فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ} فنقول: إنما علموا ذلك لأنه أمر كل إنسان أن لايشرب إلا من جدول معين كيلا يختلفوا عند الحاجة إلى الماء، وأما إضافة المشرب إليهم فلأنه تعالى لما أباح لكل سبط من الأسباط ذلك الماء الذي ظهر من ذلك الشق الذي يليه صار ذلك كالملك لهم وجازت إضافته إليهم.
أما قوله تعالى: {كُلُواْ واشربوا مِن رّزْقِ الله} ففيه حذف، والمعنى: فقلنا لهم أو قال لهم موسى: كلوا واشربوا، وإنما قال: كلوا لوجهين، أحدهما: لما تقدم من ذكر المن والسلوى، فكأنه قال: كلوا من المن والسلوى الذي رزقكم الله بلا تعب ولا نصب واشربوا من هذا الماء.
والثاني: أن الأغذية لا تكون إلا بالماء، فلما أعطاهم الماء فكأنه تعالى أعطاهم المأكول والمشروب.
واحتجت المعتزلة بهذه الآية على أن الرزق هو الحلال، قالوا: لأن أقل درجات قوله: {كُلُواْ واشربوا} الإباحة، وهذا يقتضي كون الرزق مباحًا، فلو وجد رزق حرام لكان ذلك الرزق مباحًا وحرامًا وإنه غير جائز.
أما قوله تعالى: {وَلاَ تَعْثَوْاْ في الأرض مُفْسِدِينَ} فالعثي أشد الفساد، فقيل لهم: لا تتمادوا في الفساد في حالة إفسادكم لأنهم كانوا متمادين فيه، والمقصود منه ما جرت العادة بين الناس من التشاجر والتنازع في الماء عند اشتداد الحاجة إليه، فكأنه تعالى قال: إن وقع التنازع بسبب ذلك الماء فلا تبالغوا في التنازع. والله أعلم. اهـ.

.قال الألوسي:

{كُلُواْ واشربوا مِن رّزْقِ الله} على إرادة القول، وبدأ بالأكل لأن قوام الجسد به، والاحتياج إلى الشرب حاصل عنه، و{من} لابتداء الغاية، ويحتمل أن تكون للتبعيض، وفي ذكر الرزق مضافًا تعظيم للمنة، وإشارة إلى حصول ذلك لهم من غير تعب ولا تكلف، وفي هذا التفات إذ تقدم {فَقُلْنَا اضرب} ولو جرى على نظم واحد لقال من رزقنا، ولو جعل الإضمار قبل {كُلُواْ} مسندًا إلى موسى أي وقال موسى: كلوا واشربوا لا يكون فيه ذلك، والرزق هنا بمعنى المرزوق وهو الطعام المتقدم من المنّ والسلوى، والمشروب من ماء العيون، وقيل: المراد به الماء وحده لأنه يشرب ويؤكل مما ينبت منه ويضعفه أنه لم يكن أكلهم في التيه من زروع ذلك الماء كما يشير إليه قوله تعالى: {يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض} [البقرة: 1 6] و{لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ واحد} [البقرة: 1 6] ويلزم عليه أيضًا الجمع بين الحقيقة والمجاز إذ يؤول إلى كلوا واشربوا من الماء، ويكون نسبة الشرب إليه بإرادة ذاته، والأكل بإرادة ما هو سبب عنه، أو القول بحذف متعلق أحد الفعلين أي كلوا من رزق الله واشربوا من رزق الله، وقول بعض المتأخرين إن رزق الله عبارة عن الماء، وفي الآية إشارة إلى إعجاز آخر وهو أن هذا الماء كما يروي العطشان يشبع الجوعان فهو طعام وشراب بعيد غاية البعد، وأقرب منه أن لا يكون {كُلُواْ واشربوا} بتقدير القول من تتمة ما يحكى عنهم بل يجعل أمرًا مرتبًا على ذكرهم ما وقع وقت الاستسقاء على وجه الشكر والتذكير بقدرة الله تعالى فهو أمر المخاطبين بهذه الحكاية بأكلهم وشربهم مما يرزقهم الله تعالى، وعدم الإفساد بإضلال الخلق، وجمع عرض الدنيا ويكون فصله عما سبق لأنه بيان للشكر المأمور أو نتيجة للمذكور.
واحتجت المعتزلة بهذه الآية على أن الرزق هو الحلال لأن أقل درجات هذا الأمر أن يكون للإباحة فاقتضى أن يكون الرزق مباحًا فلو وجد رزق حرام لكان الرزق مباحًا وحرامًا، وأنه غير جائز، والجواب أن الرزق هنا ليس بعام إذا أريد المنّ والسلوى والماء المنفجر من الحجر، ولا يلزم من حلية معين مّا من أنواع الرزق حلية جميع الرزق وعلى تسليم العموم يلتزم التبعيض.
{وَلاَ تَعْثَوْاْ في الأرض مُفْسِدِينَ} لما أمروا بالأكل والشرب من رزق الله تعالى ولم يقيد ذلك عليهم بزمان ولا مكان ولا مقدار كان ذلك إنعامًا وإحسانًا جزيلًا إليهم، واستدعى ذلك التبسط في المأكل والمشرب نهاهم عما يمكن أن ينشأ عن ذلك وهو الفساد حتى لا يقابلوا تلك النعم بالكفران، والعثي عند بعض المحققين مجاوزة الحد مطلقًا فسادًا كان أولًا فهو كالاعتداء، ثم غلب في الفساد، و{مفسدين} على هذا حال غير مؤكدة وهو الأصل فيها كما يدل عليه تعريفها، وذكر أبو البقاء أن العُثِيّ الفساد والحال مؤكدة، وفيه أن مجئ الحال المؤكدة بعد الفعلية خلاف مذهب الجمهور.
وذهب الزمخشري أن معناه أشد الفساد والمعنى لا تتمادوا في الفساد حال إفسادكم، والمقصد النهي عما كانوا عليه من التمادي في الفساد وهو من أسلوب {لاَ تَأْكُلُواْ الربا أضعافا مضاعفة} [آل عمران: 130] وإلا فالفساد أيضًا منكر منهي عنه، وفيه أنه تكلف مستغنى عنه بما ذكرنا، والمراد من {الأرض} عند الجمهور أرض التيه.
ويجوز أن يريدها وغيرها مما قدروا أن يصلوا إليها فينالها فسادهم، وجوز أن يريد الأرضين كلها، و(أل) لاستغراق الجنس، ويكون فسادهم فيها من جهة أن كثرة العصيان والإصرار على المخالفات والبطر يؤذن بانقطاع الغيث وقحط البلاد ونزع البركات، وذلك انتقام يعم الأرضين، هذا ثم إن ظاهر القرآن لا يدل على تكرر هذا الاستسقاء ولا الضرب ولا الانفجار فيحتمل أن يكون ذلك متكررًا، ويحتمل أن يكون ذلك مرة واحدة والواحدة هي المتحققة.
والحكايات في هذا الأمر كثيرة وأكثرها لا صحة له، وقد أنكر بعض الطبيعيين هذه الواقعة وقال: كيف يعقل خروج الماء العظيم الكثير من الحجر الصغير، وهذا المنكر مع أنه لم يتصور قدرة الله تعالى في تغيير الطبائع والاستحالات فقد ترك النظر على طريقتهم إذ قد تقرر عندهم أن حجر المغناطيس يجذب الحديد والحجر الحلاق يحلق الشعر والحجر الباغض للخل ينفر منه، وذلك كله من أسرار الطبيعة وإذا لم يكن مثل ذلك منكرًا عندهم فليس يمتنع أن يخلق في حجر آخر قوة جذب الماء من تحت الأرض، ويكون خلق تلك القوة عند ضرب العصا أو عند أمر موسى عليه السلام على ما ورد أنه كان بعد ذلك يأمره، فينفجر ولا ينافيه انفصاله عن الأرض كما وهم، ويحتمل أيضًا أن يقلب الله تعالى بواسطة قوة أودعها في الحجر الهواء ماء بإزالة اليبوسة عن أجزائه وخلق الرطوبة فيها.
والله تعالى على كل شيء قدير، وحظ العارف من الآية أن يعرف الروح الإنسانية وصفاتها في عالم القلب بمثابة موسى وقومه وهو مستسق ربه لإروائها بماء الحكمة والمعرفة وهو مأمور بضرب عصا لا إله إلا الله ولها شعبتان من النفي والإثبات تتقدان نورًا عند استيلاء ظلمات النفس، وقد حملت من حضرة العزة على حجر القلب الذي هو كالحجارة أو أشد قسوة {فانفجرت مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْنًا} من مياه الحكمة لأن كلمة لا إله إلا الله اثنتا عشرة حرفًا فانفجر من كل حرف عين قد عَلِمَ كل سبط من أسباط صفات الإنسان.
وهي اثنا عشر سبطًا من الحواس الظاهرة والباطنة، واثنان من القلب والنفس، ولكل واحد منهم مشرب من عين جرت من حرف من حروف الكلمة، و{قد عَلِمَ} مشربه ومشرب كل واحد حيث ساقه رائده وقاده قائده فمن مشرب عذب فرات.
ومشرب ملح أجاج، والنفوس ترد مناهل التقى والطاعات.
والأرواح تشرب من زلال الكشوف والمشاهدات، والأسرار تروى من عيون الحقائق بكأس تجلي الصفات عن ساقي {وسقاهم رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 1 2] للاضمحلال في حقيقة الذات {كُلُواْ واشربوا مِن رّزْقِ الله} بأمره ورضاه {وَلاَ تَعْثَوْاْ} في هذا القالب {مُفْسِدِينَ} بترك الأمر واختيار الوزر وبيع الدين بالدنيا وإيثار الأولى على العقبى وتقديمهما على المولى. اهـ.

.قال السمرقندي:

{وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ الحجر فانفجرت مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْنًا} فإذا ساروا حملوه فاستمسك.
وقال بعضهم: كان يخرج عينًا واحدة ثم تتفرق على اثنتي عشرة فرقة، وتصير اثني عشر نهرًا.
وقال بعضهم: كان للحجر اثنا عشر ثقبًا، يخرج منها اثنتا عشرة عينًا لا يختلط بعضها ببعض.
قال مقاتل: كان الحجر مربَّعًا، وكان جبريل عليه السلام أمر موسى بحمله معه يوم جاوز البحر ببني إسرائيل، وإنما انفجرت اثنتا عشرة عينًا، لأنه أخذ من مكان فيه اثنا عشر طريقًا.
ثم قال تعالى: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ}، أي قد عرف كل سبط مشربهم، أي موردهم وموضع شربهم من العيون لا يخالطهم فيها غيرهم.
والحكمة في ذلك أن الأسباط كانت بينهم عصبية ومباهاة، وكل سبط منهم لا يتزوج من سبط آخر، وأراد كل سبط تكثير نفسه، فجعل لكل سبط منهم نهرًا على حدة ليستقوا منها، ويسقوا دوابهم لكيلا يقع بينهم جدال ومخاصمة.
وقال بعضهم: كان الحجر من الجنة.
وقال بعضهم: رفعه موسى من أسفل البحر حيث مرّ فيه مع قومه.
وقال بعضهم: كان حجرًا من أحجار الأرض.
قوله عز وجل: {كُلُواْ واشربوا مِن رّزْقِ الله} أي قيل لهم كلوا من المن والسلوى، واشربوا من ماء العيون، {وَلاَ تَعْثَوْاْ في الأرض مُفْسِدِينَ}، أي لا تعملوا فيها بالمعاصي، يقال: عثا يعثو عثوًا، إذا أظهر الفساد وعَثِي، وعاث لغتان الذئب في الغنم أي أسرع بالفساد ثم إنهم أجمعوا من المن والسلوى. اهـ.

.قال الزمخشري:

عطشوا في التيه، فدعا لهم موسى بالسقيا فقيل له: {اضرب بّعَصَاكَ الحجر} واللام إمّا للعهد والإشارة إلى حجر معلوم.
فقد روي: أنه حجر طوري حمله معه، وكان حجرًا مربعًا له أربعة أوجه كانت تنبع من كل وجه ثلاث أعين، لكل سبط عين تسيل في جدول إلى السبط الذي أمر أن يسقيهم، وكانوا ستمائة ألف، وسعة المعسكر اثنا عشر ميلًا، وقيل: أهبطه آدم من الجنة فتوارثوه، حتى وقع إلى شعيب، فدفعه إليه مع العصا.
وقيل: هو الحجر الذي وضع عليه ثوبه حين اغتسل إذ رموه بالأدرة، ففرّ به، فقال له جبريل: يقول لك الله تعالى: ارفع هذا الحجر، فإنّ لي فيه قدرة ولك فيه معجزة، فحمله في مخلاته.
وإمّا للجنس، أي اضرب الشيء الذي يقال له الحجر.
وعن الحسن: لم يأمره أن يضرب حجرًا بعينه قال: وهذا أظهر في الحجة وأبين في القدرة.
وروى أنهم قالوا: كيف بنا لو أفضينا إلى أرض ليست فيها حجارة، فحمل حجرًا في مخلاته فحيثما نزلوا ألقاه.
وقيل: كان يضربه بعصاه فينفجر، ويضربه بها فييبس.
فقالوا: إن فقد موسى عصاه متنا عطشًا، فأوحى إليه: لا تقرع الحجارة، وكلمها تطعك، لعلهم يعتبرون.
وقيل: كان من رخام وكان ذراعًا في ذراع.
وقيل: مثل رأس الإنسان.
وقيل: كان من أُسِّى الجنة طوله عشرة أذرع على طول موسى، وله شعبتان تتقدان في الظلمة، وكان يحمل على حمار: {فانفجرت}، الفاء متعلقة بمحذوف، أي فضرب فانفجرت.
أو فإن ضربت فقد انفجرت، كما ذكرنا في قوله: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} وهي على هذا فاء فصيحة لا تقع إلا في كلام بليغ.
وقرئ {عشرة} بكسر الشين وبفتحها وهما لغتان {كُلُّ أُنَاسٍ} كل سبط {مَّشْرَبَهُمْ} عينهم التي يشربون منها {كُلُواْ} على إرادة القول: {مِن رّزْقِ الله} مما رزقكم من الطعام وهو المنّ والسلوى ومن ماء العيون.
وقيل: الماء ينبت منه الزروع والثمار، فهو رزق يؤكل منه ويشرب.
والعثيّ: أشدّ الفساد، فقيل لهم: لا تتمادوا في الفساد في حال فسادكم لأنهم كانوا متمادين فيه. اهـ.
وقال البيضاوي:
{وَإِذِ استسقى موسى لِقَوْمِهِ} لما عطشوا في التيه.
{فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ الحجر} اللام فيه للعهد على ما روي أنه كان حجرًا طوريًا حمله معه، وكانت تنبع من كل وجه ثلاث أعين، تسيل كل عين في جدول إلى سبط، وكانوا ستمائة ألف وسعة المعسكر اثنا عشر ميلًا، أو حجرًا أهبطه آدم من الجنة، ووقع إلى شعيب عليه السلام فأعطاه لموسى مع العصا، أو الحجر الذي فر بثوبه لما وضعه عليه ليغتسل وبرأه الله به عما رموه به من الأدرة، فأشار إليه جبريل عليه السلام بحمله، أو للجنس وهذا أظهر في الحجة. قيل لم يأمره بأن يضرب حجرًا بعينه، ولكن لما قالوا: كيف بنا لو أفضينا إلى أرض لا حجارة بها؟ حمل حجرًا في مخلاته، وكان يضربه بعصاه إذا نزل فينفجر، ويضربه بها إذا ارتحل فييبس، فقالوا: إن فقد موسى عصاه متنا عطشًا، فأوحى الله إليه لا تقرع الحجر وكلمه يطعك لعلهم يعتبرون. وقيل كان الحجر من رخام وكان ذراعًا في ذراع، والعصا عشرة أذرع على طول موسى عليه السلام من آس الجنة ولها شعبتان تتقدان في الظلمة.
{فانفجرت مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْنًا} متعلق بمحذوف تقديره: فإن ضربت فقد انفجرت، أو فضرب فانفجرت، كما مر في قوله تعالى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} وقرئ عَشَرة بكسر الشين وفتحها وهما لغتان فيه.
{قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ} كل سبط.
{مَّشْرَبَهُمْ} عينهم التي يشربون منها.
{كُلُواْ واشربوا} على تقدير القول:
{مِن رّزْقِ الله} يريد به ما رزقهم الله من المن والسلوى وماء العيون. وقيل الماء وحده لأنه يشرب ويؤكل مما ينبت به.
{وَلاَ تَعْثَوْاْ في الأرض مُفْسِدِينَ} لا تعتدوا حال إفسادكم، وإنما قيده لأنه وإن غلب في الفساد قد يكون منه ما ليس بفساد، كمقابلة الظالم المعتدي بفعله، ومنه ما يتضمن صلاحًا راجحًا كقتل الخضر عليه السلام الغلام وخرقه السفينة، ويقرب منه العيث غير أنه يغلب فيما يدرك حسًا، ومن أنكر أمثال هذه المعجزات فلغاية جهله بالله وقلة تدبره في عجائب صنعه، فإنه لما أمكن أن يكون من الأحجار ما يحلق الشعر وينفر عن الخل ويجذب الحديد، لم يمتنع أن يخلق الله حجرًا يسخره لجذب الماء من تحت الأرض، أو لجذب الهواء من الجوانب ويصيره ماء بقوة التبريد ونحو ذلك. اهـ.