فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والتشبيهُ في قوله تعالى: {كَمَا تَسْخَرُونَ} إما في مجرد التحققِ والوقوعِ أو في التجدد والتكررِ حسبما صدر عن ملإٍ غبَّ ملإٍ لا في الكيفيات والأحوالِ التي لا تليق بشأن النبيِّ عليه الصلاة والسلام فكلا الأمرَين واقعٌ في الحال، وقيل: نسخر منكم في المستقبل سُخريةً مثلَ سُخريتِكم إذا وقع عليكم الغرقُ في الدنيا والحرقُ في الآخرة، ولعل مرادَه نعاملُكم معاملةَ مَنْ يفعل ذلك لأن نفسَ السُّخرية مما لا يكاد يليق بمنصِب النبوةِ، ومع ذلك لا سَدادَ له لأن حالَهم إذ ذاك ليس مما يلائمه السُّخريةُ أو ما يجري مجراها فتأمّلْ.
{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ}
وهو عذابُ الغَرَقِ: {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ} حلولَ الدَّيْن المؤجل: {عَذَابٌ مُّقِيمٌ} هو عذابُ النارِ الدائمُ وهو تهديدٌ بليغٌ، و(مَنْ) عبارةٌ عنهم، وهي إما استفهاميةٌ في حيز الرفعِ أو موصولةٌ في محل النصبِ بتعلمون وما في حيِّزها سادٌّ مسدَّ مفعولين أو مفعولٍ واحدٍ إن جُعل العلمُ بمعنى المعرفةِ، ولما كان مدارُ سخريتِهم استجهالَهم إياه عليه الصلاة والسلام في مكابدة المشاقِّ الفادحةِ لدفع ما لا يكاد يدخُل تحت الصِّحةِ على زعمهم من الطوفان ومقاساةِ الشدائِد في بناء السفينةِ وكانوا يعدّونه عذابًا قيل بعد استجهالِهم فسوف تعلمون مَنْ يأتيه العذابُ يعني أن أُباشرُه ليس فيه عذابٌ لاحقٌ بي فسوف تعلمون مَنِ المعذَّبُ، ولقد أصاب العلمُ بعد استجهالِهم محزّه، ووصفُ العذاب بالإخزاء لما في الاستهزاء والسخريةِ من لُحوق الخِزْي والعارِ عادة، والتعرُّضُ لحلول العذاب المقيمِ للمبالغة في التهديد، وتخصّصُه بالمؤجل وإيرادُ الأول بالإتيان في غاية الجزالة.
{حتى إِذَا جَاء أَمْرُنَا} حتى هي التي يُبتدأ بها الكلامُ دخلت على الجملة الشرطيةِ وهي مع ذلك غايةٌ لقوله: {وَيَصْنَعُ} وما بينهما حالٌ من الضمير فيه، وسخِروا منه جوابٌ لكلما، وقال استئنافٌ على تقدير سؤال سائلٍ كما ذكرناه وقيل: هو الجوابُ وسِخروا منه بدلٌ من مرّ أو صفةٌ لملأ وقد عرفت أن الحقَّ هو الأولُ لأن المقصودَ بيانُ تناهيهم في إيذائه عليه الصلاة والسلام وتحمُّلِه لأذيَّتهم لا مسارعتُه عليه الصلاة والسلام إلى جوابهم كلما وقع منهم ما يؤذيه من الكلام: {وَفَارَ التنور} نبعَ منه الماءُ وارتفع بشدة كما تفور القِدْرُ بغَليانها، والتنّورُ تنّورُ الخبز، وهو قول الجمهور. روي أنه قيل لنوح عليه الصلاة والسلام: إذا رأيتَ الماءَ يفورُ من التنور فاركبْ ومن معك في السفينة فلما نبع الماءُ أخبرتْه امرأتُه فركب، وقيل: كان تنورَ آدمَ عليه الصلاة والسلام وكان من حجارة فصار إلى نوح، وإنما نبع منه وهو أبعدُ شيء من الماء على خرق العادةِ وكان في الكوفة في موضع مسجدها عن يمين الداخلِ مما يلي باب كِنْدة، وكان عملُ السفينةِ في ذلك الموضع، أو في الهند أو في موضع بالشام يقال له عين وردة، وعن ابن عباس رضي الله عنهما وعِكرمةَ والزُّهري أن التنورَ وجهُ الأرض، وعن قتادةَ أشرفُ موضع في الأرض أي أعلاه، وعن علي رضى الله تعالى عنه فار التنور طلع الفجرُ: {قُلْنَا احمل فِيهَا} أي في السفينة وهو جوابُ إذا: {مِن كُلّ} أي من كل نوعٍ لابد منه في الأرض: {زَوْجَيْنِ} الزوجُ ما له مشاكلٌ من نوعه فالذكرُ زوجٌ للأنثى كما هي زوجٌ له وقد يُطلق على مجموعهما فيقابل الفرد، ولإزالة ذلك الاحتمالِ قيل: {اثنين} كلٌّ منهما زوجٌ للآخر وقرئ على الإضافة، وإنما قُدم ذلك على أهله وسائرِ المؤمنين لكونه عريقًا فيما أُمر به من الحمل لأنه يحتاج إلى مزاولة الأعمالِ منه عليه الصلاة والسلام في تمييز بعضِه من بعض وتعيينِ الأزواج، فإنه رُوي أنه عليه الصلاة والسلام قال: يا رب كيف أحْمل من كلَ زوجين اثنين فحشر الله تعالى إليه السباعَ والطيرَ وغيرَهما فجعل يضرِب بيديه في كل جنس فيقع الذكرُ في يده اليمنى والأنثى في اليسرى فيجعلهما في السفينة، وأما البشرُ فإنما يدخلُ الفُلكَ باختياره فيخِفّ فيه معنى الحَمْل، أو لأنها إنما تحمِلُ بمباشرة البشر وهم إنما يدخُلونها بعد حلمهم إياها.
{وَأَهْلَكَ} عطفٌ على زوجين أو على اثنين والمرادُ امرأتُه وبنوه ونساؤهم: {إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول} بأنه من المغرَقين بسبب ظلمِهم في قوله تعالى: {وَلاَ تخاطبنى في الذين ظَلَمُواْ} الآية، والمرادُ به ابنُه كنعان وأمُّه واعلةُ فإنهما كانا كافرين والاستثناءُ منقطِعٌ إن أريد بالأهل الأهلُ إيمانًا وهو الظاهرُ كما ستعرفه أو متصلٌ إن أريد به الأهلُ قرابة ويكفي في صحة الاستثناءِ المعلوميةُ عند المراجعةِ إلى أحوالهم والتفحّصُ عن أعمالهم، وجيء بعلى لكون السابقِ ضارًّا لهم كما جيء باللام فيما هو نافعٌ لهم من قوله عز وجل: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين} وقوله: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى}، {وَمَنْ ءامَنَ} من غيرهم، وإفرادُ الأهلِ منهم للاستثناءِ المذكورِ، وإيثارُ صيغةِ الإفراد في آمن محافظةً على لفظ مَنْ للإيذان بقلتهم كما أعرب عنه قولُه عز قائلًا: {وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} قيل: كانوا ثمانيةً، نوحٌ عليه الصلاة والسلام وأهلُه وبنوه الثلاثةُ ونساؤُهم. وعن ابن إسحاقَ كانوا عشرةً، خمسةَ رجالٍ وخمسَ نسوةٍ، وعنه أيضًا أنهم كانوا عشرةً سوى نسائِهم وقيل: كانوا اثنين وسبعين رجلًا وامرأةً، وأولادُ نوحٍ سامٌ وحامٌ ويافث ونساؤُهم فالجميع ثمانيةٌ وسبعون نصفُهم رجالٌ ونصفُهم نساء، واعتبارُ المعيةِ في إيمانهم للإيماء إلى المعية في مقرّ الأمانِ والنجاة. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَيَصْنَعُ الفلك} حكاية حال ماضية لاستحضار صورتها العجيبة. وقيل: تقديره، وأخذ أو أقبل يصنع الفلك، وكانت على ما روي عن قتادة، وعكرمة، والكلبي من خشب الساج وقد غرسه بنفسه ولم يقطعه حتى صار طوله أربعمائة ذراه والذراع إلى المنكب في أربعين سنة على ما روس عن سليمان الفراسي، وقيل: أبقاه عشرين سنة، وقيل: مكث مائة سنة يغرس ويقطع وييبس، وقال عمرو بن الحرث: لم يغرسه بل قطعه من جبل لبنان.
وعن ابن عباس أنها كانت من خشب الشمشاد وقطعه من جبل لبنان، وقيل: إنه ورد في التوراة أنها كانت من الصنوبر، وروي أنه كان سام، وحام، ويافث ينحتون معه، وفي روياية أنه عليه السلام كان معه أيضًا أناس استأجرهم ينحتون، وذكر أن طولها ثلثمائة ذراع وعرضها خمسون وارتفاعها في السماء ثلاثون.
وأخرج ابن جرير، وغيره عن الحسن قال: كان طولها ألف ذراع ومائتي وعرضها ستمائة ذراع وصنع لها بابًا في وسطها، وأتم صنعها على ما روي عن مجاهد في ثلاث سنين.
وعن كعب الأحبار في أربعين سنة، وقيل: في ستين، وقيل: في مائة سنة، وقيل: في أربعمائة سنة، واختلف في أنه في أي موضع صنعها، فقيل: في الكوفة، وقيل: في الهند، وقيل: في أرض الجزيرة، وقيل: في أرض الشام، وسفينة الأخبار في تحقيق الحال فيما أرى لا تصلح للركوب فيها إذ هي غير سالمة عن عيب، فالحرى بحال من لا يميل إلى الفضول أن يؤمن بأنه عليه السلام صنع الفلك حسبما قص الله تعالى في كتابه ولا يخوض في مقدار طولها وعرضها وارتفاعها ومن أي خشب صنعها وبكم مدة أتم علمها إلى غير ذلك مما لم يشرحه الكتاب ولم تبينه السنة الصحيحة، وهذا وفي التعبير بيصنع على ما قيل: ملاءمة للاستمرار المفهوم من الجملة الواقعة حالا من ضميره أعني قوله تعالى: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ} أي استهزأوا به لعمله السفينة إما لأنهم ما كانوا يعرفونها ولا كيفية استعمالها فتعجبوا من ذلك وسخروا منه، ويشهد لعدم معرفتهم ما روي عن ابن عباس أنه عليه السلام حين قال الله تعالى له: {اصنع الفلك} [هود: 37] قال: يا رب وما الفلك؟ قال: بيت من خشب يجري على وجه الماء قال يا رب: وأين الماء؟ قال: إني على ما أشاء قدير، وإما لأنه عليه السلام كان يصنعها في برية بعيدة عن الماء وكانوا يتضاحكون، ويقولون: يا نوح صرت نجارًا بعد ما كنت نبيًا، وهذا مبني على أن السفينة كانت معروفة بينهم، ويشهد له ما أخرجه ابن جرير والحاكم وصححه وضعفه الذهبي عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان نوح قد مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعوهم حتى كان آخر زمانه غرس شجرة فعظمت وذهبت كل مذهب ثم قطعها ثم جعل يعملها سفينة فيرونه ويسألونه فيقول اعملها سفينة فيسخرون منه ويقولون: تعمل سفينة في البر وكيف تجري؟ فيقول: سوف تعلمون الحديث والأكثرون كما قال ابن عطية على أنهم لم يكونوا رأوا سفينة قط ولا كانت إذ ذاك، وقد ذكر في كتب الأوليات أن نوحًا عليه السلام أو من عمل السفينة، والحق أنه لا قطع بذلك، وكل منصوب على الظرفية و: {مَا} مصدرية وقتية أي كل وقت مرور، والعامل فيه جوابه وهو: {سَخِرُواْ} وقوله سبحانه: {قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ} استئناف بياني كأن سائلًا سأل فقال: فما صنع نوح عليه السلام عند بلوغهم منه هذا المبلغ؟ فقيل: قال: {إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا} لهذا العمل مباشرة أسباب الخلاص من العذاب: {فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ} لما أنتم فيه من الأعراض عن استدفاعه بالإيمان والطاعة ومن الاستمرار على الكفر والمعاصي، والتعرض لأسباب حلول سخط الله تعالى التي من جملتها سخريتكم منا واستهزاؤكم بنا، وإطلاق السخرية عليهم حقيقة، وعليه عليه السلام للمشاكلة لأنها لا تليق بالأنبياء عليهم السلام، وفسرها بعضهم بالاستجهال؛ وهو مجاز لأنه سبب للسخرية، فأطلقت السخرية وأريد سببها.
وقيل: إنها منه عليه السلام لما كانت لجزائهم من جنس صنيعهم لم تقبح فلا حاجة لارتكاب خلاف الظاهر، وجمع الضمير في: {مِنَّا} إما لأن سخريتهم منه عليه السلام سخرية من المؤمنين أيضًا أو لأنهم كانوا يسخرون منهم أيضًا إلا أنه اكتفى بذكر سخريتهم منه عليه السلام ولذلك تعرض الجميع للمجازاة في قوله: {نَسْخَرُ مِنكُمْ} فتكافأ الكلام من الجانبين، والتشبيه في قوله سبحانه: {كَمَا تَسْخَرُونَ} إما في مجرد التحقق والوقوع، وإما في التجدد والتكرر حسبما صدر عن ملأ بعد ملأ، وقيل: لا مانع من أن يراد الظاهر ولا ضرر في ذلك لحديث الجزاء، ومن هنا قال بعضهم: إن في الآية دليلًا على جواز مقابلة نحو الجاهل والأحمق بمثل فعله ويشهد له قوله تعالى: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى} [البقرة: 194]: {وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا} [الشورى: 40]: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] إلى غير ذلك، والظاهر أن كلا الفعلين واقع في الحال.
وقال ابن جريج: المعنى: {إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا} في الدنيا: {فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ} في الآخرة، وقيل: في الدنيا عند الفرق.
وفي الآخرة عند الحرق، قال الطبرسي: إن المراد من نسخر منكم على هذا نجازيكم على سخريتكم أو نشمت بكم عند غرقكم وحرقكم، وفيه خفاء، هذا وجوز أن يكون عامل: {كُلَّمَا} قال، وهو الجواب، وجملة: {سَخِرُواْ} صفة لملأ أو بدل من: {مَرَّ} بدل اشتمال ون مرورهم للسخرية فلا يضركون السخرية ليست بمعنى المرور ولا نوعًا منه، وأبو حيان جعل ذلك مبعدًا للبدلية وليس بذلك، ويلزم على هذا التجويز استمرار هذا القول منه عليه السلام وهو ظاهر، وعلى الاعراب قيل: لا استمرار وإنما أجابهم به في بعض المرات، ورجح بأن المقصود بيان تناهيهم في إيذائه عليه السلام وتحمله لأذيتهم لا مسارعته عليه السلام إلى الجواب: {كُلَّمَا} وقع منهم ما يؤذيه من الكلام، وقد يقال: إن في ذلك إشارة إلى أنه عليه السلام بعد أن يئس من إيمانهم لم يبال باغضابهم ولذا هددهم التهديد البليغ: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} أي يفضحه أو يذله أو يهلكه، وهي أقوال متقاربة، والمراد بذلك العذاب الغرق: {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ} حلول الدين المؤجل: {عَذَابٌ مُّقِيمٌ} أي دائم وهو عذاب النار، و: {مِنْ} عبارة عنهم، وهي موصولة في محل نصب مفعول للعلم، وهو بمعنى المعرفة فيتعدى إلى واحد.
وجوز ابن عطية أن يراد العلم المتعدي إلى مفعولين لكنه اقتصر على واحد، وتعقبه في البحر بأنه لا يجوز حذف الثاني اقتصارًا لأن أصله خبر مبتدأ، ولا اختصارًا هنا لأنه لا دليل على حذفه.
وقيل: إن: {مِنْ} استفهامية مبتدأ، والجملة بعدها خبر، وجملة المبتدأ والخبر معلق عنها سادة مسد المفعول أو المفعولين، قيل: ولما كان مدار سخريتهم استجهالهم إياه عليه السلام في مكابدة المشاق الفادحة لدفع ما لا يكاد يدخل تحت الصحة على زعمهم من الطوفان ومقاساة الشدائد في عمل السفينة وكانوا يعدونه عذابًا قيل: بعد استجهالهم: {فَسَوْفَ} إلخ يعني أن ما أباشره ليس فيه عذاب لاحق بي: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} من يعذب، ولقد أصاب العلم بعد استجهالهم محزه انتهى، وهو ظاهر على تقدير حمل السخرية المنسوبة إليه عليه السلام على الاستجهال.
ولعله يمكن إجراؤه على تقدير حملها على ظاهرها أيضًا بأدنى عناية فافهم، ووصف العذاب بالاخزاء لما في الاستهزاء والسخرية من لحوق الخزى والعار عادة والتعرض لحلول العذاب المقيم للمبالغة في التهديد، وفيه من المجاز ما لا يخفى، وتخصيصه بالمؤجل، وإيراد الأول بالاتيان غاية الجازلة، وحكى الزهراوي أنه قرئ يحل بضم الحاء.
{حتى إِذَا جَاء أَمْرُنَا} غاية لقوله سبحانه: {يَصْنَعُ الفلك} [هود: 38] و: {حتى} إما جارة متعلقة به، و: {إِذَا} لمجرد الظرفية، وإما ابتدائية داخلة على الشرط وجوابه، والجملة لا محل لها من الاعراب، وحال ما وقع في البين قد مرت الإشارة إليه، والأمر إما واحد الأوامر أي الأمر بركوب السفينة، أو بالفوران، أو للسحاب بالإرسال، أو للملائكة عليهم السلام بالتصرف فيما يراد، أو نحو ذلك، وإما واحد الأمور وهو الشأن أعني نزول العذاب بهم: {وَفَارَ التنور} أي نبع منه المار وارتفع بشدة كما تفور القدر بغليانها وفيه من الاستعارة ما لا يخفى، والمراد من التنور تنور الخبز عند الجمهور، وكان على ما روي عن الحسن ومجاهد تنورًا لحواء تخبز فيه ثم صار لنوح عليه السلام وكان من حجارة، وقيل: هو تنور في الكوفة في موضع مسجدها عن يمين الداخل مما يلي باب كندة، وجاء ذلك في رواية عن علي كرم الله تعالى وجهه، وقيل: تنور بالهند، وقيل: بعين وردة من أرض الجزيرة العمرية أو من أرض الشام، وقيل: ليس المراد به تنورًا معينًا بل الجنس، والمراد فار الماء من التنانير، وفي ذلك من عجيب القدرة ما لا يخفى، ولا تنافي بين هذا وقوله سبحانه: {وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُونًا} [القمر: 12] إذ يمكن أن يكون التفجير غير الفوران فحصل الفوران للتنور والتفجير للأرض، أو يراد بالأرض أماكن التنانير، ووزنه تفعول من النور، وأصله تنوور فقلبت الواو الأولى همزة لانضمامها، ثم حذفت تخفيفًا، ثم شددت النون عوضًا عما حذف، ونقل هذا عن ثعلب، وقال أبو على الفارسي: وزنه فعول، وقيل: على هذا أنه أعجمي ولا اشتقاق له، ومادته تنر، وليس في كلام العرب نون قبل راء، ونرجس معرب أيضًا، والمشهور أنه مما اتفق فيه لغة العرب، والعجم كالصابون، والسمور.
وعن ابن عباس وعكرمة، والزهري أن: {التنور} وجه الأرض هنا، وعن قتادة أنه أشرف موضع منها أي أعلاه وأرفعه، وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، وغيرهما عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه تنوير الصبح، والظاهر أنه لم يستعمل في اللغة العجمية بهذه المعاني الأخيرة، وجوز أن يكون فوران التنور مجازًا عن ظهور العذاب وشدة الهول، وهذا كما جاء في الخبر حمى الوطيس مجازًا عن شدة الحرب وليس بين الجملتين كثير فرق في المعنى وهو معنى حسن لكنه بعيد عما جاءت به الأخبار: {قُلْنَا احمل فِيهَا} أي في الفلك، وأنث الضمير لأنه بمعنى السفينة، والجملة استئناف أو جواب إذا: {مِن كُلّ} أي من كل نوع من الحيوانات ينتفع به الذين ينجون من الغرق وذراريهم بعد، ولم تكن العادة جارية بخلقه من غير ذكر وأنثى، والجار والمجرور متعلق باحمل أو بمحذوف وقع حالا من مفعوله أعني قوله سبحانه: {زَوْجَيْنِ} وهو تثنية زوج، والمراد به الواحد المزدوج بآخر من جنسه، فالذكر زوج للأنثى كما هي زوج له، وقد يطلق على مجموعهما، وليس بمراد، وإلا لزم أن يحمل من كل صنف أربعة، ولئلا يراد ذلك وصف بقوله تعالى: {اثنين} وحاصل المعنى احمل ذكرًا وأنثى من كل نوع من الحيوانات، وقرأ الأكثرون {من كل زوجين} بالإضافة فاثنين على هذا مفعول احمل و: {...} بالإضافة فاثنين على هذا مفعول احمل و: {مِن كُلّ زَوْجَيْنِ} حال منه، ولو أخر لكان صفة له أي احمل اثنين من كل زوجين أي صنف ذكر وصنف أنثى، وقيل: {مِنْ} زائدة وما بعدها مفعول احمل، و: {اثنين} نعت لزوجين بناءًا على جواز زيادة: {مِنْ} في الموجب ثم ما ذكرناه في تفسير العموم هو الذي مال إليه البعض وأدرج فيه أناس الهوام والطير، وذكر أنه روي أنه عليه السلام جعل للسفينة ثلاثة بطون وحمل في البطن الأسفل الوحوش، والسباع، والهوام، وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام، وركب هو ومن معه في البطن الأعلى مع ما يحتاج إليه من الزاد، وحمل معه جسد آدم عليه السلام وجعله معترضًا بين الرجال والنساء، وكان حمله بوصية منه عليه السلام توارثها ولده حتى وصلت إلى نوح عليه السلام، ويعارض هذا التقسيم ما روي أن الطبقة السفلى للوحش، والوسطى للطعام، والعليا له عليه السلام ولمن آمن، وتوسع بعضهم في العموم فأدرج فيه ما ليس من جنس الحيوان، وأيد بما أخرجه إسحاق بن بشر وغيره عن علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعًا أن نوحًا عليه السلام حمل معه في السفينة من جميع الشجر، وبما أخرجه أبو الشيخ عن جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما قال: أمر نوح عليه السلام أن يحمل معه: {مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثنين} فحمل من التمر العجوة واللون.