فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرءَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِن رَّبِّي}
فيه وجهان:
أحدهما: يعني على ثقة من ربي، قاله أبو عمران الجوني.
الثاني: على حجة من ربي، قاله عليّ بن عيسى.
{وَآتَانِي رَحْمَة مِنْ عِنْدِهِ} فيها وجهان:
أحدهما: الإيمان.
والثاني: النبوة، قاله ابن عباس.
{فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} يعني البينة في قوله: {إنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةِ مِن رَبِّي} وإنما قال: {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} وهم الذين عموا عنها، لأنها خفيت عليهم بترك النظر فأعماهم الله عنها.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص: {فعميت عليكم} بضم العين وتشديد الميم، وفي قراءة أُبي: {فعمّاها} وهي موافقة لقراءة من قرأ بالضم على ما لم يسم فاعله.
وفي الذي عماها على هاتين القراءتين وجهان:
أحدهما: أن الله تعالى عماها عليهم.
الثاني: بوسوسة الشيطان. وما زينه لهم من الباطل حتى انصرفوا عن الحق. وإنما قصد نبي الله نوح بهذا القول لقومه أن يرد عيهم قولهم: {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} ليظهر فضله عليهم بأنه على بينة من ربه وآتاه رحمة من عنده وهم قد سلبوا ذلك، فأي فضل أعظم منه.
ثم قال تعالى: {أَنُلْزِمْكَمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} فيها وجهان: أنلزمكم الرحمة، قاله مقاتل.
الثاني: أنلزمكم البينة وأنتم لها كارهون، وقبولكم لها لا يصح مع الكراهة عليها.
قال قتادة والله لو استطاع نبي الله نوح عليه السلام لألزمها قومه ولكنه لم يملك ذلك.
قوله عز وجل: {.. وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ} لأنهم سألوه طرد من اتبعه من أراذلهم، فقال جوابًا لهم وردًا لسؤالهم: وما أنا بطارد الذين آمنوا.
{إِنَّهُم مُّلاَقُوْا رَبِّهِم} يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون قال ذلك على وجه الإعظام لهم بلقاء الله تعالى.
الثاني: على وجه الاختصام، بأني لو فعلت ذلك لخاصموني عند الله: {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} فيه وجهان:
أحدهما: تجهلون في استرذالكم لهم وسؤالكم طردهم.
الثاني: تجلون في أنهم خير منكم لإيمانهم وكفركم.
قوله عز وجل: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} احتمل هذا القول من نوح عليه السلام وجهين:
أحدهما: أن يكون جوابًا لقومه على قولهم: {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِثْلَنَا}
الثاني: أن يكون جوابًا لهم على قولهم: {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} فقال الله تعالى له قل: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِن اللَّهِ} وفيها وجهان:
أحدهما: أنها الرحمة أي ليس بيدي الرحمة فأسوقها إليكم، قاله ابن عباس.
الثاني: أنها الأموال، أي ليس بيدي أموال فأعطيكم منها على إيمانكم: {وَلاَ أعْلَمُ الْغَيْبَ} فأخبركم بما في انفسكم: {وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} يعني فأباين جنسكم: {وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا} والازدراء الإحتقار. يقال ازدريت عليه إذاعبته، وزريت عليه إذا حقرته.
وأنشد المبرد:
يباعده الصديق وتزدريه ** حليلته وينهره الصغير.

{لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْرًا} أي ليس لاحتقاركم لهم يبطل أجرهم أو ينقص ثوابهم، وكذلك لستم لعلوكم في الدنيا تزدادون على أجوركم.
{اللَّهَ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} يعني أنه يجازيهم عليه ويؤاخذهم به: {إِني إذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} يعني إن قلت هذا الذي تقدم ذكره. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {أرأيتم إِن كنت على بينة من ربي} أي: على يقين وبصيرة. قال ابن الأنباري: وقوله: {إِن كنت} شرط لا يوجب شكًّا يلحقه، لكن الشك يلحق المخاطَبين من أهل الزيغ، فتقديره: إِن كنتُ على بينة من ربي عندكم.
{وآتاني رحمة من عنده} فيها قولان:
أحدهما: أنها النبوَّة، قاله ابن عباس.
والثاني: الهداية، قاله مقاتل.
قوله تعالى: {فعُمِّيت عليكم} قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: {فَعَمِيَتْ} بتخفيف الميم وفتح العين.
قال ابن قتيبة: والمعنى: عميتم عنها، يقال: عمي عليَّ هذا الأمر: إِذا لم أفهمه، وعميت عنه بمعنى.
قال الفراء: وهذا مما حوَّلت العرب الفعل إِليه، وهو في الأصل لغيره، كقولهم: دخل الخاتم في يدي، والخف في رجلي، وإِنما الإِصبع تدخل في الخاتم، والرجل في الخف، واستجازوا ذلك إِذ كان المعنى معروفًا.
وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: {فعُمِّيَتْ} بضم العين وتشديد الميم.
قال ابن الأنباري: ومعنى ذلك: فعمّاها الله عليكم إِذ كنتم ممن حُكم عليه بالشقاء.
وكذلك قرأ أُبَيّ بن كعب، والأعمش: {فعمّاها عليكم}
وفي المشار إليها قولان:
أحدهما: البيِّنة.
والثاني: الرحمة.
قوله تعالى: {أنلزمكموها} أي: أنُلزمكم قبولها؟ وهذا استفهام معناه الإِنكار، يقول: لانقدر أن نُلزمكم من ذات أنفسنا.
قال قتادة: والله لو استطاع نبي الله صلى الله عليه وسلم لألزمها قومه، ولكن لم يملك ذلك.
وقيل: كان مراد نوح عليه السلام ردَّ قولهم: {وما نرى لكم علينا من فضل} فبيَّن فضله وفضل مَن آمن به بأنه على بيِّنة من ربه، وقد آتاه رحمةً من عنده، وسُلب المكذِّبون ذلك.
قوله تعالى: {لا أسألكم عليه} أي: على نصحي ودعائي إياكم: {مالًا} فتتهموني.
وقال ابن الأنباري: لما كانت الرحمة بمعنى الهدى والإِيمان، جاز تذكيرها.
قوله تعالى: {وما أنا بطارد الذين آمنوا} قال ابن جريج: سألوه طردهم أنفة منهم، فقال: لا يجوز لي طردهم، إِذ كانوا يلقون الله فيجزيهم بايمانهم، ويأخذ لهم ممن ظلمهم وصغَّر شؤونهم.
وفي قوله: {ولكني أراكم قوما تجهلون} قولان:
أحدهما: تجهلون أن هذا الأمر من الله تعالى، قاله ابن عباس.
والثاني: تجهلون لأمركم إِياي بطرد المؤمنين، قاله أبو سليمان.
قوله تعالى: {ويا قوم من ينصرني} أي: من يمنعني من عذاب الله إِن طردتهم.
قوله تعالى: {ولا أقول لكم عندي خزائن الله} قال ابن الأنباري: أراد بالخزائن: عِلمَ الغيب المطوي عن الخلق، لأنهم قالوا له: إنما اتَّبعك هؤلاء في الظاهر وليسوا معك، فقال لهم: ليس عندي خزائن غيوب الله فأعلم ما تنطوي عليه الضمائر.
وإِنما قيل للغيوب: خزائن، لغموضها عن الناس واستتارها عنهم.
قال سفيان بن عيينة: إِنما آيات القرآن خزائن، فإذا دخلتَ خزانةً فاجتهد أن لا تخرج منها حتى تعرف ما فيها.
قوله تعالى: {ولا أعلم الغيب} قيل: إِنما قال لهم هذا، لأن أرضهم أجدبت، فسألوه: متى يجيء المطر؟ وقيل: بل سألوه: متى يجيء العذاب؟ فقال: ولا أعلم الغيب.
وقوله: {ولا أقول إِني ملَك} جواب لقولهم: {ما نراك إِلا بشرًا مثلَنا} [هود: 27].
{ولا أقول للذين تزدري أعينكم} أي: تحتقر وتستصغر المؤمنين.
قال الزجاج: {تزدري} تستقل وتستخِس، يقال: زريت على الرجل: إِذا عبت عليه وخسست فعله، وأزريت به: إِذا قصرت به.
وأصل تزدري: تزتري، إِلا أن هذه التاء تبدل بعد الزاي دالًا، لأن التاء من حروف الهمس، وحروف الهمس خفية، فالتاء بعد الزاي تخفى، فأبدلت منها الدال لجهرها.
قوله تعالى: {لن يؤتيهم الله خيرًا} قال ابن عباس: إِيمانا.
ومعنى الكلام: ليس لي أن أطَّلِع على ما في نفوسهم فأقطع عليهم بشيء، وليس لاحتقاركم إِياهم يبطل أجرهم.
{إِني إِذًا لمن الظالمين} إِن قلت هذا الذي تقدم ذكره، وقيل إِن طردتهم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {قَالَ يا قوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن ربي} أي على يقين؛ قاله أبو عِمران الجُونيّ.
وقيل: على معجزة؛ وقد تقدّم في الأنعام هذا المعنى.
{وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ} أي نبوّة ورسالة؛ عن ابن عباس؛ وهي رحمة على الخلق.
وقيل: الهداية إلى الله بالبراهين.
وقيل: بالإيمان والإسلام.
{فَعَمِيَتْ عَلَيْكُمْ} أي عمِيت عليكم الرسالة والهداية فلم تفهموها.
يقال: عَمِيتُ عن كذا، وعَمِي عليّ كذا أي لم أفهمه.
والمعنى: فَعمِيت الرحمةُ؛ فقيل: هو مقلوب؛ لأن الرحمة لا تَعمَى إنما يُعمَى عنها؛ فهو كقولك: أدخلت في القَلَنْسُوة رأسي، ودخل الخفُّ في رجلي.
وقرأها الأعمش وحمزة والكسائي: {فَعُمِّيَتْ} بضم العين وتشديد الميم على ما لم يُسمَّ فاعله؛ أي فعمّاها الله عليكم؛ وكذا في قراءة أُبيّ: {فعَمَّاها} ذكرها الماورديّ.
{أَنُلْزِمُكُمُوهَا} قيل: شهادة أن لا إله إلا الله.
وقيل: الهاء ترجع إلى الرحمة.
وقيل: إلى البينة؛ أي أنلزمكم قبولها، وأُوجبها عليكم؟ا وهو استفهام بمعنى الإنكار؛ أي لا يمكنني أن أضطركم إلى المعرفة بها؛ وإنما قصد نوح عليه السلام بهذا القول أن يردّ عليهم.
وحكى الكسائيّ والفرّاء {أَنُلْزِمْكُمُوهَا} بإسكان الميم الأولى تخفيفًا؛ وقد أجاز مثل هذا سيبويه، وأنشد:
فاليومَ أَشربْ غيرَ مُستَحْقِبٍ ** إِثْمًا مِنَ اللَّهِ وَلاَ وَاغِلِ

وقال النحاس: ويجوز على قول يونس في غير القرآن أنلزمكمها يجري المضمر مجرى المظهر؛ كما تقول: أنلزمكم ذلك.
{وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} أي لا يصح قبولكم لها مع الكراهة عليها.
قال قتادة: والله لو استطاع نبي الله نوح عليه السلام لألزمها قومه ولكنه لم يملك ذلك.
قوله تعالى: {ويا قوم لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي على التبليغ، والدعاء إلى الله، والإيمان به أجرًا أي: {مَالًا} فيثقل عليكم.
{إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله} أي ثوابي في تبليغ الرسالة.
{وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الذين آمنوا} سألوه أن يطرد الأراذل الذين آمنوا به، كما سألت قريش النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يطرد الموالي والفقراء، حسب ما تقدّم في الأنعام بيانه؛ فأجابهم بقوله: {وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الذين آمنوا إِنَّهُمْ مُّلاَقُو رَبِّهِمْ} يحتمل أن يكون قال هذا على وجه الإِعظام لهم بلقاء الله عزّ وجلّ، ويحتمل أن يكون قاله على وجه الاختصام؛ أي لو فعلت ذلك لخاصموني عند الله، فيجازيهم على إيمانهم، ويجازي من طردهم.
{ولكني أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} في استرذالكم لهم، وسؤالكم طردهم.
قوله تعالى: {ويا قوم مَن يَنصُرُنِي مِنَ الله} قال الفرّاء: أي يمنعني من عذابه.
{إِن طَرَدتُّهُمْ} أي لأجل إيمانهم.
{أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أدغمت التاء في الذال.
ويجوز حذفها فتقول: تَذَكَّرون.
قوله تعالى: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ الله وَلاَ أَعْلَمُ الغيب} أخبر بتذلّله وتواضعه لله عزّ وجلّ، وأنه لا يدّعي ما ليس له من خزائن الله؛ وهي إنعامه على من يشاء من عباده؛ وأنه لا يعلم الغيب؛ لأن الغيب لا يعلمه إلا الله عزّ وجلّ.
{وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} أي لا أقول إن منزلتي عند الناس منزلة الملائكة.
وقد قالت العلماء: الفائدة في الكلام الدلالة على أن الملائكة أفضل من الأنبياء؛ لدوامهم على الطاعة، واتصال عباداتهم إلى يوم القيامة، صلوات الله عليهم أجمعين.
وقد تقدّم هذا المعنى في البقرة.
{وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تزدري أَعْيُنُكُمْ} أي تستثقل وتحتقر أعينكم؛ والأصل تزدريهم حذفت الهاء والميم لطول الاسم.
والدّال مبدلة من تاء؛ لأن الأصل في تزدري تَزْتَرِي، ولكن التّاء تبدل بعد الزاي دالا؛ لأن الزّاي مجهورة والتّاء مهموسة، فأبدل من التاء حرف مجهور من مخرجها، ويقال: أَزْرَيتُ عليه إذا عِبتَه، وزرَيتُ عليه إذا حقَّرته.
وأنشد الفرّاء:
يُباعدهُ الصديقُ وتَزْدَريهِ ** حَلِيلتُهُ ويَنْهَرُه الصَّغيرُ

{لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْرًا} أي ليس لاحتقاركم لهم تبطل أجورهم، أو ينقص ثوابهم.
{الله أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} فيجازيهم عليه ويؤاخذهم به.
{إني إِذًا لَّمِنَ الظالمين} أي إن قلت هذا الذي تقدّم ذكره. و{إِذًا} ملغاة؛ لأنها متوسطة. اهـ.