فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ}
أما قوله تعالى: {وَيَصْنَعُ الفلك}
ففيه مسألتان:
المسألة الأولى:
في قوله: {وَيَصْنَعُ الفلك} قولان: الأول: أنه حكاية حال ماضية أي في ذلك الوقت كان يصدق عليه أنه يصنع الفلك.
الثاني: التقدير وأقبل يصنع الفلك فاقتصر على قوله: {وَيَصْنَعُ الفلك}.
المسألة الثانية:
ذكروا في صفة السفينة أقوالًا كثيرة: فأحدها: أن نوحًا عليه السلام اتخذ السفينة في سنتين، وقيل في أربع سنين وكان طولها ثلثمائة ذراع وعرضها خمسون ذراعًا وطولها في السماء ثلاثون ذراعًا، وكانت من خشب الساج وجعل لها ثلاث بطون فحمل في البطن الأسفل الوحوش والسباع والهوام، وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام، وفي البطن الأعلى جلس هو ومن كان معه مع ما احتاجوا إليه من الزاد، وحمل معه جسد آدم عليه السلام، وثانيها: قال الحسن كان طولها ألفًا ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع.
واعلم أن أمثال هذه المباحث لا تعجبني لأنها أمور لا حاجة إلى معرفتها ألبتة ولا يتعلق بمعرفتها فائدة أصلًا وكان الخوض فيها من باب الفضول لاسيما مع القطع بأنه ليس هاهنا ما يدل على الجانب الصحيح والذي نعلمه إنه كان في السعة بحيث يتسع للمؤمنين من قومه ولما يحتاجون إليه ولحصول زوجين من كل حيوان، لأن هذا القدر مذكور في القرآن، فأما غير ذلك القدر فغير مذكور.
أما قوله تعالى: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ} ففي تفسير الملأ وجهان قيل جماعة وقيل طبقة من أشرافهم وكبرائهم واختلفوا فيما لأجله كانوا يسخرون وفيه وجوه أحدهما: أنهم كانوا يقولون: يا نوح كنت تدعي رسالة الله تعالى فصرت بعد ذلك نجارًا.
وثانيها: أنهم كانوا يقولون له: لو كنت صادقًا في دعواك لكان إلهك يغنيك عن هذا العمل الشاق.
وثالثها: أنهم ما رأوا السفينة قبل ذلك وما عرفوا كيفية الانتفاع بها وكانوا يتعجبون منه ويسخرون.
ورابعها: أن تلك السفينة كانت كبيرة وهو كان يصنعها في موضع بعيد عن الماء جدًا وكانوا يقولون: ليس هاهنا ماء ولا يمكنك نقلها إلى الأنهار العظيمة وإلى البحار، فكانوا يعدون ذلك من باب السفه والجنون.
وخامسها: أنه لما طالت مدته مع القوم وكان ينذرهم بالغرق وما شاهدوا من ذلك المعنى خبرًا ولا أثرًا غلب على ظنونهم كونه كاذبًا في ذلك المقال فلما اشتغل بعمل السفينة لا جرم سخروا منه وكل هذه الوجوه محتملة.
ثم إنه تعالى حكى عنه أنه كان يقول: {إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} وفيه وجوه: الأول: التقدير إن تسخروا منا في هذه الساعة فإنا نسخر منكم سخرية مثل سخريتكم إذا وقع عليكم الغرق في الدنيا والخزي في الآخرة.
الثاني: إن حكمتم علينا بالجهل فيما نصنع فإنا نحكم عليكم بالجهل فيما أنتم عليه من الكفر والتعرض لسخط الله تعالى وعذابه فأنتم أولى بالسخرية منا.
الثالث: أن تستجهلونا فإنا نستجهلكم واستجهالكم أقبح وأشد، لأنكم لا تستجهلون إلا لأجل الجهل بحقيقة الأمر والاغترار بظاهر الحال كما هو عادة الأطفال والجهال.
فإن قيل: السخرية من آثار المعاصي فكيف يليق ذلك بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
قلنا: إنه تعالى سمى المقابلة سخرية كما في قوله تعالى: {وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا} [الشورى: 40].
أما قوله تعالى: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} أي فسوف تعلمون من هو أحق بالسخرية ومن هو أحمد عاقبة، وفي قوله: {مَن يَأْتِيهِ} وجهان: أحدهما: أن يكون استفهامًا بمعنى أي كأنه قيل: فسوف تعلمون أينا يأتيه عذاب، وعلى هذا الوجه فمحل من رفع بالابتداء.
والثاني: أن يكون بمعنى الذي ويكون في محل النصب، وقوله تعالى: {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} أي يجب عليه وينزل به.
{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى:
قال صاحب الكشاف: {حتى} هي التي يبتدأ بعدها الكلام أدخلت على الجملة من الشرط والجزاء ووقعت غاية لقوله: {وَيَصْنَعُ الفلك} أي فكان يصنعها إلى أن جاء وقت الموعد.
المسألة الثانية:
الأمر في قوله تعالى: {حتى إِذَا جَاء أَمْرُنَا} يحتمل وجهين: الأول: أنه تعالى بين أنه لا يحدث شيء إلا بأمر الله تعالى كما قال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَئ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] فكان المراد هذا.
والثاني: أن يكون المراد من الأمر هاهنا هو العذاب الموعد به.
المسألة الثالثة:
في التنور قولان: أحدهما: أنه التنورالذي يخبز فيه.
والثاني: أنه غيره، أما الأول وهو أنه التنور الذي يخبز فيه فهو قول جماعة عظيمة من المفسرين كابن عباس والحسن ومجاهد.
وهؤلاء اختلفوا، فمنهم من قال: إنه تنور لنوح عليه السلام، وقيل: كان لآدم قال الحسن: كان تنورًا من حجارة، وكان لحواء حتى صار لنوح عليه السلام، واختلفوا في موضعه فقال الشعبي: إنه كان بناحية الكوفة، وعن علي رضي الله عنه أنه في مسجد الكوفة، قال: وقد صلى فيه سبعون نبيًا، وقيل بالشام بموضع يقال له: عين وردان وهو قول مقاتل وقيل: فار التنور بالهند، وقيل: إن امرأته كانت تخبز في ذلك التنور فأخبرته بخروج الماء من ذلك التنور فاشتغل في الحال بوضع تلك الأشياء في السفينة.
القول الثاني: ليس المراد من التنور تنور الخبز، وعلى هذا التقدير ففيه أقوال: الأول: أنه انفجر الماء من وجه الأرض كما قال: {فَفَتَحْنَا أبواب السماء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُونًا فَالْتَقَى الماء على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر: 11، 12] والعرب تسمي وجه الأرض تنورًا.
الثاني: أن التنور أشرف موضع في الأرض وأعلى مكان فيها وقد أخرج إليه الماء من ذلك الموضع ليكون ذلك معجزة له، وأيضًا المعنى أنه لما نبع الماء من أعالي الأرض، ومن الأمكنة المرتفعة فشبهت لارتفاعها بالتنانير.
الثالث: {فَارَ التنور} أي طلع الصبح وهو منقول عن علي رضي الله عنه.
الرابع: {فَارَ التنور} يحتمل أن يكون معناه أشد الأمر كما يقال: حمي الوطيس ومعنى الآية إذا رأيت الأمر يشتد والماء يكثر فانج بنفسك ومن معك إلى السفينة.
فإن قيل: فما الأصح من هذه الأقوال؟
قلنا: الأصل حمل الكلام على حقيقته ولفظ التنور حقيقة في الموضع الذي يخبز فيه فوجب حمل اللفظ عليه ولا امتناع في العقل في أن يقال: إن الماء نبع أولًا من موضع معين وكان ذلك الموضع تنورًا.
فإن قيل: ذكر التنور بالألف واللام وهذا إنما يكون معهود سابق معين معلوم عند السامع وليس في الأرض تنور هذا شأنه، فوجب أن يحمل ذلك على أن المراد إذا رأيت الماء يشتد نبوعه والأمر يقوى فانج بنفسك وبمن معك.
قلنا: لا يبعد أن يقال: إن ذلك التنور كان لنوح عليه السلام بأن كان تنور آدم أو حواء أو كان تنورًا عينه الله تعالى لنوح عليه السلام وعرفه أنك إذا رأيت الماء يفور فاعلم أن الأمر قد وقع، وعلى هذا التقدير فلا حاجة إلى صرف الكلام عن ظاهره.
المسألة الرابعة:
معنى: {فار} نبع على قوة وشدة تشبيهًا بغليان القدر عند قوة النار ولا شبهة في أن نفس التنور لا يفور فالمراد فار الماء من التنور، والذي روي أن فور التنور كان علامة لهلاك القوم لا يمتنع لأن هذه واقعة عظيمة، وقد وعد الله تعالى المؤمنين النجاة فلابد وأن يجعل لهم علامة بها يعرفون الوقت المعين، فلا يبعد جعل هذه الحالة علامة لحدوث هذه الواقعة.
المسألة الخامسة:
قال الليث: التنور لفظة عمت بكل لسان وصاحبه تنار، قال الأزهري: وهذا يدل على أن الاسم قد يكون أعجميًا فتعربه العرب فيصير عربيًا، والدليل على ذلك أن الأصل تنار ولا يعرف في كلام العرب تنور قبل هذا، ونظيره ما دخل في كلام العرب من كلام العجم الديباج والدينار والسندس والاستبرق فإن العرب لما تكلموا بهذه الألفاظ صارت عربية.
واعلم أنه لما فار التنور فعند ذلك أمره الله تعالى بأن يحمل في السفينة ثلاثة أنواع من الأشياء.
فالأول: قوله: {قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثنين} قال الأخفش: تقول الاثنان هما زوجان قال تعالى: {وَمِن كُلّ شَئ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات: 49] فالسماء زوج والأرض زوج والشتاء زوج والصيف زوج والنهار زوج والليل زوج، وتقول للمرأة هي زوج وهو زوجها قال تعالى: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: 1] يعني المرأة، وقال: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى} [النجم: 45] فثبت أن الواحد قد يقال له: زوج ومما يدل على ذلك قوله تعالى: {ثمانية أزواج مّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين} [الأنعام: 143].
إذا عرفت هذا فنقول: الزوجان عبارة عن كل شيئين يكون أحدهما ذكرًا والآخر أنثى والتقدير كل شيئين هما كذلك فاحمل منهما في السفينة اثنين واحد ذكر والآخر أنثى، ولذلك قرأ حفص: {مِن كُلّ} بالتنوين وأرادوا حمل من كل شيء زوجين اثنين الذكر زوج والأنثى زوج لا يقال عليه إن الزوجين لا يكونان إلا اثنين فما الفائدة في قوله: {زَوْجَيْنِ اثنين} لأنا نقول هذا على مثال قوله: {لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين} [النحل: 51] وقوله: {نَفْخَةٌ واحدة} [الحاقة: 13] وأما على القراءة المشهورة، فهذا السؤال غير وارد واختلفوا في أنه هل دخل في قوله: {زَوْجَيْنِ اثنين} غير الحيوان أم لا؟ فنقول: أما الحيوان فداخل لأن قوله: {مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثنين} يدخل فيه كل الحيوانات، وأما النبات فاللفظ لا يدل عليه، إلا أنه بحسب قرينة الحال لا يبعد بسبب أن الناس محتاجون إلى النبات بجميع أقسامه، وجاء في الروايات عن ابن مسعود رضي الله عنهما أنه قال: لم يستطع نوح عليه السلام أن يحمل الأسد حتى ألقيت عليه الحمى وذلك أن نوحًا عليه السلام قال: يا رب فمن أين أطعم الأسد إذا حملته قال تعالى: فسوف أشغله عن الطعام فسلط الله تعالى عليه الحمى وأمثال هذه الكلمات الأولى تركها، فإن حاجة الفيل إلى الطعام أكثر وليس به حمى.
الثاني: من الأشياء التي أمر الله نوحًا عليه السلام بحملها في السفينة.
قوله تعالى: {وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول} قالوا: كانوا سبعة نوح عليه السلام وثلاثة أبناء له وهم سام وحام ويافث، ولكل واحد منهم زوجة، وقيل أيضًا كانوا ثمانية، هؤلاء وزوجة نوح عليه السلام.
وأما قوله: {إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول} فالمراد ابنه وامرأته وكانا كافرين، حكم الله تعالى عليهم بالهلاك.
فإن قيل: الإنسان أشرف من جميع الحيوانات فما السبب أنه وقع الابتداء بذكر الحيوانات؟
قلنا: الإنسان عاقل وهو لعقله كالمضطر إلى دفع أسباب الهلاك عن نفسه، فلا حاجة فيه إلى المبالغة في الترغيب، بخلاف السعي في تخليص سائر الحيوانات، فلهذا السبب وقع الابتداء به.
واعلم أن أصحابنا احتجوا بقوله: {إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول} في إثبات القضاء اللازم والقدر الواجب، قالوا: لأن قوله: {سَبَقَ عَلَيْهِ القول} مشعر بأن كل من سبق عليه القول فإنه لا يتغير عن حاله وهو كقوله عليه الصلاة والسلام: «السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه».
النوع الثالث: من تلك الأشياء قوله: {وَمَنْ ءامَنَ} قالوا كانوا ثمانين.
قال مقاتل: في ناحية الموصل قرية يقال لها قرية الثمانين سميت بذلك، لأن هؤلاء لما خرجوا من السفينة بنوها، فسميت بهذا الاسم وذكروا ماهو أزيد منه وما هو أنقص منه وذلك مما لا سبيل إلى معرفته إلا أن الله تعالى وصفهم بالقلة وهو قوله تعالى: {وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ}.
فإن قيل: لما كان الذين آمنوا معه ودخلوا في السفينة كانوا جماعة فلم لم يقل قليلون كما في قوله: {إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء: 54].
قلنا: كلا اللفظين جائز، والتقدير هاهنا وما آمن معه إلا نفر قليل، فأما الذي يروي أن إبليس دخل السفينة فبعيد، لأنه من الجن وهو جسم ناري أو هوائي وكيف يؤثر الغرق فيه، وأيضًا كتاب الله تعالى لم يدل عليه وخبر صحيح ما ورد فيه، فالأولى ترك الخوض فيه. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ}
قال زيد بن أسلم: مكث نوح عليه السلام مائة سنة يغرس الشجر ويقطعها وييبسها، ومائة سنة يعملها، واختلف في طولها على ثلاثة أقاويل:
أحدها: ما قاله الحسن كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع، وكانت مطبقة.
الثاني: ما قاله ابن عباس: كان طولها أربعمائة ذراع، وعلوها ثلاثون ذراعًا. وقال خصيف: كان طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسون ذراعًا، وكان في أعلاها الطير، وفي وسطها الناس وفي أسفلها السباع. ودفعت من عين وردة في يوم الجمعة لعشر مضين من رجب ورست بباقردي على الجودي يوم عاشوراء. قال قتادة وكان بابها في عرضها.
{وكلّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلأ مِّنْ قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ} وفي سخريتهم منه قولان:
أحدهما: أنهم كانوا يرونه يبني في البر سفينة فيسخرون منه ويستهزئون به ويقولون: يا نوح صرت بعد النبوة نجارًا.
الثاني: أنهم لما رأوه يبني السفينة ولم يشاهدوا قبلها سفينة بنيت قالوا يا نوح: ما تصنع؟ قال: أبني بيتًا يمشي علىلماء فعجبوا من قوله وسخروا منه.
{قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} فيه قولان:
أحدهما: إن تسخروا من قولنا فسنسخر من غفلتكم.
الثاني: إن تسخروا من فِعلنا اليوم عند بناء السفينة فإنا نسخر منكم غدًا عند الغرق.
والمراد بالسخرية هاهنا الاستجهال. ومعناه إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم.
قال ابن عباس: ولم يكن في الأرض قبل الطوفان نهر ولا بحر فلذلك سخروا منه. قال: ومياه البحار بقية الطوفان.
فإن قيل: فلم جاز أن يقول فإنا نسخر منكم مع قبح السخرية؟ قيل: لأنه ذمٌّ جعله مجازاة على السخرية فجاء به على مزاوجة الكلام، وكان الزجاج لأجل هذا الاعتراض يتأوله على معنى إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم كما تستجهلوننا.
قوله عز وجل: {حَتَّى إذا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ}
فيه ستة أوجه:
أحدها: وجه الأرض، والعرب تسمي وجه الأرض تَنُّورًا، قاله ابن عباس وقيل لنوح عليه السلام: إذا رأيت الماء على وجه الأرض فاركب أنت ومن معك.
الثاني: أن التنور العين التي بالجزيرة عين وردة، رواه عكرمة. الثالث: أنه مسجد بالكوفة من قبل أبواب كندة، قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه. الرابع: أن التنور ما زاد على وجه الأرض فأشرف منها، قاله قتادة.
الخامس: أنه التنور الذي يخبز فيه، قيل له: إذا رأيت الماء يفور منه فاركب أنت ومن معك، قاله مجاهد.
قال الحسن: كان تنورًا من حجارة وكان لحواء ثم صار لنوح، وقال مقاتل: فارَ من أقصى دار نوح بعين وردة من أرض الشام، قال أمية بن الصلت:
فار تنورهم وجاش بماءٍ ** صار فوق الجبال حتى علاها

السادس: أن التنور هو تنوير الصبح، من قولهم: نور الصبح تنويرًا، وهو مروي عن علي رضي الله عنه.
{قُلْنَا احِملْ فِيهَا مِن كُلّ زَوْجِيْن اثْنَينِ} يعني من الآدميين والبهائم ذكرًا وأنثى.
{وَأهْلَكَ} أي احمل أهلك.
{إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} من الله تعالى أنه يهلكهم وهو ابنه كنعان وامرأته كانا كافرين: قاله الضحاك وابن جريج.
{وَمَن آمَنَ} أي احمل من آمن.
{وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيْلٌ} واختلف في عددهم على ثلاثة أقاويل: أحدها: ثمانون رجلًا منهم جرهم، قاله ابن عباس. الثاني: ثمانين، قاله ابن جريج.
الثالث: سبعة، قاله الأعمش ومطر، وكان فيهم ثلاثة بنين: سام وحام ويافث، وثلاث بنات له ونوح معهم فصاروا سبعة.
وعلى القول الثاني: كانت فيهم امرأة نوح فصاروا ثمانية. قال محمد بن عباد بن جعفر: فأصاب حام امرأته في السفينة، فدعا نوح أن يغير الله نطفته فجاء السودان. اهـ.