فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَالْمُتَبَادِرُ مِنْ فَوَرَانِ التَّنُّورِ هُنَا اشْتِدَادُ غَضَبِ اللهِ تَعَالَى عَلَى أُولَئِكَ الْمُشْرِكِينَ الظَّالِمِينَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِلنَّاسِ، وَحُلُولُ وَقْتِ انْتِقَامِهِ مِنْهُمْ، وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ عَنْ مُفَسِّرِي الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بِضْعَةُ أَقْوَالٍ مَا أُرَاهَا إِلَّا مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، أَقْرَبُهَا إِلَى اللُّغَةِ أَنَّ التَّنُّورَ أُطْلِقَ فِي اللُّغَةِ عَلَى تَنُّورِ الْفَجْرِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ فَوَرَانِهِ هُنَا ظُهُورُ نُورِهِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ- كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ، يَعْنِي أَنَّ هَذَا الْوَقْتَ مَوْعِدُهُمْ كَقَوْمِ لُوطٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ فَوَرَانُ الْمَاءِ مِنْ تَنُّورِ الْخَبْزِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَامَةً لِنُوحٍ عليه السلام، وَهُوَ يَتَوَقَّفُ عَلَى رِوَايَةٍ مَرْفُوعَةٍ وَيُنْسَبُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَأَقْرَبُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَ نَبْعِ مَاءِ الطُّوفَانِ مِنَ الْأَرْضِ. وَلَا يَصِحُّ فِي هَذِهِ الْآثَارِ وَلَا فِي أَمْثَالِهَا رِوَايَةٌ مَرْفُوعَةٌ يُحْتَجُّ بِهَا، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ الْآتِي يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْتُ إِنَّهُ الْأَقْرَبُ.
{قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} قَرَأَ حَفْصٌ كَلِمَةَ {كُلٍّ} هُنَا بِالتَّنْوِينِ، وَجُمْهُورُ الْقُرَّاءِ بِالْإِضَافَةِ لِمَا بَعْدَهَا، أَيْ: حَتَّى إِذَا جَاءَ مَوْعِدُ أَمْرِنَا قُلْنَا لِنُوحٍ حِينَئِذٍ: {احْمِلْ فِيهَا} أَيْ فِي الْفُلْكِ، وَهُوَ السَّفِينَةُ- مِنْ كُلِّ زَوْجٍ اثْنَيْنِ ذَكَرًا وَأُنْثَى. وَالتَّقْدِيرُ عَلَى قِرَاءَةِ حَفْصٍ: احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْأَحْيَاءِ أَوِ الْحَيَوَانِ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ذَكَرًا وَأُنْثَى لِأَجْلِ أَنْ تَبْقَى بَعْدَ غَرَقِ سَائِرِ الْأَحْيَاءِ فَتَتَنَاسَلَ وَيَبْقَى نَوْعُهَا عَلَى الْأَرْضِ: {وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} أَيْ: وَاحْمِلْ فِيهَا أَهْلَ بَيْتِكَ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَأَهْلُ بَيْتِ الرَّجُلِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ نِسَاؤُهُ وَأَوْلَادُهُ وَأَزْوَاجُهُمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُمْ كُفَّارُهُمْ إِنْ كَانَ فِيهِمْ كُفَّارٌ، لِأَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} وَإِلَّا كَانَ الْمُسْتَثْنَى وَلَدَهُ الَّذِي سَتُذْكَرُ قِصَّتُهُ قَرِيبًا {وَمَنْ آمَنَ} مَعَكَ مِنْ قَوْمِكَ {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} مِنْهُمْ، وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا اللهُ تَعَالَى وَلَا رَسُولُهُ عَدَدَهُمْ، فَكُلُّ مَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِمْ مَرْدُودٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ، كَمَا أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنْوَاعَ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي حَمَلَهَا، وَلَا كَيْفَ جَمَعَهَا وَأَدْخَلَهَا السَّفِينَةَ وَهِيَ مُفَصَّلَةٌ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِيهَا إِسْرَائِيلِيَّاتٌ مُضْحِكَةٌ نُخَالِفُهَا، لَا يَنْبَغِي تَضْيِيعُ شَيْءٍ مِنَ الْعُمُرِ فِي نَقْلِهَا وَإِشْغَالِ الْقُرَّاءِ بِهَا.
{وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} يُقَالُ: رَكِبَ الدَّابَّةَ وَالسَّفِينَةَ وَرَكِبَ عَلَى الدَّابَّةِ لِأَنَّهُ يَعْلُوهَا، وَفِي السَّفِينَةِ لِأَنَّهُ يَكُونُ مَظْرُوفًا فِيهَا وَإِنْ جَلَسَ عَلَى ظَهْرِهَا وَهُوَ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الْقُرْآنِ، قَرَأَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْقُرَّاءِ مَجْرَاهَا بِفَتْحِ الْمِيمِ بِإِمَالَةِ الرَّاءِ وَتَرْكِهَا وَهُوَ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ لِجَرَتِ السَّفِينَةُ تَجْرِي مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ الْآتِي: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ} وَقَرَأَهَا الْآخَرُونَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَهُوَ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ لَأَجْرَى عَلَى إِرَادَةِ إِجْرَاءِ اللهِ تَعَالَى لَهَا. وَقَرَأُوا كُلُّهُمْ: {مُرْسَاهَا} بِضَمِّ الْمِيمِ؛ بِمَعْنَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الَّذِي سَيُرْسِيهَا، وَرُسُوُّ السَّفِينَةِ وُقُوفُهَا، وَالْمَجْرَى وَالْمَرْسَى يَجِيئَانِ اسْمَيْ زَمَانٍ وَمَكَانٍ أَيْضًا. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَالَهَا نُوحٌ عليه السلام عِنْدَ أَمْرِهِمْ بِرُكُوبِ السَّفِينَةِ مَعَهُ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَتَكُونُ بِشَارَةً لَهُمْ بِحِفْظِهِ تَعَالَى لَهَا وَلَهُمْ، أَيْ: بَاسْمِ اللهِ جَرَيَانُهَا وَإِرْسَاؤُهَا فَهُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، وَحِفْظِهِ وَعِنَايَتِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَقُولُوهَا كَمَا يَقُولُهَا عَلَى تَقْدِيرِ: ارْكَبُوا فِيهَا قَائِلِينَ بِاسْمِ اللهِ، أَيْ بِتَسْخِيرِهِ وَقُدْرَتِهِ {مَجْرَاهَا} حِينَ تَجْرِي أَوْ حِينَ يُجْرِيهَا {وَمُرْسَاهَا} حِينَ يُرْسِيهَا، لَا بِحَوْلِنَا وَلَا قُوَّتِنَا {إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} أَيْ: إِنَّهُ لَوَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ لِعِبَادِهِ حَيْثُ لَمْ يُهْلِكْهُمْ جَمِيعَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَتَقْصِيرِهِمْ، وَإِنَّمَا يُهْلِكُ الْكَافِرِينَ الظَّالِمِينَ وَحْدَهُمْ، رَحِيمٌ بِهِمْ بِمَا سَخَّرَ لَهُمْ هَذِهِ السَّفِينَةَ لِنَجَاةِ بَقِيَّةِ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ مِنْ هَذَا الطُّوفَانِ الَّذِي اقْتَضَتْهُ مَشِيئَتُهُ، أَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ السُّنِّيِّ وَغَيْرُهُمْ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَانٌ لِأُمَّتِي مِنَ الْغَرَقِ إِذَا رَكِبُوا الْفُلْكَ أَنْ يَقُولُوا: بِاسْمِ اللهِ الْمَلِكِ الرَّحْمَنِ {بِاسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا} الآية. {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الآية»، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ الثَّانِيَةِ آيَةُ سُورَةِ الزُّمَرِ (39: 67) وَاللهُ أَعْلَمُ.
{وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}
{وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} هَذَا تَصْوِيرٌ لِحَالِهَا فِي جَرْيِهَا بِهِمْ كَأَنَّهَا حَاضِرَةٌ أَمَامَ الْقَارِئِ أَوِ السَّامِعِ، أَيْ تَجْرِي فِي أَثْنَاءِ مَوْجٍ يُشْبِهُ الْجِبَالَ فِي عُلُوِّهِ وَارْتِفَاعِهِ وَامْتِدَادِهِ، وَهُوَ مَا يَحْدُثُ فِي ظَاهِرِ الْبَحْرِ عِنْدَ اضْطِرَابِهِ مِنَ التَّمَوُّجِ وَالِارْتِفَاعِ بِفِعْلِ الرِّيَاحِ، وَاحِدُهُ مَوْجَةٌ وَجَمْعُهُ أَمْوَاجٌ، وَأَصْلُ الْمَوْجِ الِاضْطِرَابُ وَمِنْهُ: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} (18: 99).
وَمَنْ عَرَفَ مَا يَحْدُثُ فِي الْبِحَارِ الْعَظِيمَةِ مِنَ الْأَمْوَاجِ عِنْدَمَا تُهَيِّجُهَا الرِّيَاحُ الشَّدِيدَةُ، رَأَى أَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي هَذَا التَّشْبِيهِ غَيْرُ بَعِيدَةٍ، وَصَفَ لِي بَعْضُهُمْ سَفَرَهُ فِي الْمُحِيطِ الْهِنْدِيِّ فِي زَمَنِ رِيَاحِ الصَّيْفِ الَّتِي يُسَمُّونَهَا الْمَوْسِمِيَّةَ بِمَا مَعْنَاهُ: كُنْتُ أَرَى السَّفِينَةَ تَهْبِطُ بِنَا فِي غَوْرٍ عَمِيقٍ، كَوَادٍ سَحِيقٍ، نَرَى الْبَحْرَ مِنْ جَانِبَيْهِ كَجَبَلَيْنِ عَظِيمَيْنِ يَكَادَانِ يُطْبِقَانِ عَلَيْهَا، فَإِذَا بِهَا قَدِ انْدَفَعَتْ إِلَى أَعْلَى الْمَوْجِ كَأَنَّهَا فِي شَاهِقِ جَبَلٍ تُرِيدُ أَنْ تَنْقَضَّ مِنْهُ، وَالْمَلَّاحُونَ يَرْبِطُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالْحِبَالِ عَلَى ظَهْرِهَا وَجَوَانِبِهَا، لِئَلَّا يَجْرُفَهُمْ مَا يُفِيضُ مِنَ الْمَوْجِ عَلَيْهَا، وَرَاجِعْ وَصْفَ الْبَحْرِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} (10: 22): {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ} عِنْدَ الرُّكُوبِ فِي السَّفِينَةِ وَقَبْلَ جَرَيَانِهَا، وَلَمْ يَسْبِقْ لَهُ ذِكْرٌ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ خَبَرِهِ فِي آخِرِ الْقِصَّةِ: {وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ} أَيْ: مَكَانِ عُزْلَةٍ وَانْفِرَادٍ دُونَ أَهْلِهِ الَّذِينَ رَكِبُوا فِيهَا وَدُونَ الْكُفَّارِ {يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا} أَيْ: مَعَ وَالِدِكَ وَأَهْلِكَ النَّاجِينَ {وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِمْ بِالْهَلَاكِ.
{قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} أَيْ: سَأَلْجَأُ إِلَى جَبَلٍ عَالٍ يَحْفَظُنِي مِنَ الْمَاءِ أَنْ يَصِلَ إِلَيَّ فَأَغْرَقَ {قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} أَيْ: لَا شَيْءَ فِي هَذَا الْيَوْمِ الْعَصِيبِ يَعْصِمُ أَحَدًا مِنْ أَمْرِ اللهِ الَّذِي قَضَاهُ، فَلَيْسَ الْأَمْرُ وَالشَّأْنُ أَمْرَ مَاءٍ يَرْتَفِعُ بِكَثْرَةِ الْمَطَرِ كَالْمُعْتَادِ، فَيَتَّقِي الْحَازِمُ ضُرَّهُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَسْبَابِ، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرُ انْتِقَامٍ عَامٍّ مِنْ أَشْرَارِ الْعِبَادِ، الَّذِينَ أَشْرَكُوا بِاللهِ وَظَلَمُوا وَطَغَوْا فِي الْبِلَادِ، لَكِنْ مَنْ رَحِمَ اللهُ مِنْهُمْ فَهُوَ يَعْصِمُهُ وَيَحْفَظُهُ. وَقَدِ اخْتَصَّ بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ مَنْ أَمَرَ بِحِمْلِهِمْ فِي هَذِهِ السَّفِينَةِ {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ} وَكَانَ قَدْ بَدَأَ يَرْتَفِعُ فِي أَثْنَاءِ هَذَا الْحَدِيثِ حَتَّى حَالَ بَيْنَ الْوَلَدِ وَوَالِدِهِ {فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} الْهَالِكِينَ.
أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ نُوحٌ مَكَثَ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا يَدْعُوهُمْ، حَتَّى كَانَ آخِرُ زَمَانِهِ غَرَسَ شَجَرَةً فَعَظُمَتْ وَذَهَبَتْ كُلَّ مَذْهَبٍ، ثُمَّ قَطَعَهَا، ثُمَّ جَعَلَ يَعْمَلُ مِنْهَا سَفِينَةً، وَيَمُرُّونَ فَيَسْأَلُونَهُ فَيَقُولُ: أَعْمَلُهَا سَفِينَةً، فَيَسْخَرُونَ مِنْهُ، وَيَقُولُونَ: تَعْمَلُ سَفِينَةً فِي الْبَرِّ فَكَيْفَ تَجْرِي؟ قَالَ: سَوْفَ تَعْلَمُونَ. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا وَفَارَ التَّنُّورُ وَكَثُرَ الْمَاءُ فِي السِّكَكِ، خَشِيَتْ أُمُّ الصَّبِيِّ عَلَيْهِ وَكَانَتْ تُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا فَخَرَجَتْ إِلَى الْجَبَلِ حَتَّى بَلَغَتْ ثُلُثَهُ، فَلَمَّا بَلَغَهَا الْمَاءُ خَرَجَتْ حَتَّى اسْتَوَتْ عَلَى الْجَبَلِ، فَلَمَّا بَلَغَ الْمَاءُ رَقَبَتَهُ رَفَعَتْهُ بَيْنَ يَدَيْهَا حَتَّى ذَهَبَ الْمَاءُ بِهَا، فَلَوْ رَحِمَ اللهُ مِنْهُمْ أَحَدًا لِرَحِمَ أُمَّ الصَّبِيِّ».
هَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ مَنْ ذَكَرْنَا، كُلُّهُمْ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ يَعْقُوبَ، وَقَدْ قَالَ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ اهـ. يَعْنِي: الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَتَعَقَّبَهُ الذَّهَبِيُّ فَقَالَ: إِسْنَادُهُ مُظْلِمٌ، وَمُوسَى لَيْسَ بِذَاكَ. وَذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ، وَوَافَقَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي مُوسَى هَذَا، وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: هُوَ صَالِحٌ، وَقَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: ضَعِيفٌ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ.
وَقَدْ وَصَفَ اللهُ حُدُوثَ هَذَا الطُّوفَانِ بِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} (54: 9- 16) وَإِنَّهُ لَوَصْفٌ وَجِيزٌ فِي أَعْلَى مَرَاقِي الْبَلَاغَةِ وَالتَّأْثِيرِ، مَا أَفْظَعَ هَذَا الْمَنْظَرَ! مَا أَشَدَّ هَوْلَهُ! مَا أَعْظَمَ رَوْعَتَهُ! مَاءٌ يَنْهَمِرُ مِنْ آفَاقِ السَّمَاءِ انْهِمَارًا، وَأَرْضٌ تَنْفَجِرُ عُيُونًا خَوَّارَةً فَتَفِيضُ مِدْرَارًا، مَاءٌ ثَجَّاجٌ يَصِيرُ بَحْرًا ذَا أَمْوَاجٍ، خَفِيَتْ مِنْ تَحْتِهِ الْأَرْضُ بِجِبَالِهَا، وَخَفِيَتْ مِنْ فَوْقِهِ السَّمَاءُ بِشَمْسِهَا وَكَوَاكِبِهَا، وَكَانَتْ عَلَيْهِ السَّفِينَةُ كَمَا كَانَ عَرْشُ اللهِ عَلَى الْمَاءِ فِي بَدْءِ التَّكْوِينِ، كَأَنَّ مُلْكَ اللهِ الْأَرْضِيَّ قَدِ انْحَصَرَ فِيهَا، فَتَخَيَّلْ أَنَّكَ نَاظِرٌ إِلَيْهَا كَمَا صَوَّرَهَا لَكَ التَّنْزِيلُ، تَتَفَكَّرُ فِيمَا يَئُولُ إِلَيْهِ أَمْرُ هَذَا الْخَطْبِ الْجَلِيلِ، وَاسْتَمِعْ لِمَا بَيَّنَهُ بِهِ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، أَوْجَزُ عِبَارَةٍ وَأَبْلَغُهَا تَأْثِيرًا، جَعَلَتْ أَعْظَمَ مَا فِي الْعَالَمِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا.
{وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} أَيْ: وَصَدَرَ مِنْ عَالِمِ الْغَيْبِ الْأَعْلَى نِدَاءٌ خَاطَبَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاءَ، بِأَمْرِ التَّكْوِينِ الَّذِي يَسْجُدُ لَهُ الْعُقَلَاءُ وَغَيْرُ الْعُقَلَاءِ: {يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} كُلَّهُ الَّذِي عَلَيْكِ، أَوِ الَّذِي تَفَجَّرَ مِنْ بَاطِنِكِ، إِنْ صَحَّ أَنَّ مَاءَ السَّمَاءِ صَارَ بَحْرًا، وَالْبَلْعُ: ازْدِرَادُ الطَّعَامِ أَوِ الشَّرَابِ بِسُرْعَةٍ {وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} أَيْ: كُفِّي عَنِ الْإِمْطَارِ فَامْتُثِلَ الْأَمْرُ فِي الْحَالِ، وَمَا هِيَ إِلَّا أَنْ قِيلَ: كُنْ فَكَانَ {وَغِيضَ الْمَاءُ} أَيْ: غَارَ فِي الْأَرْضِ وَنَضَبَ بِابْتِلَاعِهَا لَهُ نُضُوبًا {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} أَيْ: وَنَفَذَ ذَلِكَ الْأَمْرُ بِإِهْلَاكِ الظَّالِمِينَ، وَنَجَاءِ الْمُؤْمِنِينَ {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} أَيْ: وَاسْتَقَرَّتِ السَّفِينَةُ رَاسِيَةً عَلَى الْجَبَلِ الْمَعْرُوفِ بِالْجُودِيِّ {وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أَيْ هَلَاكًا وَسُحْقًا لَهُمْ، وَبُعْدًا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى بِمَا كَانَ مِنْ رُسُوخِهِمْ فِي الظُّلْمِ وَاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَيْهِ، وَفَقْدِهِمْ الِاسْتِعْدَادَ لِلتَّوْبَةِ وَالرُّجُوعَ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَسَيَأْتِي مِثْلُ هَذَا فِي أَمْثَالِهِمْ مِنْ أَقْوَامِ الْأَنْبِيَاءِ: {أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [11: 60] {أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ} [11: 68]، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْجَبَلَ قَدْ غَمَرَهُ الْمَاءُ وَلَمْ يَرْتَفِعْ فَوْقَهُ إِلَّا قَلِيلًا، فَلَمَّا بَلَغَتْهُ السَّفِينَةُ كَانَ الْمَاءُ فَوْقَهُ رَقْرَاقًا وَبَدَأَ يَتَقَلَّصُ وَيَغِيضُ فَاسْتَوَتْ عَلَيْهِ.
قَرَّرَ عُلَمَاءُ الْبَلَاغَةِ الْفَنِّيَّةِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَبْلَغُ آيَةٍ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ. أَحَاطَتْ بِالْبَلَاغَةِ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهَا وَأَرْجَائِهَا اللَّفْظِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ الَّتِي وُضِعَتْ لِفَلْسَفَتِهَا الْفُنُونُ الثَّلَاثَةُ: الْمَعَانِي وَالْبَيَانُ وَالْبَدِيعُ، وَأَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّفَاضُلِ بَيْنَ الْآيَاتِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْحَالُ وَالْمَقَامُ، لَا يُنَافِي بُلُوغَ كُلِّ آيَةٍ فِي مَوْضِعِهَا وَمَوْضُوعِهَا دَرَجَةَ الْإِعْجَازِ، وَلَا يُعَدُّ مِنَ التَّفَاوُتِ الْمَعْهُودِ فِي كَلَامِ أَشْهَرِ الْبُلَغَاءِ كَأَبِي تَمَّامٍ وَالْمُتَنَبِّي، وَكَذَا غَيْرُهُمَا مِنْ شُعَرَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي الدَّرَجَاتِ الثَّلَاثِ الْعُلْيَا وَالسُّفْلَى وَمَا بَيْنَهُمَا، فَآيَاتُهُ كُلُّهَا فِي الدَّرَجَةِ الْعُلْيَا الْمُعْجِزَةِ لِلْبَشَرِ، وَإِنْ كَانَ لِبَعْضِهَا مَزِيَّةٌ عَلَى بَعْضٍ كَمَا تَرَاهُ فِي تَكْرَارِ الْقِصَّةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ هَذِهِ الْقِصَصِ، وَقَدْ بَسَطْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ التَّحَدِّي {بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ}: مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ.
مِثَالُ ذَلِكَ مَا تَرَاهُ مِنْ بَلَاغَةِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي بَابِ الْعِبْرَةِ الْمَقْصُودَةِ بِالذَّاتِ مِنْ سِيَاقِ هَذِهِ الْقِصَصِ كُلِّهَا، وَهُوَ فَوْقَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ نُكَتِ الْفُنُونِ فِيهَا، وَبَيَانُهُ أَنَّ اللهَ قَدْ أَنْذَرَ الظَّالِمِينَ وَأَوْعَدَهُمُ الْهَلَاكَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ- وَمِنْهُمْ مُكَذِّبُو الرُّسُلِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ- كُلُّهَا مُعْجِزَةٌ فِي بَلَاغَتِهَا، وَلَكِنَّكَ تَرَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ تَأْثِيرِ تَقْبِيحِ الظُّلْمِ وَالْوَعِيدِ عَلَيْهِ نَوْعًا لَا تَجِدُهُ فِي غَيْرِهَا، لِأَنَّ حَادِثَةَ الطُّوفَانِ أَكْبَرُ مَا حَدَثَ فِي الْأَرْضِ مِنْ مَظَاهِرِ سَخَطِ اللهِ تَعَالَى عَلَى الظَّالِمِينَ، وَقَدْ عُلِمَ مِنْ أَوَّلِ الْقِصَّةِ أَنَّهَا عِقَابٌ لِلظَّالِمِينَ، بَيْدَ أَنَّ إِعَادَتَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ تَصْوِيرِ حَادِثَةِ الطُّوفَانِ بَارِزَةٌ فِي أَشَدِّ مَظَاهِرِ هَوْلِهَا، وَإِشْعَارِ الْقُلُوبِ عَظَمَةَ الْجَبَّارِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ فِي الْفَصْلِ فِيهَا، بِمَا تَتَلَاقَى فِيهَا نِهَايَتُهَا بِبِدَايَتِهَا، وَالتَّعْبِيرُ عَنْ هَذِهِ النِّهَايَةِ بِالدُّعَاءِ عَلَى الظَّالِمِينَ بِالْبُعْدِ وَالطَّرْدِ الَّذِي يَحْتَمِلُ عِدَّةَ مَعَانٍ مَذْمُومَةٍ شَرُّهَا الطَّرْدُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ- تَعَالَى-، يُمَثِّلُ لَكَ هَؤُلَاءِ الظَّالِمِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ بِصُورَةِ تِمْثَالٍ مِنَ الْخِزْيِ وَاللَّعْنِ وَالرِّجْسِ، لَا تَرَى مِثْلَهُ فِي أَمْثَالِهِمْ مِنْ أَقْوَامِ الْأَنْبِيَاءِ، عَلَى مَا تَرَاهُ فِي التَّعْبِيرِ عَنْهَا بِالْعِبَارَاتِ الرَّائِعَةِ فِي الْبَلَاغَةِ وَعُلُوِّ الْأَسْبَابِ، وَإِحْدَاثِهَا الرُّعْبَ فِي الْقُلُوبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} (54: 18- 21) وَهَذِهِ الْآيَاتُ فِي طَبَقَةِ مَا قَبْلَهَا مِنْ قِصَّةِ نُوحٍ فِي هَذِهِ السُّوَرِ وَقَدْ أَوْرَدْنَاهَا آنِفًا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} (69: 4- 8؟ إِلَخْ). وَنَاهِيكَ بِمَا وَصَفَ بِهِ عَذَابَ قَوْمِ لُوطٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا، وَسَأَصِفُ الْفَرْقَ بَيْنَ الْبَلَاغَتَيْنِ: الْمَعْنَوِيَّةِ الرُّوحِيَّةِ وَالْفَنِّيَّةِ، وَإِضْرَابُ الْمُثُلِ لِجَلَالِهَا وَجَمَالِهَا عِنْدَ الْعَرَبِ الْخُلَّصِ وَأَهْلِ الْفُنُونِ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْعِلَاوَةِ الْأُولَى مِنْ عِلَاوَاتِ هَذِهِ الْقِصَّةِ.
وَحِكْمَةُ هَذِهِ الْمُبَالَغَاتِ فِي عِقَابِ الظَّالِمِينَ وَالْمُجْرِمِينَ مِنَ الْغَابِرِينَ، إِنَّمَا هِيَ إِنْذَارُ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْحَاضِرِينَ، وَقَدْ كَرَّرَ عُقُوبَةَ كُلِّ قَوْمٍ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ، وَكَرَّرَ مَعَهَا: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (54: 17) وَتَرَى الظَّالِمِينَ فِي كُلِّ زَمَانٍ غَافِلِينَ، وَتَرَى الْمُفَسِّرِينَ لِلْقُرْآنِ يُعْنَوْنَ بِبَسْطِ إِعْرَابِ الْقُرْآنِ وَبَلَاغَةِ عِبَارَتِهِ وَلَفْظِهِ، وَلَا يُعْنَوْنَ بِبَسْطِ عِبْرَتِهِ وَوَعْظِهِ، وَلَقَدْ قَالَ حَكِيمُ الشُّعَرَاءِ أَبُو الْعَلَاءِ الْمُعَرِّي فِي أَهْلِ عَصْرِهِ:
وَالْأَرْضُ لِلطُّوفَانِ مُشْتَاقَةٌ ** لَعَلَّهَا مِنْ دَرَنٍ تُغْسَلُ

وَنَحْنُ نَقُولُ: رَحِمَ اللهُ أَبَا الْعَلَاءِ فَكَيْفَ لَوْ رَأَى زَمَانَنَا هَذَا؟ كَمَا قَالَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَقَدْ أَنْشَدَتْ قَوْلَ لَبِيدٍ:
ذَهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ فِي أَكْنَافِهِمْ ** وَبَقِيتُ فِي خَلَفٍ كَجِلْدِ الْأَجْرَبِ

قَالَتْ: رَحِمَ اللهُ لَبِيدًا فَكَيْفَ لَوْ رَأَى زَمَانَنَا هَذَا؟
رُوِّينَاهُ مُسَلْسَلًا إِلَيْهَا مِنْ طَرِيقِ شَيْخِنَا أَبِي الْمَحَاسِنِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْقَاوَقْجِيِّ- رَحِمَهُ اللهُ- وَسَنَعْقِدُ فَصْلًا لِلْكَلَامِ عَلَى عِقَابِ اللهِ لِلظَّالِمِينَ وَالْمُجْرِمِينَ فِي عَصْرِنَا بِمَا نُورِدُهُ مِنْ عِلَاوَاتِ هَذِهِ الْقِصَّةِ. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)}
أخرج ابن سعد وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان للملك يوم ولد نوح اثنان وثمانون سنة، ولم يكن أحد في ذلك الزمان ينتهي عن منكر، فبعث الله نوحًا إليهم وهو ابن أربعمائة سنة وثمانين سنة، ثم دعاهم في نبوّته مائة وعشرين سنة، ثم أمره بصنعة السفينة فصنعها وركبها وهو ابن ستمائة سنة وغرق من غرق، ثم مكث بعد السفينة ثلاثمائة وخمسين سنة، فولد نوح سام وفي ولده بياض وأدمة، وحام وفي ولده سواد وبياض، ويافث وفيهم الشقرة والحمرة، وكنعان وهو الذي غرق، والعرب تسمية بام وأم هؤلاء واحدة، وبجل فود نجر نوح السفينة، ومن ثم بدا الطوفان، فركب نوح السفينة معه بنوه هؤلاء ونساء بنيه هؤلاء، وثلاثة وسبعون من بني شيث ممن آمن به، فكانوا ثمانين في السفينة، وحمل معه من كل زوجين اثنين، وكان طول السفينة ثلاثمائة ذراع بذراع جد أبي نوح، وعرضها خمسين ذراعًا، وطولها في السماء ثلاثين ذراعًا، وخرج منها من الماء ستة أذرع وكانت مطبقة، وجعل لها ثلاثة أبواب بعضها أسفل من بعض، فأرسل الله المطر أربعين يومًا فأقبلت الوحش حين أصابها المطر والدواب والطير كلها إلى نوح وسخرت له، فحمل منها كما أمره الله من كل زوجين اثنين وحمل معه جسد آدم عليه السلام، فجعل حاجزًا بين النساء والرجال فركبوا فيها لعشر مضين من رجب، وخرجوا منها يوم عاشوراء من المحرم، فلذلك صام من صام يوم عاشوراء، وخرج الماء مثل ذلك نصفين نصف من السماء ونصف من الأرض، فذلك قول الله: {ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر} [القمر: 11] يقول: مُنْصَبٍّ: {وفجرنا الأرض عيونًا} [القمر: 12] يقول: شققنا الأرض فالتقى الماء: {على أمر قد قدر} [القمر: 12] وارتفع الماء على أطول جبل في الأرض خمسة عشر ذراعًا، فسارت بهم السفينة فطافت بهم الأرض كلها في ستة أشهر لا تستقر على شيء حتى أتت الحرم فلم تدخله، ودارت بالحرم أسبوعًا ورفع البيت الذي بناه آدم عليه السلام رفع من الغرق، وهو البيت المعمور والحجر الأسود على أبي قبيس، فلما دارت بالحرم ذهبت في الأرض تسير بهم حتى انتهت إلى الجودي، وهو جبل بالحضين من أرض الموصل، فاستقرت بعد ستة أشهر لتمام السنة، فقيل بعد الستة أشهر: بعدًا للقوم الظالمين، فلما استوت على الجودي قيل: {يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي} يقول: احبسي ماءك: {وغيض الماء} نشفته الأرض فصار ما نزل من السماء هذه البخور التي ترون في الأرض، فآخر ماء بقي في الأرض من الطوفان ماء يحسى بقي في الأرض أربعين سنة بعد الطوفان، ثم ذهب فهبط نوح عليه السلام إلى قرية فبنى كل رجل منهم بيتًا فسميت سوق الثمانين، فغرق بنو قابيل كلهم، وما بين نوح إلى آدم من الآباء كانوا على الإِسلام، ودعا نوح على الأسد أن يلقى عليه الحمى، وللحمامة بالانس، وللغراب بشقاء المعيشة، وتزوّج نوح امرأة من بني قابيل فولدت له غلامًا سماه يوناطن، فلما ضاقت بهم سوق الثمانين تحوّلوا إلى بابل فبنوها وهي بين الفرات والصراة، فمكثوا بها حتى بلغوا مائة ألف وهم على الإِسلام، ولما خرج نوح من السفينة دفن آدم عليه السلام ببيت المقدس.