فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{ويا قوم} ناداهم بذلك تلطفًا بهم واستدراجًا لهم: {لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي التبليغ المفهوم مما تقدم، وقيل: الضمير للإنذار، وأفرد الله سبحانه بالعبادة، وقيل: للدعاء إلى التوحيد، وقيل: غير ذلك، وكلها أقوال متقاربة أي لا أطلب منكم على ذلك: {مَالًا} تؤدونه إلى بعد إيمانكم، وأجرًا لي في مقابلة اهتدائكم: {إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله} فهو سبحانه يثيبني على ذلك في الآخرة ولابد حسب وعده الذي لا يخلف، فالمراد بالأجر الأجر على التبليغ، وجوز أن يراد الأجر على الطاعة مطلقًا، ويدخل فيه ذلك دخولًا أوليًا، وفي التعبير بالمال أولًا.
وبالأجر ثانيًا ما لا يخفى من مزية ما عند الله تعالى على ما عندهم: {وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الذين ءامَنُواْ} قيل: هو جواب عما لوحوا به بقولهم: {وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود: 27] من أنه لو اتبعه الأشراف لوافقوهم وأن اتباع الفقراء مانع لهم عن ذلك كما صرحوا به في قولهم: {أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الارذلون} [الشعراء: 111] فكان ذلك التماسًا منهم لطردهم وتعليقًا لإيمانهم به عليه السلام بذلك أنفة من الانتظام معهم في سلك واحد انتهى، والمروى عن ابن جريج أنهم قالوا له يا نوح: إن أحببت أن نتبعك فاطرد هؤلاء وإلا فلن نرضى أن نكون نحن وهم في الأمر سواء، وذلك كما قال قريش للنبي صلى الله عليه وسلم في فقراء الصحابة رضي الله تعالى عنهم: اطرد هؤلاء عنك ونحن نتبعك فأنا نستحيي أن نجلس معهم في مجلسك فهو جواب عما لم يذكر في النظم الكريم لكن فيه نوع إشارة إليه، وقرئ: {بِطَارِدِ} بالتنوين قال الزمخشري: على الأصل يعني أن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال فأصله أن يعمل ولا يضاف، وهو ظاهر كلام سيبويه، واستدرك عليه أبو حيان بأنه قد يقال: إن الأصل الإضافة لأنه قد اعتوره شبهان: أحدهما شبهه بالمضارع وهو شبه بغير جنسه، والآخر شبهه بالأسماء إذا كانت فيها الإضافة، وإلحاقه بجنسه أولى من إلحاقه بغير جنسه انتهى، وربما يقال: إن أولوية إلحاقه بالأسماء إنما يتم القول بها إذا كانت الإضافة في الأسماء هي الأصل وليس فليس: {أَنَّهُم ملاقوا رَبّهِمْ} تعليل للامتناع من طردهم كأنه قيل: لا أدرهم ولا أبعدهم عن مجلسي لأنهم من أهل الزلفى المقربون الفائزون عند الله تعالى؛ وانفهام الفوز بمعونة المقام وإلا فملاقاة الله تعالى تكون للفائز وغيره، أو أنهم ملاقوا ربهم فيخاصمون طاردهم عنده فيعاقبه على ما فعل وحمله على أنهم مصدقون في الدنيا بلقاء ربهم موقنون به عالمون أنهم ملاقوه لا محالة فكيف أطردهم خلاف الظاهر على أن هذا التصديق من توابع الإيمان، وقيل: المعنى إنهم يلاقونه تعالى فيجازيهم على ما في قلوبهم من إمان صحيح ثابت كما ظهر لي أو على خلاف ذلك مما تعرفونهم به من بناء أمرهم على بادئ الرأي من غير تعمق في الفكر، وما على أن أشق عن قلوبهم وأتعرف سر ذلك منهم حتى أطردهم إن كان الأمر كما تزعمون، وفيه أنه مع كونه مبنيًا على أن سؤال الطرد لعدم إخلاصهم لا لاسترذالهم وحاله أظهر من أن يخفى يأباه اغلجزم بترتب غضب الله تعالى على طردهم كما سيأتي إن شاء الله تعالى: {ولكنى أُرِيكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} أي بكل ما ينبغي أن يعلم، ويدخل فيه جهلهم بمنزلتهم عند الله تعالى وبما يترتب من المحذور على طردهم وبركاكة رأيهم في التماس ذلك، وتوقف إيمانهم عليه وغير ذلك وإيثار صيغة الفعل للدلالة على التجدد والاستمرار، وعبر بالرؤية موافقة لتعبيرهم، وجوز أن يكون الجهل بمعنى الجناية على الغير وفعل ما يشق عليه لا بمعنى عدم العلم المذموم وهو معنى شائع كما في قوله:
ألا لا يجهلن أحد علينا ** فنجهل فوق جهل الجاهلينا

أي ولكني أراكم قومًا تتسفهون على المؤمنين بنسبتهم إلى الخساسة.
{وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ} أي من يصونني منه تعالى ويدفع عني حلول سخطه، والاستفها للإنكار أي لا ينصرني أحد من ذلك: {إِن طَرَدتُّهُمْ} وأبعدتهم عني وهم بتلك المثابة والزلفى منه تعالى، وفي الكلام ما لا يخفى من تهويل أمر طردهم: {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أي أتستمرون على ما أنتم عليه من الجهل فلا تتذكرون ما ذكر من حالهم حتى تعرفوا أن ما تأتونه بمعزل عن الصواب، قيل: ولكون هذه العلة مستقلة بوجه مخصوص ظاهر الدلالة على وجوب الامتناع عن الطرد أفردت عن التعليل السابق وصدرت بياقوم.
{وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} شروع على ما قال غير واحد في دفع الشبه التي أوردوها تفصيلًا وذلك من قبيل النشر المشوش ثقة بعلم السامع وتخلل ما تخلل بين شبههم وجوابها على ما قال العلامة الطيبي لأنه مقدمة وتمهيد للجواب، وبينه بأن قوله: {يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده} [هود: 28] إثبات لنبوته يعني ما قلت لكم: {إِنَّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله} [هود: 25، 26] إلا عن بينة على إثبات نبوتي وصحة دعوتي لكن خفيت عليكم وعميت حتى أوردتم تلك الشبه الواهية ومع ذلك ليس نظري فيما ادعيت إلا إلى الهداية وإني لا أطمع بمال حتى ألازم الأغنياء منكم وأطرد الفقراء وأنتم تجهلون هذا المعنى حيث تقولون: اطرد الفقراء وأن الله سبحانه ما بعثني إلا للترغيب في طلب الآخرة ورفض الدنيا فمن ينصرني إن كنت أخالف ما جئت به، ثم شرع فيما شرع، وفي الكشف إن قوله: {أَرَءيْتُمْ} [هود: 28] الآية جواب إجمالي عن الشبه كلها مع التعبير بأنهم لا يرجعون فما يرمون إلى أدنى تدبر وقوله: {ويا قوم لا أَسْئَلُكُمْ} [هود: 27] تتميم للتعبير وحث على ما ضمنه من التشويق إلى ما عنده، وقوله: {مَا أَنَاْ بِطَارِدِ} [هود: 29] تصريح بجواب ما ضمنوه في قولهم: {وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود: 72] من خسة الشركاء وأنه لولا مكانهم لكان يمكن الاتباع إظهارًا للتصلب فيما هو فيه وأن ما يورده ويصدره عن برهان من الله تعالى يوافيه وأنى يدع الحق الأبلج بالباطل اللجلج، ثم شرع في الجواب التفصيلي بقوله: {وَلا أَقُولُ} إلخ، وهو أحسن مما ذكره الطيبي، وجعلوا هذا ردًا لقولهم: {وَمَا نرى لَكُمْ} [هود: 27] إلخ كأنه يقول: عدم اتباع وتكذيبي إن كان لنفيكم عني فضل المال والجاه فأنا لم أدعه ولم أقل لكم إن خزائن رزق الله تعالى وماله عندي حتى أنكم تنازعوني في ذلك وتنكرونه وإنما كان مني دعوى الرسالة المؤيدة بالمعجزات، ولعل جوابه عليه السلام عن ذلك من حيث أنه معنى به مستتبع للجواب عنه من حيث أنه عنى به متبعوه عليه السلام أيضًا، وجعله جوابًا عن قولهم: {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا} [هود: 27] كما جوزه الطبرسي ليس بشيء، وحمل الخزائن على ما أشرنا إليه هو المعول عليه.
وقال الجبائي وأبو مسلم: إن المراد بها مقدورات الله تعالى أي لا أقول لكم حين أدعي النبوة عندي مقدورات الله تعالى فأفعل ما أشاء وأعطي ما أشاء وأمنع ما أشاء وليس بشيء، ومثله بل أدهى وأمر قول ابن الأنباري: إن المراد بها غيوب الله تعالى وما انطوى عن الخلق، وجعل ابن الخازن هذه الجملة عطفًا على {لاَّ أَسْئَلُكُمْ} [هود: 29] إلخ، والمعنى عنده لا أسألكم عليه ما لا ولا أقول لكم عندي خزائن الله التي لا يفنيها شيء فأدعوكم إلى اتباعي عليها لأعطيكم منها: {وَلا أَعْلَمُ الغيب} عطف على: {عِندِى خَزَائِنُ الله} المقول للقول، وذكر معه النفي مع أن العطف على مقول القول المنفي منفي أيضًا من غير أن يذكر معه أداة نفي لتأكيد النفي السابق والتذكير به ودفع احتمال أن لا يقول هذا المجموع فلا ينافي أن يقول أحدهما أي ولا أقول أنا أعلم الغيب حتى تكذبوني لاستبعاد ذلك وما ذكرت من دعوى النبوة والإنذار بالعذاب إنما هو بوحي وإعلام من الله تعالى مؤيد بالبينة والغيب ما لم يوح به ولم يقم عليه دليل، ولعله إنما لم ينف عليه السلام القول بعلم الغيب على نحو ما فعل في السابق واللاحق مبالغة في نفي هذه الصفة التي ليس لأحد سوى الله تعالى منها نصيب أصلًا، ويجوز عطفه على: {أَقُولُ} أي لا أقول لكم ذلك ولا أدعي علم الغيب في قولي: {إني نذير مبين} [هود: 25]: {إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم} [هود: 26] حتى تسارعوا إلى الإنكار والاستبعاد، وقيل: هو معطوف على هذا أو ذاك إلا أن المعنى لا أعلم الغيب حتى أعلم أن هؤلاء اتبعوني بادئ الرأي من غير بصيرة وعقد قلب ولا يخفى حاله، واعترض على الأول بأنه غير ملائم للمقام، ثم قيل: والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم حين ادعى النبوة سألوه عن المغيبات، وقالوا له: إن كنت صادقًا أخبرنا عنها فقال: أنا أدعي النبوة بآية من ربي ولا أعلم الغيب إلا بإعلامه سبحانه، ولا يلزم أن يذكر ذلك في النظم الكريم كما أن سؤال طردهم كذلك انتهى، وفيه أن زعم عدم الملاءمة ليس على ما ينبغي، وأيضًا لا يخفى أنه لا قرينة تدل على وقوعه جوابًا لما لم يذكر، وأما سؤال طردهم فإن الاستحقار قرينة عليه في الجملة، وقد صرح بعض السلف به ومثله لا يقال من قبل الرأي: {وَلا أَقُولُ إِنّى مَلَكٌ}
رد لقولهم: {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا} [هود: 27] أي لا أقول ترويجًا لما أدعيه من النبوة إني ملك حتى تقولوا لي ذلك وتكذبوني فإن البشرية ليست من موانع النبوة بل من مباديها يعني كما قيل: إنكم اتخذتم فقدان هذه الأمور الثلاثة ذريعة إلى تكذيبي، والحال أني لا أدعي شيئًا من ذلك ولا الذي يتعلق بشيء منها، وإنما الذي أدعيه يتعلق بالفضائل التي تتفاوت بها مقادير البشر، وقيل: أراد بهذا لا أقول: إني روحاني غير مخلوق من ذكر وأنثى بل ءنما أنا بشر مثلكم فلا معنى لردكم على بقولكم: {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مّثْلَنَا} [هود: 27] وعلى القولين لا دليل فيه على أن الملائكة أفضل من الأنبياء عليهم السلام خلافًا لمن استدل به، وجعل ذلك كلامًا آخر ليس ردًا لما قالوه سابقًا مما لا وجه له فتدبر: {وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِى أَعْيُنُكُمْ} أي تستحقرهم والأصل تزتري بالتاء إلا أنها قلبت دالًا لتجانس الزاي في الجهر لأنها من المهموسة، وأصل الازدراء الإعابة يقال: ازدراه إذا عابه، والتعبير بالمضارع للاستمرار، أو لحكاية الحال لأن الازدراء قد وقع، وإسناده إلى الأعين مجاز للمبالغة في رأي من حيث أنه إسناد إلى الحاسة التي لا يتصور منها تعييب أحد فكأن من لا يدرك ذلك يدركه، وللتنبيه على أنهم استحقروهم بادئ الرؤية وبما عاينوا من رثاثة حالهم وقلة منالهم دون تأمل وتدبر في معانيهم وكمالاتهم، وعائد الموصول محذوف كما أشرنا إليه، واللام للأجل لا للتبليغ وإلا لقيل فيما بعد يؤتيكم أي لا أقول مساعدة لكم ونزولًا على هواكم في شأن الذين استرذلتموهم واستحقرتموهم لفقرهم من المؤمنين: {لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْرًا} في الدنيا أو في الآخرة فعسى الله سبحانه يؤتيهم خيري الدارين.
{الله أَعْلَمُ بِمَا في أَنفُسِهِمْ} مما يستعدون به لإيتاء ذلك، وفي إرشاد العقل السليم من الإيمان، وفيه توجيه لعطف نفي هذا القول الذي ليس مما يستنكره الكفرة ولا مما يتوهمون صدوره عنه عليه السلام أصالة واستتباعًا على نفي هاتيك الأقوال التي هي مما يستنكرونه ويتوهمون صدوره عنه عليه السلام إن ذلك من جهة أن كلا النفيين رد لقياسهم الباطل الذي تمسكوا به فيما سلف فإنهم زعموا أن النبوة تستتبع الأمور المذكورة من ادعاء الملكية وعلم الغيب وحيازة الخزائن وأن العثور على مكانها واغتنام مغانمها ليس من دأب الأراذل، فأجاب عليه السلام بنفي ذلك جميعًا فكأنه قال: لا أقول وجود تلك الأشياء من مواجب النبوة ولا عدم المال والجاه من موانع الخير، واقتصر عليه السلام على نفي القول المذكور مع أنه عليه السلام جازم بأن الله سبحانه سيؤتيهم خيرًا عظيمًا في الدارين وأنهم على يقين راسخ في الإيمان جريًا على سنن الإنصاف مع القوم واكتفاءًا بمخالفة كلامهم وإرشادًا لهم إلى مسلك الهداية بأن اللائق لكل أحد أن لا يبت القول إلا فيما يعلمه يقينًا ويبني أموره على الشواهد الظاهرة ولا يجازف فيما ليس فيه على بينة انتهى، وأنت تعلم أنه عليه السلام قد بتّ القول بفوز هؤلاء في قوله: {وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الذين ءامَنُواْ إِنَّهُمْ ملاقوا رَبّهِمْ} [هود: 29] بناءًا على أنهم المعنيون بالذين آمنوا، وأن المراد من كونهم ملاقوا ربهم أنهم مقربون في حضرة القدس كما قال به غير واحد وكذا الحكم إذا كان المعنى بالموصول من اتصف بعنوان الصلة مطلقًا إذ يدخلون فيه دخولًا أوليًا لما أن المسؤول صريحًا أو تلويحًا طردهم، ولعل البت تارة وعدمه أخرى لاقتضاء المقام ذلك وأن في كون الكفرة قد زعموا أن العثور على مكان النبوة واغتنام مغانمها ليس من دأب الأراذل خفاءًا مع دعوى أنهم لوحوا بقولهم: {وَمَا نَرَاكَ اتبعك} [هود: 27] إلخ الذي هو مظنة ذلك الزعم إلى التماس طردهم وتعليق إيمانهم به عليه السلام بذلك أنفة من الانتظام معهم في سلك واحد.
وفي البحر أن معنى: {وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ} إلخ ليس احتقاركم إياهم ينقص ثوابهم عند الله تعالى ولا يبطل أجورهم ولست أحكم عليهم بشيء من هذا، وإنما الحكم بذلك للذي يعلم ما في أنفسهم فيجازيهم عليه، وقيل: إن هذا رد لقولهم: {وَمَا نَرَاكَ اتبعك} [هود: 27] إلخ على معنى لست أحكم عليهم بأن لا يكون لهم خير لظنكم بهم أن بواطنهم ليست كظواهرهم الله أعلم بما في نفوسهم انتهى، ولا يخفى ما فيه.
وقد أخرج أبو الشيخ عن السدي أنه فسر الخير بالإيمان أي لا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله إيمانًا واستشكل بأن الظاهر أن المراد بالموصول أولئك المتبعون المسترذلون وهم مؤمنون عندهم فلا معنى لنفي القول بإيتاء الله تعالى إياهم الإيمان مساعدة لهم ونزولًا على هواهم.
وأجيب بأن المراد من هذا الإيمان هو المعتد به الذي لا يزول أصلًا كما ينبئ عن ذلك التعبير عنه بالخير وهم إنما أثبتوا لهم الاتباع بادئ الرأي وأرادوا بذلك أنهم آمنوا إيمانًا لا ثبات له، ويجعل ذلك ردًا لذلك القول، ويراد من: {لَن يُؤْتِيَهُمُ} ما آتاهم فكأنهم قالوا: إنهم اتبعوك وآمنوا بك بلا تأمل ومثل ذلك الإيمان في معرض الزوال، فهم لا يثبتون عليه ويرتدون فرد عليهم عليه السلام بأني لا أحكم على أولئك بأن الله تعالى ما آتاهم إيمانًا لا يزول وأنهم سيرتدون كما زعمتم ويكون قوله عليه السلام: {الله أَعْلَمُ بِمَا في أَنفُسِهِمْ} تفويضًا للحكم بذلك إليه تعالى؛ أو إشارة إلى جلالة ما آتاهم الله تعالى إياه من الإيمان كما يقال الله تعالى أعلم بما يقاسي زيد من عمرو إذا كان ما يقاسيه منه أمرًا عظيمًا لا يستطاع شرحه، فكأنه قيل: إن إيمانهم عظيم القدر جليل الشأن فكيف أقول لن يؤتيهم الله تعالى إيمانًا ثابتًا، وفيه من التكلف والتعسف ما الله تعالى به أعلم، وحمل الموصول على أناس مسترذلين جدًا غير أولئك ولم يؤمنوا بعد أي لا أقول للذين تزدريهم أعينكم ولم يؤمنوا بعد لن يوفقهم الله تعالى للإيمان حيث كانوا في غاية من رثاثة الحال والدناءة التي تزعمونها مانعة من الخير: {الله أَعْلَمُ بِمَا في أَنفُسِهِمْ} مما يتأهلون به لإفاضة التوفيق عليهم وهو المدار لذلك لا الأحوال الظاهرة مما لا أقول به: {إِنّى إِذًا} أي إذا قلت ذلك: {لَّمِنَ الظالمين} لهم بحط مرتبتهم ونقص حقوقهم، أو من الظالمين لأنفسهم بذلك، وفيه تعريض بأنهم ظالمون في ازدرائهم واسترذالهم.
ويجوز أن يكون إذا قلت شيئًا مما ذكر من حيازة الخزائن وادعاء علم الغيب والملكية، ونفي إيتاء الله تعالى أولئك الخير والقول لمزيد جهلهم محتاجون لأن يعلل لهم نحو الأقوال الأول بلزوم الانتظام في زمرة الظالمين. اهـ.

.قال القاسمي:

{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [28].
{قَالَ} أي: نوح: {يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ} أي: أخبروني: {إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ} أي: برهان: {مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً} أي: هداية خاصة كشفية: {مِّنْ عِندِهِ} أي: فوق طور العقل من العلوم اللدنية، ومقام النبوة: {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} أي: لاحتجابكم بالظاهر عن الباطن، وبالخليقة عن الحقيقة: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} يعني أنكرهكم على قبولها، ونقسركم على الاهتداء بها، وأنتم تكرهونها ولا تختاورنها، و: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين} [البقرة: من الآية 256]، فالاستفهام للإنكار، أي: لا نقدر على ذلك، والذي في وسعنا دعوتكم إلى الله، لا أن نضطركم إليها، فإن شئتم تلقيها فزكوا نفوسكم، واتركوا إنكاركم، وفي طي جوابه عليه السلام حث على تدبرها، ورد عن الإعراض عنها، بأسلوب فائق.
{وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} أي: على تبليغ التوحيد: {مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ} قال القاشاني: أي: الغرض عندكم من كل أمر، محصور في حصول المعاش، وأنا لا أطلب ذلك منكم، فتنبهوا لغرضي، وأنتم عقلاء بزعمكم.
ثم لما بيَّن أن لا وجه لكراهة دعوته؛ إذ لا تنقصهم من دنياهم شيئًا، فلم يبق إلا خسة أتباعه، ولا ترتفع إلا بطردهم، قال: {وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ} أي: لأنهم أهل القربة والمنزلة عند الله، وطردهم قد يكون مانعًا لهم من الإيمان أو لأمثالهم. ولا يفعل ذلك إلا عدو لله مناوئ لأوليائه. ولو كان طردهم سبب إيمانكم ولم يرتدوا، أخاف من طردهم شكايتهم، وهذا معنى قوله: {إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ} أي: فيخاصمون طاردهم عنده. أو المعنى: إنهم يلاقونه ويفوزون بقربه، فكيف أطردهم؟.
ثم أشار إلى أن خستهم ليست مانعة من الإيمان؛ إذ لا تلحقهم، بقوله: {وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} أي: فتخافون لحوق خستهم، لمشاركتكم إياهم في الإيمان من جهلكم؛ إذ الخسيس لا تترك مشاركته في كل شيء. أو تجهلون ما يصلح به المرء للقاء الله، ولا تعرفون الله ولا لقاءه؛ لذهاب عقولكم في الدنيا، أو تسفهون وتؤذون المؤمنين، وتدعونهم أراذل، أو تجهلون أنهم خير منكم، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53].
ثم أشار إلى أن طردهم يستوجب عقابه تعالى بقوله: {وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ} أي: فإن أفادكم طردهم تعززكم، فإني أستوجب قهره بطردهم، ومن يدفعه عني؟ وفيه إعلام بأن الطرد ظلم موجب لحلول السخط قطعًا، وإنما لم يصرح به إشعارًا بأنه غني عن البيان، لاسيما وقد تقدم ما يلوح به من كرامتهم بإيمانهم بالله واليوم الآخر: {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} تتعظون فتنزجروا عما تقولون؟.
تنبيه:
قال بعضهم: ثمرة ذلك وجوب تعظيم المؤمن، وتحريم الاستخفاف به، وإن كان فقيرًا عادمًا للجاه، متعلقًا بالحرف الوضيعة؛ لأنه تعالى حكى كلام نوح وتجهيله للرؤساء لما طلبوا طرد من عدوه من الأراذل، وهي نظير قوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام: من الآية 52].
ثم أشار إلى أنه عليه السلام بشر مثلهم، أوثر بالوحي والرسالة فلا يدعي ما ليس له، بقوله: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللّهِ} أي: رزقه وأمواله: {وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} أي: أنا أدعي الفضل بالنبوة، لا بالغنى وكثرة المال، ولا بالإطلاع على الغيب، ولا بالملكية، حتى تنكروا فضلي بفقدان ذلك: {وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ} أي: تحتقرهم، وهم الفقراء المؤمنون: {لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا} أي: في الدنيا والآخرة، لهوانهم عليه، كما تقولون؛ إذ الخير عندي ما عند الله، لا المال: {اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ} أي: من الخير مني ومنكم، وهو أعرف بقدرهم وخطرهم، وما يعلم أحد قدر خيرهم لعظمه.
قال القاشاني: وحمل غيره هذا على تفويض ما في أنفسهم من الإيمان إلى علم الله إرشادًا إلى أن اللائق لكل أحد ألا يبت القول إلا فيما يعلمه يقينًا، ويبني أموره على الشواهد الظاهرة، ولا يجازف فيما ليس فيه على بينة ظاهرة: {إِنِّي إِذًا} أي: إذا قلت ذلك: {لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} أي: لبخس حقهم، وحط قدرهم؛ فإن الإيمان الظاهر منهم، رفع شأنهم، فإذا ضموا إلى ذلك الإيمان القلبي كما هو الظاهر منهم؛ فلهم جزاء الحسنى، فمن قطع لهم بعدم نيل الخير بعد ما آمنوا كان ظالمًا. وفيه تعريض بأنهم ظالمون في ازدرائهم. اهـ.