فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله سبحانه: {وقيل يأرض} الآية. مما اختص بمزيد البلاغة حتى صارت متداولة بين علماء المعاني فتكلموا فيها وفي وجوه محاسنها فلا علينا أن نورد هاهنا بعض ما استفدنا منهم فنقول: النظر فيها من أربع جهات: من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني، ومن جهتي الفصاحتين المعنوية واللفظية. أما من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بها. فالقول فيه أنه عز سلطانه أراد أن يبين معنى أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان السماء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح وهو إنجاؤه وإغراق قومه كما وعدناه فقضي، وأن تستوي السفينة على الجودي- وهو جبل بقرب الموصل- فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى، فبنى الكلام على تشبيه الأرض والسماء بالمأمور الذي لا يتأتى منه- لكمال هيبته- العصيان، وعلى تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكوّن المقصود تصويرًا لاقتداره، وأن السماء والأرض مع عظم جرمهما تابعتان لإرادته وإعدامًا وتغييرًا وتصريفًا كأنهما عقلاء مميزون قد أحاطا علمًا يوجب الامتثال والإذعان لخالقهما، فاستعمل: {قيل} بدل أريد مجازًا إطلاقًا للمسبب على السبب، فإن صدور القول إنما يكون بعد إرادته.
وجعل قرينة المجاز الخطاب للجماد بقوله: {يا أرض ابلعي ماءَك ويا سماء} والخطابان أيضًا على سبيل الاستعارة للشبه المذكور وهو كون السماء والأرض كالمأمورين المنقادين. وأيضًا استعار لغور الماء في الأرض البلع الذي هو إعمال القوة الجاذبة في الطعوم للشبه بين الغور والبلع وهو الذهاب إلى مقر خفيّ. ووجعل قرينة الاستعارة نسبه الفعل إلى المفعول، وفي جعل الماء مكان الغذاء أيضًا استعارة لأنه شبه الماء بالغذاء لتقوى الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوّي الآكل بالطعام، وجعل قرينة الاستعارة لفظة: {ابلعي} لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء. ثم أمر الجماد على سبيل الاستعارة للشبه المقدم ذكره وخاطب في الأمر دون أن يقول ليبلع ترشيحًا لاستعارة النداء إذ كونه مخاطبًا من صفات الحي كما أن كونه منادى من صفاته ثم قال: {ماءك} بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيهًا لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالمالك. واختار ضمير الخطاب دون أن يقول ليبلع ماؤها لأجل الترشيح المذكور. ثم اختار مستعيرًا لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان ثم أمر على سبيل الاستعارة وخاطب في الأمر لمثل ما تقدم في: {ابلعي} من ترشيح استعارة النداء. ثم قال: {وغيض الماء} غاض الماء قل ونضب، وغاضه الله يتعدى ولا يتعدى: {وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدًا} فلم يصرح بالفاعل سلوكًا لسبيل الكناية لأن هذه الأمور لا تتأتى إلا من قدير قهار فلا مجال لذهاب الوهم إلى غيره، ومثله في صدر الآية ليستدل من ذكر الفعل وهو اللازم على الفاعل وهو الملزوم وهذا شأن الكناية، ثم ختم الكلام بالتعريض لأنه ينبئ عن الظلم المطلق وعن علة قيام الطوفان.
وأما النظر فيها من جهة علم المعاني وهو النظر في فائدة كل كلمة منها، وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها، فذلك أنه اختير {يا} للنداء لأنها أكثر استعمالًا ولدلالتها على تبعيد المنادى الذي يستدعيه مقام العزة والهيبة، ولهذا لم يقل: يا أرضي بالإضافة تهاونًا بالمنادى، ولم يقل يا أيتها الأرض للاختصار مع الاحتراز عن تكلف التنبيه لمن ليس من شأنه التنبيه.
واختير لفظ الأرض والسماء لكثرة دورانهما مع قصد المطابقة، واختير: {ابلعي} على: {ابتلعي} لكونه أخصر ولمجيء حظ التجانس بينه وبين: {أقلعي} أوفر. وقيل: {ماءك} بلفظ المفرد لما في الجمع من الاستكثار المتأتي عنه مقام العزة والاقتدار، وكذا في إفراد الأرض والسماء. ولم يحذف مفعول: {ابلعي} لئلا يلزم تعميم الابتلاع لكل ما على الأرض. ولما علم اختصاص الفعل فيه اقتصر عليه فحذف من: {أقلعي} حذرًا من التطويل. وإنما لم يقل ابلعي ماءك فبلعت لأن عدم تخلف المأمور به عن أمر الآمر المطاع معلوم. واختير: {غيض} على غيض المشددة للاختصار ولمثل هذا عرف الماء والأمر دون أن يقال ماء الطوفان، أو أمر نوح للاستغناء عن الإضافة بالتعريف العهدي ولم يقل سويت لتناسب أول القصة وهي تجري بهم من بناء الفعل للفاعل، ولأن: {استوت} أخصر لسقوط همزة الوصل. ثم قيل: {بعدًا للقوم} دون أن يقال ليبعد القوم من بعد بالكسر يبعد بالفتح إذا هلك، للتأكيد مع الاختصار ودلالة لام الملك على أن البعد حق لهم. وقول القائل: بعدًا له من المصادر التي لا يستعمل إظهار فعلها. ثم أطلق الظلم ليتناول ظلم أنفسهم وظلمهم غيرهم. وأما ترتيب الجمل فقدم النداء على الأمر ليتمكن الأمر الوارد عقيب النداء كما في نداء الحي، وقدم نداء الأرض لابتداء الطوفان منها بدليل قوله: {وفار التنور} ثم بين نتيجة البلع والإقلاع بقوله: {وغيض الماء} ثم ذكر مقصود القصة وهو قوله: {وقضي الأمر} أي أنجز الموعود من إهلاك الكفرة وإنجاء المؤمنين. ثم بين حال استقرار السفينة بقوله: {واستوت على الجودي} وكان جبلًا منخفضًا فكان استواء السفينة عليه دليلًا على انقطاع مادة الماء. ثم ختمت القصة بما ختمت من التعريض. قيل: كيف يليق بحكمة الله تغريق الأطفال بسبب إجرام الكفار؟ وأجيب على أصول الأشاعرة بأنه لا يسأل عما يفعل، وعلى أصول المعتزلة بأنه يعوض الأطفال والحيوانات كما في ذبحها واستعمالها في الأعمال الشاقة. وقد روى جمع من المفسرين أنه سبحانه أعقم أرحام نسائهم قبل الغرق بأربعين سنة فلم يغرق إلا من بلغ أربعين. وهذا مع تكلفه لا يتمشى في الجواب عن إهلاك سائر الحيوانات. والظاهر أن القائل في قوله: {وقيل بعدًا} هو الله تعالى لتناسب صدر الآية، ويحتمل أن يكون القائل نوحًا وأصحابه لأن الغالب ممن يسلم من الأمر الهائل بسبب اجتماع القوم الظلمة أنه يقول مثل هذا الكلام، ولأنه جارٍ مجرى الدعاء عليهم فجعله من كلام البشر أليق.
وأما النظر في الآية من جهة الفصاحة المعنوية فهي كما ترى نظم للمعاني لطيف، وتأدية المراد بأبلغ وجه وأتمه. وأما من جهة الفصاحة اللفظية فهي كالعسل في الحلاوة، وكالنسيم في الرقة عذبة على العذبات سلسة على الأسلات، ولعل ما تركنا من لطائف هذه الآية بل كل آية أكثر مما نذكر والله تعالى أعلم بمراده من كلامه: {ونادى نوح ربه} أي أراد أن يدعوه: {فقال رب إن ابني من أهلي} بعض سواء كان من صلبه أو رببيًا له: {وإن وعدك} أي كل ما تعد به: {الحق} الثابت الذي لا شك في إنجازه وقد وعدتني أن تنجي أهلي: {وأنت أحكم الحاكمين} أعلمهم وأعدلهم لأنه لا فضل لحاكم على غيره إلا بالعلم والعدل، ويجوز أن يكون الحاكم بمعنى ذي الحكمة كدارع: {قال يا نوح إنه ليس من أهلك} أي من أهلك دينك أو من أهلك الذين وعدتهم الإنجاء معك. ثم صرح بأن العبرة بقرابة الدين والعمل الصالح لا بقرابة النسب فقال: {إنه عمل غير صالح} من قرأ على لفظ الفعل فمعناه أنه عمل عملًا غير صالح وهو الإشراك والتكذيب، ومن قرأ على لفظ الاسم فللمبالغة كما يقال: فلان كرم وجود إذا غلب عليه الكرم والجود وفي قوله: {غير صالح} دون أن يقول: فاسد تعريض بل تصريح بأنه إنما نجا من نجا بالصلاح، ويحتمل على هذه القراءة أن يعود الضمير في: {إنه} إلى سؤال نوح أي إن نداءك هذا المتضمن لسؤال إنجاء ابنك عمل غير صالح. وقيل: المراد أن هذا الابن ولد زنا وقد عرفت سقوطه. ثم نهاه عن مثل هذا السؤال ووبخه عليه بقوله: {فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين} قال المحققون: الظاهر أن ابنه كان منافقًا فلذلك اشتبه أمره على نوح، وحمله شفقة الأبوة أوّلًا على دعوته إلى ركوب السفينة، فلما حال بينهما الموج لجأ إلى الله في خلاصه من الغرق، فعوتب على ذلك لأنه لما وعده الله إنجاءه أهله واستثنى منهم من سبق عليه القول كان عليه أن يتوكل على الله حق توكله ويعلم أن كل من كان من أهله مؤمنًا فإنه يخلص من الغرق لا محالة. ولما لم يصبر إلى تبين الحال توجه إليه العتاب على ترك الأولى فلذلك تنبه ورجع إلى الله قائلًا: {رب إني أعوذ بك أن أسألك} فيما يستقبل من الزمان: {ما ليس لي به علم} تأدبًا بآدابك واتعاظًا بعظتك: {وألا تغفر لي} ما فرط مني من الخطأ في باب الاجتهاد، أو من قلة الصبر على ما يجب عليه الصبر، وهذا التضرع مثل تضرع أبيه وأبينا آدم في قوله: {ربنا ظلمنا} [الأعراف: 23] الآية. فلذلك عفى عنه.
{وقيل يا نوح اهبط} أي من السفينة بعد استوائها على الجبل، أو انزل من الجبل إلى الفضاء ملتبسًا: {بسلام منا} بسلامة من التهديد والوعيد بل من جميع الآفات والمخافات، لأنه لما خرج من السفينة كان خائفًا من عدم المأكول والملبوس وسائر جهات الحاجات لأنه لم يبق في الأرض شيء يمكن أن ينتفع به من النبات والحيوانات. وقيل: أي مسلمًا عليك مكرمًا. والبركات الخيرات النامية الثابتة، وفسروها في هذا المقام بأنه وعد له بأن جميع أهل الأرض من الأشخاص الإنسانية يكون من نسله إما لأنه لم يكن في السفينة إلا من هو ذريته، وإما لأنه لما خرج من السفينة مات من لم يكن من أهله وبقي النسل والتوالد في ذرّيته، دليله قوله سبحانه: {وجعلنا ذريته هم الباقين} [الصافات: 77] فنوح آدم الأصغر. وقيل: لما وعده السلامة من الآفات وعده أن موجبات السلامة والراحة تكون في التزايذ والثبات لا عليك وحدك بل: {وعلى أمم ممن معك} إن كان من للبيان فالمراد الأمم الذين كانوا معه في السفينة لأنهم كانوا جماعات، أو هم أصل الأمم التي انشعبت منه. وإن كان لابتداء الغاية فالمعنى على أمم ناشئة ممن معك إلى آخر الدهر. وهذا شأن الأمة المؤمنة ثم ذكر حال الأمة الكافرة المتوالدة فقال: {وأمم} وهو رفع على الابتداء والخبر محذوف أي وممن معك أمم: {سنمتعهم} في الدنيا: {ثم يمسهم} في الآخرة: {منا عذاب أليم} عن ابن زيد: هبطوا والله عنهم راض، ثم أخرج منهم نسلًا منهم من رحم ومنهم من عذب، وخصص بعضهم الأمم الممتعة بقوم هود وصالح ولوط وشعيب و: {تلك} إشارة إلى قصة نوح وهو مبتدأ والجمل بعدها أخبار. وقوله: {ولا قومك} للمبالغة كقول القائل: لا تعرف هذه المسألة لا أنت ولا قومك ولا أهل بلدك. والمراد تفاصيل القصة وإلا فمجملها أشهر من أن يخفى. ومعنى: {من قبل هذا} أي من قبل هذا الإيحاء أو العلم الذي كسبته بالوحي، أو من قبل هذا الوقت وكأن هذه القصة أعيدت في هذه السورة تثبيتًا للنبي صلى الله عليه وسلم على إنذار قومه ولذلك ختمت بقوله: {فاصبر} كما صبر نوح و: {إن العاقبة} الحميدة: {للمتقين}. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ}
معنى: {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ} دعاه، والمراد: أراد دعاءه، بدليل الفاء في: {فَقَالَ رَبّ إِنَّ ابنى مِنْ أَهْلِى} وعطف الشيء على نفسه غير سائغ، فلابد من التقدير المذكور، ومعنى قوله: {إِنَّ ابنى مِنْ أَهْلِى} أنه من الأهل الذين وعدتني بتنجيتهم بقولك: وأهلك.
فإن قيل: كيف طلب نوح عليه السلام إنجاز ما وعده الله بقوله: {وَأَهْلَكَ} وهو المستثنى منه، وترك ما يفيده الاستثناء، وهو: {إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول}؟ فيجاب بأنه لم يعلم إذ ذاك أنه ممن سبق عليه القول، فإنه كان يظنه من المؤمنين: {وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق} الذي لا خلف فيه، وهذا منه: {وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين} أي: أتقن المتقنين لما يكون به الحكم، فلا يتطرق إلى حكمك نقض، وقيل: أراد ب: {أحكم الحاكمين} أعلمهم وأعدلهم: أي: أنت أكثر علمًا وعدلًا من ذوي الحكم.
وقيل: إن الحاكم بمعنى: ذي الحكمة كدارع.
ثم أجاب الله سبحانه عن نوح ببيان أن ابنه غير داخل في عموم الأهل، وأنه خارج بقيد الاستثناء فقال: {يا نُوحٍ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} الذين آمنوا بك، وتابعوك، وإن كان من أهلك باعتبار القرابة؛ ثم صرح بالعلة الموجبة لخروجه من عموم الأهل المبينة له بأن المراد بالقرابة قرابة الدين، لا قرابة النسب، وحده، فقال: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح} قرأ الجمهور: {عمل} على لفظ المصدر.
وقرأ ابن عباس، وعكرمة، والكسائي، ويعقوب، {عمل} على لفظ الفعل؛ ومعنى القراءة الأولى المبالغة في ذمه، كأنه جعل نفس العمل، وأصله ذو عمل غير صالح ثم حذف المضاف وجعل نفس العمل، كذا قال الزجاج وغيره.
ومعنى القراءة الثانية ظاهر: أي إنه عمل عملًا غير صالح، وهو: كفره وتركه لمتابعة أبيه؛ ثم نهاه عن مثل هذا السؤال، فقال: {فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} لما بين له بطلان ما اعتقده من كونه من أهله، فرّع على ذلك النهي عن السؤال، وهو وإن كان نهيًا عامًا بحيث يشمل كل سؤال، لا يعلم صاحبه أن حصول مطلوبه منه صواب، فهو يدخل تحته سؤاله هذا دخولًا أوّليًا، وفيه عدم جواز الدعاء بما لا يعلم الإنسان مطابقته للشرع، وسمى دعاءه سؤالًا لتضمنه معنى السؤال: {إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين} أي: أحذرك أن تكون من الجاهلين، كقوله: {يَعِظُكُمُ الله أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَدًا} [النور: 17] وقيل: المعنى: أرفعك أن تكون من الجاهلين.
قال ابن العربي: وهذه زيادة من الله وموعظة يرفع بها نوحًا عن مقام الجاهلين، ويعليه بها إلى مقام العلماء العاملين.
ثم لما علم نوح بأن سؤاله لم يطابق الواقع، وأن دعاءه ناشئ عن وهم كان يتوهمه، بادر إلى الاعتراف بالخطأ، وطلب المغفرة والرحمة، فقال: {رَبّ إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ} أي: أعوذ بك أن أطلب منك ما لا علم لي بصحته وجوازه، {وإلا تَغْفِرْ لِى} ذنب ما دعوت به على غير علم مني: {وَتَرْحَمْنِى} برحمتك التي وسعت كل شيء، فتقبل توبتي: {أَكُن مّنَ الخاسرين} في أعمالي، فلا أربح فيها.
القائل: هو الله، أو الملائكة: {قِيلَ يا نوح اهبط} أي: انزل من السفينة إلى الأرض، أو من الجبل إلى المنخفض من الأرض، فقد بلعت الأرض ماءها، وجفت: {بسلام مّنَّا} أي: بسلامة وأمن، وقيل: بتحية: {وبركات} أي: نعم ثابتة، مشتق من بروك الجمل، وهو ثبوته، ومنه البركة لثبوت الماء فيها، وفي هذا الخطاب له دليل على قبول توبته ومغفرة زلته: {وعلى أُمَمٍ مّمَّن مَّعَكَ} أي: ناشئة ممن معك، وهم المتشعبون من ذرية من كان معه في السفينة.
وقيل: أراد من في السفينة، فإنهم أمم مختلفة، وأنواع من الحيوانات متباينة.
قيل: أراد الله سبحانه بهؤلاء الأمم الذين كانوا معه من صار مؤمنًا من ذريتهم، وأراد بقوله: {وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} من صار كافرًا من ذريتهم إلى يوم القيامة، وارتفاع أمم في قوله: {وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ} على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي: ومنهم أمم.
وقيل: على تقدير: ويكون أمم.
وقال الأخفش: هو كما تقول: كلمت زيدًا وعمرو جالس، وأجاز الفراء في غير القراءة {وأممًا سنمتعهم}: أي: ونمتع أممًا، ومعنى الآية: وأمم سنمتعهم في الدنيا بما فيها من المتاع، ونعطيهم منها ما يعيشون به، ثم يمسهم منا في الآخرة عذاب أليم.
وقيل: يمسهم إما في الدنيا أو في الآخرة.
والإشارة بقوله: {تِلْكَ} إلى قصة نوح، وهي مبتدأ والجمل بعده أخبار: {مِنْ أَنبَاء الغيب} من جنس أنباء الغيب، والأنباء جمع نبأ وهو الخبر، أي من أخبار الغيب التي مرّت بك في هذه السورة، والضمير في: {نُوحِيهَا إِلَيْكَ} راجع إلى القصة، والمجيء بالمضارع لاستحضار الصورة: {مَا كُنتُ} يا محمد: {تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ} يعلمها: {قَوْمِكَ} بل هي مجهولة عندكم من قبل الوحي، أو من قبل هذا الوقت: {فاصبر} على ما تلاقيه من كفار زمانك، والفاء لتفريع ما بعدها على ما قبلها: {إِنَّ العاقبة} المحمودة في الدنيا والآخرة: {لّلْمُتَّقِينَ} لله المؤمنين بما جاءت به رسله، وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبشير له بأن الظفر للمتقين في عاقبة الأمر، ولا اعتبار بمباديه. وقد أخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن الحسن، قال: نادى نوح ربه فقال: ربّ إن ابني من أهلي، وإنك قد وعدتني أن تنجي لي أهلي، وإن ابني من أهلي.
وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن عساكر، عن ابن عباس، قال: ما بغت امرأة نبيّ قط. وقوله: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} يقول: ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عنه، قال: إن نساء الأنبياء لا يزنين، وكان يقرؤها: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالح} يقول: مسألتك إياي يا نوح عمل غير صالح لا أرضاه لك.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {فَلاَ تَسْأَلْنِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} قال: بين الله لنوح أنه ليس بابنه.
وأخرج أبو الشيخ، عن ابن زيد، في قوله: {يا نوح اهبط بسلام مّنَّا} قال: أهبطوا والله عنهم راض.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن محمد بن كعب القرظي، قال: دخل في ذلك السلام والبركات كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة. ودخل في ذلك العذاب الأليم كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة.
وأخرج ابن جرير، عن الضحاك: {وعلى أُمَمٍ مّمَّن مَّعَكَ} يعني: ممن لم يولد، أوجب الله لهم البركات لما سبق لهم في علم الله من السعادة: {وَأُمَمٌ سَنُمَتّعُهُمْ} يعني: متاع الحياة الدنيا: {ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} لما سبق لهم في علم الله من الشقاوة.
وأخرج أبو الشيخ قال: ثم رجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم فقال: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاء الغيب نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ} يعني: العرب: {مّن قَبْلِ هذا} القرآن. اهـ.