فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والحاصل أن الفعل إذا تعين لفاعل بعينه استتبع لذلك أن يترك ذكره ويبني الفعل لمفعوله، أو يذكر ما هو أثر لذلك الفعل على صيغة المبني للفاعل، ويسند إلى ذلك المفعول فيكون كناية عن تخصيص الصفة التي هي الفعل بموصوفها، وهذا أولى مما قيل في تقرير الكناية هنا: إن ترك ذكر الفاعل وبناء الفعل للمفعول من لوازم العلم بالفعل وتعينه لفاعلية ذلك الفعل فذكر اللازم وأريد الملزوم لما أن استوت غير مبني للمفعول كقيل وغيض ثم إنه تعالى ختم الكلام بالتعريض تنبيهًا لسالكي مسلك أولئك القوم في تكذيب الرسل عليهم السلام ظلمًا لأنفسهم لا غير ختم إظهار لمكان السخط ولجهة استحقاقهم إياه وأن قيامه الطوفان وتلك الصورة الهائلة ما كانت إلا لظلمهم كما يؤذن بذلك الدعاء بالهلاك بعد هلاكهم والوصف بالظلم مع تعليق الحكم به، وذكر بعضهم أن البعد في الأصل ضد القرب وهو باعتبار المكان ويكون في المحسوس، وقد يقال في المعقول نحو: {ضَلُّواْ ضلالا بَعِيدًا} [النساء: 167] واستعماله في الهلاك مجاز، قال ناصر الدين: يقال بعد بعدًا بضم فسكون وبعدًا بالتحريك إذا بعد بعدًا بعيدًا بحيث لا يرجى عوده، ثم استعير للهلاك وخص بدعاء السوء ولم يفرق في القاموس بين صيغتي الفعل في المعنيين حيث قال: البعد معروف والموت وفعلهما ككرم وفرح بعدًا وبعدًا فافهم.
وزعم بعضهم أن الأرض والسماء أعطيتا ما يعقلان به الأمر فقيل لهما حقيققة ما قيل، وأن القائل: {بُعْدًا} نوح عليه السلام ومن معه من المؤمنين، ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر ولا أثر فيه يعول عليه، والكلام على الأول أبلغ، وأما النظر فيها من جهة علم المعاني وهو النظر في فائدة كل كلمة فيها وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها فذلك أنه اختير: {يا} دون سائر أخواتها لكونها أكثر في الاستعمال وأنها دالة على بعد المبادى الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة وإبداء شأن العزة والجبروت، وهو تبعيد المنادى المؤذن بالتهاون به ولم يقل: تَكُنْ أَرْضُ بالكسر لأن الإضافة إلى نفسه جل شأنه تقتضي تشريفًا للأرض وتكريمًا لها فترك إمدادًا للتهاون لم يقل يا أيتها الأرض مع كثرته في نداء أسماء الأجناس قصدًا إلى الاختصار والاحتراز عن تكلف التنبيه المشعر بالغفلة التي لا تناسب ذلك المقام، واختير لفظ الأرض والسماء على سائر أسمائهما كالمقلة والغبراء وكالمظلة والخضراء لكونهما أخصر وأورد في الاستعمال وأوفى بالمطابقة، فإن تقابلهما إنما اشتهر بهذين الاسمين، واختير لفظ: {ابلعى} على ابتعلي لكونه أخصر وأوفر تجانسًا باقلعي لأن همزة الوصل إن اعتبرت تساويًا في عدد الحروف وإلا تقاربا فيه بخلاف ابتلعي، وقيل: {ماءك} بالافراد دون الجمع لما فيه من صورة الاستكثار المتأبى عنها مقام إظهار الكبرياء وهو الوجه في إفراد الأرض والسماء وإنما لم يقل: {...} بالافراد دون الجمع لما فيه من صورة الاستكثار المتأبى عنها مقام إظهار الكبرياء وهو الوجه في إفراد الأرض والسماء وإنما لم يقل: {ابلعى} بدون المفعول لئلا يستلزم تركه ما ليس بمراد كم تعميم الابتلاع للجبال والتلال والبحار وساكنات الماء بأسرهن نظرًا إلى مقام عظمة الآمر المهيب وكمال انقياد المأمور، ولما علم أن المراد بلع الماء وحده علم أن المقصود بالاقلاع إمساك المساء عن إرسال الماء فلم يذكر متعلق: {أَقْلِعِى} اختصارًا واحترازًا عن الحشو المستغنى عنه وهذا هو السبب في ترك ذكر حصول المأمور به بعد الأمر فلم يقل: {قِيلَ يا أَرْضُ ابلعى} فبلعت: {مَاءكِ ويا سماء أَقْلِعِى} فقلت لأن مقام الكبرياء وكمال الانقياد يغني عن ذكره الذي ربما أوهم إمكان المخالفة، واختير غيض على غيض المشدد لكونه أخصر.
وقيل: الماء دون ماء طوفان السماء، وكذا الأمر دون أمر نوح وهو إنجاز ما وعد لقصد الاختصار، والاستغناء بحرف التعريف عن ذلك لأنه إما بدل من المضاف إليه كما هو مذهب الكوفية، وإما لأنه يغني غناء الإضافة في الإشارة إلى المعهود، واختير استوت على سويت أي أقرت مع كونه أنسب بأخواته المبنية للمفعول اعتبارًا لكون الفعل المقابل للاستقرار أعني الجريان منسوبًا إلى السفينة على صيغة المبني للفاعل في قوله تعالى: {وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ} [هود: 42] مع أن: {استوت} أخصر من سويت، واختير المصدر أعني: {أَلاَ بُعْدًا} على ليبعد القوم طلبًا لتأكيد معنى الفعل بالمصدر مع الاختصار في العبارة وهو نزول: {بُعْدًا} وحده منزلة ليبعدوا بعدًا مع فائدة أخرى هي الدلالة على استحقاق الهلاك بذكر اللام، وإطلاق الظلم عن مقيداته في مقام المبالغة يفيد تناول كل نوع فيدخل فيه ظلمهم على أنفسهم لزيادة التنبيه على فظاعة سوء اختيارهم في التكذيب من حيث أن تكذيبهم للرسل ظلم على أنفسهم لأن ضرره يعود إليهم، هذا من حيث النظر إلى تركيب الكلم، وأما من حيث النظر إلى ترتيب الجمل فذلك أنه قدم النداء على الأمر فقيل: {وَقِيلَ يا أرض ابلعى مَاءكِ ويا سماء أَقْلِعِى} دون أن يقال: ابلعي يا أرض، واقلعي يا سماء جريا على مقتضى اللازم فيمن كان مأمورًا حقيقة من تقديم التنبيه ليتمكن الأمر الوارد عقيبه في نفس المنادي قصدًا بذلك لمعنى الترشيح للاستعارة المكنية في الأرض والسماء، ثم قدم أمر الأرض على أمر السماء لكونها الأصل نظرًا إلى كون ابتداء الطوفان منها حيث فار تنورها أولا، ثم جعل قوله سبحانه: {وَغِيضَ الماء} تابعًا لأمر الأرض والسماء لاتصاله بقصة الماء وأخذه بحجزتها، ألا ترى أصل الكلام: {قِيلَ يا أَرْضُ ابلعى مَاءكِ} فبلعت ماءها: {مَاءكِ ويا سماء أَقْلِعِى} عن إرسال الماء فأقلعت عن إرساله: {وَغِيضَ الماء} النازل من السماء فغاض.
وقيد الماء بالنازل وإن كان في الآية مطلقًا لأن ابتلاع الأرض ماءها فهم من قوله سبحانه: {ابلعى مَاءكِ}.
واعترض بأن الماء المخصوص بالأرض إن أريد به ما على وجهها فهو يتناول القبيلين الأرضي والسمائي وإن أريد به ما نبع منها فاللفظ لا يدل عليه بوجهه، ولهذا حمل الزمخشري الماء على مطلقه، وأشعر كلامه بأن غيض الماء إخبار عن الحصول المأمور به من قوله سبحانه: {المغرقين وَقِيلَ يا أرض ابلعى مَاءكِ ويا سماء أَقْلِعِى} فالتقدير قيل لهما ذلك فامتثلا الأمر ونقص املاء.
ورجح الطيبي ما ذهب إليه الكساكي زاعمًا أن معنى الغيض حينئذ ما قاله الجوهري، وهو عنده مخالف للمعني الذي ذكره الزمخشري فقال: إن إضافة الماء إلى الأرض لما كانت ترشيحًا للاستعارة تشبيهًا لاتصاله بها باتصال الملك بالمالك ولذا جيء بضمير الخطاب اقتضت إخراج سائر المياه سوى الذي بسببه صارت الأرض مهيأة للخطاب بمنزلة المأمور المطيع وهو المعهود في قوله تعالى: {وَفَارَ التنور} [هود: 40] وبهذا الاعتبار يحصل التواغل في تناسي التشبيه والترشيح، ولو أجريت الإضافة على غير هذا تكون كالتجريد وكم بينهما، هذا ولو حمل على العموم لاستلزم تعميم ابتلاعه المياه بأسرها لورود الأمر من مقام العظمة كما علمت من كلام السكاكي، وليس بذاك، وتعقبه في الكشف بأنه دعوى بلا دليل ورد يمين إذ لا معهود، والظاهر ما على وجه الأرض من الماء ولا ينافي الترشيح وإضافة المالكية، ثم الظاهر من تنزيل الماء منزلة الغذاء أن تجعل الإضافة من باب إضافة الغذاء إلى المغتذي في النفع والتقوية وصيرورته جزءًا منه ولا نظر فيه إلى كونه مملوكًا أو غير ذلك، وأما التعميم فمطلوب وحاصل على التفسيرين لانحصار الماء في الأرض والسمائي، وقد قلتم بنضوبهما من قوله سبحانه فبلعت.
وقوله تعالى: {وَغِيضَ} ولا شك أن ما عندنا من الماء غير ماء الطوفان، هذا والمطابق تفسير الزمخشري، ألا ترى إلى قوله جل وعلا: {فَالْتَقَى الماء} [القمر: 12] أي الأرضي والسمائي، وهاهنا تقدم الماءان في قوله سبحانه: {مَاءكِ ويا سماء سَمَاء أَقْلِعِى} لأن تقديره عن إرسال الماء على زعمهم، فإذا قيل: وغيض المار رجع إليهما لا محالة لتقدمهما، ثم إذا جعل من توابع: {أَقْلِعِى} خاصة لم يحسن عطفه على أصل القصة أعني: {وَقِيلَ يا أَرْضُ ابلعى} كيف وفي إيثار هذا التفسير الإشارة إلى أنه زال كونه طوفانا لأن نقصان الماء غير الإذهاب بالكلية، وإلى أن الأجزاء الباطنة من الأرض لم تبق على ما كانت عليه من قوة الانباع ورجعت إلى الاعتدال المطلوب وليس في الاختصاص بالنضوب هذا المعنى البتة انتهى.
وزعم الطبرسي أن أئمة البيت رضي الله تعالى عنهم على أن الماء المضاف هو ما نبع وفار وأنه هو الذي ابتلع وغاض لا غير، وأن ماء السماء صار بحارًا وأنهارًا.
وأخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن ابن عباس ما يؤيده، وهذا مخالف لما يقتضيه كلام السكاكي مخالفة ظاهرة، وفي القلب من صحته ما فيه، ثم إنه تعالى أتبع غيض الماء ما هو المقصود الأصلي من القصة، وهو قوله جلت عظمتته: {وَقُضِىَ الأمر} ثم أتبع ذكر المقصود حديث السفينة لتأخره عنه في الوجود، ثم ختمت القصة بالتعريض الذي علمته، هذا كله نظر في الآية من جانبي البلاغة، وأما النظر فيها من جانب الفصاحة المعنوية فهي كما ترى نظم للمعاني لطيف. وتأدية لها ملخصة مبينة لا تعقيد يعثر الكفر في طلب المراد ولا التواء يشيك الطريق إلى المرتاد بل إذا جربت نفسك عند استماعها وجدت ألفاظها تسابق معانيها ومعانيها تسابق ألفاظها فما من لفظة فيها تسبق إلى أذنك إلا ومعناها أبق إلى قلبك، وأما النظر فيها من جانب الفصاحة اللفظية فألفاظها على ما ترى عربية مستعملة جارية على قوانين اللغة سليمة عن التنافر بعيدة عن البشاعة عذبة على العذبات سلسة على الاسلات كل منها كالماء في السلالة والكعسل في الحلاوة والكنسيم في الرقة، ولله تعالى در التنزيل ماذا جمعت ياته:
وعلى تفنن واصفيه بحسنه ** يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف

وما ذكر في مزايا هذه الآية بالنسبة إلى ما فيها قطرة من حياض، وزهرة من رياض، وقد ذكر ابن أبي الاصبع أن فيها عشرين ضربًا من البديع من أنها سبع عشرة لفظة وذلك المناسبة التامة في: {ابلعى} و: {أَقْلِعِى} والاستعارة فيهما والطباق بين الأرض والسماء والمجاز في: {كُلّ سَمَاء} فإن الحقيقة يا مطر السماء، والإشارة في: {وَغِيضَ الماء} فإنه عبر به عن معان كثيرة لأن الماء لا يغيض حتى يقلع مطر السماء وتبلع الأرض ما يخرج منها فينقص ما على وجه الأرض، والإرداف في: {واستوت} والتمثيل في: {وَقُضِىَ الأمر} والتعليل فإن غيض الماء علة للاستواء وصحة التقسيم فإنه استوعب أقسام الماء حال نقصه والاحتراس في الدعاء لئلا يتوهم أن الغرق لعمومه شمل من لا يستحق الهلاك فإن عدله تعالى يمنع أن يدعو على غير مستحق، وحسن النسق وائتلاف اللفظ مع المعنى والايجاز فإنه سبحانه قص القصة مستوعبة بأخصر عبارة، والتسهيم لأن أول الآية يدل على آخرها، والتهذيب لأن مفرداتها موصوفة بصفات الحسن، وحسن البيان من جهة أن السامع لا يتوقف في فهم معنى الكلام ولا يشكل عليه شيء منه، والتمكين لأن الفاصلة مستقرة من محلها مطمئنة في مكانها، والانسجام، وزاد الجلال السيوطي بعد أن نقل هذا عن ابن أبي الأصبع الاعتراض، وزاد آخرون أشياء كثيرة إلا أنها ككلام ابن أبي الأصبع قد أشير إليها بأصبع الاعتراض، وقد ألف شيخنا علاء الدين أعلى الله تعالى درجته في أعلى عليين رسالة في هذه الآية الكريمة جمع فيها ما ظهر له ووقف عليه من مزاياها فبلغ ذلك مائة وخمسين مزية، وقد تطلبت هذه الرسالة لأذكر شيئًا من لطائفها فلم أظفر بها وكأن طوفان الحوادث أغرقها، ولعل فيما نقلناه سدادًا من عوز، والله تعالى الموفق للصواب وعنده علم الكتاب. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}
إعلام بأنه لما غرق أهل الأرض، ولم يبق ممن كفر بالله ديار، أمر تعالى الأرض أن تبلع ماءها الذي نبع منها واجتمع عليها، وأمر السماء أن تقلع عن المطر، فنضب الماء، وقضي أمر الله، بإنجاء من نجا، وإهلاك من هلك.
ولما أخذت المياه تتناقص وتتراجع إلى الأرض شيئًا فشيئًا، وظهرت رؤوس الجبال، استقرت السفينة على الجودي، وهو جبل بالجزيرة قرب الموصل.
و(بُعْدًا) مصدر منصوب بمقدر، أي: وبعدوا بعدًا. يقال: بعد بعدًا، إذا أرادوا البعد البعيد من حيث الهلاك والموت ونحو ذلك، ولذلك اختص بدعاء السوء كـ: (جَدْعَا) و(تَعْسًا). و(اللام) متعلقة بمحذوف، أو للبيان، أو متعلقة بـ (قيل) أي: لأجلهم هذا القول.
والتعرض لوصف الظلم للإشعار بعليته للهلاك، ولتذكر ما سبق من قوله: {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ}.
تنبيه:
هذه الآية بلغت من أسرار الإعجاز غايتها، وحوت من بدائع الفرائد نهايتها. وقد اهتم علماء البيان لإيضاح نخب من لطائفها، ومن أوسعهم مجالًا في معارفها الإمام السكاكي، فقد أطال وأطاب في كتابه المفتاح وتلطف في التبيان بألطف من نسيم الصباح، ونحن نورده بتمامه، لنعطر الألباب بعرف مبتدئه ومسك ختامه.
قال عليه الرحمة في بحث (البلاغة والفصاحة) وتعريفه الأولى بأنها بلوغ المتكلم في تأدية المعاني حدًا له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقها، وإيراد أنواع التشبيه والمجاز والكناية على وجهها، ثم تقسيمه الفصاحة إلى ما يرجع إلى المعنى، وهو خلوص الكلام عن التعقيد وإلى اللفظ، وهو كونه عربيًا أصليًا، جاريًا على قوانين اللغة، أدْوَر على ألسنة الفصحاء أكثر في الاستعمال، ما صورته:
وإذ قد وقفت على البلاغة، وعثرت على الفصاحة المعنوية واللفظية، فأنا أذكر على سبيل الأنموذج آية أكشف لك فيها عن وجوه البلاغة والفصاحتين، ما عسى يسترها عنك، ثم إن ساعدك الذوق، أدركت منها ما قد أدرك من تُحدوا بها وهي قوله علت كلمته: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ} إلى: {الظَّالِمينَ}.
والنظر في هذه الآية من أربع جهات من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني وهما مرجعا البلاغة، ومن جهة الفصاحة المعنوية، ومن جهة الفصاحة اللفظية.
أما النظر فيها من جهة علم البيان، وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بها، فنقول: إنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى: أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان السماء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من الماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح، وهو إنجاز ما كنا وعدنا من إغراق قومه فقضي، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى؛ بنى الكلام على تشبيه المراد بالأمور الذي لا يتأتى منه لكمال هيبته العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود، تصويرًا لاقتداره العظيم، وأن السماوات والأرض وهذه الأجرام العظام تابعة لإرادته إيجادًا وإعدامًا، ولمشيئته فيها تغييرًا وتبديلًا، كأنها عقلاء مميزون، قد عرفوه حق معرفته، وأحاطوا علمًا بوجوب الانقياد لأمره، والإذعان لحكمه، وتحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مواده، وتصور مزيد اقتداره، فعظمت مهابته في نفوسهم، وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم، فكما يلوح لهم إشارته كان المشار إليه مقدمًا، وكما يرد عليهم أمره كان المأمور به متممًا، لا تَلَقي لإشارته بغير الإمضاء والانقياد، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال. ثم بنى على تشبيهه هذا نظم الكلام، فقال جل وعلا: {وَقِيلَ} على سبيل المجاز- أي: المرسل- عن الإرادة الواقع بسببها قول القائل، وجعل قرينة المجاز الخطاب للجماد وهو: يا أرض ويا سماء. ثم قال كما ترى: يا أرض ويا سماء، مخاطبًا لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، ثم استعار لغؤور الماء في الأرض البلع، الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم، للشبه بينهما، وهو الذهاب إلى مقر خفي. ثم استعار الماء للغذاء واستعارة بالكناية، تشبيهًا له بالغذاء؛ لتقوى الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوي الآكل بالطعام، وجعل قرينة الاستعارة لفظة (ابلعي) لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء. ثم أمر على سبيل الاستعارة للشبه المقدم ذكره، وخاطب في الأمر ترشيحًا لاستعارة النداء. ثم قال: {مَاءَكِ} بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز، تشبيهًا لاتصال الماء بالأرض، باتصال الملك بالمالك، واختار ضمير الخطاب لأجل الترشيح. ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان. ثم أمر على سبيل الاستعارة، وخاطب في الأمر قائلًا: {أَقْلِعِي} لمثل ما تقدم في: {ابْلَعِي}. ثم قال: {وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا} لم يصرح بمنْ غاض الماء، ولا بمن قضي الأمر، وسوى السفينة. وقال: {بُعدًا} كما لم يصرح بقائل: يا أرض ويا سماء في صدر الآية، سلوكًا في كل واحد من ذلك على سبيل الكناية، أن تلك الأمور العظام لا تتأتى إلا من ذي قدرة لا يُكتنه، قهار لا يغالب. فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره- جلت عظمته- قائل: يا أرض ويا سماء، ولا غائض مثل ما غاض، ولا قاضي مثل ذلك الأمر الهائل، وأن تكون تسوية السفينة وإقرارها بتسوية غيره وإقراره. ثم ختم الكلام بالتعريض؛ تنبيهًا لسالكي مسلكهم في تكذيب الرسل ظلمًا لأنفسهم لا غير، ختم إظهارٍ؛ لمكان السخط، ولجهة استحقاقهم إياه، وأن قيامة الطوفان، وتلك الصورة الهائلة، ما كانت إلا لظلمهم.