فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخازن:

{قالوا يا هود ما جئتنا ببينة} أي ببرهان وحجة واضحة على صحة ما تقول: {وما نحن بتاركي ألهتنا عن قولك} يعني وما نترك عبادة آلهتنا لأجل قولك: {وما نحن لك بمؤمنين} يعني بمصدقين: {إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء} يعني إنك يا هود لست تتعاطى ما تتعاطاه من مخالفتنا وسب آلهتنا إلا أن بعض آلهتنا أصابك بخبل وجنون لأنك سببتهم فانتقموا منك بذلك ولا نحمل أمرك إلا على هذا: {قال} يعني قال هود مجيبًا لهم: {إني أشهد الله} يعني على نفس واشهدوا يعني واشهدوا أنتم أيضًا علي: {أني بريء مما تشركون من دونه} يعني هذه الأصنام التي كانوا يعبدونها: {فكيدوني جميعًا} يعني احتالوا في كيدي وضري أنتم وأصنامكم التي تعتقدون أنها تضر وتنفع فإنها لا تضر ولا تنفع: {ثم لا تنظرون} يعني ثم لا تمهلون وهذا فيه معجزة عظيمة لهود عليه السلام وذلك أنه كان وحيدًا في قومه فما قال لهم هذه المقالة ولم يهبهم ولم يخف منهم مع ما هم فيه من الكفر والجبروت إلا لثقته بالله وتوكله عليه وهو قوله تعالى: {إني توكلت على الله ربي وربكم} يعني أنه فوض مره إلى الله واعتمد عليه: {ما من دابة} يعني تدب على الأرض ويدخل في هذا جميع بني آدم والحيوان لأنهم يدبون على الأرض: {إلا هو آخذ بناصيتها} يعني أنه تعالى هو مالكها والقادر عليها وهو يقهرها لأن من أخذت بناصيته فقد قهرته، والناصية مقدم الرأس وسمي الشعر الذي عليه ناصية للمجاورة قيل: إنما خصَّ الناصية بالذكر لأن العرب تستعمل ذلك كثيرًا في كلامهم فإذا وصفوا إنسانًا بالذلة مع غيره يقولون ناصية فلان بيد فلان وكانوا إذا أسروا أسيرًا وأرادوا إطلاقه جزوا ناصيته ليمنوا عليه ويعتدوا بذلك فخرًا عليه فخاطبهم الله سبحانه وتعالى بما يعرفون من كلامهم: {إن ربي على صراط مستقيم} يعني إن ربي وإن كان قادرًا وأنتم في قبضته كالعبد الذليل فإنه سبحانه وتعالى لا يظلمكم ولا يعمل إلا بالإحسان والإنصاف والعدل فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بعصيانه، وقيل معناه أن دين ربي هو الصراط المستقيم وقيل فيه إضمار تقديره إن ربي يحملكم على صراط مستقيم. اهـ.

.قال أبو حيان:

{قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} اعتراه بكذا: أصابه به، وقيل افتعل من عراه يعروه.
الناصية: منبت الشعر في مقدم الرأس، ويسمى الشعر النابت هناك ناصية باسم منبته.
ونصوت الرجل انصوه نصوًا، مددت ناصيته.
{قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعًا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قومًا غيركم ولا تضرونه شيئًا إن ربي على كل شيء حفيظ}: ببينة أو بحجة واضحة تدل على صدقك، وقد كذبوا في ذلك وبهتوه كما كذبت قريش في قولهم: {لولا أنزل عليه آية من ربه} وقد جاءهم بآيات كثيرة، أو لعمائهم عن الحق وعدم نظرهم في الآيات اعتقدوا ما هو آية ليس بآية فقالوا: ما جئتنا ببينة تلجئنا إلى الإيمان، وإلا فهود وغيره من الأنبياء لهم معجزات وإن لم يعين لنا بعضها.
ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر». وعن في عن قولك حال من الضمير في تاركي آلهتنا، كأنه قيل: صادرين عن قولك، قاله الزمخشري.
وقيل: عن للتعليل كقوله تعالى: {إلا عن موعدة وعدها إياه} فتتعلق بتاركي، كأنه قيل لقولك، وقد أشار إلى التعليل والسبب فيها ابن عطية، فقال: أي لا يكون قولك سببًا لتركنا، إذ هو مجرد عن آية، والجملة بعدها تأكيد وتقنيط له من دخولهم في دينه، ثم نسبوا ما صدر منه من دعائهم إلى الله وإفراده بالألوهية إلى الخبل والجنون، وأن ذلك مما اعتراه به بعض آلهتهم لكونه سبها وحرض على تركها ودعا إلى ترك عبادتها، فجعلته يتكلم مكافأة بما يتكلم به المجانين، كما قالت قريش: معلم مجنون: {أم يقولون به جنة} واعتراك جملة محكية بنقول، فهي في موضع المفعول، ودلت على بله شديد وجهل مفرط، حيث اعتقدوا في حجارة أنها تنتصر وتنتقم.
وقول هود لهم في جواب ذلك: إني أشهد الله إلى آخره، حيث تبرأ من آلهتهم، وحرضهم كلهم مع انفراده وحده على كيده بما يشاؤون، وعدم تأخره من أعظم الآيات على صدقه وثقته بموعود ربه من النصر له، والتأييد والعصمة من أن ينالوه بمكروه، هذا وهم حريصون على قتله يرمونه عن قوس واحدة.
ومثله قول نوح لقومه: {ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون} وأكد براءته من آلهتهم وشركهم، ووفقها بما جرت عليه عادة الناس من توثيقهم الأمر بشهادة الله وشهادة العباد.
قال الزمخشري: (فإن قلت): هلا قيل: إني أشهد الله وأشهدكم (قلت): لأنّ إشهاد الله على البراءة من الشرك إشهاد صحيح ثابت في معنى تثبيت التوحيد، وأما إشهادهم فما هو إلا تهاون بدينهم ودلالة على قلة المبالاة بهم فحسب، فعدل به عن لفظ الأول لاختلاف ما بينهما، وجيء به على لفظ الأمر بالشهادة انتهى.
وإني بريء تنازع فيه أشهد واشهدوا، وقد يتنازع المختلفان في التعدي الاسم الذي يكون صالحًا، لأن يعملا فيه تقول أعطيت زيدًا ووهبت لعمرو دينارًا، كما يتنازع اللازم والمتعدي نحو: قام وضربت زيدًا.
وما في ما تشركون موصولة، إما مصدرية، وإما بمعنى الذي أي: بريء من إشراككم آلهة من دونه، أو من الذين تشركون، وجميعًا حال من ضمير كيدوني الفاعل، والخطاب إنما هو لقومه.
وقال الزمخشري: أنتم وآلهتكم انتهى.
قيل: ومجاهرة هود عليه السلام لهم بالبراءة من أديانهم، وحضه إياهم على كيده هم وأصنامهم معجزة لهود، أو حرض جماعتهم عليه مع انفراده وقوتهم وكثرتهم، فلم يقدروا على نيله بسوء، ثم ذكر توكله عل الله معلمًا أنه ربه وربهم، ومنبهًا على أنه من حيث هو ربكم يجب عليكم أن لا تعبدوا إلا إياه، ومفوضًا أمره إليه تعالى ثقة بحفظه وانجاز موعوده، ثم وصف قدرة الله تعالى وعظيم ملكه من كون كل دابة في قبضته وملكه وتحت قهره وسلطانه، فأنتم من جملة أولئك المقهورين.
وقوله: آخذ بناصيتها تمثيل، إذ كان القادر المالك يقود المقدور عليه بناصيته، كما يقاد الأسير والفرس بناصيته، حتى صار الأخذ بالناصية عرفًا في القدرة على الحيوان، وكانت العرب تجز ناصية الأسير الممنون عليه علامة أنه قد قدر عليه وقبض على ناصيته.
قال ابن جريج: وخص الناصية لأن العرب إذا وصفت إنسانًا بالذلة والخضوع قالت: ما ناصية فلان إلا بيد فلان، أي أنه مطيع له يصرفه كيف يشاء ثم أخبر أنّ أفعاله تعالى في غاية الإحكام، وعلى طريق الحق والعدل في ملكه، لا يفوته ظالم ولا يضيع عنده من توكل عليه، قوله الصدق، ووعده الحق. اهـ.

.قال أبو السعود:

{قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} أي بحجة تدل على صحة دعواك وإنما قالوه لفَرْط عنادِهم وعدمِ اعتدادِهم بما جاءهم من البينات الفائتةِ للحصر.
{وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا} أي بتاركي عبادتِها: {عَنْ قَوْلِكَ} أي صادرين عنه أي صادرًا تركُنا عن ذلك بإسناد حالِ الوصفِ إلى الموصوف ومعناه التعليلُ على أبلغ وجهٍ لِدلالته على كونه علةً فاعليةً، ولا يفيده الباءُ واللام وهذا كقولهم المنقولِ عنهم في سورة الأعراف: {أجئتَنا لنعبُدَ الله وحدَه ونذرَ ما كان يعبُد آباؤُنا}، {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِين} أي بمصدقين في شيء مما تأتي وتذر فيندرج تحته ما دعاهم إليه من التوحيد وتركِ عبادةِ الآلهةِ، وفيه من الدلالة على شدة الشكيمة وتجاوزِ الحدِّ في العتو ما لا يخفى: {إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ} أي ما نقول إلا قولَنا اعتراك أي أصابك: {بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} بجنون لِسبِّك إياها وصدِّك عن عبادتها وحطِّك لها عن رتبة الألوهيةِ والمعبوديةِ بما مر من قولِك: {ما لكم من إله غيرُه إن أنتم إلا مفترون}، والتنكيرُ في سوءٍ للتقليل كأنهم لم يبالغوا في السوء كما ينبئ عنه نسبةُ ذلك إلى بعض آلهتِهم دون كلِّها، والجملةُ مقولُ القولِ وإلا لغوٌ لأن الاستثناءَ مفرَّغٌ، وهذا الكلامُ مقرِّرٌ لما مر من قولهم: {وما نحن بتاركي آلهتِنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين} فإن اعتقادَهم بكونه عليه الصلاة والسلام كما قالوا وحاشاه عن ذلك يوجب عدمَ الاعتدادِ بقوله وعدِّه من قبيل الخُرافاتِ فضلًا عن التصديق والعملِ بمقتضاه، يعنون إنا لا نعُدّ كلاَمك إلا من قبيل ما لا يحتمل الصِّدقَ والكذِبَ من الهذَيانات الصادرةِ عن المجانين فكيف نصدِّقه ونؤمن به ونعمل بموجبه، ولقد سلكوا في طريقة المخالفةِ والعناد إلى سبيل الترقّي من الأدنى إلى الأعلى حيث أَخبَروا أولًا عن عدم مجيئِه بالبينة مع احتمال كونِ ما جاء به عليه الصلاة والسلام حجةً في نفسه وإن لم تكن واضحةَ الدِلالة على المراد، وثانيًا عن ترك الامتثالِ بقوله عليه الصلاة والسلام بقولهم: {وما نحن بتاركي آلهتِنا عن قولك} مع إمكان تحققِ ذلك بتصديقهم له عليه الصلاة والسلام في كلامه ثم نفَوا تصديقَهم له عليه الصلاة والسلام بقولهم: {وما نحن لك بمؤمنين} مع كون كلامِه عليه الصلاة والسلام مما يقبل التصديقَ ثم نفَوْا عنه تلك المرتبةَ أيضًا حيث قالوا ما قالوا قاتلهم الله أنى يؤفكون: {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ}.
{مِن دُونِهِ} أي من إشراككم من دون الله أي من غير أن ينزِّل به سلطانًا كما قال في سورة الأعراف: {أتجادِلونني في أسماءٍ سمّيتموها أنتم وآباؤكم ما نزّل الله بها من سلطان} أو مما تشركونه من آلهة غيرِ الله، أجاب به عن مقالتهم الحمقاءِ المبنيةِ على اعتقاد كونِ آلهتِهم مما يضُرُّ أو ينفع وأنها بمعزل من ذلك، ولما كان ما وقع أولًا منه عليه الصلاة والسلام في حق آلهتِهم من كونها بمعزل عن الألوهية إنما وقع في ضمن الأمرِ بعبادة الله تعالى واختصاصِه بها وقد شق عليهم ذلك وعدّوه مما يورِث شيْنًا حتى زعَموا أنها تصيبُه عليه الصلاة والسلام بسوء مجازاةٍ لصنيعه معها صرّح عليه الصلاة والسلام بالحق وصدَع به حيث أُخبر ببراءته القديمةِ عنها بالجملة الاسميةِ المصدّرةِ بإنّ وأَشهد الله على ذلك وأمرهم بأن يسمعوا ذلك ويشهدوا به استهانةً بهم ثم أمرهم بالاجتماع والاحتشادِ مع آلهتهم جميعًا دون بعضٍ منها حسبما يُشعر به قولُهم: {بعضُ آلهتنا} والتعاونِ في إيصال الكيدِ إليه عليه الصلاة والسلام ونهاهم عن الإنظار والإمهالِ في ذلك فقال: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظرون} أي إن صح ما لو حتم به من كون آلهتِكم مما يقدِر على إضرار مَنْ ينال منها ويصُدّ عن عبادتها ولو بطريق ضِمنيَ فإني بريءٌ منها فكونوا أنتم معها جميعًا وباشروا كيدي ثم لا تُمهلوني ولا تسامحوني في ذلك، فالفاءُ لتفريع الأمرِ على زعمهم في قدرة آلهتِهم على ما قالوا وعلى البراءة كليهما، وهذا من أعظم المعجزاتِ، فإنه عليه الصلاة والسلام كان رجلًا مفْرَدًا بين الجمِّ الغفير والجمعِ الكثير من عُتاة عادٍ الغلاظِ الشِّدادِ، وقد خاطبهم بما خاطبهم وحقّرهم وآلهتَهم وهيَّجهم على مباشرة مبادئ المُضارّة وحثّهم على التصدِّي لأسباب المُعازّة والمعارّة فلم يقدروا على مباشرة شيءٍ مما كلفوه وظهر عجزُهم عن ذلك ظهورًا بينًا كيف لا وقد التجأ إلى ركن منيعٍ رفيعٍ واعتصم بحبل متينٍ حيث قال: {إنِّي تَوَكَّلْتُ على الله ربِّي ورَبِّكُم} يعني أنكم وإن بذلتم في مُضارّتي مجهودَكم لا تقدرون على شيء مما تريدون بي فإني متوكلٌ على الله تعالى، وإنما جيء بلفظ الماضي لكونه أدلَّ على الإنشاء المناسبِ للمقام، وواثقٌ بكلاءتي وحفظي عن غوائلكم وهو مالكي ومالكُكم لا يصدُر عنكم شيءٌ ولا يصيبني أمرٌ إلا بإرادته ومشيئتِه ثم برهن عليه بقوله: {مَا مِن دَابَّةٍ إلاَّ هُو آخِذٌ بِناصِيتِهَا} أي إلا هو مالكٌ لها قادرٌ عليها يُصرِّفها كيف يشاء غيرَ مستعْصيةٍ عليه فإن الأخذَ بالناصية تمثيلٌ لذلك: {إنَّ ربِّي عَلى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ} تعليلٌ لما يدل عليه التوكلُ من عدم قدرتِهم على إضراره أي هو على الحقّ والعدلِ فلا يكاد يسلِّطكم عليّ إذ لا يَضيعُ عنده معتصِمٌ ولا يفتاتُ عليه ظالمٌ. والاقتصارُ على إضافة الربِّ إلى نفسه إما بطريق الاكتفاءِ لظهور المرادِ وإما لأن فائدةَ كونِه تعالى مالكًا لهم أيضًا راجعةٌ إليه عليه الصلاة والسلام. اهـ.

.قال الألوسي:

{قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} أي بحجة واضحة تدل على صحة دعواك، وإنما قالوه لفرط عنادهم أو لشدة عماهم عن الحق وعدم نظرهم في الآيات فاعتقدوا أن ما هو آية ليس بآية وإلا فهو وغيره من الأنبياء عليهم السلام جاؤوا بالبينات الظاهرة والمعجزات الباهرة وإن لم يعين لنا بعضها، ففي الخبر: «ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر».
{وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى ءالِهَتِنَا} أي بتاركي عبادتها: {عَن قَوْلِكَ} أي بسبب قولك المجرد عن البينة فعن للتعليل كما قيل في قوله تعالى: {إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة: 114] وإلى هذا يشير كلام ابن عطية. وغيره، فالجار والمجرور متعلق: {بِتَارِكِى}.
وذهب بعض المحققين إلى أنه متعلق بمحذوف وقع حالًا من الضمير المستتر فيه أي صادرين وهو من الصدر مقابل الورد بمعنى الرجوع عن الماء، وقد شاع في كلامهم استعمال الصدر والورد كناية عن العمل والتصرف، ومنه قوله:
ما أمس الزمان حاجًا إلى من ** يتولى الإيراد والإصدارا

أي يتصرف في الأمور بصائب رأيه، وقد يكتفي بالصدر في ذلك لاستلزامه للورد فيقولون: لا يصدر إلا عن رأيه، والمعنى هنا حينئذٍ ما نحن: {قَالُواْ ياهود} عاملين بقولك، والنفي فيه راجع إلى القيد والمقيد جميعًا لأنهم لا يتركون آلهتهم ولا يعملون بقوله عليه السلام، وقيل: إن صادرين بمعنى معرضين وهو قيد للنفي، والمعنى انتفى تركنا عبادة آلهتنا معرضين: {عَن قَوْلِكَ} ويكون هذا جوابًا لقوله: {لاَ تَتَوَلَّوْاْ} [هود: 52] وجعل بعضهم إرادة ذلك من باب التضمين لا من باب تقدير المتعلق بقرينة: {عَنْ} وجعله كناية كما علمت، وكلام الزمخشري ظاهر في هذا كما يكشف عنه كلام الكشف: {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} أي بمصدقين فيما جئت به أو في كل ما تأتي وتذر، ويندرج فيه ذلك، وقد بالغوا في الإباء عن الإجابة فأنكروا الدليل على نبوته عليه السلام، ثم قالوا مؤكدين لذلك: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى} إلخ، ثم كرروا ما دل عليه الكلام السابق من عدم إيمانهم بالجملة الاسمية مع زيادة الباء، وتقديم المسند إليه المفيد للتقوى دلالة على أنهم لا يرجى منهم ذلك بوجه من الوجوه، وفي ذلك من الدلالة على الإقناط ما فيه.
{إِن نَّقُولُ إِلاَّ} أي أصابك من عراه يعروه، وأصله من اعتراه بمعنى قصد عراه أي محله وناحيته: {اعتراك بَعْضُ ءالِهَتِنَا بِسُوء} أرادوا به قاتلهم الله تعالى الجنون، والباء للتعدية والتنكير فيه قيل: للتقليل كأنهم لم يبالغوا في العتو كما ينبئ عنه نسبة ذلك إلى بعض آلهتهم دون كلها، وقيل: للتكثير إشارة إلى أن ما قاله لا يصدر إلا عمن أصيب بكثير سوء مبالغة في خروجه عن قانون العقل، وذكر البعض تعظيمًا لأمر آلهتهم وأن البعض منها له من التأثير ما له، والجملة مقول القول وإلا لغو لأن الاستثناء مفرغ، وأصله أن نقول قولًا إلا قولنا هذا فحذف المستثنى منه وحذف القول المستثنى وأقيم مقوله مقامه، أو: {اعتراك} هو المستثنى لأنه أريد به لفظه فلا حاجة إلى تقدير قول بعد: {إِلا} وليس مما استثنى فيه الجملة، ومعنى هذا أنه أفسد عقلك بعض آلهتنا لسبك إياها وصدك عن عبادتها وحطك لها عن رتبة الألوهية بما مر من قولك: {مَا لَكُمْ مّنْ إله غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ} [هود: 50] وغرضهم من هذا على ما قيل: بيان سبب ما صدر عن هود عليه السلام بعد ما ذكروا من عدم التفاتهم لقوله عليه السلام، وقيل: هو مقرر لما مر من قولهم: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى} الخ: {وَمَا نَحْنُ لَكَ} [هود: 53] إلخ فإن اعتقادهم بكونه عليه السلام كما قالوا وحاشاه عن ذلك يوجب عدم الاعتداد بقوله، وعده من قبيل الخرافات فضلًا عن التصديق والعمل بمقتضاه يعنون أنا لا نعتقد كلامك إلا ما لا يحتمل الصدق من الهذيانات الصادرة عن المجانين فكيف نؤمن به ونعمل بموجبه؟ا ولقد سلكوا طريق المخالفة والعناد إلى سبيل الترقي من السيء إلى الأسوأ حيث أخبروا أولًا عن عدم مجيئه بالبينة مع احتمال كون ما جاء به حجة في نفسه وإن لم تكن واضحة الدلالة على المراد.
وثانيًا عن ترك الامتثال لقوله عليه السلام: بقولهم: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى ءالِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ} [هود: 53] مع إمكان تحقق ذلك بتصديقهم له في كلامه.
ثم نفوا عنه تصديقهم له عليه السلام بقولهم: {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} [هود: 53] مع كونه كلامه عليه السلام مما يقبل التصديق، ثم نفوا عنه تلك المرتبة أيضًا حيث قالوا ما قالوا قاتلهم الله أنى يؤفكون انتهى.