فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي}
فُصلت جملة: {قال يا قوم} عن التي قبلها على طريقة حكاية الأقوال في المحاورات كما قدّمناه عند قوله تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعِلٌ في الأرض خليفةٌ} في سورة [البقرة: 30]، فهذه لما وقعت مقابلًا لكلام محكي يقال فصلت الجملة ولم تعطف بخلاف ما تقدم آنفًا في قوله: {فقال الملأ الذين كفروا من قومه} [هود: 27].
وافتتاح مراجعته بالنداء لطلب إقبال أذهانهم لوعي كلامه، كما تقدم في نظيرها في سورة الأعراف، واختيار استحضارهم بعنوان قومه لاستنزال طائر نفورهم تذكيرًا لهم بأنه منهم فلا يريد لهم إلاّ خيرًا.
وإذ قد كان طعنهم في رسالته مدلّلًا بأنهم ما رأوا له مزية وفضلًا، وما رأوا أتباعه إلاّ ضعفاء قومهم وإن ذلك علامة كذبه وضلال أتباعه، سلك نوح عليه السلام في مجادلتهم مسلك إجمال لإبطال شبهتهم ثم مسلك تفصيل لِردّ أقوالهم، فأما مسلك الإجمال فسلك فيه مسلك القلب بأنهم إن لم يروا فيه وفي أتباعه ما يحمل على التصديق برسالته، فكذلك هو لا يستطيع أن يحملهم على رؤية المعاني الدالة على صدقه ولا يستطيع منع الذين آمنوا به من متابعته والاهتداء بالهدي الذي جاء به.
فقوله: {أرأيتم إن كنتُ على بينة من ربي} إلى آخره.
معناه إن كنتُ ذا برهان واضح، ومتصفًا برحمة الله بالرسالة بالهدى فلم تظهر لكم الحجة ولا دلائل الهدى، فهل ألزمكم أنا وأتباعي بها، أي بالإذعان إليها والتصديق بها إن أنتم تكرهون قبولها.
وهذا تعريض بأنهم لو تأملوا تأملًا بريئًا من الكراهية والعداوة لعلموا صدق دعوته.
و: {أرأيتم}، استفهام عن الرؤية بمعنى الاعتقاد.
وهو استفهام تقريري إذا كان فعل الرؤية غيرَ عامل في مفرد فهو تقرير على مضمون الجملة السادة مسدّ مفعولي (رأيتُم)، ولذلك كان معناه آيلًا إلى معنى أخبروني، ولكنّه لا يستعمل إلاّ في طلب مَن حاله حالُ من يجحد الخبر، وقد تقدم معناه في قوله تعالى: {قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتةً أو جهرة} في سورة [الأنعام: 47].
وجملة: {إن كنتُ على بينة من ربي} إلى قوله: {فعَميت عليكم} معترضة بين فعل: {أرأيتم} ومَا سدّ مسد مفعوليه.
والاستفهام في: {أنلزمكموها} إنكاري، أي لا نكرهكم على قبولها، فعُلق الإلزام بضمير البينة أو الرحمة.
والمراد تعليقه بقبولها بدلالة القرينة.
والبينة: الحجة الواضحة، وتطلق على المعجزة، فيجوز أن تكون معجزته الطوفان، ويجوز أن تكون له معجزات أخرى لم تذكر، فإن بعثة الرسل عليهم السّلام لا تخلو من معجزات.
والمراد بالرحمة نعمة النبوءة والتفضيل عليهم الذي أنكروه، مع ما صحبها من البيّنة لأنّها من تمامها، فعطف (الرحمة) على (البينة) يقتضي المغايرة بينهما، وهي مغايرة بالعموم والخصوص لأن الرحمة أعم من البينة إذ البينة على صدقه من جملة الرحمة به، ولذلك لما أعيد الضمير في قوله: {فعميت} أعيد على (الرحمة) لأنها أعم.
و: {عليكم} متعلقة بـ (عميت) وهو حرف تتعدى به الأفعال الدّالة على معنى الخفاء، مثل: خفي عليك.
ولما كان عمي في معنى خفي عُدّي بـ (على)، وهو للاستعلاء المجازي أي التمكن، أي قوة ملازمة البينة والرحمة له.
واختيار وصف الرب دون اسم الجلالة للدّلالة على أن إعطاءه البينة والرحمة فضل من الله أراد به إظهار رفقه وعنايته به.
ومعنى: {فعميت} فخفيت، وهو استعارة، إذ شبهت الحجة التي لم يدركها المخاطبون كالعمياء في أنها لم تصل إلى عقولهم كما أن الأعمى لا يهتدي للوصول إلى مقصده فلا يصل إليه.
ولمّا ضمّن معنى: الخفاء عدي فعل (عميت) بحرف (على) تجريدًا للاستعارة.
وفي ضد هذه الاستعارة جاء قوله تعالى: {وآتينا ثمود الناقة مبصرةً} [الإسراء: 59]، أي آتيناهم آية واضحة لا يستطاع جحدها لأنها آية محسوسة، ولذلك سمّي جحدهم إياها ظلمًا فقال: {فظلموا بها} [الإسراء: 59].
ومن بديع هذه الاستعارة هنا أن فيها طباقًا لمقابلة قولهم في مجادلتهم: {ما نراك إلاّ بشرًا وما نراك اتّبعك وما نرى لكم علينا من فضل} [هود: 27].
فقابل نوح عليه السلام كلامهم مقابلة بالمعنى واللفظ إذ جعل عدم رؤيتهم من قبيل العَمى.
وعطف (عَميت) بفاء التعقيب إيماء إلى عدم الفترة بين إيتائه البينة والرحمة وبين خفائها عليهم.
وهو تعريض لهم بأنهم بادروا بالإنكار قبل التأمل.
وجملة: {أنلزمكموها} سادة مسد مفعولي: {أرأيتم} لأن الفعل علّق عن العمل بدخول همزة الاستفهام.
وجوابُ الشرط محذوف دلّ عليه فعل: {أرأيتم} وما سدّ مسد مفعوليه.
وتقدير الكلام: قال يا قوم إن كنت على بيّنة من ربي إلى آخره أترون أنلزمكم قبول البينة وأنتم لها كارهون.
وجيء بضمير المتكلم المشارك هنا للإشارة إلى أن الإلزام لو فُرض وقوعه لكان له أعوان عليه وهم أتباعه فأراد أن لا يهمل ذكر أتباعه وأنهم أنصار له لو شاء أن يُهيب بهم.
والقصد من ذلك التنويه بشأنهم في مقابلة تحقير الآخرين إياهم.
والاستفهام إنكاري، أي ما كان لنا ذلك لأن الله لم يأمره بإكراههم إعراضًا عن العناية بهم فترك أمرهم إلى الله، وذلك أشد في توقع العقاب العظيم.
والكاره: المبغض لشيء.
وعدّي باللام إلى مفعوله لزيادة تقوية تعلق الكراهية بالرحمة أو البينة، أي وأنتم مبغضون قبولها لأجل إعراضكم عن التدبّر فيها.
وتقديم المجرور على: {كارهون} لرعاية الفاصلة مع الاهتمام بشأنها.
والمقصود من كلامه بعْثهم على إعادة التأمل في الآيات.
وتخفيض نفوسهم.
واستنزالُهم إلى الإنصاف.
وليس المقصود معذرتهم بما صنعوا ولا العدول عن تكرير دعوتهم.
{وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ}
إعادة الخطاب بـ: {يا قوم} تأكيد لما في الخطاب به أول مرة من المعاني الّتي ذكرناها، وأما عطف النداء بالواو مع أن المخاطب به واحد وشأن عطف النداء أن يكون عند اختلاف المنادى، كقول المعري:
يا ساهر البرق أيقظن راقد السمر ** لعل بالجزع أعوانًا على السهر

ثم قال:
ويا أسيرة حجليها أرى سفها ** حَمْلَ الحُلي بمن أعيَا عن النظر

فأما إذا اتّحد المنادى فالشأن عدم العطف كما في قصة إبراهيم عليه السلام في سورة [مريم: 42- 45]: {إذ قال لأبيه يا أبت لِمَ تعبد ما لا يسمع ولا يبصر} إلى قوله: {وَلِيًّا} فقد تكرّر النداء أربع مرات.
فتعين هنا أن يكون العطف من مقول نوح عليه السّلام لا من حكاية الله عنه.
ثمّ يجوز أن يكون تنبيهًا على اتّصال النداءات بعضها ببعض، وأن أحدها لا يغني عن الآخر، ولا يكون ذلك من قبيل الوصل لأن النداء افتتاح كلام فجملته ابتدائية وعطفها إذا عطفت مجرد عطف لفظي.
ويجوز أن يكون ذلك تفننًا عربيًا في الكلام عند تكرر النداء استحسانًا للمخالفة بين التأكيد والمؤكد.
وسيجيء نظير هذا قريبًا في قصة هود عليه السلام وقصة شعيب عليه السّلام.
ومنه ما وقع في سورة [المؤمن: 30- 33] في قوله: {وقال الذي آمن يا قوم إني أخَافُ عَليْكم مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوححٍ وعادٍ وثمود والذينَ مِن بعَدهم وما الله يريد ظلمًا للعباد ويا قوم إنّي أخَافُ علَيكُم يَوْم التنادِ يوم تُولّون مُدبرين ما لكم من الله من عاصمٍ} ثم قال: {وقال الذي آمن يا قوم اتبعوننِ أهدكم سبيل الرشاد يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاعٌ وإن الآخرة هي دار القرار من عملَ سيئَة فَلا يُجزى إلاّ مثلَها ومَن عمِل صالحًا من ذكر أو أنْثى وهو مؤمنٌ فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساببٍ ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النّار} [غافر: 38 41].
فعطف {ويا قوم} تارة وترك العطف أخرى.
وأما مع اختلاف الوصف المنادى به فقد جاء العطف وهو أظهر لما في اختلاف وصف المنادى من شبه التغاير كقول قيس بن عاصم، وقيل حاتم الطائي:
أيا ابنةَ عبد الله وابنةَ مالك ** ويا ابنةَ ذي البُردين والفرس الورد

فقوله: (ويابنة ذي البردين) عطف نداء على نداء والمنادى بهما واحد.
لما أظهر لهم نوح عليه السّلام أنه يجبرهم على إيمان يكرهونه انتقل إلى تقريبهم من النظر في نزاهة ما جاءهم به، وأنه لا يريد نفعًا دنيويًا بأنّه لا يسألهم على ما جاء به مالًا يعطونه إياه، فماذا يتهمونه حتّى يقطعون بكذبه.
والضمير في قوله: {عليه} عائد إلى المذكور بمنزلة اسم الإشارة في قوله: {ومن يفعل ذلك} فإن الضمير يعامل معاملة اسم الإشارة.
وجملة: {إن أجْري إلاّ على الله} احتراس لأنه لمّا نفى أن يسألهم مالًا، والمال أجر، نشأ توهّم أنه لا يسأل جَزاء على الدعوة فجاء بجملة: {إن أجْري إلاّ على الله} احتراسًا.
والمخالفة بين العبارتين في قوله: {مالا} و: {أجري} تفيد أنه لا يسأل من الله مالًا ولكنه يسأل ثوابًا.
والأجر: العوض على عمل.
ويسمّى ثواب الله أجرًا لأنّه جزاء على العمل الصالح.
وعطف جملة: {وما أنا بطارد الذين آمنوا} على جملة: {لا أسألكم عليه مالًا} لأنّ مضمونها كالنتيجة لمضمون المعطوف عليها لأن نفي طمعه في المخاطبين يقتضي أنه لا يؤذي أتباعه لأجل إرضاء هؤلاء.
ولذلك عبّر عن أتباعه بطريق الموصولية بقوله: {الذين آمنوا} لِما يؤذن به الموصول من تغليظ قومه في تعريضهم له بأن يُطردهم بما أنهم لا يجالسون أمثالهم إيذانًا بأن إيمانهم يوجب تفضيلهم على غيرهم الذين لم يؤمنوا به والرغبةَ فيهم فكيف يطردهم.
وهذا إبطال لما اقتضاه قولهم: {وما نراك اتّبعك إلاّ الذين هم أراذلنا} [هود: 27] من التعريض بأنهم لا يماثلونهم في متابعته.
والطرد: الأمر بالبعد عن مكان الحضور تحقيرًا أو زجرًا.
وتقدم عند قوله تعالى: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم} في سورة [الأنعام: 52].
وجملة: {إنهم ملاقوا ربهم} في موضع التعليل لنفي أن يطردهم بأنهم صائرون إلى الله في الآخرة فمحاسبٌ من يَطردهم، هذا إذا كانت الملاقاة على الحقيقة، أو أراد أنهم يدعون ربهم في صلاتهم فينتصر الله لهم إذا كانت الملاقاة مجازية، أو أنهم ملاقو ربهم حين يحضرون مجلس دعوتي لأنّي أدعو إلى الله لا إلى شيء يخصّني فهم عند ملاقاتي كمن يلاقون ربّهم لأنهم يتلقون ما أوحى الله إليّ.
وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم في قصة النفَر الثلاثة الذين حضروا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فجلس أحدهم، واستحَيَا أحدهم، وأعرض الثالث «أمّا الأول فآوَى إلى الله فآواه الله، وأما الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه».
وتأكيد الخبر بـ (إنّ) إنْ كان اللقاء حقيقة لرد إنكار قومه البعث، وإنْ كان اللقاء مجازًا فالتّأكيد للاهتمام بذلك اللقاء.
وقد زيد هذا التأكيد تأكيدًا بجملة: {ولكني أراكم قومًا تجهلون}.
وموقع الاستدراك هو أن مضمون الجملة ضد مضمون التي قبلها وهي جملة: {إنهم ملاقوا ربهم} أي لا ريب في ذلك ولكنكم تجهلون فتحسبونهم لا حضرة لهم وأن لا تبعة في طردهم.
وحذف مفعول: {تجهلون} للعلم به، أي تجهلون ذلك.
وزيادة قوله: {قومًا} يدل على أن جهلهم صفة لازمة لهم كأنها من مقومات قوميتهم كما تقدم عند قوله تعالى: {لآياتتٍ لقوممٍ يعقلون} في سورة [البقرة: 164].
{وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}
إعادة: {ويا قوم} مثل إعادته في الآية قبلها.
والاستفهام إنكاري.
والنصر: إعانة المقاوم لضدّ أو عدوّ، وضمن معنى الإنجاء فعدّي بـ (مِن) أي مَن يخلصني، أي ينجيني من الله، أي من عقابه، لأن طردهم إهانة تؤذيهم بلا موجب معتبر عند الله، والله لا يحب إهانة أوليائه.
وفرع على ذلك إنكارًا على قومه في إهمالهم التذكر، أي التأمل في الدلائل ومدلولاتها، والأسباب ومسبّباتها.
وقرأ الجمهور: {تذّكّرون} بتشديد الذال.
وأصل: {تذّكرون}، تتذكرون فأبدلت التاء ذالًا وأدغمت في الذّال.
وقرأه حفص {تذكرون} بتخفيف الذّال وبحذف إحدى التاءين.
والتذكر تقدم عند قوله: {إن الذين اتّقوا إذا مسّهم طائفٌ من الشيطان تذكّروا} في آخر سورة الأعراف (201).