فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{وَلَمَّا جَاءَ أَمرُنَا} أي نزل عذابُنا، وفي التعبير عنه بالأمر مضافًا إلى ضميره جل جلاله وعن نزوله بالمجيء ما لا يخفى من التفخيم والتهويلِ أو ورد أمرُنا بالعذاب: {نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} وكانوا أربعةَ آلافٍ: {بِرَحْمَةٍ} عظيمةٍ كائنةٍ لهم: {مِنَّا} وهي الإيمانُ الذي أنعمنا به عليهم بالتوفيق له والهدايةِ إليه: {وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} أي كانت تلك التنجيةُ تنجيةً من عذاب غليظ وهي السَّمومُ التي كانت تدخل أنوفَ الكفرة وتخرج من أدبارهم فتقطعهم إرْبًا إرْبًا، وقيل: أريد بالثانية التنجيةُ من عذاب الآخرةِ ولا عذابَ أغلظُ وأشدُّ، وهذه التنجيةُ وإن لم تكن مقيدةً بمجيء الأمرِ لكن جيء بها تكملةً للنعمة عليهم وتعريضًا بأن المهلَكين كما عُذّبوا في الدنيا بالسَّموم فهم معذبون في الآخرة بالعذاب الغليظ: {وَتِلك عَادٌ} أُنّث اسمُ الإشارةِ باعتبار القبيلةِ أو لأن الإشارةَ إلى قبورهم وآثارهِم: {جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِم} كفروا بها بعد ما استيقنوها: {وَعَصَوْا رُسُلَهُ} جمعَ الرسلَ مع أنه لم يرسِلْ إليهم غيرَ هودٍ عليه الصلاة والسلام تفظيعًا لحالهم وإظهارًا لكمال كفرِهم وعنادِهم ببيان أن عصيانَهم له عليه الصلاة والسلام عصيانٌ لجميع الرسلِ السابقين واللاحقين لاتفاق كلمتِهم على التوحيد: {لا نفرِّق بين أحد من رسله} فيجوز أن يراد بالآت ما أتى به هودٌ وغيرُه من الأنبياء عليهم السلام، وفيه زيادةُ ملاءمةٍ لما تقدم من جميع الآياتِ وما تأخر من قوله: {وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} من كبرائهم ورؤسائِهم الدعاةِ إلى الضلال وإلى تكذيب الرسلِ فكأنه قيل: عصَوا كلَّ رسولٍ واتبعوا أمرَ كلِّ جبارٍ، وهذا الوصفُ ليس كما سبق من جحود الآياتِ وعصيانِ الرسلِ في الشمول لكل فردٍ فردٌ منهم فإن الاتباعَ للأمر من أوصاف الأسافلِ دون الرؤساءِ، وعنيدٌ فعيلٌ من عنَد عِنْدًا وعنَدًا إذا طغى والمعنى عصَوا مَنْ دعاهم إلى الهدى وأطاعوا من حداهم إلى الردى.
{وأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} إبعادًا عن الرحمة وعن كل خير، أي جُعلت اللعنةُ لازمةً لهم، وعبّر عن ذلك بالتبعية للمبالغة فكأنها لا تفارقهم وإن ذهبوا كلَّ مذهبٍ بل تدور معهم حيثما داروا، ولوقوعه في صحبة اتباعهم رؤساءهم يعني أنهم لما اتّبعوهم أُتبعوا ذلك جزاءً لصنيعهم جزاءً وفاقًا: {وَيومَ الْقِيَامَةِ} أي أُتبعوا يوم القيامة أيضًا لعنةً وهي عذابُ النارِ المخلد حُذفت لدِلالة الأولى عليها، وللإيذان بكون كلَ من اللغتين نوعًا برأسه لم تُجمعا في قرن واحد بأن يقال: وأتبعوا في هذه الدنيا ويومَ القيامة لعنةً كما في قوله تعالى: {واكتبْ لنا في هذه الدنيا حسنةً وفي الآخرة} إيذانًا باختلاف نوعي الحسنتين، فإن المرادَ بالحسنة الدنيويةِ نحوُ الصحةِ والكفافِ والتوفيقِ للخير وبالحسنة الأخروية الثوابُ والرحمةُ: {أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُم} أي بربهم أو نعمةَ ربهم حملًا له على نقيضه الذي هو الشكرُ، أو جحدوه: {ألاَ بُعْدًا لِعَادٍ} دعاءٌ عليهم بالهلاك مع كونهم هالكين أيَّ هلاك، تسجيلًا عليهم باستحقاق الهلاكِ واستيجابِ الدمار، وتكريرُ حرفِ التنبيهِ وإعادةُ عادٍ للمبالغة في تفظيع حالِهم والحثِّ على الاعتبار بقصتهم: {قومِ هُود} عطفُ بيانٍ لعاد فائدتُه التمييزُ عن عادِ إرمَ، والإيماءُ إلى أن استحقاقَهم للبعد بسبب ما جرى بينهم وبين هودٍ عليه الصلاة والسلام وهم قومُه. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا} أي نزل عذابنا على أن الأمر واحد الأمور، قيل: أو المأمور به، وفي التعبير عنه بذلك مضافًا إلى ضمير جل جلاله، وعن نزوله بالمجئ ما لا يخفى من التفخيم والتهويل.
وجوز أن يكون واحد الأوامر أي وورد أمرنا بالعذاب، والكلام على الحقيقة إن أريد أمر الملائكة عليهم السلام، ويجوز أن يكون ذلك مجازًا عن الوقوع على سبيل التمثيل: {نَجَّيْنَا هُودًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ} قيل: كانوا أربعة آلاف، وقيل: ثلاثة آلاف، ولعل الانتصار للأنبياء عليهم السلام لم يكن مأذونًا به للمؤمنين إذ ذاك فلا ينافي ما تقدم نقله من أنه عليه السلام كان وحده، ولذا عد مواجهته للجم الغفير معجزة له صلى الله عليه وسلم لكن لابد لهذا من دليل كدعوى انفراده عنهم حين المقاولة؛ وفي الحواشي الشهابية أنه لا مانع من ذلك باعتبار حالين وزمانين فتأمل، والظاهر أن ما كان من المقاولة إنما هو في ابتداء الدعوة ومجئ الأمر كان بعد بكثير وإيمان من آمن كان في البين فترتفع المنافاة: {بِرَحْمَةٍ} عظيمة كائنة: {مِنَّا} وهي الإيمان الذي أنعمنا به عليهم.
وروي هذا عن ابن عباس والحسن، وذكره الزمخشري ولشم بعضهم منه رائحة الاعتزال لم يلتفت إليه ولا بأس بأن تحمل الرحمة عن الفضل فيفيد أن ذلك بمحض فضل الله تعالى إذ له سبحانه تعذيب المطيع كما أن له جل وعلا إثابة العاصي، والجار والمجرور الأول متعلق بنجينا وهو الظاهر الذي عليه كثير من المفسرين.
وجوز أبو حيان كونه متعلقًا بآمنوا أي إن إيمانهم بالله تعالى ورسوله عليه السلام برحمة من الله تعالى إذ وفقهم إليه، ولعل ترتيب الإنجاء على النزول باعتبار ما تضمنه من تعذيب الكفار فيكون قد صرح بالإنجاء اهتمامًا، ورتب باعتبار الآخر إشارة إلى أنه مقصود منه، ويجوز أن تكون لما لمجرد الحين: {وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} تكرير لأجل بيان ما نجاهم عنه وهي الريح التي كانت تحمل الظعينة وتهدم المساكن وتدخل في أنوف أعداء الله تعالى وتخرج من أدبارهم فتقطعهم إربًا إربًا، أو المراد بهذا الإنجاء من عذاب الآخرة وبالأول الإنجاء من عذاب الدنيا، ورجح الأول بأنه أوفق لمقتضى المقام، وحاصله أن الأول إخبار بأن الإيمان الذي وفقوا له صار سبب إنجائهم.
والثاني بأن ذلك الإنجاء كان من عذاب أي عذاب دلالة على كمال الامتنان وتحريضًا على الإيمان وليس من أسلوب أعجبني زيد وكرمه في شيء كما ظنه العلامة الطيبي.
وقد أورد على الثاني إن إنجاءهم من عذاب الآخرة ليس في وقت نزول العذاب في الدنيا ولا مسببًا عنه إلا أن يجاب بأنه عطف على القيد والمقيد كما قيل في قوله سبحانه: {لاَ يَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [سبأ: 30] قيل: ولا يخفى ما فيه من التكلف من غير داع لأن الموافق للتعبير بالماضي المفيد لتحققه حتى كأنه وقع أن يجعل باعتبار ذلك واقعًا في وقت النزول تجوزًا أو المعنى حكما بذلك وتبين ما يكون لهم لأن الدنيا أنموذج الآخرة وأيًا مّا كان فالمراد بغلظ العذاب تضاعفه، وقد يقال على الاحتمال الأول في وصف العذاب الذي كان بالريح: بالغلظ الذي هو ضد الرقة التي هي صفة الريح ما لا يخفى من اللطف، وفيه أيضًا مناسبة لحالهم فإنهم كانوا غلاظًا شدادًا.
{وَتِلْكَ عَادٌ} أنث اسم الإشارة باعتبار القبيلة على ما قيل، فالإشارة إلى ما في الذهن وصيغة البعيد لتحقيرهم أو لتنزيلهم منزلة البعيد لعدمهم، أو الإشارة إلى قبورهم ومصارعهم، وحينئذٍ الإشارة للبعيد المحسوس والإسناد مجازي أو هو من مجاز الحذف أي تلك قبور عاد، وجوز أن يكون بتقدير أصحاب تلك عاد، والجملة مبتدأ وخبر، وكان المقصود الحث على الاعتبار بهم والاتعاظ بأحوالهم، وقوله سبحانه: {جَحَدُواْ بآيات رَبّهِمْ} إلخ استئناف لحكاية بعض قبائحهم أي كفروا بآيات ربهم التي أيد بها رسوله الداعي إليه ودل بها على صدقه وأنكروها فقالوا: يا هود ما جئتنا ببينة، أو أنكروا آياته سبحانه في الآفاق والأنفس الدالة عليه تعالى حسبما قال لهم هود عليه والسلام. وجوز أن يراد بها الآيات التي أتى بها هود. وغيره من الرسل عليهم الصلاة والسلام، ويلائمه جمع الرسل الآتي على قول، وعدي جحد بالباء حملًا له على كفر لأنه المراد، أو بتضمينه معناه كما أن كفر يجري مجرى جحد فيعدي بنفسه نحو قوله سبحانه: {أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ} [هود: 60]، وقيل: كفر كشكر يتعدى بنفسه وبالباء، وظاهر كلام القاموس أن جحد كذلك: {وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ} قيل: المراد بالرسل هود عليه السلام والرسل الذين كانوا معه من قبله وهو خلاف الظاهر، وقيل: المراد بهم هود عليه السلام وسائر الرسل من قبله تعالى للأمم من قبله ومن بعده عليه السلام بناءًا على أن عصيانه عليه السلام وكذا عصيان كل رسول بمنزلة عصيان الرسل جميعهم لأن الجميع متفقون على التوحيد فعصيان واحد عصيان للجميع فيه، أو على أن القوم أمرهم كل رسول من قبل بطاعة الرسل والإيمان بهم إن أدركوهم فلم يمتثلوا ذلك الأمر: {واتبعوا أَمْرَ كُلّ جَبَّارٍ} متعال عن قبول الحق، وقال الكلبي: هو الذي يقتل على الغضب ويعاقب على المعصية.
وقال الزجاج: هو الذي يجبر الناس على ما يريد، وذكر ابن الأنباري أنه العظيم في نفسه المتكبر على العباد: {عَنِيدٍ} أي طاغ من عند بتثليث النون عندًا بالإسكان وعندًا بالتحريك وعنودًا بضم العين إذا طغا وجاوز الحد في العصيان، وفسره الراغب بالمعجب بما عنده، والجوهري بمن خالف الحق ورده وهو يعرفه، وكذا عاند، ويطلق الأخير على البعير الذي يجور عن الطريق ويعدل عن القصد، وجمعه عند كراكع وركع، وجمع العنيد عند كرغيف ورغف، والعنود قيل: بمعنى العنيد.
وزعم بعضهم أنه يقال: بعير عنود، ولا يقال: عنيد، ويجمع الأول على عندة.
والثاني على عند، وآخر أن العنود العادل عن الطريق المحسوس.
والعنيد العادل عن الطريق في الحكم؛ وكلاهما من عند وأصل معناه على ما قيل: اعتزل في جانب لأن العند بالتحريك الجانب يقال: يمشي وسطًا لا عندًا، ومنه عند الظرفية، ويقال للناحية أيضًا: العند مثلثة، وهذا الحكم ليس كالحكمين السابقين من جحود الآيات وعصيان الرسل في الشمول لكل فرد فرد منهم فإن اتباع الأمر من أحكام الأسافل دون الرؤساء.
وقيل: هو مثل ذلك في الشمول، والمراد بالأمر الشأن وبكل جبار عنيد من هذه صفته من الناس لا أناس مخصوصون من عاد متصفون بذلك، والمراد باتباع الأمر ملازمته أو الرضا به على أتم وجه، ويؤول ذلك إلى الاتصاف أي إن كلًا منهم اتصف بصفة كل جبار عنيد، ولا يخفى ما فيه من التكلف الظاهر، وقد يدعي العموم من غير حاجة إلى ارتكاب مثله، والمراد على ما تقدم أنهم عصوا من دعاهم إلى سبيل الهدى وأطاعوا من حداهم إلى مهاوي الردى.
{وَأُتْبِعُواْ في هذه الدنيا لَعْنَةً} أي إبعادًا عن الرحمة وعن كل خير أي جعلت اللعنة لازمة لهم، وعبر عن ذلك بالتبعية للمبالغة فكأنها لا تفارقهم وإن ذهبوا كل مذهب بل تدور معهم حسبما داروا، أو لوقوعه في صحبة اتباعهم، وقيل: الكلام على التمثيل بجعل اللعنة كشخص تبع آخر ليدفعه في هوة قدامه، وضمير الجمع لعاد مطلقًا كما هو الظاهر.
وجوز أن يكون للمتبعين للجبارين منهم، وما حال قوم قدامهم الجبارون أهل النار وخلفهم اللعنة والبوار، ويعلم من لعنة هؤلاء لعنة غيرهم المتبوعين على ما قيل بالطريق الأولى: {وَيَوْمَ القيامة} أي واتبعوا يوم القيامة أيضًا لعنة وهي عذاب النار المخلد حذف ذلك لدلالة الأول عليه وللإيذان بأن كلًا من اللعنين نوع برأسه لم يجتمعا في قرن واحد بأن يقال: وأتبعوا في هذه الدنيا ويوم القيامة لعنة، ونظير هذا قوله تعالى: {واكتب لَنَا في هذه الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة} [الأعراف: 156] وعبر بيوم القيامة بدل الآخرة هنا للتهويل الذي يقتضيه المقام.
{أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ} أي بربهم، أو كفروا نعمته ولم يشكروها بالإيمان، أو جحدوه.
{أَلاَ بُعْدًا لّعَادٍ} دعاء عليهم بالهلاك مع أنهم هالكون أيّ هلاك تسجيلًا عليهم باستحقاق ذلك والاستئهال له، ويقال في الدعاء بالبقاء واستحقاقه: لا يبعد فلان، وهو في كلام العرب كثير، ومنه قوله:
لا يبعدن قومي الذين هم ** سم العداة وآفة الجزر

وجوز أن يكون دعاء باللعن كما في القاموس: البعد، والبعاد اللعن، واللام للبيان كما في قولهم: سقيًا لك، وقيل: للاستحقاق وليس بذاك، وتكرير حرف التنبيه وإعادة عاد للمبالغة في تفظيع حالهم والحث على الاعتبار بقصتهم، وقوله سبحانه: {قَوْمِ هُودٍ} عطف بيان على: {عَادٍ} وفائدته الإشارة إلى أن عادًا كانوا فريقين: عادًا الأولى. وعادًا الثانية، وهي عاد إرم في قول، وذكر الزمخشري في الفجر أن عقب عاد بن عوض ابن إرم بن سام بن نوح قيل لهم: عاد كما يقال لبني هاشم: هاشم، ثم قيل: للأولين منهم عاد الأولى وإرم تسمية لهم باسم جدهم، ولمن بعدهم عاد الأخيرة، وأنشد لابن الرقيات:
مجدًا تليدًا بناه أوله ** أدرك عادًا وقبلها إرمًا

ولعله الأوفق للنقل مع الإيماء إلى أن استحقاقهم للبعد بسبب ما جرى بينهم وبين هود عليه السلام وهم قومه، وليس ذلك لدفع اللبس إذ لا لبس في أن عادًا هذه ليست إلا قوم هود عليه السلام للتصريح باسمه وتكريره في القصة، وقيل: ذكر ليفيد مزيد تأكيد بالتنصيص عليهم مع ما في ذلك من تناسب فواصل الآي. اهـ.

.قال صاحب روح البيان:

{وَلَمِّا جَاءَ أَمْرُنَا} أي: عذابنا فيكون واحد الأمور أو أمرنا بالعذاب فيكون مصدر أمر.
{نجينا هودًا والذين آمنوا معه} وكانوا أربعة آلاف برحمة عظيمة كائنة منا أي: نجيناهم بمجرد رحمة وفضل لا بأعمالهم لأنه لا ينجوا أحد وإن اجتهد في الأعمال والعمل الصالح إلا برحمة الله تعالى كما هو مذهب أهل السنة ونجيناهم من عذاب غليظ شديد، وهو تكرير لبيان ما نجيناهم منه أي: كانت تلك التنجية تنجية من عذاب غليظ وهي السموم التي كانت تدخل أنوف الكفرة وتخرج من أدبارهم فتقطعهم أربًا أربًا وقد سبق تفصيل القصة في سورة الأعراف فارجع إليها.
وفيه إشارة إلى أن العذاب نوعان خفيف وغليظ، فالخفيف، هو عذاب الشقاوة المقدرة قبل خلق الخلق، والغليظ: هو عذاب الشقي بشقاوة معاملات الأشقياء التي تجري عليه مع شقاوته المقدرة له قبل الوجود كما في التأويلات النجمية روى أن الله تعالى لما أهلك عادًا ونجى هودًا والمؤمنين معه أتوا مكة وعبدوا الله تعالى فيها حتى ماتوا.
قال في إنسان العيون: كل نبي من الأنبياء كان إذا كذبه قومه خرج من بين أظهرهم وأتى مكة يعبد الله تعالى حتى يموت وجاء ما بين الركن اليماني والركن الأسود روضة من رياض الجنة وإن قبر هود وشعيب وصالح وإسماعيل عليهم السلام في تلك البقعة وتلك القبيلة يا قوم محمد عاد قال العلامة الطيبي: كأنه تعالى أذن بتصوير تلك القبيلة في الذهن ثم أشار إليها وجعلها خبرًا للمبتدأ لمزيد الإبهام فيحسن التفسير بقوله جحدوا بآيات ربهم كل الحسن لمزيد الإجمال والتفصيل انتهى.
ويجوز أن تكون إشارة إلى قبورهم وآثارهم كأنه تعالى قال: سيروا في الأرض فانظروا إليها واعتبروا ففي الكلام مجاز حذف إما قبل المبتدأ أي: أصحاب تلك وإما قبل الخبر أي: قبور عاد كفروا بآيات ربهم بعد ما استيقنوها يعني: أنهم كانوا يعرفون أنها حق لكنهم جحدوها كما يجحد المودع الوديعة ويستمر على جحوده ولا يرعوي وعصوا رسله لأنهم عصوا رسولهم ومن عصى رسوله فقد عصى الكل لاتفاق كلمتهم على التوحيد وأصول الشرائع.
قيل لم يرسل إليهم إلا هود وحده وهذا الجحود والعصيان شامل لكل فرد منهم أي: لرؤسائهم وأسافلهم.
واتبعوا أي: الأسافل أمر كل جبار.
قال في التبيان: الجبار المتعظم في نفسه المتكبر على العباد، والعنيد الذي لا يقول الحق ولا يقبله.
وقال القاضي: أي: من كبرائهم الطاغين.
قال سعدي المفتي: أشار إلى أن الجبار بمعنى المتكبر فإنه يأتي بمعنى المتكبر الذي لا يرى لأحد عليه حقًا ويقال: عند إذا طغى، والمعنى عصوا من دعاهم إلى الإيمان وما ينجيهم وأطاعوا من دعاهم إلى الكفر وما يرديهم واتبعوا أي: التابعون والرؤساء في هذه الدنيا لعنة أي: إبعادًا عن الرحمة وعن كل خير، أي: جعلت تابعة لهم ولازمة تكبهم في العذاب كمن يأتي خلف شخص فيدفعه من خلف فيكبه، وإنما عبر عن لزوم اللعنة لهم بالتبعية للمبالغة فكأنها لا تفارقهم وإن ذهبوا كل مذهب بل تدور معهم حيثما داروا ولوقوعه في صحبة اتباعهم رؤساءهم، يعني: أنهم لما اتبعوا اتبعوا ذلك جزاء لصنيعهم جزاء وفاقًا.
ويوم القيمة أي: اتبعوا في يوم القيامة أيضًا لعنة وهي عذاب النار المخلد حذفت لدلالة الأولى عليها.
ألا إن عادا كفروا ربهم جحدوه كأنهم كانوا من الدهرية وهم الذين يرون محسوسًا ولا يرون معقولًا وينسبون كل حادث إلى الدهر.
قال في الكواشي: كفر يستعمل متعديًا ولازمًا كشكرته وشكرت له ألا بعدًا لعاد (بدانيدكه دوريست مر عاديا نرا يعني: ازرحمت دورند) كما قال في التبيان: أبعدهم الله فبعدوا بعدًا.
قوم هود عطف بيان لعاد لأن عادا عادان عاد هود القديمة وعاد إرم الحديثة، وإنما كرر ألا ودعاءه عليهم وأعاد ذكرهم تهويلًا لأمرهم وتفظيعًا له وحثًا على الاعتبار بهم والحذر من مثل حالهم.