فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي}
وقول نوح عليه السلام: {أَرَأَيْتُمْ} أي: أخبروني إن كنت على بين موهوبة من الله تعالى ونور وبصيرة وفطرة بالهداية، وآتاني الحق سبحانه: {رَحْمَةً} أي: رسالة، بينما خفيت هذه المسألة عنكم، فهل أجبركم على ذلك؟ لا؛ لأن الإيمان لابد أن يأتي طواعية بعد إقناع ملموس، وانفعال مأنوس، واختيار بيقين.
وحين ننظر في قوله: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود: 28].
نجد الهمزة الاستفهامية ثم الفعل نلزم ثم كاف المخاطبة، وهنا نكون أمام استفهام، وفعل، وفاعل مطمور في الفعل، ومفعول أو هو كاف المخاطبة، ومفعول ثان هو الرحمة.
إذن: فلا إلزام من الرسول لقومه بأن يؤمنوا؛ لأن الإيمان يحتاج إلى قلوب، لا قوالب، وإكراه القوالب لا يزرع الإيمان في القلوب.
والحق سبحانه يريد من خلقه قلوبًا تخشع، لا قوالب تخضع، ولو شاء سبحانه لأرغمهم وأخضعهم كما أخضع الكون كله له، سبحانه القائل: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السماء} [النازعات: 27].
فالحق سبحانه وتعالى أخضع السماء والشمس والقمر، وكلَّ الكون، وهو سبحانه يقول لنا: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} [غافر: 57].
والكون كله يخضع لمشيئة الله سبحانه وتعالى.
وقد خلق الحق سبحانه الملائكة وهم جنس أعلى من البشر، وقال سبحانه عنهم: {لاَّ يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].
إذن: فالحق سبحانه وتعالى لو أراد قوالب لأخضع الخلق كلهم لعبادته، ولكنه سبحانه وتعالى يريد قلوبًا تخشع؛ ولذلك يقول تبارك وتعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السماء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 34].
وهكذا نعلم أن الحق سبحانه مُنَزَّهٌ عن رغبة أخضاع القوالب البشرية، بل شاء سبحانه أن يجعل الإنسان مختارًا؛ ولذلك لا يُكْرِهُ الله سبحانه أحدًا على الإيمان.
والدِّين لا يكون بالإكراه، بل بالطواعية والرضا.
والحق سبحانه وتعالى هو القائل: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي} [البقرة: 256].
وهكذا يطلب الحق سبحانه من الخلق أن يعرضوا أمر الإيمان على العقل، فالعقل بالإدراك ينفعل متعجبًا لإبداع المبدع، وعند الإعجاب ينزع إلى اختياره بيقين المؤمن.
يقول الحق: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف اليل والنهار لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب} [آل عمران: 190].
والإكراه إنما يكون على أمر غير مُتَبَيَّن، أما الدِّين فأمر يتبيَّن فيه الرشد؛ لأن المنهج حين يطلب منك ألا تسرق غيرك، فهو يضمن لك ألا يسرقك الغير، وحين يأمرك ألا تنظر إلى محارم غيرك، فهو يحمي محارمك، وحين يأمرك ألا تغتاب أحدًا، وألا تحقد على أحد، ففي هذا كله راحة للإنسان.
إذن: فما يطلبه المنهج هو كل أمر مريح للإنسان، وأنت إن نظرت في مطلوبات المنهج فلن تجدها مطلوبة منك وحدك، ولكن مطلوبة من الناس لك أيضًا.
وهو تبادل مراد من الله لإعمار الكون أخذًا وعطاء.
ولذلك لا يحتاج مثل هذا الرشد إلى إكراه عليه، بل تجد فيه البينة واضحة فاصلة بينه وبين الغَيِّ.
والآفة أن بعضًا من الناس يستخدمون هذه الآية في غير موضعها، فحين تطلب من مسلم أن يصلِّي تجده يقول لك: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} [البقرة: 256].
ولك أن تقول له: لا إكراه في الحَمْل على الدِّين والإيمان به، لكنك إذا آمنت بالدِّين فإياك أن تكسره، بتعطيل منهجه أو الإعراض عنه.
ولذلك يشدِّد الحق سبحانه عقوبة الخروج من الدين؛ لأن الحق سبحانه لم يُكرِه أحدًا على الدخول في الدين، بل للإنسان أن يفكر ويتدبر؛ لأنه إن دخَل في الدين وارتكب ذنبًا فسيلقى عقاب الذنب؛ لأنه دخل برغبته واختاره بيقينه، فالمخالفة لها عقابها.
إذن: فالدخول إلى الإيمان لا إكراه فيه، ولكن الخروج من الدين يقتضي إقامة الحد على المرتدِّ ومعاقبة العاصي على عصيانه.
وعندما يعلم الجميع هذا الأمر فهم يعلمون أن الحق سبحانه وتعالى قد جعل الصعوبة في الدخول إلى الدين عن طريق تصعيب آثار الخروج منه.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك على لسان نوح عليه السلام: {ويا قوم لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا}
ومثل هذا القول بمعناه جاء مع كل رسول، ففي مواضع أخرى يقول الحق سبحانه: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الأنعام: 90].
لأن العِوَض في التبادل قد لا يكون مالًا، بل قد يكون تمرًا، أو شعيرًا أو قطنًا أو غير ذلك، والأجر كما نعلم هو أعم من أن يكون مالًا أو غير مال؛ لذلك يقول الحق سبحانه هنا: {لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله} [هود: 29].
وهكذا نجد أن الحق سبحانه قد أغْلَى الأمر.
وقول الرسول: {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله} [هود: 29].
هو قول يدل على أن الأمر الذي جاء به الرسول هو أمر نافع؛ لأن الأجرة لا تستحق إلا مقابل المنفعة.
ونحن نعلم أن مبادلة الشيء بعينه أو ما يساويه؛ تُسمَّى شراء، أما أن يأخذ الإنسان المنفعة من العين، وتظل العين ملكًا لصاحبها، فمن يأخذ هذه المنفعة يدفع عنها إيجارًا، فكان نوحًا عليه السلام يقول: لقد كنت أستحق أجرًا لأنني أقدِّم لكم منفعة، لكنني لن آخذ منكم شيئًا، لا زُهْدًا في الأجر، ولكني أطمع في الأجر ممن هو أفضل منكم وأعظم وأكبر.
ولأن هذا الملأ الكافر قد وصف من اتبع نوحًا بأنهم أراذل؛ لذلك ياتي الرد من نوح عليه السلام: {وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الذين آمنوا} [هود: 29].
ويوضح هذا الرد أن نوحًا عليه السلام لا يمكن أن يطرد إنسانًا من حظيرة الإيمان لأنه فقير، فاليقين الإيماني لا علاقة له بالثروة أو الجاه أو الفقر والحاجة.
ولا يُخْلِي رسولٌ مكانًا من أتباعه الفقراء ليأتي الأغنياء، بل الكلُّ سواسية أمام الله سبحانه وتعالى.
والحق سبحانه يقول: {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظالمين} [الأنعام: 52].
وقد جعل الحق سبحانه هؤلاء الذين يطلق عليهم كلمة أراذل فتنة، فمن تكبَّر بسبب فقر وضعف أتباع الرسل، فليغرق في كِبْره.
لذلك يقول الحق سبحانه: {وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ليقولوا أهؤلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين} [الأنعام: 53].
وأيضا يأمر الحق سبحانه رسوله بأن يضع عينه على هؤلاء الضعاف، وألا ينصرف عنهم أو عن أي واحد منهم، فيقول الحق سبحانه: {واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف: 28].
جاء هذا القول حتى لا ينشأ فساد أو عداء بين المؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يقال: فلان مُقَرَّبٌ منه؛ ولذلك كان صلى الله عليه وسلم إذا جلس؛ يوزع نظره على كل جلسائه، حتى يظن كل جالس أن نظره لا يتحول عنه.
وفي هذه الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سحبانه وتعالى على لسان سيدنا نوح عليه السلام وصفًا لهؤلاء الضعاف الذين آمنوا: {إِنَّهُمْ مُّلاَقُواْ رَبِّهِمْ} [هود: 29].
وفي هذا بيانٌ أن نوحًا عليه السلام لن يطرد هؤلاء الضعاف المؤمنين، فلو طردهم وهم الذين سيلقون الله تعالى، أيسمح نوح عليه السلام أن يقال عنه أمام الحق تبارك وتعالى إنه قد طرد قومًا آمنوا رسالته؟ طبعًا لا.
ونحن نعلم أن الحق سبحانه يحاسب رسله، والمرسَل إليهم، فهو سبحانه القائل: {فَلَنَسْأَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المرسلين} [الأعراف: 6].
إذن: فنوح عليه السلام يعلم أنه مسئول أمام ربه، ولكن هذا الملأ الكافر من قومه يجهلون؛ ولذلك يقول الحق سبحانه في نهاية هذه الآية الكريمة على لسان نوح عليه السلام: {ولكني أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [هود: 29].
أي: أنهم لا يفهمون مهمة نوح عليه السلام، وأنه مسئول أمام ربه.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {ويا قوم مَن يَنصُرُنِي مِنَ الله}
وهنا يوضِّح نوح عليه السلام أنه لا يقدر على مواجهة الله إن طرد هؤلاء الضعاف؛ لأن أحدًا لن ينصر نوحًا على الله عز وجل لحظة الحساب، فهناك يوم لا ملك فيه لأحد إلا لله، ولا أحد يشفع إلا بإذنه سبحانه، ولا أحد بقادر على أن ينصر أحدًا على الله تعالى؛ لأنه القاهر فوق كل خلقه، والنصر كما نعلم يكون بالغلبة، أما الشفاعة فهي بالخضوع، والحق سبحانه لا يأذن لأحد أن يشفع في طرد مؤمن من حظيرة الإيمان.
وفي هذا القول تذكير من نوح عليه السلام لقومه؛ ولذلك قال الحق سبحانه: {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} [هود: 30]
أي: يجب ألاَّ تأخذكم الغفلة، وتُنسيكم ما يجب أن تتذكروه.
وكما جاء الحق سبحانه بالتذكُّر، وهو الأمر الذي بدوامه يبعد الإنسان الغفلة، جاء الحق سبحانه أيضًا بالتفكُّر، وهو التأمل لاستنباط شيء جديد عن طريق إعمال العقل بالتفكر، الذي يجعل الإنسان في تأمل يقوده إلى تقديس وتنزيه الخالق، وبهذا يصل الإنسان إلى الحقائق التي تكشف له معالم الطريق.
وجاء الحق سبحانه أيضًا بالتدبر، أي: ألا يأخذ الإنسان الأمور بظواهرها، أو أن ينخدع بتلك الظواهر، بل لابد من البحث في حقائق الأشياء.
لذلك يقول الحق جَلَّ وعَلاَ: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن} [النساء: 82].
أي: أفلا يبحثون عن الكنوز الموجودة في المعطيات الخلفية للقرآن.
والتدبر هو الذي يكشف المعاني الخفية خلف ظواهر الآيات، والناس يتفاضلون في تعرضهم لأسرار كتاب الله حين ينظرون خلف ظواهر المعاني.
ولذلك نجد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: «ثَوِّروا القرآن» أي: قَلِّبوا معاني الآيات لتجدوا ما فيها من كنوز، ولا تأخذوا الآيات بظواهرها، فعجائب القرآن لا تنقضي.
ويقول الحق سبحانه وتعالى مواصلًا ما جاء على لسان سيدنا نوح: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ الله}
وهكذا يَسُدُّ نوح عليه السلام على هذا الملأ الكافر كل أسباب إعراضهم عن الإيمان، فإن ظنوا أن الإيمان يتطلب ثراءً، فنوح لا يملك خزائن لله، وهو لا يملك أكثر من هذا الملأ، وإن طلبوا أن يكشف لهم الغيب، فالغيب علمه عند الله تعالى وحده.
ولم يَدَّعِ نوح أنه من جنس آخر غير البشر، إنما هو بشر مثلهم، لا يملك ما يجبرهم به على الطاعة، ثراءً، أو جاهًا، أو علم غيب.
ولن يطرد نوح عليه السلام مَنْ آمن مِنَ الضِّعاف الذين تزدريهم وتحتقرهم وتتهكَّم عليهم عيون هذا الملأ الكافر؛ لأن نوحًا يخشى سؤال الله عَزَّ وجَلَّ له إن سَدَّ في وجوه الضعاف أبواب الإيمان.
ولابد من وقفة هنا عند قول الحق سبحانه: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ الله وَلاَ أَعْلَمُ الغيب وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تزدري أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْرًا} [هود: 31].
ونلحظ هنا أن الخطاب قد حُوِّل إلى الغَيبة، فلم يخاطب نوح عليه السلام الضعاف ويقول لهم: إن الله سيمنع عنكم الخير، ذلك لأن الله سبحانه وتعالى هو العليم بما في نفوسهم، ولو قال نوح لهم مثل هذا القول لكان من الظالمين.
واللام في كلمة: {لِلَّذِينَ} تعني الحديث عن الضعاف، لا حديثًا إلى الضعاف.
ومجيء اللام بمعنى عن له نظائر، مثل قول الحق سبحانه: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هاذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} [سبأ: 43]. وهم هنا لا يقولون للحق، ولكنهم يقولون عن الحق، وهكذا جاءت اللام بمعنى عن.
وهكذا أوضح نوح عليه السلام أنه لو طرد من يقال عنهم أراذل، لكان معنى ذلك أنه يعلم النوايا، ونوح عليه السلام يعلم يقينًا أن الله هو الأعلم بما في النفوس؛ لذلك لا يضع نوح نفسه في موضع الظلم لا لنفسه ولا لغيره. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)}
قوله تعالى: {رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ}: يجوز في الجارِّ أيضًا أن يكونَ نعتًا ل {رحمة} وأن يكونَ متعلقًا ب {آتاني}.
قوله: {فَعُمِّيَتْ} قرأ الأخوان وحفص بضم العين وتشديد الميم، والباقون بالفتح والتخفيف. فأما القراءة الأولى فأصلها: عَمَاها اللَّهُ عليكم، أي: أَبْهمهما عقوبةً لكم، ثم بُني الفعل لما لم يُسَمَّ فاعلُه، فحُذِفَ فاعلُه للعلمِ به وهو اللَّه تعالى، وأقيم المفعولُ وهو ضميرُ الرحمة مُقامه، ويدل على ذلك قراءةُ أُبَيّ بهذا الأصل {فعماها اللَّهُ عليكم}، ورُوي عنه أيضًا وعن الحسن وعليّ والسُّلَمي {فعماها} من غير ذِكْرِ فاعلٍ لفظي، ورُوي عن الأعمش وابن وثاب {وعُمِّيَتْ} بالواو دون الفاء.
وأمَّا القراءة الثانية فإنه أسند الفعل إليها مجازًا. قال الزمخشري: فإن قلت: ما حقيقته؟ قلت: حقيقته أنَّ الحجةَ كما جُعِلَتْ بصيرةً ومُبْصرة جُعلت عمياء؛ لأنَّ الأعمى لا يَهْتدي ولا يَهْدي غيرَه، فمعنى فَعَمِيَتْ عليكم البَيِّنَةُ: فلم تَهْدِكم كما لو عَمِي على القوم دليلُهم في المفازَةِ بقُوا بغيرِ هادٍ.
وقيل: هذا من باب القلب، وأصلها فَعَمِيْتُم أنتم عنها كما تقول: أدخلت القلنسوة في رأسي، وأدخلت الخاتم في إصبعي وهو كثيرٌ، وتقدم تحريرُ الخلافِ فيه، وأنشدوا على ذلك:
ترى الثورَ فيها مُدْخِلَ الظلِّ رأسَه ** ............................

قال أبو علي: وهذا مما يُقْلَبُ، إذ ليس في إشكال، وفي القرآن: {فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} [إبراهيم: 47]، وبعضهم يُخَرِّج البيت على الاتساعِ في الظرف. وأمَّا آيةُ إبراهيم فَأَخْلَفَ يتعدَّى لاثنين، فأنت بالخيار: أن تضيفَ إلى أيِّهما شِئْتَ فليس من باب القلب. وقد رَدَّ بعضُهم كونَ هذه الآية من باب المقلوب بأنه لو كان كذلك لتعدَّى بعن دون على، ألا ترى أنك تقول: عَمِيْتُ عن كذا لا على كذا.
واختُلِفَ في الضمير في {عُمِّيَتْ} هل هو عائد على البيِّنة فيكونَ قولُه: {وآتاني رحمة} جملة معترضة بين المتعاطفين، إذ حقُّه: {على بَيِّنَةٍ مِّن ربي... فَعُمِّيَتْ}. وإن قيل بأنه عائد على الرحمة فيكون قد حُذف من الأول لدلالة الثاني، والأصل: على بينة من ربي فَعُمِّيَتْ. قال الزمخشري: وآتاني رحمة بإتيان البيِّنة، على أن البيِّنة في نفسها هي الرحمة. ويجوز أن يريدَ بالبينة المعجزة، وبالرحمة النبوَّةَ. فإن قلت: فقوله: {فعُمِّيَتْ} ظاهر على الوجه الأول فما وجهُه على الوجه الثاني، وحقُّه أن يقال: فَعَمِيَتَا؟ قلت: الوجهُ أن يُقَدَّر: فعُمِّيَتْ بعد البينة، وأن يكون حَذَفَه للاقتصار على ذِكْرِه مرةً. انتهى.