فصل: قال الخطيب الشربيني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والازدراء افتعال من زرى عليه إذا عابه وأصله تزتري فأبدلت التاء دالًا.
{قَالُواْ يَا نُوحٌ قَدْ جَادَلْتَنَا} خاصمتنا: {فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا} من العذاب: {إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} في وعدك: {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِن شَاء} أي ليس الإتيان بالعذاب إليّ وإنما هو إلى من كفرتم به: {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} أي لم تقدروا على الهرب منه: {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى} هو إعلام موضع الغي ليتقي والرشد ليقتفي: {ولكني}، {إني}، {نصحَي} مدني وأبو عمرو: {إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ} أي يضلكم وهذا شرط دخل على شرط فيكون الثاني مقدمًا في الحكم لما عرف.
تقديره: إن كان الله يريد أن يغويكم لا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم، وهو دليل بين لنا في إرادة المعاصي: {هُوَ رَبُّكُمْ} فيتصرف فيكم على قضية إرادته: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فيجازيكم على أعمالكم: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} بل أيقولون افتراه: {قُلْ إِنِ افتريته فَعَلَىَّ إِجْرَامِى} أي إن صح أني افتريته فعلي عقوبة إجرامي أي افترائي يقال أجرم الرجل إذا أذنب: {وَأَنَاْ بَرِئ} أي ولم يثبت ذلك وأنا بريء منه.
ومعنى: {مّمَّا تُجْرَمُونَ} من إجرامكم في إسناد الافتراء إلي فلا وجه لإعراضكم ومعاداتكم.
{وَأُوحِىَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَم يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءامَنَ} إقناط من إيمانهم وأنه غير متوقع، وفيه دليل على أن للإيمان حكم التجدد كأنه قال: إن الذي آمن يؤمن في حادث الوقت، وعلى ذلك يخرج الزيادة التي ذكرت في الإيمان بالقرآن: {فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} فلا تحزن حزن بائس مستكين والابتئاس افتعال من البؤس وهو الحزن والفقر، والمعنى فلا تحزن بما فعلوه من تكذيبك وإيذائك فقد حان وقت الانتقام من أعدائك.
{واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا} هو في موضع الحال أي اصنعها محفوظًا وحقيقته ملتبسًا بأعيننا كأن لله معه أعينا تكلؤه من أن يزيغ في صنعته عن الصواب: {وَوَحينَا} وأنا نوحي إليك ونلهمك كيف تصنع.
عن ابن عباس رضي الله عنهما: لم يعلم كيف صنعة الفلك فأوحى الله إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطير: {وَلاَ تخاطبنى في الذين ظَلَمُواْ} ولا تدعني في شأن قومك واستدفاع العذاب عنهم بشفاعتك: {إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} محكوم عليهم بالإغراق وقد قضى به وجف القلم فلا سبيل إلى كفه: {وَيَصْنَعُ الفلك} حكاية حال ماضية: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ} من عمله السفينة وكان يعملها في برية في أبعد موضع من الماء فكانوا يتضاحكون منه ويقولون له يا نوح صرت بحارًا بعدما كنت نبيًا: {قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ} عند رؤية الهلاك: {كَمَا تَسْخَرُونَ} منا عند رؤية الفلك.
روي أن نوحًا عليه السلام اتخذ السفينة من خشب الساج في سنتين وكان طولها ثلثمائة ذراع أو ألفًا ومائتي ذراع وعرضها خمسون ذراعًا، أو ستمائة ذراع وطولها في السماء ثلاثون ذراعا وجعل لها ثلاثة بطون فحمل في البطن الأسفل الوحوش والسباع والهوام، وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام، وركب نوح ومن معه في البطن الأعلى مع ما يحتاج إليه من الزاد وحمل معه جسد آدم عليه السلام وجعله حاجزًا بين الرجال والنساء: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ} {من} في محل النصب ب {تعلمون} أي فسوف تعلمون الذي يأتيه: {عَذَابٌ يُخْزِيهِ} ويعني به إياهم ويريد بالعذاب عذاب الدنيا وهو الغرق: {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ} وينزل عليه: {عَذَابٌ مُّقِيمٌ} وهو عذاب الآخرة.
{حتى} هي التي يبدأ بعدها الكلام أدخلت على الجملة من الشرط والجزاء وهي غاية لقوله: {ويصنع الفلك} أي وكان يصنعها إلى أن جاء وقت الموعد، وما بينهما من الكلام حال من: {يصنع} أي يصنعها والحال أنه كلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه، وجواب: {كلما}: {سخروا}، {وقال} استئناف على تقدير سؤال سائل، أو: {قال} جواب و: {سخروا} بدل من: {مر} أو صفة ل: {ملأ}، {إِذَا جَاء أَمْرُنَا} عذابنا: {وَفَارَ التنور} هو كناية عن اشتداء الأمر وصعوبته.
وقيل: معناه جاش الماء من تنور الخبز، وكان من حجر لحواء فصار إلى نوح عليه السلام.
وقيل: التنور وجه الأرض: {قُلْنَا احمل فِيهَا} في السفينة: {مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثنين} تفسيره في سورة المؤمنين: {وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول} عطف على: {اثنين} وكذا: {وَمَنْ ءامَنَ} أي واحمل أهلك والمؤمنين من غيرهم، واستثنى من أهله من سبق عليه القول إنه من أهل النار وما سبق عليه القول بذلك إلا للعلم بأنه يختار الكفر بتقديره وإرادته جل خالق العباد عن أن يقع في الكون خلاف ما أراد: {وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} قال عليه السلام: «كانوا ثمانية نوح وأهله وبنوه الثلاثة ونساؤهم» وقيل: كانوا عشرة خمسة رجال وخمس نسوة.
وقيل: كانوا اثنين وسبعين رجالًا ونساء وأولاد نوح: سام وحام ويافث ونساؤهم، فالجميع ثمانية وسبعون نصفهم رجال ونصفهم نساء: {وَقَالَ اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} {بسم الله} متصل ب: {اركبوا} حالًا من الواو أي اركبوا فيها مسمين الله أو قائلين بسم الله وقت إجرائها ووقت إرسائها، إما لأن المجرى والمرسى للوقت، وإما لأنهما مصدران كالإجراء والإرساء حذف منهما الوقت المضاف كقولهم خفوق النجم ويجوز أن يكون: {بسم الله مجرها ومرساها} جملة برأسها غير متعلقة بما قبلها وهي مبتدأ وخبر يعني أن نوحًا عليه السلام أمرهم بالركوب ثم أخبرهم بأن مجراها ومرساها بذكر اسم الله أي باسم الله إجراؤها وإرساؤها، وكان إذا أراد أن تجري قال بسم الله فجرت، وإذا أراد أن ترسو قال بسم الله فرست: {مجريها} بفتح الميم وكسر الراء من جرى إما مصدر أو وقت: حمزة وعلي وحفص، وبضم الله الميم وكسر الراء: أبو عمرو، والباقون: بضم الميم وفتح الراء: {إِنَّ رَبّى لَغَفُورٌ} لمن آمن منهم: {رَّحِيمٌ} حيث خلصهم: {وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ} متصل بمحذوف دل عليه: {اركبوا فيها بسم الله} كأنه قيل: فركبوا فيها يقولون بسم الله وهي تجري بهم أي السفينة تجري وهم فيها: {فِى مَوْجٍ كالجبال} يريد موج الطوفان وهو جمع موجة كتمر وتمرة وهو ما يرتفع من الماء عند اضطرابه بدخول الرياح الشديدة في خلاله، شبه كل موجة منه بالجبل في تراكمها وارتفاعها: {ونادى نُوحٌ ابنه} كنعان.
وقيل: يام.
والجمهور على أنه ابنه الصلبي.
وقيل: كان ابن امرأته: {وَكَانَ في مَعْزِلٍ} عن أبيه السفينة مفعل من عزله عنه إذ نجاه وأبعده أو في معزل عن دين أبيه: {يابنيى} بفتح الياء: عاصم، اقتصارًا عليه من الألف المبدلة من ياء الإضافة من قولك يا بنيا.
غيره بكسر الياء اقتصارًا عليه من ياء الإضافة: {اركب مَّعَنَا} في السفينة أي أسلم واركب: {وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين قَالَ سَاوِى} ألجأ: {إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ الماء} يمنعني من الغرق: {قَالَ لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ} إلا الراحم وهو الله تعالى، أو لا عاصم اليوم من الطوفان إلا من رحم الله أي إلا مكان من رحم الله من المؤمنين، وذلك أنه لما جعل الجبل عاصمًا من الماء قال له لا يعصمك اليوم معتصم قط من جبل ونحوه سوى معتصم واحد وهو مكان من رحم الله ونجاهم يعني السفينة، أو هو استثناء منقطع كأنه قيل: ولكن من رحمه الله فهو المعصوم كقوله: {مالهم به من علم إلا اتباع الظن} [النساء: 157]: {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج} بين ابنه والجبل أو بين نوح وابنه: {فَكَانَ مِنَ المغرقين} فصار أو فكان في علم الله {وَقِيلَ يا أرض ابلعى مَاءكِ} انشفي وتشربي، والبلع: النشف: {وياسماء أَقْلِعِى} أمسكي: {وَغِيضَ الماء} نقص من غاضه إذا نقصه وهو لازم ومتعد: {وَقُضِىَ الامر} وأنجز ما وعد الله نوحًا من إهلاك قومه: {واستوت} واستقرت السفينة بعد أن طافت الأرض كلها ستة أشهر: {عَلَى الجودى} وهو جبل بالموصل: {وَقِيلَ بُعْدًا لّلْقَوْمِ للظالمين} أي سحقًا لقوم نوح الذين غرقوا.
يقال: بعد بعدًا وبَعَدًا إذا أرادوا البعد البعيد من حيث الهلاك والموت ولذلك اختص بدعاء السوء.
والنظر في هذه الآية من أربع جهات: من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بها فنقول: إن الله تعالى لما أراد أن يبين معنى أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان المساء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغيض، وأن نقضي أمر نوح وهو إنجاز ما كنا وعدناه من إغراق قومه فقضي، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى، بني الكلام على تشبيه المراد بالأمر الذي لا يتأتى منه لكمال هيبته العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود تصويرًا لاقتداره العظيم، وأن السماوات والأرض منقادة لتكوينه فيها ما يشاء غير ممتنعة لإرادته فيها تغييرًا وتبديلًا كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه حق معرفته، وأحاطوا علمًا بوجوب الانقياد لأمره والإذعان لحكمه وتحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده.
ثم بنى على تشبيه هذا نظم الكلام فقال عز وجل: {وَقِيلَ} على سبيل المجاز على الإرادة الواقع بسببها قول القائل، وجعل قرينة المجاز الخطاب للجماد وهو: {يا أرض}، {ويا سماء} ثم قال مخاطبًا لهما: {يا أرض}، {ويا سماء} على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، ثم استعار لغور الماء في الأرض البلع الذي هو أعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي، ثم استعار الماء للغذاء تشبيهًا له بالغذاء لتقوى الأرض بالماء في الإنبات كتقوي الآكل بالطعام، ثم قال: {ماءك} بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز لاتصال الماء بالأرض كاتصال الملك بالمالك، ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم التأني، ثم قال: {وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا} ولم يصرح بمن أغاض الماء، ولا بمن قضى الأمر، وسوى السفينة وقال بعدًا، كما لم يصرح بقائل: {يا أرض}، {ويا سماء} سلوكا في كل واحد من ذلك لسبيل الكناية وأن تلك الأمور العظام لا تكون إلا بفعل فاعل قادر وتكوين مكون قاهر، وأن فاعلها واحد لا يشارك في فعله فلا يذهب الوهم إلى أن يقول غيره يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي، ولا أن يكون الغائض والقاضي والمسوي غيره.
ثم ختم الكلام بالتعريض تنبيهًا لسالكي مسلكهم في تكذيب الرسل ظلمًا لأنفسهم، إظهارًا لمكان السخط وأن ذلك العذاب الشديد ما كان إلا لظلمهم.
ومن جهة علم المعاني وهو النظر في فائدة كل كلمة فيها وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها، وذلك أنه اختير يا دون أخواتها لكونها أكثر استعمالًا، ولدلالتها على بعد المنادي الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة والملكوت وإبداء العزة والجبروت، وهو تبعيد المنادى المؤذن بالتهاون به، ولم يقل {يا أرضي} لزيادة التهاون إذ الإضافة تستدعي القرب، ولم يقل يا أيتها الأرض للاختصار.
واختير لفظ الأرض والسماء لكونهما أخف وأدور، واختير: {ابلعي} على ابتلعي لكونه أخصر وللتجانس بينه وبين: {أقلعي} وقيل: {أقلعي} ولم يقل عن المطر! وكذا لم يقل يا أرض ابلعي ماءك فبلعت ويا سماء أقلعي فأقلعت اختصارًا، واختير: {غيض} على {غيّض} وقيل {الماء} دون أن يقول ماء الطوفان و{الأمر} ولم يقل أمر نوح وقومه لقصد الاختصار والاستغناء بحرف العهد عن ذلك، ولم يقل وسويت على الجودي أي أقرت على نحو: {قيل}، {وغيض} اعتبارًا لبناء الفعل للفاعل مع السفينة في قوله: {وهي تجري بهم} إرادة للمطابقة، ثم قيل: {بعدًا للقوم} ولم يقل ليبعد القوم طلبًا للتأكيد مع الاختصار.
هذا من حيث النظر إلى تركيب الكلم، وأما من حيث النظر إلى ترتيب الجمل، فذلك أنه قدم النداء على الأمر: ف: {قيل يا أرض ابلعي ويا سماء أقلعي} ولم يقل ابلعي يا أرض وأقلعي يا سماء جريًا على مقتضى اللازم فيمن كان مأمورًا حقيقة من تقديم التنبيه ليتمكن الأمر الوارد عقيبه في نفس المنادى قصدًا بذلك لمعنى الترسيخ، ثم قدم أمر الأرض على أمر السماء وابتدأ به لابتداء الطوفان منها، ثم اتبع: {وغيض الماء} لاتصاله بقصة الماء وأخذه بحجزتها، ثم ذكر ما هو المقصود القصة وهو قوله: {وقضي الأمر} أي أنجز الموعود من إهلاك الكفرة وإنجاء نوح ومن معه في الفلك وعلى هذا فاعتبر.
ومن جهة الفصاحة المعنوية وهي كما ترى نظم للمعاني لطيف، وتأدية لها ملخصة مبينة لا تعقيد يعثر الفكر في طلب المراد ولا التواء يشيّك الطريق إلى المرتاد ومن جهة الفصاحة اللفظية، فألفاظها على ما ترى عربية مستعملة، سليمة عن التنافر، بعيدة عن البشاعة، عذبة على العذبات، سلسة على الأسَلات، كل منها كالماء في السلاسة، وكالعسل في الحلاوة وكالنسيم في الرقة، ومن ثم أطبق المعاندون على أن طوق البشر قاصر عن الإتيان بمثل هذه الآية، ولله در شأن التنزيل لا يتأمل العالم آية من آياته إلا أدرك لطائف لا تسع الحصر، ولا تظنن الآية مقصورة على المذكور فلعل المتروك أكثر من المسطور. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني في الآيات السابقة:

{ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه}
وقد جرت عادة الله تعالى بأنه إذا أورد على الكفار أنواع الدلائل أتبعها بالقصص ليصير ذكرها مؤكدًا لتلك الدلائل. وفي هذه السورة ذكر أنواعًا من القصص:
القصة الأولى: قصة نوح عليه السلام المذكورة في قوله تعالى: {ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه}
وقوله: {إني لكم} قرأه ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بفتح الهمزة، أي: بأني والباقون بكسرها على إرادة القول: {نذير مبين} أي: بين النذارة أخوّف من العقاب لمن خالف أمر الله تعالى. وقوله: {أن لا تعبدوا إلا الله} بدل من إني لكم أو مفعول مبين: {إني أخاف عليكم} أي: إن عبدتم غيره: {عذاب يوم أليم} أي: مؤلم موجع في الدنيا أو الآخرة. قال ابن عباس: بعث نوح بعد أربعين سنة ولبث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة. وقال مقاتل: وهو ابن مائة سنة. وقيل: وهو ابن خمسين سنة. وقيل: وهو ابن مائتين وخمسين سنة فكان عمره ألف سنة وأربعمائة وخمسين. ومكث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة، وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة. ولما حكى تعالى عن نوح عليه السلام أنه دعا قومه إلى عبادة الله تعالى حكى عنهم أنهم طعنوا في نبوّته بثلاثة أنواع من الشبهات بقوله تعالى: {فقال الملأ الذين كفروا من قومه} وهم الأشراف: {ما نراك إلا بشرًا مثلنا} هذه الشبهة الأولى، أي: أنك بشر مثلنا لا مزية لك علينا تخصك بالنبوّة ووجوب الطاعة، وإنما قالوا هذه المقالة وتمسكوا بهذه الشبهة جهلًا منهم؛ لأنّ الله تعالى إذا اصطفى عبدًا من عباده وأكرمه بنبوّته ورسالته وجب على من أرسله إليهم اتباعه. الشبهة الثانية: ما ذكره الله تعالى عنهم بقوله تعالى: {وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا} أي: أسافلنا كالحاكة وأهل الصنائع الخسيسة، وهو جمع أرذل بفتح الهمزة كقوله تعالى: {أكابر مجرميها} (الأنعام). وقوله صلى الله عليه وسلم «أحاسنكم أخلاقًا» أو جمع أرذل بضم الذال جمع رذل بسكونها، فهو على الأوّل جمع مفرد وعلى الثاني جمع جمع، ثم قالوا: ولو كنت صادقًا لاتبعك الأكابر من الناس والأشراف منهم، وإنما قالوا ذلك جهلًا منهم أيضًا؛ لأنّ الرفعة بالدين واتباع الرسول لا بالمناصب العالية والمال: {بادي الرأي} أي: اتبعوك في أوّل الرأي من غير تثبت وتفكر في أمرك ولو تفكروا ما اتبعوك. ونصبه على الظرف، أي: وقت حدوث أوّل رأيهم. وقرأ أبو عمرو بادئ بهمزة مفتوحة بعد الدال والباقون بياء مفتوحة، وأبدل السوسي همزة الرأي ألفًا وقفًا ووصلًا. وأمّا حمزة فأبدلها وقفًا لا وصلًا. الشبهة الثالثة: ماذكره الله تعالى عنهم في قوله تعالى: {وما نرى لكم} أي: لك ولمن اتبعك: {علينا من فضل} أي: بالمال والشرف والجاه تستحقون به الاتباع منا وهذا أيضًا جهل منهم؛ لأنّ الفضيلة المعتبرة عند الله تعالى بالإيمان والطاعة لا بالشرف والرياسة. وقولهم: {بل نظنكم كاذبين} خطاب لنوح عليه السلام في دعوى الرّسالة وأدرجوا قومه معه في الخطاب. وقيل: خاطبوه بلفظ الجمع على سبيل التعظيم. وقيل: كذبوه في دعوى النبوّة وكذبوا قومه في دعوى العلم بصدقه، فغلب المخاطب على الغائبين. ولما ذكروا هذه الشبهة لنوح عليه السلام.
{قال} لهم: {يا قوم أرأيتم} أي: أخبروني: {إن كنت على بينة} أي: نبوّة ورسالة: {من ربي وآتاني رحمة} أي: نبوّة ورسالة: {من عنده} من فضله وإحسانه: {فعميت} أي: خفيت والتبست: {عليكم} ووحد الضمير إمّا لأنّ البينة في نفسها هي الرحمة وإمّا لأنه لكل واحدة منهما. وقرأ حفص وحمزة والكسائي بضم العين وتشديد الميم والباقون بفتح العين وتخفيف الميم: {أنلزمكموها} أي: أنكرهكم على قبولها: {وأنتم لها كارهون} أي: لا تختارونها ولا تتأمّلون فيها لا نقدر على ذلك. قال قتادة: والله لو استطاع نبيّ الله لألزمها قومه ولكنه لا يملك ذلك، واتفق القراء على ضم النون من أنلزمكموها لاتصالها باللام رسمًا، وحيث اجتمع ضميران وليس أحدهما مرفوعًا وقدم الأعرف منهما جاز في الثاني الوصل كما في الآية، والفصل كأن يقال: أنلزمكم إياها.
{ويا قوم لا أسألكم عليه} أي: على تبليغ الرسالة وهو وإن لم يذكر معلوم مما ذكر: {مالًا} أي: جعلا تعطونيه: {إن} أي: ما: {أجري إلا على الله} أي: ما ثواب تبليغي إلا عليه فإنه المأمول منه تعالى. وقرأ ابن كثير وشعبة وحمزة والكسائي بسكون الياء والباقون بالفتح. وقول نوح عليه السلام: {وما أنا بطارد الذين آمنوا} جواب لهم حين طلبوا طردهم، فإنهم طلبوا من نوح عليه السلام قبل أن يطرد الذين آمنوا وهم الأرذلون في زعمهم فقال: ما يجوز لي ذلك: {إنهم ملاقوا ربهم} أي: بالبعث فيخاصمون طاردهم عنده ويأخذ لهم ممن ظلمهم وطردهم أو أنهم يلاقونه ويفوزون بقربه فكيف أطردهم: {ولكني أراكم قومًا تجهلون} أي: إنّ هؤلاء المؤمنين خير منكم أو عاقبة أمركم أو تسفهون عليهم بأن تدعوهم أراذل.