فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأخرج النسائي عن أنس بن مالك أن نوحًا عليه السلام نازعه الشيطان في عود الكرم، فقال: هذا لي، وقال نوح: هو لي فاصطلحا على أن لنوح ثلثها، وللشيطان ثلثيها ولا يكاد يعول على مثل هذه الأخبار عند التنقير، ومما يحمل معها في سفينة ما أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: تأذى أهل السفينة بالفأر فعطس الأسد فخرج من منخريه سنوران ذكر وأنثى فأكلا الفأر إلا ما أراد الله تعالى أن يبقى منه، وتأذوا بأذى أهل السفينة فعطس الفيل فخرج من منخريه خنزيران ذكر وأنثى فأكلا أذى أهل السفينة، وفي رواية الحكيم الترمذي في نوادر الأصول. وابن جرير. وغيرهما عنه أن نوحًا عليه السلام شكا إلى الله تعالى قرض الفأر حبال السفينة فأوحى الله إليه فمسح جبهة الأسد فخرج سنوران، وشكا عذرة في السفينة فأوحى إليه سبحانه، فمسح ذنب الفيل فخرج خنزيران فأكل العذرة.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق زيد بن أسلم عن أبيه مرفوعًا أن أهل السفينة شكوا الفأرة فقالوا: الفويسقة تفسد علينا طعامنا ومتاعنا فأوحى الله تعالى إلى الأسد فعطس فخرجت الهرة منه فتخبأت الفأرة منها، ولم يذكر فيه بحث الخنزير، ويفهم منها على ما فيها أن الهرة لم تكن عند الحمل، ومن الأولين أنها والخنزير لم يكونا، وفي بعض الآثار ما يخالفه، فقد أخرج أحمد في الزهد وأبو الشيخ عن وهب بن منبه قال لما أمر الله تعالى نوحًا عليه السلام بالحمل قال: كيف أصنع بالاسد. والبقرة. وكيف أصنع بالعناق. والذئب، وكيف أصنع بالحمام والهر؟ فقال الله تعالى: من ألقى بينهما العداوة؟ قال: أنت يا رب قال: فإني أؤلف بينهم حتى لا يتضارون، ولا يخفى ما بين هذا وبين التقسيم الأول أيضًا، وجاء في شأن الأسد روايات مختلفة: ففي رواية أن أصحابه عليه السلام قالوا: كيف نطمئن ومعنا الأسد؟ فسلط الله تعالى عليه الحمى، وكانت أولى حمى نزلت الأرض.
وفي رواية أنه كان يؤذيهم في السفينة فألقيت عليه الحمى ليشتغل بنفسه، وفي أخرى أنه عليه السلام حين أمر بالحمل قال: يا رب كيف بالأسد والفيل؟ فقال له سبحانه: سألقي عليهما الحمى وهي ثقيلة؛ وفي أخرى عن أبي عبيدة أنه عليه السلام حين أمر بالحمل لم يستطع أن يحمل الأسد حتى ألقيت عليه الحمى فحمله فأدخله، ولا يخفى أنها مع دلالة بعضها على أن إلقاء الحمى قبل الدخول، وبعضها على أنه بعده، وكان يغني عن إلقائها بعد دفعًا لأذاء التأليف بينه وبين الإنسان كما ألف بين ما مر بعضه مع بعض، ولعل لدفع الأذى بالحمى دون التأليف إن صح ذلك حكمة لكنها غير ظاهرة لنا، وجاء في بعض الآثار ما يفهم منه أنه كان معه عليه السلام في السفينة من الجن ما كان، وفي بعضها أن إبليس عليه اللعنة كان أيضًا.
فعن ابن عباس أنه لما أراد الله تعالى أن يدخل الحمار السفينة أخذ نوح بأذني الحمار وأخذ إبليس بذنبه فجعل نوح يجذبه وجعل إبليس يجذبه فقال نوح عليه السلام: ادخل شيطان فدخل الحمار ودخل إبليس معه فلما سارت السفينة جلس في ذنبها يتغنى فقال له نوح: ويلك من أذن لك؟ قال: أنت قال: متى؟ قال: إذ قلت للحمار ادخل شيطان فدخلت بإذن منك، وفي رواية أخرى عنه أن نوحًا عليه السلام قال للحمار: ويحك ادخل وإن كان الشيطان معك كلمة جرت على لسانه فدخل ودخل معه الشيطان.
وأخرج ابن عساكر عن عطاء أن اللعين جاء ليركب السفينة فدفعه نوح عليه السلام فقال: يا نوح إني منظور ولا سبيل لك علي فعرف أنه صادق فأمره أن يجلس على خيزران السفينة، وهو بظاهره مخالف لما روي عن ابن عباس، واختلفوا في أنه كيف جمعت الحبوانات على تفرقها في أكناف الأرض، فقيل: إنها أحست بالعذاب فاجتمعت؛ وعن الزهري أن الله تعالى بعث ريحًا فحمل إليه من كل زوجين اثنين من الطير والسباع والوحش والبهائم.
وعن جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما أن الله تعالى بعث جبريل عليه السلام فحشرها فجعل عليه السلام يضرب بيديه على الزوجين فتقع يده اليمنى على الذكر واليسرى على الأنثى فيدخلهما السفينة حتى أدخل عدة ما أمر الله تعالى به.
وروى إسحاق بن بشر وغيره عن زيد بن ثابت أنه استعصت عليه عليه السلام الماعزة فدفعها في ذنبها فمن ثم انكسر وبدا حياها ومضت النعجة حتى دخلت فمسح على ذنبها فستر حياها.
وفي كتب الأخبار كثير من هذه الآثار التي يقضي منها العجب، وأنا لا أعتقد سوى أن الله عزت قدرته خلق الماعزة والنعجة من قبل على ما هما عليه اليوم وأنه سبحانه لم يخلق الهرة من الأسد وإن أشبهته صورة ولا الخنزير من الفيل وإن كان بينهما شبه مّا كما شاهدناه عام مجيء الفيل إلى بغداد ولو كلف الفيل أكل العذرة لكان أحب إلى أهل السفينة من زيادة خنزير فيها وأحب من ذلك كله إليهم أن لا يكون في السفينة غيرهم أو يكون حيوان واحد يخلق لهم من عطاسه ما يريدونه من الحيوانات ويحتاجون إليه بعد.
والذي يميل القلب إليه أن الطوفان لم يكن عامًا كما قال به البعض وأنه عليه السلام لم يؤمر بحمل ما جرت العادة بتكونه من عفونة الأرض كالفأر والحشرات بل أمر بحمل ما يحتاج إليه إذا نجا ومن معه من الغرق لئلا يغتموا لفقده ويتكلفوا مشقة جلبه من الأصقاع النائية التي لم يصلها الغرق فكأنه قيل: قلنا احمل فيها من كل ما تحتاجونه إذا نجوتم زوجين اثنين، وإن قلنا بعموم الغرق نقول أيضًا: إنه عليه السلام لم يكلف بحمل شيء من المتكونات من العفونة بل كلف بالحمل مما يتناسل من الحيوانات لمصلحة بقاء النوع، وكانت السفينة بحيث تسع ذلك عادة أو معجزة وقدرة الله تعالى أجل من أن تضيق عن ذلك، وإن قيل بالعموم على وجه يبقى معه بعض الجبال جاز أن يقال: إنه عليه السلام لم يحمل إلا مما لا مهرب له ويضر فقده بجماعته، ولو قيل: إن العموم على إطلاقه وأنه عليه السلام لم يحمل في السفينة إلا ما تتسع له عادة مما يحتاج إليه لئلا يضيق أصحابه ذرعًا بفقده بالكلية حسبما تقتضيه الطباع البشرية وغرق ما عدا ذلك لكن الله تعالى جلت قدرته خلق نظير ما غرق بعد على الوجه الذي فعل قبل لم يكن ذلك بدعًا ممن أمره بين الكاف والنون جل شأنه وعظم سلطانه.
هذا وإنما قدم ذلك على أهله وسائر المؤمنين قيل: لكونه عريقًا بالحمل المأمور به لأنه يحتاج إلى مزاولة الأعمال منه عليه السلام في تمييز بعض عن بعض وتعيين الأزواج، وأما البشر فإنما يدخل الفلك باختياره فيخف فيه معنى الحمل، أو لأن ذلك إنما يحمل بمباشرة البشر وهم إنما يدخلونها بعد حملهم إياه، ويجوز أن يكون التقديم حفظًا للنظم الكريم عن الانتشار، وأيًا مّا كان فقوله سبحانه: {وَأَهْلَكَ} عطف على: {زَوْجَيْنِ} أو على: {اثنين} والمراد بأهله على ما في بعض الآثار امرأته المسلمة وبنوه منها وهم سام عليه السلام وهو أبو العرب وأصله على ما قال البكري: بالشين المعجمة، وحام وهو أبو السودان قيل: إنه أصاب زوجته في السفينة فدعا نوح عليه السلام أن تغير نطفته فغيرت.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن أبي صالح، ويافث كصاحب وهو أبو الترك ويأجوج ومأجوج وزوجة كل منهم: {إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول} بأنه من المغرقين لظلمهم، وذلك في قوله سبحانه: {وَلاَ تخاطبنى في الذين ظَلَمُواْ} [هود: 37] الآية، والمراد زوجة له أخرى تسمى واعلة بالعين المهملة، وفي رواية والقة وابنه منها كنعان وكان اسمه فيما قيل: يام وهذا لقبه عند أهل الكتاب وكانا كافرين، وفي هذا دلالة على أن الأنبياء عليهم السلام يحل لهم نكاح الكافرة بخلاف نبينا صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {يا أيها النبي إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ} [الأحزاب: 50] الآية، والاستثناء جوز أن يكون متصلًا إن أريد بالأهل الأهل إيمانًا، وأن يكون منقطعًا إن أريد به الأهل قرابة، ويكفى في صحة الاستثناء المعلومية عند المراجعة إلى أحوالهم والتفحص عن أعمالهم، وجيء بعلي لكون السابق ضارًا لهم كما جيء باللام فيما هو نافع في قوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين} [الصافات: 171] وقوله سبحانه: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى} [الأنبياء: 101]: {وَمَنْ ءامَنَ} عطف على الأهل أي والمؤمنين من غيرهم وإفراد أولئك منهم للاستثناء المذكور، وإيثار صيغة الافراد في: {مِن} محافظة على لفظ: {مِنْ} للإيذان بالقلة كما أفصح عن ذلك قوله تعالى: {وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} قيل: كانوا سبعة زوجته، واتاؤه الثلاثة، وكنائنه الثلاث.
وروي هذا عن قتادة، والحكم بن عقبة، وابن جريج ومحمد بن كعب، ويرده عطف: {وَمَنْ ءامَنَ} على الأهل إلا أن يكون الأهل بمعنى الزوج فإنه قد ثبت بهذا المعنى لكن قبل: إنه خلاف الظاهر، والاستثناء عليه منقطع أيضًا، وعن ابن إسحاق أنهم كانوا عشرة خمسة رجال وخمس نسوة، وعنه أنهم كانوا مع نوح عليه السلام عشرين نصفهم رجال ونصفهم الآخر نساؤهم، وقيل: كانوا ثمانية وسبعين نصفهم ذكور ونصفهم أناث، وقيل: كانوا ثمانين رجلًا وثمانين امرأة وقيل: وقيل والرواية الصحيحة أنهم كانوا تسعة وسبعين، زوجته، وبنوه الثلاثة، ونسائهم، واثنان وسبعون رجلًا، وامرأة من غيرهم من بني شيث، واعتبار المعية في الإيمان للإيماء إلى المعية في مقر الإيمان والنجاة. اهـ.

.قال القاسمي:

{حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا} أي: بإهلاك قومه. و: {حَتَّى} غاية لقوله (ويصنع) وما بينهما حال من الضمير فيه، و(سخروا منه) جواب (كلما): {وَفَارَ التَّنُّورُ} أي: وجه الأرض، أو كل مفجر ماء، أو محفل ماء الوادي، أو عين ماء معروفة، أو الكانون الذي يخبز فيه، أو تنوير الفجر- أقوال حكاها اللغويون والمفسرون- زاد بعضهم احتمال أن يكون هذا كناية عن اشتداد الأمر، كما يقال: (حمي الوطيس) والوطيس: التنور، وهو من فصيح الكلام وبليغه، وعندي أنه أظهر الأوجه المذكورة وأرقها وأبدعها وأبلغها، وإن حاول الرازي رده، كأنه قيل: واشتد الأمر، وقوي انهمار الماء ونبوعه. وهذا الإيجاز في مجازه الرهيب قد بينته آيات أخر، وهي: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر: 11- 12] الآيات، ومما يؤيده شمولة لشدة الأمر من السماء والأرض فيطابق هذه الآيات. وأما غيره فمقصور على ناحية الأرض فقط، وجلي أن الأمر كان أعم- والله أعلم-.
{قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا} أي: في السفينة: {مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ} أي: صنفين من البهائم والطيور وما يدب على وجه الأرض: {اثْنَيْنِ} أي: ذكرًا وأنثى، قال أبو البقاء: يقرأ: {كُلِّ} بالإضافة وفيه وجهان:
أحدهما: أن مفعول {احمِل} {اثنين} و{مِن} حال.
والثاني: أن {مِن} زائدة والمفعول {كُلّ} و{اثنين} توكيد. ويقرأ مِنْ كُلٍ {بالتنوين}، فـ {زوجين} مفعول {احمل} و{اثنين} توكيد له، و{مِن} متعلقة بـ {احمل} أو حال. انتهى.
{وَأَهْلَكَ} أي: من يتصل بك في دينك وسيرتك من أقاربك: {إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ} أي: وجب عليه: {الْقَوْلُ} أي: بالإغراق بسبب ظلمه: {وَمَنْ آمَنَ} أي: احمله معك فيها. قال أبو السعود: وإفراد الأهل منهم للاستثناء المذكور، وإيثار صيغة الإفراد في (آمن) محافظة على لفظ (مَنْ) للإيذان بقلتهم، كما أعرب عنه قوله عز قائلًا: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ}. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ}
عطف على جملة: {واصنع الفلك} [هود: 37]، أي أوحي إليه: {اصنع الفلك}، وصَنَع الفلك.
وإنما عبر عن صنعه بصيغة المضارع لاستحضار الحالة لتخييل السامع أن نوحًا عليه السلام بصدد العمل، كقوله: {والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابًا} [فاطر: 9] وقوله: {يجادلنا في قوم لوطٍ} [هود: 74] وجملة: {وكلما مر عليه ملأ} في موضع الحال من ضمير: {يصنع}.
و: {كلّما} كلمة مركبة من (كل) و(ما) الظرفية المصدرية، وانتصبت (كل) على الظرفية لأنها اكتسبت الظرفية بالإضافة إلى الظرف، وهو متعلّق: {سخروا}، وهو جوابه من جهة أخرى.
والمعنى: وسَخر منه ملأ من قومه في كل زمن مرورهم عليه.
و(لما) في (كلما) من العموم مع الظرفية أشربت معنى الشرط مثل (إذا) فاحتاجت إلى جواب وهو: {سَخروا منه}.
وجملة: {قال إن تسخروا منا} حكاية لما يجيب به سخريتهم، أجريت على طريقة فعل القول إذا وقع في سياق المحاورة، لأن جملة: {سخروا} تتضمن أقوالًا تنبني عن سخريتهم أو تبين عن كلام في نفوسهم.
وجمع الضمير في قوله: {مِنّا} يشير إلى أنهم يسخرون منه في عمل السفينة ومن الذين آمنوا به إذْ كانوا حَوله واثقين بأنه يعمل عَملًا عظيمًا، وكذلك جمعه في قوله: {فإنّا نسخر منكم}.
والسخرية: الاستهزاء، وهو تعجب باحتقار واستحماق.
وتقدم عند قوله تعالى: {فحَاق بالذين سَخروا منهم} في أول سورة [الأنعام: 10]، وفعلها يتعدى بـ (من).
وسخريتهم منه حمل فعله على العبث بناء على اعتقادهم أن ما يصنعه لا يأتي بتصديق مدعاه.
وسخرية نوح عليه السلام والمؤمنين، من الكافرين من سفه عقولهم وجهلهم بالله وصفاته.
فالسخريتان مقترنتان في الزمن.
وبذلك يتضح وجه التشبيه في قوله: {كما تسخرون} فهو تشبيه في السبب الباعث على السخرية، وإن كان بين السببيْن بَون.
ويجوز أن تجعل كاف التشبيه مفيدة معنى التعليل كالتي في قوله تعالى: {واذكروه كما هداكم} [البقرة: 198] فيفيد التفاوت بين السخريتين، لأن السخرية المعللة أحق من الأخرى، فالكفار سخروا من نوح عليه السلام لعمل يجهلون غايته، ونوح عليه السّلام وأتباعه سخروا من الكفار لعلمهم بأنهم جاهلون في غرور، كما دل عليه قوله: {فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه} فهو تفريع على جملة: {فإنّا نسخر منكم} أي سيظهر مَن هو الأحق بأن يسخر منه.
وفي إسناد (العلم) إلى ضمير المخاطبين دون الضمير المشارك بأن يقال: فسوف نعلم، إيماء إلى أن المخاطبين هم الأحق بعلم ذلك.
وهذا يفيد أدبًا شريفًا بأن الواثق بأنه على الحق لا يزعزع ثقته مقابلة السفهاء أعماله النافعة بالسخرية، وأن عليه وعلى أتباعه أن يسخروا من الساخرين.
والخزي: الإهانة، وقد تقدم عند قوله تعالى: {ربنا إنك مَن تدخل النار فقد أخزيته} في آخر سورة [آل عمران: 192].
والعذاب المقيم: عذاب الآخرة، أي من يأتيه عذاب الخزي في الحياة الدنيا، والعذاب الخالد في الآخرة.
و: {مَن} استفهامية معلّقة لفعل العِلم عن العمل، وحلول العذاب: حصوله؛ شبه الحصول بحلول القادم إلى المكان وهو إطلاق شائع حتى ساوى الحقيقة.
{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}
{حتى} غاية ل: {يصنع الفلك} [هود: 38] أي يصنعه إلى زمن مجيء أمرنا، ف: {إذا} ظرف مضمن معنى الشرط ولذلك جيء له بجواب.
وهو جملة: {قلنا احمل}.
وجعل الشرط وجوابه غاية باعتبار ما في حرف الشرط من معنى الزمان وإضافته إلى جملة الشرط، فحصل معنى الغاية عند حصول مضمون جملة الجزاء، وهو نظم بديع بإيجازه.
و: {حتى} ابتدائية.
والأمر هنا يحتمل أمْر التكوين بالطوفان، ويحتمل الشّأن وهو حادث الغرق، وإضافته إلى اسم الجلالة لتهويله بأنّه فوق ما يعرفون.
ومَجيء الأمر: حصوله.
والفوران: غليان القدر، ويطلق على نبع الماء بشدة، تشبيهًا بفوران ماء في القدر إذا غلي، وحملوه على ما جاء في آيات أخرى من قصة نوح عليه السّلام مثل قوله: {وفجّرنا الأرض عيونًا} [القمر: 12].
ولذلك لم يتضح لهم إسناده إلى التنور، فإن التنور هو الموقد الذي ينضج فيه الخبز، فكثرت الأقوال في تفسير التنور، بلغت نسبة أقوال منها ما لا ينبغي قبوله.
ومنها ما له وجه وهو متفاوت.
فمن المفسرين من أبقى التنور على حقيقته، فجعل الغوران خروج الماء من أحد التنانير وأنه علامة جعلها الله لنوح عليه السّلام إذ أفار الماء من تنوره علم أن ذلك مبدأ الطوفان فركِب الفلكَ وأركبَ من معه.