فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {وَأوحِيَ إِلَى نُوحٍ أنه لن يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ}
حقق الله تعالى استدامة كفرهم تحقيقًا لنزول الوعيد بهم، قال الضحاك، فدعا عليهم لما أُخبر بهذا فقال: {ربِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ ديَّارًا إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 27: 26].
{فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} فيه وجهان:
أحدهما: فلا تأسف ومنه قول يزيد بن عبد المدان:
فارسُ الخيل إذا ما ولولت ** ربّهُ الخِدر بصوتٍ مبتئس

الثاني: فلا تحزن، ومنه قول الشاعر:
وكم من خليلٍ او حميم رُزئته ** فلم أبتئس والرزءُ فيه جَليلُ

والأبتئاس: الحزن في استكانة، وأصله من البؤس، وفي ذلك وجهان:
أحدهما: فلا تحزن لهلاكهم.
الثاني: فلا تحزن لكفرهم المفضي إلى هلاكهم.
قوله عز وجل: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} فيه ثلاثة أوجه:
أحدهما: بحيث نراك، فعبر عن الرؤية بالأعين لأن بها تكون الرؤية.
الثاني: بحفظنا إياك حفظ من يراك.
الثالث: بأعين أوليائنا من الملائكة.
ويحتمل وجهًا رابعًا: بمعونتنا لك على صنعها: {وَوَحْيِنَا} فيه وجهان:
أحدهما: وأمرنا لك أن تصنعها.
الثاني: تعليمنا لك كيف تصنعها.
{وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظلَمُواْ إِنَّهُمْ مُغْرَقونَ} نهاه الله عن المراجعة فيهم فاحتمل نهيه أمرين:
أحدهما: ليصرفه عن سؤال ما لا يجاب إليه.
الثاني: ليصرف عنه مأثم الممالأة للطغاة. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وأوحي إِلى نوح أَنه لن يؤمن من قومك إِلا من قد آمن}
قال المفسرون: لما أوحي إِليه هذا، استجاز الدعاء عليهم، فقال: {لا تذرْ على الأرض من الكافرين ديارًا} [نوح 26].
قوله تعالى: {فلا تبتئس} قال ابن عباس، ومجاهد، لا تحزن.
وقال الفراء، والزجاج: لا تستكن ولا تحزن.
قال أبو صالح عن ابن عباس: فلا تحزن إِذا نزل بهم الغرق: {بما كانوا يفعلون}.
قوله تعالى: {واصنع الفلك} أي: واعمل السفينة.
وفي قوله: {بأعيننا} ثلاثة أقوال:
أحدها: بمرأىً منا، قاله ابن عباس.
والثاني: بحفظنا، قاله الربيع.
والثالث: بعلمنا، قاله مقاتل.
قال ابن الأنباري: إِنما جمع على مذهب العرب في إِيقاعها الجمع على الواحد، تقول: خرجنا إِلى البصرة في السفن، وإِنما جمع، لأن من عادة الملك أن يقول: أمرنا ونهينا.
وفي قوله: {ووحينا} قولان:
أحدهما: وأمرنا لك أن تصنعها.
والثاني: وبتعليمنا إِياك كيف تصنعها.
قوله تعالى: {ولاتخاطبني في الذين ظلموا} فيه قولان:
أحدهما: لاتسألني الصفح عنهم.
والثاني: لاتخاطبني في إِمهالهم.
وإِنما نهي عن الخطاب في ذلك صيانة له عن سؤال لا يجاب فيه.
الإِشارة إِلى كيفية عمل السفينة:
روى الضحاك عن ابن عباس: قال كان نوح يُضرب ثم يُلفُّ في لِبْدٍ فيُلقى في بيته، يُرَوْن أنه قد مات، ثم يخرج فيدعوهم. حتى إِذا يئس من إِيمان قومه، جاءه رجل ومعه ابنه وهو يتوكأ على عصًا، فقال: يا بني، انظر هذا الشيخ لايغررك، قال: يا أبت أمكني من العصا، فأخذها فضربه ضربةً شجه مُوْضِحَةً، وسالت الدماء على وجهه، فقال رب قد ترى مايفعل بي عبادك، فإن يكن لك فيهم حاجة فاهدهم، وإِلا فصبِّرني إِلى أن تحكم، فأوحى الله إِليه: {أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} إِلى قوله: {واصنع الفلك}، قال: يارب، وما الفلك؟ قال: بيت من خشب يجري على وجه الماء أُنجّي فيه أهل طاعتي، وأُغْرِق أهل معصيتي، قال: يارب، وأين الماء؟ قال: إِني على ما أشاء قدير، قال: يارب، وأين الخشب؟ قال: اغرس الشجر، فغرس الساج عشرين سنة، وكفّ عن دعائهم، وكفُّوا عنه، إِلا أنهم يستهزئون به، فلما أدرك الشجر، أمره ربه، فقطعه وجفَّفَه ولفَّقَه، فقال: يارب، كيف أتخذ هذا البيت؟ قال: أجعله على ثلاث صور، رأسه كرأس الطاووس، وجؤجؤه كجؤجؤ الطائر، وذنبه كذنب الديك، واجعلها مطبقة، وبعث الله إِليه جبريل يعلمه، وأوحى الله إِليه أن عجِّل عمل السفينة فقد اشتد غضبي على مَنْ عصاني، فاستأجر نجارين يعملون معه، وسام، وحام، ويافث، معه ينحتون السفينة، فجعل طولها ستمائة ذراع، وعرضها ثلاثمائة وثلاثين ذراعًا، وعلوها ثلاثًا وثلاثين، وفجَّرَ الله له عين القار تغلي غليانًا حتى طلاها.
وعن ابن عباس قال: جعل لها ثلاث بطون، فحمل في البطن الأول الوحوش والسباع والهوام، وفي الأوسط الدواب والأنعام، وركب هو ومن معه البطن الأعلى.
وروي عن الحسن أنه قال: كانت سفينة نوح طولها ألف ذراع، ومائتا ذراع، وعرضها ستمائة ذراع.
وقال قتادة: كانت فيما ذُكر لنا طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسمائة ذراع، وطولها في السماء ثلاثون ذراعًا.
وقال ابن جريج: كان طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسين ومائة ذراع، وطولها في السماء ثلاثون ذراع، وكان في أعلاها الطير، وفي وسطها الناس، وفي أسفلها السباع.
وزعم مقاتل أنه عمل السفينة في أربعمائة سنة. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ}
{أنه} في موضع رفع على أنه اسم ما لم يُسمَّ فاعله. ويجوز أن يكون في موضع نصب، ويكون التقدير ب {أنه}.
و{آمَنَ} في موضع نصب ب: {يؤمن} ومعنى الكلام الإياس من إيمانهم، واستدامة كفرهم، تحقيقًا لنزول الوعيد بهم. قال الضحاك: فدعا عليهم لما أخبر بهذا فقال: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّارًا} [نوح: 26] الآيتين.
وقيل: إن رجلًا من قوم نوح حمل ابنه على كتفه، فلما رأى الصبي نوحًا قال لأبيه: أعطني حجرًا؛ فأعطاه حجرًا، ورمى به نوحًا عليه السلام فأدماه؛ فأوحى الله تعالى إليه: {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ}.
{فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} أي فلا تغتَمّ بهلاكهم حتى تكون بائسًا؛ أي حزينًا.
والبؤس الحزن؛ ومنه قول الشاعر:
وكم مِن خليلٍ أو حميم رُزِئته ** فلم أبتئسْ والرُّزءُ فيه جَلِيلُ

يقال: ابتأس الرجل إذا بلغه شيء يكرهه.
والابتئاس حزن في استكانة.
قوله تعالى: {واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} أي اعمل السفينة لتركبها أنت ومن آمن معك.
{بِأَعْيُنِنَا} أي بمرأى منا وحيث نراك.
وقال الرّبيع بن أنس: بحفظنا إياك حفظ من يَراك.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: بحراستنا؛ والمعنى واحد؛ فعبّر عن الرؤية بالأعين؛ لأن الرؤية تكون بها.
ويكون جمع الأعين للعظمة لا للتكثير؛ كما قال تعالى: {فَنِعْمَ القادرون} [المرسلات: 23] {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ}، {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47].
وقد يرجع معنى الأعين في هذه الآية وغيرها إلى معنى عين؛ كما قال: {وَلِتُصْنَعَ على عيني} [طه: 39] وذلك كله عبارة عن الإدراك والإحاطة، وهو سبحانه منّزه عن الحواسّ والتشبيه والتكييف؛ لا ربّ غيره.
وقيل: المعنى {بِأَعْيُنِنَا} أي بأعين ملائكتنا الذين جعلناهم عيونًا على حِفظك ومعونتك؛ فيكون الجمع على هذا التكثير على بابه.
وقيل: {بِأَعْيُنِنَا} أي بعلمنا؛ قاله مقاتل: وقال الضّحاك وسفيان: {بِأَعْيُنِنَا} بأمرنا.
وقيل: بوحينا.
وقيل: بمعونتنا لك على صنعها.
{وَوَحْيِنَا} أي على ما أوحينا إليك من صنعتها.
{وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} أي لا تطلب إمهالهم فإني مغرقهم. اهـ.

.قال الخازن:

{وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن}.
قال ابن عباس إن قوم نوح كانوا يضربون نوحًا حتى يسقط فيلفونه في لبد ويلقونه في بيت يظنون أنه قد مات فيخرج في اليوم الثاني ويدعوهم إلى الله ويروي أن شيخًا منهم جاء متكئًا على عصاه ومعه ابنه فقال يا بني لا يغرنك هذا الشيخ المجنون فقال يا أبت أمكني من العصا فأخذه من أبيه وضرب بها نوحًا عليه السلام حتى شجه شجة منكرة فأوحى الله إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن: {فلا تبتئس} يعني فلا تحزن عليهم فإني مهلكهم: {بما كانوا يفعلون} يعني بسبب كفرهم وأفعالهم فحينئذ دعا نوح عليه السلام عليهم فقال: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارًا}
وحكى محمد بن إسحاق عن عبد الله بن عمير الليثي أنه بلغه أنهم كانوا يبسطون نوحًا فيخنقونه حتى يغشى عليه فإذا أفاق قال رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون حتى تمادوا في المعصية واشتد عليه فإذا فاق قال رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون حتى تمادوا في المعصية واشتد عليه منهم البلاء وهو ينتظر الجيل بعد الجيل فلا يأتي قرن إلا كان أنحس من الذي قبله ولقد كان يأتي القرن الآخر منهم فيقول قد كان هذا الشيخ مع آبائنا وأجدادنا هكذا مجنونًا فلا يقبلون منه شيئًا فشكا نوح إلى الله فقال يا رب: {أني دعوت قومي ليلًا ونهارًا} الآيات حتى بلغ رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارًا فأوحى الله سبحانه وتعالى إليه.
{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ} يعني السفينة والفلك لفظ يطلق على الواحد والجمع: {بأعيننا} قال ابن عباس بمرأى منا وقيل بعلمنا وقيل بحفظنا: {ووحينا} يعني بأمرنا: {ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون} يعني بالطوفان والمعنى ولا تخاطبني في إمهال الكفار فإني قد حكمت بإغراقهم وقيل ولا تخاطبني في ابنك كنعان وامرأتك واعلة فإنهما هالكان مع القوم وقيل إن جبريل أتى نوحًا فقال له إن ربك يأمرك أن تصنع الفلك فقال كيف أصنعها ولست نجارًا فقال إن ربك يقول اصنع فإنك بأعيننا فأخذ القدوم وجعل ينجر ولا يخطئ فصنعها مثل جؤجؤ الطير وهو قوله سبحانه وتعالى: {ويصنع الفلك}. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ}
قرأ الجمهور وأوحي مبنيًا للمفعول، أنه بفتح الهمزة.
وقرأ أبو البرهشيم: وأوحي مبنيًا للفاعل، إنه بكسر الهمزة على إضمار القول على مذهب البصريين، وعلى إجراء أوحى مجرى قال: على مذهب الكوفيين، أيأسه الله من إيمانهم، وأنه صار كالمستحيل عقلًا بأخباره تعالى عنهم.
ومعنى إلا من قد آمن أي: من وجد منه ما كان يتوقع من إيمانه، ونهاه تعالى عن ابتآسه بما كانوا يفعلون، وهو حزنه عليهم في استكانة.
وابتأس افتعل من البؤس، ويقال: ابتأس الرجل إذا بلغه شيء يكرهه، وقال الشاعر:
وكم من خليل أو حميم رزئته ** فلم نبتئس والرزء فيه جليل

وقال آخر:
ما يقسم الله أقبل غير مبتئس ** منه واقعد كريمًا ناعم البال

وقال آخر:
فارس الخيل إذا ما ولولت ** ربة الخدر بصوت مبتئس

وقال آخر:
في مأتم كنعاج ص ** رة يبتئسن بما لقينا

صارة موضع بما كانوا يفعلون من تكذيبك وإيذائك ومعاداتك، فقد حان وقت الانتقام منهم.
واصنع عطف على فلا تبتئس، بأعيننا بمرأى منا، وكلاءة وحفظ فلا تزيغ صنعته عن الصواب فيها، ولا يحول بين العمل وبينه أحد.
والجمع هنا كالمفرد في قوله: ولتصنع على عيني، وجمعت هنا لتكثير الكلاءة والحفظ وديمومتها.
وقرأ طلحة بن مصرف: باعينا مدغمة.
ووحينا نوحي إليك ونلهمك كيف تصنع.
وعن ابن عباس: لم يعلم كيف صنعة الفلك، فأوحى الله أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر.
قيل: ويحتمل قوله بأعيننا أي بملائكتنا الذين جعلناهم عيونًا على مواضع حفظك ومعونتك، فيكون اللفظ هنا للجمع حقيقة.
وقول من قال: معنى ووحينا بأمرنا لك أو بعلمنا ضعيف، لأن قوله: واصنع الفلك، مغن عن ذلك.
وفي الحديث: «كان زان سفينة نوح جبريل». والزان القيم بعمل السفينة.
والذين ظلموا قوم نوح، تقدم إلى نوح أن لا يشفع فيهم فيطلب إمهالهم، وعلل منع مخاطبته بأنه حكم عليهم بالغرق، ونهاه عن سؤال الإيجاب إليه كقوله: {يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود} وقيل الذين ظلموا واعلة زوجته وكنعان ابنه. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَأُوحِىَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ} أي المُصِرِّين على الكفر وهو إقناطٌ له عليه السلام من إيمانهم وإعلامٌ لكونه كالمُحال الذي لا يصِحّ توقّعُه: {إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ} إلا من قد وُجد منه ما كان يُتوقَّع من إيمانه، وهذا الاستثناءُ على طريقة قولِه تعالى: {إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ}، {فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} أي لا تحزَنْ حزْنَ بائسٍ مستكينٍ ولا تغتمَّ بما كانوا يتعاطَوْنه من التكذيب والاستهزاء والإيذاءِ في هذه المدة الطويلةِ فقد انتهى أفعالُهم وحان وقتُ الانتقامِ منهم: {واصنع الفلك} ملتبسًا: {بِأَعْيُنِنَا} أي بحفظنا وكلاءتِنا كأن معه من الله عز وجل حُفّاظًا وحرّاسًا يكلؤنه بأعينهم من التعدّي من الكفرة ومن الزيغ في الصنعة: {وَوَحْيِنَا} إليك كيف تصنعُها وتعليمِنا وإلهامِنا. عن ابن عباس رضي الله عنهما لم يعلمْ كيف صنعةُ الفُلك، فأوحى الله تعالى إليه أن يصنعَها مثلَ جُؤجُؤ الطائر، والأمرُ للوجوب إذ لا سبيل إلى صيانة الروحِ من الغرق إلا به فيجب كوجوبها، واللامُ إما للعهد بأن يُحملَ على أن هذا مسبوقٌ بوحي الله تعالى إليه عليه السلام أنه سيهلكهم بالغرق وينجّيه ومَنْ معه بشيء سيصنعه بأمره تعالى ووحيِه، مِنْ شأنه كيتَ وكيت واسمُه كذا، وإما للجنس. قيل: صنعها عليه الصلاة والسلام في سنتين، وقيل: في أربعمائة سنة، وكانت من خشب الساج وجُعلت ثلاثةَ بطونٍ حُمل في البطن الأول الوحوشُ والسباعُ والهوامُّ، وفي البطن الأوسطِ الدوابُّ والأنعام، وفي البطن الأعلى جنسُ البشر هو ومَنْ معه مع ما يحتاجون إليه من الزاد، وحَمل معه جسدَ آدمَ عليه الصلاة والسلام، وقيل: جَعل في الأول الدوابَّ والوحوشَ وفي الثاني الإنسَ وفي الأعلى الطيرَ، قيل: كان طولُها ثلاثمائة ذراعٍ وعَرْضُها خمسين ذراعًا وسَمْكُها ثلاثين ذراعًا.
وقال الحسنُ: كان طولُها ألفًا ومائتي ذراعٍ وعَرضُها ستَّمائةِ ذراعٍ. وقيل: إن الحَواريين قالوا لعيسى عليه الصلاة والسلام: لو بعثت لنا رجلًا شهد السفينةَ يحدثنا عنها، فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب فأخذ كفًا من ذلك الترابِ فقال: أتدرون مَنْ هذا؟ قالوا: الله ورسولُه أعلم، قال هذا كعبُ بنُ حام قال: فضرب بعصاه فقال: قم بإذن الله فإذا هو قائمٌ ينفض التراب عن رأسه وقد شاب، فقال له عيسى عليه الصلاة والسلام: أهكذا هلكْتَ؟ قال: لا، متُّ وأنا شابٌّ ولكني ظننتُ أنها الساعة فمِنْ ثَمَّةَ شِبْتُ، فقال: حدثنا عن سفينة نوحٍ، قال: كان طولُها ألفًا ومائتي ذراعٍ وعَرضُها ستمائة ذراع، وكانت ثلاثَ طبقاتٍ طبقةٌ للدواب والوحش وطبقةٌ للإنس وطبقةٌ للطير، ثم قال: عُدْ بإذن الله تعالى كما كنت فعاد ترابًا.
{وَلاَ تخاطبنى في الذين ظَلَمُواْ} أي لا تراجِعْني فيهم ولا تدعُني ياستدفاع العذابِ عنهم وفيه من المبالغة ما ليس فيما لو قيل: ولا تدعُني فيهم، وحيث كان فيه ما يلوح بالسبيبة أُكّد التعليلُ فقيل: {إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} أي محكومٌ عليهم بالإغراق قد مضى به القضاءُ وجفّ القلمُ فلا سبيل إلى كفه ولزِمتْهم الحُجةُ فلم يبقَ إلا أن يُجعلوا عِبرةً للمعتبرين ومثلًا للآخرين. اهـ.