فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والفاء الأولى لتفريع الاعتبار على الموعظة وتكون جملة: {فقد أبلغتكم} من كلام النبي صلى الله عليه وسلم مقولَ قول مَأمور به محذوف يدلّ عليه السياق.
والتقدير: فقل قد أبلغتكم.
وهذا الأسلوب من قبيل الكلام الموجّه المحتمل معنيين غير متخالفين، وهو من بديع أساليب الإعجاز، ولأجله جاء فعل: {تولوا} بتاء واحدة بخلاف ما في قوله: {وَإنْ تتولوا يستبدل قومًا غيركم} [محمد: 38].
والتولّي: الإعراض.
وقد تقدّم في قوله تعالى: {ومن تولّى فما أرسلناك عليهم حفيظًا}، في سورة [النساء: 80].
وجعل جوابُ شرط التولّي قوله: {فقد أبلغتكم} مع أنّ الإبلاغ سابق على التولّي المجعول شرطًا لأنّ المقصود بهذا الجواب هو لازم ذلك الإبلاغ، وهو انتفاء تبعة تولّيهم عنه وبراءته من جرمهم لأنّه أدّى ما وجب عليه من الإبلاغ، فإنْ كان من كلام هود عليه السّلام ف: {ما أرسلت به} هو ما تقدّم، وإنْ كان من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فما أرسل به هو الموعظة بقصّة قوم هود عليه السّلام.
وعلى كلا الوجهين فهو كناية عن الإنذار بتبعة التولّي عليهم ونزول العقاب بهم، ولذلك عطف: {ويستخلف ربّي قومًا غيركم} أي يزيلكم ويخلفكم بقوم آخرين لا يتولون عن رسولهم، وهذا كقوله تعالى: {وإن تتولوا يستبدل قومًا غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} [محمد: 38].
وارتفاع: {يستخلف} في قراءة الكافّة لأنّه معطوف على الجواب مجاز فيه الرفع والجزم.
وإنما كان الرفع هنا أرجح لإعطاء الفعل حكم الكلام المستأنف ليكون مقصودًا بذاته لا تبعًا للجواب، فبذلك يكون مقصودًا به إخبارهم لإنذارهم بالاستئصال.
وكذلك جملة: {ولا تضرونه شيئًا} والمراد لا تضرون الله بتولّيكم شيئًا و: {شيئًا} مصدر مؤكد لفعل: {تضرونه} المنفي.
وتنكيره للتّقليل كما هو شأن تنكير لفظ الشيء غالبًا.
والمقصود من التّأكيد التّنصيص على العموم بنفي الضر لأنّه نكرة في حيّز النفي، أي فالله يلحق بكم الاستئصال، وهو أعظم الضر، ولا تضرونه أقلّ ضر؛ فإنّ المعروف في المقارعات والخصومات أنّ الغالب المضرّ بعدوّه لا يخلو من أن يَلحقه بعض الضرّ من جرّاء المقارعة والمحاربة.
وجملة: {إنّ ربّي على كل شيء حفيظ} تعليل لجملة: {ولا تضرّونه شيئًا}، فموقع: {إنّ} فيها موقع فاء التفريع.
والحفيظ: أصله مبالغة الحافظ، وهو الذي يضع المحفوظ بحيث لا يناله أحد غير حافظه، وهو هنا كناية عن القدرة والقهر. اهـ.

.قال الشعراوي:

{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ}
الفعل {تولَّوا} أصله: تتولَّوا، وفي اللغة: إذا ابتدأ فعل بتاءين يُقتصَر على تاء واحدة.
وهكذا يكون المعنى:
إن تتولَّوا فقد أبلغتكم المنهج الذي أرسلت به إليكم، ولا عُذر لكم عندي؛ لأن الحق سبحانه لا يعذِّب قومًا وهم غافلون؛ لذلك أرسلني إليكم.
أو أن الخطاب من الله سبحانه لهود عليه السلام ليبِّين له: فإن تولَّوا فقل لهم: {أَبْلَغْتُكُمْ مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [هود: 57].
والاستخلاف أن يوجد قوم خلفاء لقوم، إما أن يكونوا عادلين؛ فلا يقفوا من المناهج ولا من الرسالات مثلما وقف قوم عاد.
وإما أن يكونوا غير عادلين، مثل من قال فيهم الحق سبحانه: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات} [مريم: 59].
والحق سبحانه قد وعد المؤمنين وعدًا طيِّبًا: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ} [النور: 55].
إذن: فالاستخلاف إما أن يكون الخلف فيه صاحب عمل صالح، أو أن يبدد المنهج فلا يتبعه، بل يتبع الشهوات.
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه: {هَا أَنتُمْ هؤلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ والله الغني وَأَنتُمُ الفقراء وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم} [محمد: 38].
وهنا يقول الحق سبحانه: {وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئًا} [هود: 57].
لأن المنهج الذي نزل على الخَلْق، أنزله الحق سبحانه وتعالى لصلاح العباد، وهو سبحانه خَلَق أولًا بكل صفات الكمال فيه، ولن يزيده العباد وصفًا من الأوصاف، ولن يسلبه أحد وصفًا من الأوصاف.
ولذلك نقول للمتمردين على عبوديتهم لله كفرًا، وللمتمردين على المنهج بالمعصية:
أنتم ألفتم التمرد؛ إما التمرد في القمة وهو الكفر بالله، وإما التمرد على أحكام الله بمخالفتها، فلماذا لا يتمرد أحدكم على المرض، ويقول: لن أمرض؟ ولماذا لا يتمرد أحدكم على الموت ويرفض أن يموت؟
إذن: فما دُمْتَ قد عرفت التمرد فيما لك فيه اختيار، فهل تستطيع التمرد على أحكام الله القهرية فيك؟
إنك لن تستطيع؛ لأنك مأخوذ بناصيتك. والحق سبحانه إن شاء أن يوقف القلب، فلن تستطيع أن تأمر قلبك بعدم التوقف.
لذلك قال هود عليه السلام: {وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي على كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [هود: 57].
فالله سبحانه رقيب؛ لأنه قيوم قائم على كل أمور كونه.
وبعض الفلاسفة قالوا: إن الله قد خلق الكون، وخلق النواميس والقوانين، ثم تركها تقوم بعملها.
ولهؤلاء نقول: لا؛ فأنتم أقررتم بصفات الخالق القادر، فأين صفات القيومية لله القائم على كل نفس بما كسبت، وهو سبحانه القائل لعبيده عن نفسه: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} [البقرة: 255].
وهو سبحانه حين يقول هذا إنما يطمئن العباد؛ ليناموا ويرتاحوا؛ لأنه سبحانه مُنزَّه عن الغَفْلة أو النوم، بل هو سبحانه قيوم. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
قوله تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْاْ} أي: تَتَوَلَّوا فحذف إحدى التاءَيْن، ولا يجوز أن يكونَ ماضيًا كقوله: {أَبْلَغْتكم}، ولا يجوزُ أن يدعى فيه الالتفات، إذ هو رَكاكَةٌ في التركيب وقد جَوَّزَ ذلك ابنُ عطية فقال: ويُحْتمل أن يكون {تولَّوا} ماضيًا، ويجيءُ في الكلام رجوعٌ من غَيْبة إلى خطاب. وقلت: ويجوزُ أن يكونَ ماضيًا لكن لمَدْرَكٍ آخرَ غيرِ الالتفات: وهو أن يكونَ على إضمار القول، أي: فقل لهم: قد أبلغْتُكم. ويترجَّح كونُه ماضيًا بقراءة عيسى والثقفي والأعرج {فإن تُوَلُّوا} بضم التاء واللام، مضارعَ ولى بضم التاءِ واللام مضارعَ وَلي، والأصل تُوَلِّيُوا فأُعِلَّ.
قال الزمخشري: فإن قلتَ: الإِبلاغ كان قبل التولِّي فكيف وقع جزاءً للشرط؟ قلت: معناه فإنْ تتولَّوا لم أعاتِبْ على تفريطٍ على الإِبلاغ، وكنتم محجوجين بأنَّ ما أَرْسَلْتُ به إليكم قد بلغكم فأبيتم إلا التكذيب.
قوله: {وَيَسْتَخْلِفُ} العامَّةُ على رفعِه استئنافًا. وقال أبو البقاء هو معطوفٌ على الجواب بالفاء. وقرأ عبد اللَّه بن مسعود بتسكينه، وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون سُكِّن تخفيفًا لتوالي الحركات: والثاني: أن يكونَ مجزومًا عطفًا على الجواب المقترن بالفاء، إذ مَحَلُّه الجزمُ وهو نظيرُ قولِه: {فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ} وقد تقدَّم تحقيقُه، إلا أن القراءتين ثَمَّ في المتواتر.
قوله: {وَلاَ تَضُرُّونَهُ} العامَّة على النون، لأنه مرفوعٌ على ما تقدَّم، وابنُ مسعودٍ بحذفها، وهذا يُعَيِّن أن يكونَ سكونُ {يستخلف} جزمًا، ولذلك لم يذكر الزمخشري غيره؛ لأنه ذكر جزمَ الفعلين، ولمَّا لم يذكرْ أبو البقاء الجزم في {تَضُرُّونه} جَوَّز الوجهين في {يَسْتخلف}. و{شيئًا} مصدرٌ، أي: شيئًا من الضرر. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)}
أوحينا إليه أنْ قُلْ لهم: نْ تَوَلَّوْا ولم تُؤمنوا بي فقد بَلَّغْتُ ما حُمِّلت من رسالتي، وإني واثقٌ بأَنَّ الله إذا أهلككم يأتِ بأقوام آخرين سواكم أطْوعَ له منكم، وإنْ أفناكم ما اختلَّ مُلْكُه؛ إذْ الحقُّ- سبحانه- بوجود الأغيار لا يلحقه زيْنٌ- وإنْ وَحَّدُوا، وبفقدهم لا يَمُّسه شَيْنٌ- وإنْ جحدوا وألحدوا. اهـ.

.تفسير الآيات (58- 60):

قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما تم ذلك كان كأنه قيل: فلم يرجعوا ولم يرعووا لبينة ولا رغبة ولا رهبة فأنزلنا بهم أمرنا: {ولما جاء أمرنا} أي وقت إرادتنا لإهلاك عاد: {نجينا} أي تنجية عظيمة بما لنا من العظمة: {هودًا والذين آمنوا} كائنين: {معه} في الإيمان والنجاة من قومهم فلم يقدروا أن يصلوا إليهم بسوء مع اجتهادهم في ذلك وإعجابهم بقواهم ويقال: إن الذين آمنوا كانوا أربعة آلاف.
ولما كان سبحانه بحيث لا يجب عليه لأحد شيء لأنه لا يقدر أحد أن يقدره حق وإن اجتهد في طاعته، فإن طاعته نعمة منه عليه، أشار إلى ذلك بقوله: {برحمة منا} تحقيقًا لتوكل عبدنًا؛ ولما بين إنجاءهم من قومهم بين إنجاءهم مما أهلكهم به فقال مكررًا ذكر التنجية دلالة على أن عذابهم كان في غاية الفظاعة: {ونجيناهم} أي بما لنا من العظمة، وبين فظاعة ما أهلك به أعداءهم بقوله: {من عذاب غليظ} أي أهلكنا به مخالفيهم وهو الريح الصرصر، وهذا أولى من حمله على عذاب الآخرة لما يأتي من قوله: {ومن خزي يومئذ} كأنهم كانوا إذا رأوا مخايل العذاب قصدوا نبيهم ومن آمن به ليهلكوهم قبلهم كما صرح به في قصة صالح؛ والنجاة: السلامة من الهلاك؛ وحقيقة الغلظة عظم الجثة، فاستعير للعذاب لثقله على النفس وطول مكثه.
ولما تمت قصتهم على هذا الوجه لابديع والأسلوب المطرب، قال تعالى عاطفًا على قوله: {تلك من أنباء الغيب}، {وتلك عاد} أي قصة القوم البعداء البغضاء، ما كنت تعلمها على هذا التفصيل أنت ولا قومك ولا أهل الكتاب، وإنما نفيت عن أهل الكتاب لأنهم لا يعلمون إلا ما له أصل عن أنبيائهم، وهذه وقصة ثمود ليستا في التوراة ولا شيء من أسفار أنبيائهم، وسألت بعض علمائهم فلم أجد عنده شيئًا من علمها ولا حرفًا واحدًا ولا سمع بعاد ولا هود، وتلخيص قصتهم أنهم: {جحدوا} أي كذبوا عنادًا واستهانة: {بآيات ربهم} المحسن إليهم: {وعصوا رسله} فإن من عصى واحدًا منهم فقد عصى الكل لاتفاقهم على أمر واحد مع التساوي في مطلق المعجزة: {واتبعوا} أي بغاية جهدهم: {أمر كل جبار} أي قاهر بليغ القهر يجبر غيره على ما يريد، وهذا يدل على أنه لا عذر في أصل الدين بوجه فإن الضمائر لا يعلمها إلا الله فيمكن كل أحد مخالفة الجبار فيه: {عنيد} أي طاغ باغ لا يقبل الحق بوجه، فأهلكوا ولم يمنعهم تجبرهم ولا أغنى عنهم عنادهم وتكبرهم: {وأُتبعوا} جميعًا بعد إهلاكهم بأيسر وجه لعظيم قدرة المتبع: {في هذه الدنيا} حقرها في هذه العبارة بما أشارت إليه الإشارة مع التصغير، وبما دل على الدنو وبأن من اغتر بها فهو ممن وقف مع الشاهد لما له من الجمود: {لعنة} أي طردًا وبعدًا وإهلاكًا: {ويوم القيامة} أي كذلك بل أشد، فكأنه قيل: أفما لمصيبتهم من تلاف؟ فقيل: لا، {ألا} مفتتحًا للإخبار عنهم بهذه الأداة التي لا تذكر إلا بين يدي كلام يعظم موقعه ويجل خطبه، والتأكيد في الإخبار بكفرهم تحقيق لحالهم، وفيه من أدلة النبوة وأعلام الرسالة الرد على طائفة قد حدثت بالقرب من زماننا يصوّبون جيمع الملل وخصوا عادًا هذه لكونها أغناهم بأن قالوا: إنهم من المقربين إلى الله وإنهم بعين الرضى منه، فالله المسؤول في الإدالة عليهم وشفاء الصدور منهم، وهم أتباع ابن عربي الكافر العنيد أهل الاتحاد، المجاهرون بعظيم الإلحاد، المستخفون برب العباد، فلذلك قال تعالى مبينًا لحالهم بيانًا لا خفاء معه: {إن عادًا كفروا} ولم يقصر الفعل، بل عداه إعظامًا لطغيانهم فقال: {ربهم} أي غطوا جميع أنوار الظاهر الذي لا يصح أصلًا خفاءه لأنه لا نعمة على مخلوق إلا منه، فكان كفرهم أغلظ الكفر، ومع ذلك فلم ينثن هود عليه السلام عن إبلاغهم جميع ما أمر به ولا ترك شيئًا مما أوحي إليه فلك به أسوة حسنة وفيهم قدوة، ومن كفر من أحسن إليه بعد بعدًا لا قرب معه.
ولما كان الأمر عظيمًا والخطب جليلًا، كرر الأداة التي تقال عند الأمور الجليلة فقال: {ألا بعدًا لعاد} هو من بعد- بكسر العين إذا كان بعده بالهلاك، وبينهم بقوله: {قوم هود} تحقيقًا لهم لأنهم عادان: الأولى والآخرة، وإيماء إلى أن استحقاقهم للإبعاد بما جرى لهو عليه السلام معهم من الإنكار والدعاء عليهم بعد الهلاك كناية عن الإخبار بأنهم كانوا مستحقين للهلاك؛ والجحد: الخبر عما يعلم صحته أنه لا يعلمها، وهو ضد الاعتراف كما أن النفي ضد الإثبات، فهو خبر بمجرد العدم فهو أعم؛ والعصيان خلاف ما أمر به الداعي على طريق الإيجاب؛ واللعنة: الدعاء بالإبعاد، وأصلها الإبعاد من الخير؛ والإتباع: جعل الثاني على أثر الأول، والإبلاغ أخص منه، والمراد هنا بلوغها لهم لأن الذي قضى بذلك قادر وقد ألحق بهم عذاب الدنيا المبعد لهم من مظان الرحمة. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ}
اعلم أن قوله: {وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا} أي عذابنا وذلك هو ما نزل بهم من الريح العقيم عذبهم الله بها سبع ليال وثمانية أيام، تدخل في مناخرهم وتخرج من أدبارهم وتصرعهم على الأرض على وجوههم حتى صاروا كأعجاز نخل خاوية.
فإن قيل: فهذه الريح كيف تؤثر في إهلاكهم؟
قلنا: يحتمل أن يكون ذلك لشدة حرها أو لشدة بردها أو لشده قوتها، فتخطف الحيوان من الأرض، ثم تضربه على الأرض، فكل ذلك محمل.
وأما قوله: {نَجَّيْنَا هُودًا} فاعلم أنه يجوز إتيان البلية على المؤمن وعلى الكافر معًا، وحينئذ تكون تلك البلية رحمة على المؤمن وعذابًا على الكافر، فأما العذاب النازل بمن يكذب الأنبياء عليهم السلام فإنه يجب في حكمة الله تعالى أن ينجي المؤمن منه، ولولا ذلك لما عرف كونه عذابًا على كفرهم، فلهذا السبب قال الله تعالى هاهنا: {نَجَّيْنَا هُودًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ}.
وأما قوله: {بِرَحْمَةٍ مّنَّا} ففيه وجوه: الأول: أراد أنه لا ينجو أحد وإن اجتهد في الإيمان والعمل الصالح إلا برحمة من الله، والثاني: المراد من الرحمة: ما هداهم إليه من الإيمان بالله والعمل الصالح.
الثالث: أنه رحمهم في ذلك الوقت، وميزهم عن الكافرين في العقاب.
وأما قوله: {وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} فالمراد من النجاة الأولى هي النجاة من عذاب الدنيا، والنجاة الثانية من عذاب القيامة، وإنما وصفه بكونه غليظًا تنبيهًا على أن العذاب الذي حصل لهم بعد موتهم بالنسبة إلى العذاب الذي وقعوا فيه كان عذابًا غليظًا، والمراد من قوله تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُمْ} أي حكمنا بأنهم لا يستحقون ذلك العذاب الغليظ ولا يقعون فيه.