فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وللبحث فيه مجال، ولعل الإتيان بهذه الجملة غير مقترنة بالعاطف كالجملتين الأوليين يؤيد كونها ليست مسوقة للتأكيد مثلهما، نعم تضمنها لتقرير ما تقدم مما لا يكاد ينكر فتدبر.
{قَالَ إِنِى أُشْهِدُ الله واشهدوا أَنّى بَرِئ مّمَّا تُشْرِكُونَ}.
{مِن دُونِهِ} أي مما أنتم تجعلونه شريكًا وهو سبحانه لم يجعله شريكًا ولم ينزل به سلطانًا فما موصولة، و: {مِن دُونِهِ} متعلق بتشركون لا حال من فاعله أي تشركون مجاوزين الله تعالى في هذا الحكم إذ لا فائدة في التقييد به، وجوز أن تكون مصدرية أيضًا أي من إشراككم، وقد جوز كلا الاحتمالين الزمشري فقال: أي من إشراككم آلهة من دونه أو مما تشركونه آلهة من دونه وأمر تعلق الجار فيهما واح، وتقدير آلهة لإيضاح المعنى والإشارة إلى أن المفعول مراد لسوق الكلام ولا يصلح أن يكون الظرف صفة له على الوجهين لأن بيانه حاصلهما بنحو ما ذكرناه في بيان حاصل الأول إنما يستقيم إذا تعلق بالفعل المذكور وليس المعنى على آلهة غير الله على ذلك التفسير، وللطيبي ما يخالف ذلك وليس بذاك، {وَإِنّى بَرِئ} [هود: 54] متنازع فيه للفعلين قبله وقد يتنازع المختلفان في التعدي الاسم الذي يكون صالحًا لأن يعملا فيه تقول: أعطيت ووهبت لعمرو درهمًا كما يتنازع اللازم والمتعدي نحو قام وضربت زيدًا.
وقد أجاب عليه السلام بهذا عن مقالتهم الشنعاء المبنية على اعتقاد كون آلهتهم تضر وتنفع، ولما كان ما وقع أولًا منه عليه السلام في حقها من كونها بمعزل عن الألوهية إنما وقع إنما وقع في ضمن الأمر بعبادة الله تعالى واختصاصه بها وقد شق ذلك عليهم وعدّوه مما يورث شينًا حتى زعموا ما زعموا صرح عليه السلام بالحق وصدع به حيث أخبر ببراءته القديمة عنها بالجملة الاسمية المصدرة بأن وأكد ذلك بأشهد الله فإنه كالقسم في إفادة التأكيد وأمرهم بأن يسمعوا ذلك ويشهدوا به، والمقصود منه الاستهانة والاستهزاء كما يقول الرجل لخصمه إذا لم يبال به: أشهد على أني قائل لك كذا، وكأنه غاير بين الشهادتين لذلك، وعطف الإنشاء على الأخبار جائز عند بعض، ومن لم يجوزه قدر قولًا أي وأقول: {اشهدوا} ويحتمل أن يكون إشهاد الله تعالى إنشاء أيضًا وإن كان في صورة الخبر، وحينئذٍ لا قيل ولا قال، وجوز أن يكون إشهاده عليه السلام لهم حقيقة إقامة للحجة عليهم.
وعدل عن الخبر فيه تمييزًا بين الخطابين فهو خبر في المعنى كما هو المشهور في الأول لكن الأولى الحمل على المجاز، ثم أمرهم بالاجتماع والاحتشاد مع آلهتهم جميعًا دون بعض منها حسبما يشعر به قولهم: {بَعْضُ ءالِهَتِنَا} [هود: 54] والتعاون في إيصال الكيد إليه عليه السلام، ونهاهم عن الإنظار والإمهال في ذلك فقال: {فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ} أي إن صح ما لو حتم به من كون آلهتكم مما يقدرون على إضرار من ينال منها ويصد عن عبادتها ولو بطريق ضمني فإني برئ منها فكونوا أنتم معها جميعًا وباشروا كيدي ثم لا تمهلوني ولا تسامحوني في ذلك، فالفاء لتفريع الأمر على زعمهم من قدرة آلهتهم على ما قالوا وعلى البراءة كليهما، والخطاب للقوم وآلهتهم، ويفهم من كلام بعض أنه للقوم فقط، وفيه نفي قدرة آلهتهم على ضره بطريق برهاني فإن الأقوياء الأشداء إذا لم يقدروا مع اجتماعهم واحتشادهم على الضر كان عدم قدرة الجمادات عليه معلومًا من باب أولى، وأيًا مّا كان فذاك من أعظم المعجزات بناءًا على ما قيل: إنه كان عليه السلام مفردًا بين جمع عتاة جبابرة عطاش إلى إراقة دمه يرمونه عن قوس واحدة، وقد خاطبهم بما خاطبهم وحقرهم وآلهتهم وهيجهم على ما هيجهم فلم يقدروا على مباشرة شيء مما كلفوه، وظهر عجزهم عن ذلك ظهورًا بينًا، وفي ذلك دلالة على مزيد ثقته بالله سبحانه وكمال عنايته به وعصمته له، وقد قرر ذلك بإظهار التوكل على من كفاه ضرهم في قوله: {إِنّى تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبّى وَرَبّكُمْ} وفيه تعليل لنفي ضرهم بطريق برهاني يعني أنكم وإن لم تبقوا في القوس منزعًا وبذلتم في مضادتي مجهودكم لا تقدرون على شيء مما تريدون بي فإني متوكل على الله تعالى واثق بكلاءته وهو مالكي ومالككم لا يصدر عنكم شيء ولا يصيبني أمر إلا بإرادته، وجئ بلفظ الماضي لأنه أدل على الإنشاء المناسب للمقام، ثم إنه عليه السلام برهن على عدم قدرتهم على ضره مع توكله عليه سبحانه بقوله: {مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} أي إلا هو مالك لها قادر عليها يصرفها كيف يشاء غير مستعصية عليه سبحانه، والناصية مقدم الرأس وتطلق على الشعر النابت عليها، واستعمال الأخذ بالناصية في القدرة والتسلط مجاز أو كناية، وفي البحر أنه صار عرفًا في القدرة على الحيوان، وكانت العرب تجز الأسير الممنون عليه علامة على أنه قد قدر عليه وقبض على ناصيته، وقوله: {إِنَّ رَبّى على صراط مُّسْتَقِيمٍ} مندرج في البرهان وهو تمثيل واستعارة لأنه تعالى مطلع على أمور العباد مجاز لهم بالثواب والعقاب كاف لمن اعتصم به كمن وقف على الجادة فحفظها ودفع ضرر السابلة بها، وهو كقوله سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد} [الفجر: 14]، وقيل: معناه إن مصيركم إليه تعالى للجزاء وفصل القضاء، ولعل الأول أولى، وفي الكشف إن في قوله: {إِنّى تَوَكَّلْتُ} الآية من اللطائف ما يبهرك تأمله من حسن التعليل، وما يعطيه أن من توكل عليه لم يبال بهول ما ناله ثم التدرج إلى تعكيس التخويف بقوله: {رَبّى وَرَبَّكُمْ} فكيف يصاف من لزم سدّة العبودية وينجو من تولى مع ما يعطيه من وجوب التوكل عليه سبحانه إذا كان كذلك وترشيخه بقوله: {مَّا مِن دَابَّةٍ} إلى تمام التمثيل فإنه في الاقتدار على المعرض أظهر منه في الرأفة على المقبل خلاف الصفة الأولى، وما فيه من تصوير ربوبيته واقتداره تعالى وتصوير ذل المعبودين بين يدي قهره أيًا مّا كان، والختم بما يفيد الغرضين على القطع كفاية من إياه تولى وخزاية من أعرض عن ذكره وتولى بناءًا على أن معناه أنه سبحانه على الحق والعدل لا يضيع عنده معتصم ولا يفوته ظالم، وفي قوله: {رَبّى} من غير إعادة: {وَرَبّكُمْ} كما في الأول نكتة سرية بعد اختصار المعنى عن الحشو فيه ما يدل على زيادة اختصاصه به وأنه رب الكل استحقاقًا وربه دونهم تشريفًا وإرفاقًا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{قَالُواْ يا هود مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بتاركى ءالِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ ءَالِهَتِنَا بسوء}.
محاورة منهم لهود عليه السّلام بجواب عن دعوته، ولذلك جردت الجملة عن العاطف.
وافتتاح كلامهم بالنداء يشير إلى الاهتمام بما سيقولونه، وأنه جدير بأن يتنبه له لأنهم نزلوه منزلة البعيد لغفلته فنادوه، فهو مستعمل في معناه الكنائيّ أيضًا.
وقد يكون مرادًا منه مع ذلك توبيخه ولومه فيكون كناية ثانية، أو استعمال النّداء في حقيقته ومجازه.
وقولهم: {ما جئتنا ببينة} بهتان لأنه أتاهم بمعجزات لقوله تعالى: {وتلك عادٌ جحدوا بآيات ربهم} [هود: 59] وإن كان القرآن لم يذكر آية معينة لهود عليه السّلام.
ولعل آيته أنّه وعدهم عند بعثته بوفرة الأرزاق والأولاد واطّراد الخصب وفرة مطردة لا تنالهم في خلالها نكبة ولا مصيبة بحيث كانت خارقة لعادة النعمة في الأمم، كما يشير إليه قوله تعالى: {وقالوا مَن أشد منا قوةً} [فصلت: 15].
وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من الأنبياء نبيء إلاّ أُوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر». الحديث.
وإنما أرادوا أن البيّنات التي جاءهم بها هود عليه السّلام لم تكن طبقًا لمقترحاتهم.
وجعلوا ذلك علة لتصميمهم على عبادة آلهتهم فقالوا: {وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك}.
ولم يجعلوا: {وما نحن بتاركي} مفرّعًا على قولهم: {ما جئتنا ببينة}.
و: {عن} في: {عن قولك} للمجاوزة، أي لا نتركها تركًا صادرًا عن قولك، كقوله: {وما فعلته عن أمري} [الكهف: 82]. والمعنى على أن يكون كلامه علة لتركهم آلهتهم.
وجملة: {إن نقول إلاّ اعتراك بعض آلهتنا بسوء} استئناف بياني لأنّ قولهم: {وما نحن لك بمؤمنين} من شأنه أن يثير للسامع ومن معه في أنفسهم أن يقولوا إن لم تؤمنوا بما جاء به أنّه من عند الله فماذا تعدُّون دعوته فيكم، أي نقول إنك ممسوس من بعض آلهتنا، وجعلوا ذلك من فعل بعض الآلهة تهديدًا للنّاس بأنه لو تصدّى له جميعُ الآلهة لدكوه دكًّا.
والاعتراء: النزول والإصابة.
والباء للملابسة، أي أصابك بسوء.
ولا شك أنهم يعنون أن آلهتهم أصابته بمسّ من قَبْل أن يقوم بدعوة رفض عبادتها لسبب آخر، وهو كلام غير جار على انتظام الحجّة، لأنه كلام ملفّق من نوع ما يصدر عن السفسطائيين، فجعلوه مجنونًا وجعلوا سبب جنونه مسًّا من آلهتهم، ولم يتفطنوا إلى دخَل كلامهم وهو أن الآلهة كيف تكون سببًا في إثارة ثائر عليها.
والقول مستعمل في المقول اللساني، وهو يقتضي اعتقادهم مَا يقولونه.
{قَالَ إنى أُشْهِدُ الله واشهدوا أَنِّى برئ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ إِنِّى تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّى وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّى على صراط مُّسْتَقِيمٍ}.
لما جاءوا في كلامهم برفض ما دعاهم إليه وبجحد آياته وبتصميمهم على ملازمة عبادة أصنامهم وبالتنويه بتصرف آلهتهم أجابهم هود عليه السّلام بأنّه يشهد الله عليهم أنّه أبلغهم وأنّهم كابروا وجحدوا آياته.
وجملة: {أشهد الله} إنشاء لإشهاد الله بصيغة الإخبار لأنّ كل إنشاء لا يظهر أثره في الخلق من شأنه أن يقع بصيغة الخبر لما في الخبر من قصد إعلام السامع بما يضمره المتكلم، ولذلك كان معنى صيغ العقود إنشاءً بلفظ الخبر.
ثمّ حمَلهم شهادة له بأنه بريء من شركائهم مبادرة بإنكار المنكر وإن كان ذلك قد أتوا به استطرادًا، فلذلك كان تعَرّضه لإبطاله كالاعتراض بين جملة: {إني أشهد الله} وجملة: {فإن تولوا} [هود: 57] بناء على أن جملة: {فإن تَولوا} إلى آخرها من كلام هود عليه السّلام، وسيأتي.
ومعنى إشهاده فيراد من شركائهم تحقيق ذلك وأنه لا يتردّد على أمر جازم قد أوجبه المشهود عليه على نفسه.
وأتى في إشهادهم بصيغة الأمر لأنه أراد مزاجة إنشاء الإشهاد دون رائحة معنى الإخبار.
و(ما) في قوله: {مما تشركون} موصولة. والعائد محذوف. والتقدير: مما يشركونه. وماصدق الموصول الأصنام، كما دل عليه ضمير الجمع المؤكّدُ في قوله: {فكيدوني جميعًا}. ولما كانت البراءة من الشركاء تقتضي اعتقاد عجزها عن إلحاق إضرار به فرع على البراءة جملة: {فكيدوني جميعًا}. وجعل الخطاب لقومه لئلا يكون خطابه لما لا يعقل ولا يسمع، فأمر قومه بأن يكيدوه. وأدخل في ضمير الكائدين أصنامهم مجاراة لاعتقادهم واستقصاء لتعجيزهم، أي أنتم وأصنامكم، كما دل عليه التفريع على البراءة من أصنامهم. والأمر بـ (كيدوني) مستعمل في الإباحة كناية عن التعجيز بالنسبة للأصنام وبالنسبة لقومه، كقوله تعالى: {فإن كان لكم كيدٌ فكيدون} [المرسلات: 39]. وهذا إبطال لقولهم: {إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء}.
و: {ثم} للتراخي الرتبيّ؛ تحدّاهم بأن يكيدوه ثم ارتقى في رتبة التعجيز والاحتقار فنهاهم عن التأخير بكيدهم إياه، وذلك نهاية الاستخفاف بأصنامهم وبهم وكناية عن كونهم لا يصلون إلى ذلك.
وجملة: {إنّي توكلت} تعليل لمضمون: {فكيدوني} وهو التعجيز والاحتقار.
يعني: أنه واثق بعجزهم عن كيده لأنه متوكل على الله، فهذا معنى ديني قديم.
وأُجري على اسم الجلالة صفة الربوبية استدلالًا على صحة التوكل عليه في دفع ضرهم عنه، لأنه مالكهم جميعًا يدفع ظلم بعضهم بعضًا.
وجملة: {ما من دابة إلاّ هو آخذ بناصيتها} في محل صفة لاسم الجلالة، أو حال منه، والغرض منها مثل الغرض من صفة الربوبية.
والأخذ: الإمساك.
والناصية: ما انسدل على الجبهة من شعر الرأس.
والأخذ بالناصية هنا تمثيل للتمكّن، تشبيهًا بهيئة إمساك الإنسان من ناصيته حيث يكون رأسه بيد آخذه فلا يستطيع انفلاتًا.
وإنما كان تمثيلًا لأن دواب كثيرة لا نواصي لها فلا يلتئم الأخذ بالناصية مع عموم: {ما من دابة}، ولكنه لما صار مثلًا صار بمنزلة: ما من دابة إلا هو متصرف فيها.
ومن بديع هذا المثل أنّه أشدّ اختصاصًا بالنوع المقصود من بين عموم الدّواب، وهو نوع الإنسان.
والمقصود من ذلك أنّه المالك القاهر لجميع ما يدبّ على الأرض، فكونه مالكًا للكلّ يقتضي أن لا يفوته أحد منهم، وكونه قاهرًا لهم يقتضي أن لا يعجزه أحد منهم.
وجملة: {إن ربّي على صراط مستقيم} تعليل لجملة: {إنّي توكّلت على الله}، أي توكّلت عليه لأنّه أهل لتوكلي عليه، لأنّه متّصف بإجراء أفعاله على طريق العدل والتأييد لرسله.
وعلى للاستعلاء المجازي، مثل {أولئك على هدىً من ربهم} [البقرة: 5] مستعارة للتمكّن المعنوي، وهو الاتّصاف الراسخ الذي لا يتغير.
والصراط المستقيم مستعار للفعل الجاري على مقتضى العدل والحكمة لأنّ العدل يشبّه بالاستقامة والسواء.
قال تعالى: {فاتبعني أهدك صراطًا سويًّا} [مريم: 43].
فلا جرم لا يُسْلم المتوكّل عليه للظّالمين. اهـ.

.قال الشعراوي:

{قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} وهم هنا ينكرون أن هودًا قد أتاهم بِبَيِّنة أو مُعجزةٍ.
والبيِّنة كما نعلم هي الأمارة الدالة على صدق الرسول.
وصحيح أن هودًا هنا لم يذكر معجزته؛ وتناسوا أن جوهر أي معجزة هو التحدي؛ فمعجزة نوح عليه السلام هي الطوفان، ومعجزة إبراهيم عليه السلام أن النار صارت بردًا وسلامًا عليه حين ألقوه فيها.
ونحن نلحظ أن المعجزة العامة لكل رسول يمثلها قول نوح عليه السلام: {يا قوم إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ الله فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ فأجمعوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقضوا إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونَ} [يونس: 71].
أي: إن كنتم أهلًا للتحدي، فها أنا ذا أمامكم أحارب الفساد، وأنتم أهل سيطرة وقوة وجبروت وطغيان.
وأحْكِموا كيدكم؛ لكنكم لن تستطيعوا قتل المنهج الرباني؛ لأن أحدًا لن يستطيعَ إطفاء نور الله في يد رسول من رسله؛ أو أن يخلِّصوا الدنيا منه بقتله.. ما حدث هذا أبدًا.
إذن: فالبيِّنة التي جاء بها هود عليه السلام أنه وقف أمامهم ودعاهم إلى ترك الكفر؛ وهو تحدي القادرين عليه؛ لأنهم أهل طغيان؛ وأهل بطش؛ ومع ذلك لم يقدروا عليه؛ مثلما لم يقدر كفار قريش على رسولنا صلى الله عليه وسلم.
ونحن نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء ومعه المعجزة الجامعة الشاملة وهي القرآن الكريم؛ وسيظل القرآن معجزة إلى أن تقوم الساعة.
ونعلم أن غالبية الرسل عليهم جميعًا السلام قد جاءوا بمعجزات حسية كونية؛ انتهى أمدها بوقوعها، ولولا أن القرآن يخبرنا بها ما صدَّقناها، مثلها مثل عود الثقاب يشتعل مرة ثم ينطفئ.
فمثلًا شفى عيسى عليه السلام الأكمه والأبرص بإذن ربه فمَنْ رآه آمن به، ومَنْ لم يَرَه قد لا يؤمن، وكذلك موسى عليه السلام ضرب البحر بالعصا فانفلق أمامه؛ ومن رآه آمن به، وانتهت تلك المعجزات؛ لكن القرآن الكريم باقٍ إلى أن تقوم الساعة.
ويستطيع أي واحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم قبل قيام الساعة أن يقول: محمد رسول الله ومعجزته القرآن؛ لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم جاء رسولًا عامّا؛ ولا رسول من بعده؛ لذلك كان لابد أن تكون معجزته من الجنس الباقي؛ ومع ذلك قالوا له: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السماء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلًا} [الإسراء: 90- 92].