن أكثر الناس لا يؤمنون} أي: لا يصدقون بما أوحينا إليك أو بأن موعد الكفار النار، ثم وصف الله تعالى هؤلاء المنكرين الجاحدين بصفات كثيرة في معرض الذم. الصفة الأولى: كونهم مفترين على الله كما قال تعالى: {ومن} أي: لا أحد: {أظلم ممن افترى على الله كذبًا} بنسبة الشريك والولد إليه، أو أسند إليه ما لم ينزله، أو نفى عنه ما أنزله. الصفة الثانية: أنهم يعرضون على الله تعالى في موقف الذل والهوان كما قال تعالى: {أولئك يعرضون على ربهم} أي: يوم القيامة. فإن قيل: هم لا يختصون بهذا العرض لأنّ العرض عامّ في كل العباد كما قال تعالى: {وعرضوا على ربك صفًا} (الكهف). أجيب: بأنهم يعرضون فيفتضحون بشهادة الأشهاد عليهم كما قال تعالى: {ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم} فيحصل لهم من الخزي والنكال ما لا مزيد عليه، وهذه هي الصفة الثالثة، واختلف في هؤلاء الأشهاد، فقال مجاهد: هم الملائكة الذين يحفظون أعمالهم عليهم في الدنيا، وقال مقاتل: هم الناس كما يقال على رؤوس الأشهاد، أي: على رؤوس الناس، وقال قوم: هم الأنبياء كما قال تعالى: {فلنسألنّ الذين أرسل إليهم ولنسألنّ المرسلين} (الأعراف). والفائدة في اعتبار قول الأشهاد المبالغة في إظهار الفضيحة. فإن قيل: العرض على الله يقتضي أن يكون الله تعالى في حيز وهو تعالى منزه عن ذلك. أجيب: بأنهم يعرضون على الأماكن المعدّة للحساب والسؤال، أو يكون ذلك عرضًا على من يوبخ بأمر الله تعالى من الأنبياء والمؤمنين. والأشهاد جمع شاهد كصاحب وأصحاب، أو جمع شهيد كشريف وأشراف. قال أبو علي الفارسي: وكان هذا أرجح؛ لأنّ ما جاء من ذلك في التنزيل جاء على فعيل كقوله تعالى: {وجئنا بك شهيدًا على هؤلاء} (النحل). وعن عبد الله بن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله تعالى يدني المؤمن يوم القيامة فيستره من الناس فيقول: أي عبدي تعرف ذنب كذا وكذا فيقول: نعم، حتى إذا قرّره بذنوبه قال تعالى: سترتها عليك في الدنيا وقد سترتها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته»، وأمّا الكافر والمنافق فتقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ولما أخبر الله تعالى عن حالهم في عقاب القيامة أخبر عن حالهم في الحال بقوله تعالى: {ألا لعنة الله على الظالمين} فبيّن تعالى أنهم في الحال ملعونون من عند الله، وهذه هي الصفة الرابعة، ثم وصفهم بالصفة الخامسة بقوله تعالى: {الذين يصدّون عن سبيل الله} أي: دينه، ثم وصفهم بالصفة السادسة بقوله تعالى: {ويبغونها} أي: يطلبون السبيل: {عوجًا} أي: معوجة، أي: كأنهم ظلموا أنفسهم بالتزام الكفر والضلال فقد أضافوا إليه المنع من الدين الحق وإلقاء الشبهات وتعويج الدلائل المستقيمة؛ لأنه لا يقال في العامّي: إنه يبغي عوجًا، وإنما يقال ذلك فيمن يعرف كيف الاستقامة، وكيفية العوج بسبب إلقاء الشبهات وتقرير الضلالات، ثم وصفهم بالصفة السابعة بقوله تعالى: {وهم} أي: والحال أنهم: {بالآخرة هم كافرون} وتكرير لفظ هم لتأكيد كفرهم وتوغلهم فيه. الصفة الثامنة: كونهم عاجزين عن الفرار من عذاب الله كما قال تعالى: {أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض} أي: ما كانوا معجزين الله في الدنيا أن يعاقبهم إذ لا يمكنهم أن يهربوا من عذابه، فإنّ هرب العبد من عذاب الله تعالى محال؛ لأنه تعالى قادر على جميع الممكنات ولا تتفاوت قدرته بالقرب والبعد، والقوة والضعف. الصفة التاسعة: أنهم ليس لهم أولياء يدفعون عقاب الله تعالى عنهم كما قال تعالى: {ما كان لهم من دون الله} أي: غيره: {من أولياء} أي: أنصار يمنعوهم من عذابه. الصفة العاشرة: مضاعفة العذاب كما قال تعالى: {يضاعف لهم العذاب} أي: بسبب إضلالهم غيرهم، وقيل: لأنّهم كفروا بالله وكفروا بالبعث والنشور. الصفة الحادية عشرة: قوله تعالى: {وما كانوا يستطيعون السمع} قال قتادة: صم عن سماع الحق فلا يسمعون خيرا فينتفعون به: {وما كانوا يبصرون} خيرًا فيأخذوا به. قال ابن عباس: أخبر الله تعالى أنه أحال بين أهل الشرك وبين طاعة الله تعالى في الدنيا وفي الآخرة، أمّا في الدنيا فإنه قال: {ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون} وأمّا في الآخرة فإنه قال: {فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم} (القلم).. الصفة الثانية عشرة: قوله تعالى: {أولئك الذين خسروا أنفسهم} فإنهم اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله تعالى فكان مصيرهم إلى النار المؤبدة عليهم وذلك أعظم وجوه الخسرانات. الصفة الثالثة عشرة: قوله تعالى: {وضلّ} أي: غاب: {عنهم ما كانوا يفترون} على الله تعالى من دعوى الشريك وأنّ لآلهة تشفع لهم. الصفة الرابعة عشرة: قوله تعالى: {لاجرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون} أي: لا أحد أبين وأكثر خسرانًا منهم.
تنبيه: قال الفرّاء: إنّ لا جرم بمنزلة قولنا لابد ولا محالة، ثم كثر استعمالها حتى صارت بمنزلة حقًا. تقول العرب: لا جرم إنك محسن على معنى حقًا إنك محسن. وقال الزجاج: إنّ كلمة لا نفي لما ظنوا أنه ينفعهم، وجرم معناه: كسب ذلك الفعل والمعنى: لا ينفعهم ذلك وكسب ذلك الفعل لهم الخسران في الدنيا والآخرة. قال الأزهري: وهذا من أحسن ما قيل في هذا الباب. وقال سيبويه: لا ردّ على أهل الكفر كما مرّ. وجرم معناه: أحق والمعنى: أنه أحق كفرهم وقوع العذاب والخسران بهم واحتج سيبويه بقول الشاعر:
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة ** جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا

أراد أحقت الطعنة فزارة أن يغضبوا، ولما ذكر تعالى عقوبة الكفار وخسرانهم أتبعه بذكر أحوال المؤمنين في الدنيا وربحهم في الآخرة بقوله تعالى: {إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم} أي: اطمأنوا إليه وخشعوا، إذ الإخبات في اللغة هو الخشوع والخضوع وطمأنينة القلب، ويتعدّى بإلى وباللام فإذا قلت: أخبت فلان إلى كذا، فمعناه اطمأن إليه، وإذا قلت: أخبت له فمعناه خشع وخضع له، فقوله تعالى: {إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات} إشارة إلى جميع عمل الجوارح. وقوله تعالى: {وأخبتوا} إشارة إلى أعمال القلوب وهي الخشوع والخضوع لله تعالى، وإن هذه الأعمال الصالحة لا تنفع في الآخرة إلا بحصول أعمال القلب وهي الخشوع والخضوع: {أؤلئك} أي: الذين هذه صفتهم: {أصحاب الجنة هم خالدون} فأخبر تعالى عن حالهم في الآخرة بأنهم من أهل الجنة التي لا انقطاع لنعيمها ولا زوال. ولما ذكر سبحانه وتعالى أحوال الكفار وما كانوا عليه من العمى عن طريق الحق ومن الصمم عن سماعه وذكر أحوال المؤمنين وما كانوا عليه من البصيرة وسماع الحق والانقياد للطاعة ذكر فيهما مثالًا مطابقًا بقوله تعالى: {مثل} أي: صفة: {الفريقين} أي: الكفار والمؤمنين: {كالأعمى والأصم} هذا مثل الكافر شبه بالأعمى لتعاميه عن آيات الله، وبالأصم لتصامه عن استماع كلام الله تعالى وتأبيه عن تدبر معانيه: {والبصير والسميع} هذا مثل المؤمن شبه بالبصير والسميع؛ لأنّ أمره بالضدّ من الكافر فيكون كل منهما مشبهًا باثنين باعتبار وصفين، أو يشبه الكافر بالجامع بين العمى والصمم والمؤمن بالجامع بين ضدّيهما على أن تكون الواو في الأصم وفي السميع لعطف الصفة على الصفة، بخلافه على التشبيه الأوّل فإنه لعطف الموصوف على الموصوف، ويعبر عنه بعطف الذات على الذات: {هل يستويان} أي: هل يستوي الفريقان: {مثلًا} أي: تشبيهًا لا يستويان، ويصح أن يكون مثلًا صفة لمصدر محذوف، أي: استواء مثلًا، وأن يكون حالًا من فاعل يستويان وقوله تعالى: {أفلا تذكّرون} فيه إدغام التاء في الأصل في الذال، أي: تتعظون بضرب الأمثال، والتأمّل فيها. وقرأ حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال والباقون بالتشديد. اهـ.

.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً}
هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمُقَابَلَةِ وَالْمُوَازَنَةِ بَيْنَ مَنْ يَهْتَدِي وَيَهْدِي بِالْقُرْآنِ عَلَى عِلْمٍ وَبَيِّنَةٍ، وَمَنْ يَكْفُرُ بِهِ عَلَى جَهْلٍ وَتَقْلِيدٍ، أَوْ عِنَادٍ وَجُحُودٍ، فَهِيَ صِلَةٌ بَيْنَ مَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا.
{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} أَيْ عَلَى الْحُجَّةِ وَبَصِيرَةٍ مِنْ رَبِّهِ فِيمَا يُؤْمِنُ بِهِ وَيَدْعُو إِلَيْهِ هَادِيًا مُهْتَدِيًا بِهِ، فَالْبَيِّنَةُ مَا يَتَبَيَّنُ بِهِ الْحَقُّ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ؛ كَالْبُرْهَانِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، وَالنُّصُوصِ فِي النَّقْلِيَّاتِ، وَالْخَوَارِقِ فِي الْإِلَهِيَّاتِ، وَالتَّجَارِبِ فِي الْحِسِّيَّاتِ، وَالشَّهَادَاتِ فِي الْقَضَائِيَّاتِ، وَالِاسْتِقْرَاءِ فِي إِثْبَاتِ الْكُلِّيَّاتِ، وَقَدْ نَطَقَ الْقُرْآنُ بِأَنَّ الرُّسُلَ كُلَّهُمْ قَدْ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ، وَأَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ مِنْهُمْ كَانَ يَحْتَجُّ عَلَى قَوْمِهِ بِأَنَّهُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ، وَأَنَّهُ جَاءَهُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِمْ، كَمَا تَرَى فِي قِصَصِهِمْ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَهَذِهِ السُّورَةِ. وَكَانَتْ بَيِّنَاتُهُمْ قِسْمَيْنِ: حُجَجًا عَقْلِيَّةً، وَآيَاتٍ كَوْنِيَّةً، وَكَانَ مَنْ لَمْ يَقْتَنِعْ بِبَيِّنَةِ الرَّسُولِ أَوْ يُكَابِرُهَا يَقُولُونَ: {مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} (11: 53) وَكَانَ مَنْ جَحَدَ الْآيَةَ الْكَوْنِيَّةَ بَعْدَ التَّحَدِّي وَالْإِنْذَارِ بِالْعَذَابِ يُهْلَكُونَ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، وَتَجِدُ هَذَا وَذَاكَ مُفَصَّلًا فِي قِصَصِهِمْ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِ الرَّسُولِ مِنْهُمْ: {إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} 6: 57 وَقَوْلِهِ: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} (7: 105) فَالْأُولَى مَا عَلِمَ هُوَ بِهِ أَنَّهُ رَسُولٌ مِنْ رَبِّهِ بِوَحْيِهِ إِلَيْهِ، وَبِإِظْهَارِهِ عَلَى مَا شَاءَ مِنْ رُؤْيَةِ مَلَكِ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَالثَّانِيَةُ مَا آتَاهُ مِنَ الْحُجَّةِ الْعَقْلِيَّةِ عَلَى قَوْمِهِ كَقَوْلِهِ: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} (6: 83) أَوْ مَا آتَاهُ مِنْ آيَةٍ كَوْنِيَّةٍ تَسْتَخْذِي لَهَا أَنْفُسُهُمْ، وَتَنْقَطِعُ بِهَا مُكَابَرَتُهُمْ.
وَكَانَ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم يُطْلِقُ الْبَيِّنَةَ تَارَةً عَلَى الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، وَتَارَةً عَلَى آيَتِهِ الْكُبْرَى الْجَامِعَةِ لِلْبَرَاهِينِ الْكَثِيرَةِ وَهِيَ الْقُرْآنُ، قَالَ تَعَالَى لَهُ: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ} (6: 57) وَأَمَرَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ بَعْدَ ذِكْرِ مُوسَى وَالتَّوْرَاةِ: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهَدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} (6: 155- 157) فَهَذَا السِّيَاقُ يُشْبِهُ سِيَاقَ الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا.