فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي} أي انشَفي، استُعير له من ازدراد الحيوان ما يأكلُه للدِلالة على أن ذلك ليس كالنشف المعتادِ التدريجيّ: {مَاءكِ} أي ما على وجهك من ماء الطوفانِ دون المياهِ المعهودةِ فيها من العيون والأنهارِ، وعبّر عنه فيما سلف بأمر الله تعالى لأن المقامَ مقامُ النقص والتقليلِ لا مقامُ التفخيمِ والتهويلِ: {ويا سماء أَقْلِعِى} أي أمسِكي عن إرسال المطرِ، يقال: أقلعت السماءُ إذا انقطع مطرُها وأقلعت الحُمّى أي كفّت: {وَغِيضَ الماء} أي نقص ما بين السماءِ والأرضِ من الماء: {وَقُضِىَ الأمر} أي أُنجز ما وعد الله تعالى نوحًا من إهلاك قومِه وإنجائِه بأهله أو أُتِمَّ الأمر: {واستوت} أي استقرّت الفلكُ: {عَلَى الجودى} هو جبلٌ بالمَوْصِل أو بالشام أو بآمل. روي أنه عليه الصلاة والسلام ركب في الفلك في عاشر رجبٍ ونزل عنها في عاشر المحرَّم فصام ذلك اليوم شكرًا فصار سُنّةً: {وَقِيلَ بُعْدًا لّلْقَوْمِ الظالمين} أي هلاكًا لهم، والتعرضُ لوصف الظلمِ للإشعار بعليته للهلاك ولتذكيره ما سبق من قوله تعالى: {وَلاَ تخاطبنى في الذين ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} ولقد بلغت الآيةُ الكريمةُ من مراتب الإعجازِ قاصيتَها وملكت من غُرر المزايا ناصيتَها وقد تصدّى لتفصيلها المتقنون، ولعمري إن ذلك فوق ما يصفه الواصفون فحريٌّ بنا أن نوجزَ الكلامَ في هذا البابِ ونفوّضَ الأمر إلى تأمل أولي الألباب، والله عنده علم الكتاب. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي} أي انشفي استعير من ازدراد الحيوان ما يأكله للدلالة على أن ذلك ليس كالنشف المعتاد التدريجي، وتخصيص البلع بما يؤكل هو المشهور عن اللغويين، وقال الليث: يقال: بلع الماء إذا شربه وهو ظاهر في أنه غير خاص بالمأكول، وذكر السيد أن ذلك مجاز.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن وهب بن منبه أن البلع بمعنى الازدراد لغة حبشية، وأخرج أبو الشيخ عن جعفر بن محمد عن أبيه أنه بمعنى الشرب لغة هندية: {مَاءكِ} أي ما على وجهك من ماء الطوفان وعبر عنه بالماء بعد ما عبر عنه فيما سلف بأمر الله تعالى لأن المقام مقام النقص والتقليل لا مقام التفخيم والتهويل: {ويا سماء أَقْلِعِى} أي امسكي عن إرسال المطر يقال: أقلعت السماء إذا انقطع مطرها؛ وأقلعت الحمى إذا كفت، والظاهر أن المطر لم ينقطع حتى قيل للسماء ما قيل، وهل فوران الماء كان مستمرًا حتى قيل للأرض ما قيل أم لا؟ لم أر فيه شيئًا، والآية ليست نصًا في أحد الأمرين: {وَغِيضَ الماء} أي نقص يقال: غاضه إذا نقصه وجميع معانيه راجعة إليه.
وقول الجوهري: غاض الماء إذا قل ونضب، وغيض الماء فعل به ذلك لا يخالفه فإن القلة عين النقصان، وتفسير ذلك بالنقص مروى عن مجاهد: {وَقُضِىَ الأمر} أي أنجز ما وعد الله تعالى نوحًا عليه السلام من إهلاك كفار قومه وإنجائه بأهله المؤمنين، وجوز أن يكون المعنى أتم الأمر: {واستوت} استقرت يقال: استوى على السرير إذا استقر عليه: {عَلَى الجودى} بتشديد الياء.
وقرأ الأعمش وابن أبي عبلة بتخفيفها وهما لغتان كما قال ابن عطية وهو جبل بالموصل أو بالشام أو بآمل بالمد وضم الميم والمشهور الأول.
وجاء في بعض الآثار أن الجبال تشامخت إذ ذاك وتواضع هو لله تعالى شأنه فأكرمه سبحانه باستواء السفينة عليه، ومن تواضع الله سبحانه رفعه، وكان استواؤها عليه يوم عاشوراء، فقد أخرج أحمد وغيره عن أبي هريرة قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بأناس من اليهود وقد صاموا يوم عاشوراء فقال: «ما هذا الصوم؟» فقيل: هذا اليوم الذي أنجى الله تعالى فيه موسى عليه السلام وبني إسرائيل من الغرق وغرق فيه فرعون، وهذا يوم استوت فيه السفينة على الجودي فصامه نوح وموسى عليهما السلام شكرًا لله تعالى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا أحق بموسى عليه السلام وأحق بصوم هذا اليوم فصامه وأمر أصحابه بالصوم» وأخرج الأصبهاني في الترغيب عنه رضي الله تعالى عنه أنه اليوم الذي ولد فيه عيسى عليه السلام أيضًا وأن صيامه يعدل سنة مبرورة، وكان ركوبه عليه السلام فيما روي عن قتادة في عشر خلون من رجب.
وأخرج ابن جرير عن عبد العزيز بن عبد الغفور عن أبيه مرفوعًا أنه عليه السلام ركب في أول يوم من رجب فصام هو ومن معه وجرت بهم السفينة ستة أشهر فانتهى ذلك إلى المحرم فأرست السفينة على الجودي يوم عاشوراء فصام نوح عليه السلام وأمر جميع من معه من الوحش والدواب فصاموا شكرًا لله.
وفي بعض الآثار أنها طافت بهم الأرض كلها ولم تدخل الحرم لكنها طافت به أسبوعًا وأن الحجر الأسود خبئ في جبل أبي قبيس وأن البيت رفع إلى السماء، وفي رواية ابن عساكر عن مجاهد أنه لم يدخل الحرم من الماء شيء، والظاهر على هذا أنه لا خبء كما أنه لا رفع، وعندي أن رواية ثبوتهما جميعًا مما لا تكاد تصح، وبفرض صحتها لا يظهر لي سر رفع البيت بلا حجر وخبء الحجر بلا بيت بل عندي في رفع البيت مطلقًا تردد، وإن كنت ممن لا يتردد في أن الله تعالى على كل شيء قدير: {وَقِيلَ بُعْدًا لّلْقَوْمِ الظالمين} أي هلاكًا لهم، واللام صلة المصدر، وقيل: متعلق بقيل وأن المعنى قيل لأجلهم بعدًا وهو خلاف الظاهر، والتعرض لوصف الظلم للإشعار بعليته للهلاك ولتذكير ما سبق في قوله سبحانه: {وَلاَ تخاطبنى في الذين ظَلَمُواْ} [هود: 37] ولا يخفى ما في هذه الآية أيضًا من الدلالة على عموم هلاك الكفرة.
ويشهد لذلك آيات أخر وأخبار كثيرة بل فيها ما هو على علاته ظاهر في عموم هلاك من على الأرض ما عدا أهل السفينة فعن عبيد بن عمير أن فيمن أصاب الغرق امرأة معها صبي لها فوضعته على صدرها فلما بلغها الماء وضعته على منكبها فلما بلغها الماء وضعته على يديها فقال الله سبحانه: لو رحمت أحدًا من أهل الأرض لرحمتها ولكن حق القول مني.
وزعم بعضهم أنه لم ينج أحد من الكفار سوى عوج بن عوق وكان الماء يصل إلى حجزته، وسبب نجاته أن نوحًا عليه السلام احتاج إلى خشب ساج فلم يمكنه نقله فحمله عوج من الشام إليه عليه السلام فنجاه الله تعالى من الغرق لذلك، وظاهر كلام القاموس يقتضي نجاته.
فقد ذكر فيه عوج بن عوق بضمهما رجل ولد في منزل آدم عليه السلام فعاش إلى زمن موسى عليه السلام، والحق أنه لم ينج أحد من الكفار أصلًا، وخبر عوج يرويه هيان ابن بيان فلا تعج إلى القول به ولا يشكل إغراق الأطفال الذين لا ذنب لهم لما أنه مجرد سبب للموت بالنسبة إليهم وأي محذور في إماتة من لا ذنب له وفي كل وقت يميت الله سبحانه من ذلك ما لا يحصى وهو جل شأنه المالك الحق والمتصرف المطلق يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ولا يحتاج في الجواب إلى ما أخرجه إسحاق بن بشر وابن عساكر عن عبد الله بن زياد بن سمعان عن رجال سماهم أن الله تعالى أعقم رجالهم قبل الطوفان بأربعين عامًا وأعقم نساءهم فلم يتوالدوا أربعين عامًا منذ دعا نوح عليه السلام حتى أدرك الصغير فبلغ الحنث وصارت لله تعالى عليهم الحجة ثم أنزل السماء عليهم بالطوفان إذ يبقى عليه مع ضعفه والتعارض بينه وبين الخبر السابق آنفًا أمر إهلاك ما لم يكن في السفينة من الحيوانات وقد جاء عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أن نوحًا عليه السلام لما حمل من حمل في السفينة رأت البهائم والوحش والسباع العذاب فجعلت تلحس قدمه عليه السلام وتقول: احملنا معك فيقول: إنما أمرت أن أحمل من كل زوجين اثنين ولم يحملها وكذا لا يحتاج إلى الجواب بأن الله تعالى إنما أهلك أولئك الأطفال لعلمه جل شأنه بما كانوا فاعلين وذلك كما يقال في وجه إدخال أطفال الكفار النار يوم القيامة على قول من يراه لما أن فيه ما فيه، وبالجملة إماتة الأحياء بأي سبب كان دفعة أو تدريجًا مما لا محذور فيه ولا يسئل عنه.
هذا واعلم أن هذه الآية الكريمة قد بلغت من مراتب الإعجاز أقاصيها واستدلت مصاقع العرب فسفعت بنواصيها وجمعت من المحاسن ما يضيق عنه نطاق البيان وكانت من سمهرى البلاغة مكان السنان، يروى أن كفار قريش قصدوا أن يعارضوا القرآن فعكفوا على لباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يومًا لتصوف أذهانهم فلما أخذوا فيما قصدوه وسمعوا هذه الآية قال بعضهم لبعض: هذا الكلام لا يشبه كلام المخلوقين فتركوا ما أخذوا فيه وتفرقوا، ويروى أيضًا أن ابن المقفع وكان كما في القاموس فصيحًا بليغًا، بل قيل: إنه أفصح أهل وقته رام أن يعارض القرآن فنظم كلامًا وجعله مفصلًا وسماه سورًا فاجتاز يومًا بصبي يقرؤها في مكتب فرجع ومحا ما عمل، وقال: أشهد أن هذا لا يعارض أبدًا وما هو من كلام البشر، ولا يخفى أن هذا لا يستدعي أن لا يكون سائر آيات القرآن العظيم معجزًا لما أن حد الإعجاز هو المرتبة التي يعجز البشر عن الإتيان بمثلها ولا تدخل على قدرته قطعًا، وهي تشتمل على شيئين: الأول: الطرف الأعلى من البلاغة أعني ما ينتهي إليه البلاغة ولا يتصور تجاوزها إياه، والثاني: ما يقرب من ذلك الطرف أعني المراتب العلية التي تتقاصر القوى البشرية عنها أيضًا؛ ومعنى إعجاز آيات الكتاب المجيد بأسرها هو كونها مما تتقاصر القوى البشرية عن الإتيان بمثلها سواء كانت من القسم الأول أو الثاني، فلا يضر تفاوتها في البلاغة وهو الذي قاله علماء هذا الشأن، وأنشد بعض الفرس في ذلك:
در بيان ودر فصاحت كي بود يكسان سخن ** ورجه كوينده بودوجون حافظ وجون أصمعي

در كلام ايزد بيجون كه وحى منزلست ** كي بود تيت يداجون قيل يا أرض ابلعي

وقد فصل بعض مزايا هذه الآية المهرة المتقنون وتركوا من ذلك ما لا يكاد يصفه الواصفون، ولا بأس بذكر شيء مما ذكر إفادة لجاهل وتذكير لفاضل غافل، فنقول: ذكر العلامة السكاكي أن النظر فيها من أربع جهات: من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني وهما مرجعا البلاغة، ومن جهة الفصاحة المعنوية، ومن جهة الفصاحة اللفظية، أما النظر فيها من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بذلك من القرينة والترشيح والتعريض فهو أنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى أردنا أن نردّ ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد.
وأن نقطع طوفان السماء فانقطع.
وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض.
وأن نقضي أمر نوح عليه السلام وهو إنجاز ما كنا وعدناه من إغراق قومه فقضى.
وأن نسوي السفينة عل الجودي فاستوت وأبقينا الظلمة غرقى، بنى سبحانه الكلام على تشبيه المراد منه بالمأمور الذي لا يتأتى منه لكمال هيبته من الآمر العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود تصويرًا لاقتداره سبحانه العظيم، وأن هذه الأجرام العظيمة من السموات والأرض تابعة لإرادته تعالى إيجادًا وإعدامًا ولمشيئته فيها تغييرًا وتبديلًا كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه جل شأنه حق معفرته وأحاطوا علمًا بوجوب الانقياد لأمره والإذعان لحكمه وتحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده وتصوروا مزيد اقتداره فعظمت مهابته في نفوسهم وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم فكما يلوح لهم إشارته سبحانه كان المشار إليه مقدمًا، وكما يرد عليهم أمره تعالى شأنه كان المأمور به متممًا لا تلقى لإشارته بغير الإمضاء والانقياد ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال، ثم بنى على مجموع التشبيهين نظم الكلام فقال جل وعلا: {قِيلَ} على سبيل المجاز عن الإرادة من باب ذكر المسبب وإرادة السبب لأن الإرادة تكون سببًا لوقوع القول في الجملة وجعل قرينة هذا المجاز خطاب الجماد وهو: تَكُنْ أَرْضُ: كُلّ سَمَاء إذ يصح أن يراد حصول شيء متعلق بالجماد ولا يصح القول له ثم قال سبحانه كما ترى: تَكُنْ أَرْضُ: كُلّ سَمَاء مخاطبًا لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، والظاهر أنه أراد أن هناك استعارة بالكناية حيث ذكر المشبه أعني السماء والأرض المراد منهما حصول أمر وأريد المشبه به أعني المأمور الموصوف بأنه لا يتأتى منه العصيان ادعاء بقرينة نسبة الخطاب إليه ودخول حرف النداء عليه وهما من خواص المأمور المطيع ويكون هذا تخييلًا.
وقد يقال: أراد أن الاستعارة هاهنا تصريحية تبعية في حرف النداء بناءًا على تشبيه تعلق الإرادة بالمراد منه بتعلق النداء والخطاب بالمنادى المخاطب وليس بشيء إذ لا يحسن هذا التشبيه ابتداءًا بل تبعًا للتشبيه الأول فكيف يجعل أصلًا لمتبوعه؟ا على أن قوله للشبه المذكور يدفع هذا الحمل، ثم استعار لغور الماء في الأرض البلع الذي هو أعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي.
وفي الكشاف جعل البلع مستعارًا لنشف الأرض الماء وهو أولى، فإن النشف دال على جذب من أجزاء الأرض لما عليها كالبلع بالنسبة إلى الحيوان، ولأن النشف فعل الأرض والغور فعل الماء مع الطباق بين الفعلين تعديًا، ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيهًا له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوي الآكل بالطعام، وجعل قرينة الاستعارة لفظة: {ابلعى} لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء.
ولا يخفى عليك أنه إذا اعتبر مذهب السلف في الاستعارة يكون: {ابلعى} استعارة تصريحية ومع ذلك يكون بحسب اللفظ قرينة للاستعارة بالكناية في الماء على حد ما قالوا في: {يَنقُضُونَ عَهْدَ الله} [البقرة: 27] وأما إذا اعتبر مذهبه فينبغي أن يكون البلع باقيًا على حقيقته كالإنبات في أنبت الربيع البقل وهو بعيد، أو يجعل مستعارًا لأمر متوهم كما في نطقت الحال، فيلزمه القول بالاستعارة التبعية كما هو المشهور، ثم إنه تعالى أمر على سبيل الاستعارة للتشبيه الثاني وخاطب في الأمر ترشيحًا لاستعارة النداء.
والحاصل أن في لفظ: {ابلعى} باعتبار جوهره استعارة لغور الماء وباعتبار صورته أعني كونه صورة أمر استعارة أخرى لتكوين المراد وباعتبار كونه أمر خطاب ترشيح للاستعارة المكنية التي في المنادى فإن قرينتها النداء وما زاد على قرينة المكنية يكون ترشيحًا لها، وأما جعل النداء استعارة تصريحية تبعية حتى يكون خطاب الآمر ترشيحًا لها فقد عرفت ما فيه، ثم قال جل وعلا: {مَاءكِ} بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيهًا لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالمالك، واختار ضمير الخطاب لأجل الترشيخ، وحاصله أن هناك مجازًا لغويًا في الهيئة الإضافية الدالة على الاختصاص الملكي ولهذا جعل الخطاب ترشيحًا لهذه الاستعارة من حيث أن الخطاب يدل على صلوح الأرض للمالكية فما قيل: إن المجاز عقلي والعبارة مصروفة عن الظاهر ليس بشيء، ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان من المطر أو الفعل ففي: {أَقْلِعِى} استعارة باعتبار جوهره وكذا باعتبار صيغته أيضًا وهي مبنية على تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ، والخطاب فيه أيضًا ترشيح لاستعارة النداء، والحاصل أن الكلام فيه مثل ما مر في: {ابلعى} ثم قال سبحانه: {وَغِيضَ الماء وَقُضِىَ الأمر واستوت عَلَى الجودى وَقِيلَ بُعْدًا} فلم يصرح جل وعلا بمن غاض الماء ولا بمن قضى الأمر وسوى السفينة وقال بعدًا كما لم يصرح سبحانه بقائل: تَكُنْ أَرْضُ: كُلّ سَمَاء في صدر الآية سلوكًا في كل واحد من ذلك لسبيل الكناية لأن تلك الأمور العظام لا تصدر إلا من ذي قدرة لا يكتنه قهار لا يغالب فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره جلت عظمته قائلًا: تَكُنْ أَرْضُ و: كُلّ سَمَاء ولا غائض ما غاض ولا قاضي مثل ذلك الأمر الهائل، أو أن يكون تسوية السفينة وإقرارها بتسوية غيره.