فصل: قال الثعلبي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82].
ونحن نلحظ هنا أن الحق سبحانه يذكر في نفس الآية الكريمة نجاتين:
النجاة الأولى: من العذاب الجامع؛ الريح الصرصر؛ من الصيحة؛ من الطاغية، يقول سبحانه: {نَجَّيْنَا هُودًا والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود: 58].
والنجاة الثانية: هي نجاة من عذاب الآخرة الغليظ، فعذاب الدنيا رغم قسوته، إلا أنه موقوت بعمر الدنيا.
أما عذاب الآخرة فهو عذاب بلا نهاية، ووصفه الحق سبحانه بالغلظة.
وغلظ الشيء يعطي له القوة والمتانة، وهو عذاب غليظ على قدر ما يستوعب الحكم.
ولذلك حينما يُملِّك الحقُّ سبحانه رجلًا بُضْع امرأة بعقد الزواج، ويصف ذلك بالميثاق الغليظ، والنفعية هنا متصلة بالعفة والعِرْض، ولم يُملِّك الرجل النفعية المطلقة من المرأة التي يتزوجها؛ فالزوج يُمكَّن من عورة زوجته بعقد الزواج.
يقول الحق سبحانه: {وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 21].
وكانت نجاة هود عليه السلام والمؤمنين معه من العذاب الأول مقدمة للنجاة من العذاب الغليظ.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ}
و{تلك} إشارة إلى المكان الذي عاش فيه قوم عاد؛ لأن الإشارة هنا لمؤنث، ولنتذكر أن المتكلم هنا هو الله سبحانه وتعالى.
وهكذا فصل بين {عاد} المكان، و{عاد} المكين، وهم قوم عاد؛ لذلك قال سبحانه: {جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} [هود: 59] فهم قد ذهبوا وبقيت آثارهم.
و{عاد} إما أن تطلق على المكان والمحل، وإما أن تطلق على الذوات التي عاشت في المكان، فإذا أشار سبحانه ب: {تِلْكَ} فهي إشارة إلى الديار، والديار لم تجحد بآيات الله؛ ولذلك جاء بعدها بقوله تعالى: {جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} [هود: 59].
والجحود هو النكران مع قوة الحجة والبرهان.
والآيات كما نعلم جمع آية، وهي الأمور العجيبة الملفتة للنظر التفاتًا يوحي بإيمان بما تنص عليه.
ومن الآيات ما يدل على قمة العقيدة، وهو الإيمان بواجب الوجود؛ بالله الرب الخالق الحكيم القادر سبحانه وتعالى، مثل آيات الليل والنهار والشمس والقمر، ورؤية الأرض خاشعة إلى آخر تلك الآيات التي في القمة.
وكذلك هناك آيات أخرى تأتي مصدقة لمن يخبر أنه جاء رسولًا من عند الله تعالى، وهي المعجزات.
وآيات أخرى فيها الأحكام التي يريدها الله سبحانه بمنهجه لضمان صحة حركة الحياة في خلقه.
وقوم عاد جحدوا بكل هذه الآيات؛ جحدوا الإيمان، وجحدوا تصديق الرسول بالمعجزة، وأهملوا وتركوا منهج الله جحودًا بإعراض.
لذلك يقول الحق سبحانه: {وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ} [هود: 59].
وهود عليه السلام هو الذي أرسله الحق سبحانه إلى قوم عاد، فهل هو المعنيُّ بالعصيان هنا؟
نقول: لا؛ لأن الله عز وجل قال: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81].
إذن: فكل أمة من الأمم عندها بلاغ من رسولها بأن تصدق أخبار كل رسول يُرسَل.
ولذلك قال الحق سبحانه: {كُلٌّ آمَنَ بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} [البقرة: 285].
فهم قد انقسموا إلى قسمين؛ لأن الحق سبحانه يقول: {وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ واتبعوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [هود: 59].
أي: أن هناك مُتَّبِعًا، ومُتَّبَعًا.
والمقصود بالجبار العنيد هم قمم المجتمع، سادة الطغيان والصنف الثاني هم من اتبعوا الجبابرة.
ومن رحمته سبحانه أنه حين يتكلم عن الفِرَق الضالة، فهو يتكلم أيضًا عن الفرق المضلة، فهناك ضالٌّ في ذاته، وهناك مُضِلٌّ لغيره.
والمضل لغيره عليه وزران: وزر ضلالة في ذاته، ووزر إضلال غيره.
أما الذين اتَّبعوا فلهم بعض العذر؛ لأنهم اتَّبعوا بالجبروت والقهر، لا بالإقناع والبينة.
وانظر إلى القرآن الكريم حين يعالج هذه القضية، فيتحدث عن الفئة التي ضلت في ذاتها ويقول: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} [البقرة: 78].
ويتحدث الحق سبحانه بعد ذلك عن الفئة المضلة فيقول: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة: 79].
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَأُتْبِعُواْ فِي هذه الدنيا لَعْنَةً}
والزمان بالنسبة للخلق ثلاثة أقسام: حياتهم زمن أول، ومن لحظة الموت إلى أن تقوم الساعة زمن ثان وهو زمن البرزخ، وساعة يبعثون هي الزمن الثالث.
والحياة الأولى فيها العمل، وحياة البرزخ فيها عرض الجزاء، مجرد العرض، والحياة الثالثة هي الآخرة إما إلى الجنة وإما إلى النار.
يقول الحق سبحانه: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28].
هذه هي الأزمنة الثلاثة حياة، وبرزخ، وبعث وكل وقت منها له ظرف.
ويعبر القرآن عن هذا، فيقول عن عذاب آل فرعون منذ أن أغرقهم الله سبحانه في البحر: {النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب} [غافر: 46].
وفي هذا دليل على عرض الجزاء في البرزخ مصداقًا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار».
إذن: فهنا زمنان: زمن عرضهم على النار غدوًّا وعشيًّا، وزمن دخولهم النار.
وهذا يثبت عذاب البرزخ؛ لأن الإنسان الكافر يرى فيه موقعه من النار، ويرى نصيبه من العذاب، ثم تقوم الساعة ليأخذ نصيبه من العذاب.
وبالنسبة لقوم عاد، أذاقهم الله سبحانه العذاب في الدنيا، ثم يدخلهم النار يوم القيامة.
ويقول الحق سبحانه في نفس الآية: {ألا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود: 60].
وكلمة {ألا} هي أداة تنبيه كما قلنا من قبل تنبه السامع إلى أهمية ما يلقيه المتكلم حتى لا يجابه السامع بالكلام وهو غافل، ولأن المتكلم هو الذي يقود زمام الكلام، فيجب ألا يستقبله السامع غافلًا، فتأتي كلمة {ألا} كجرس ينبه إلى ما بعدها من كلام.
والكلام عن قوم عاد الذين نالوا عذابًا في الدنيا بالريح العقيم، ثم أتبعوا لعنة من البرزخ، وسوف يُستقبلون يوم القيامة باللعنات؛ فهذه لعنات ثلاث.
وجاء الحق سبحانه وتعالى بحيثية هذه اللعنات مخافة أن يرى قلب السامع من كثرة ما يقع عليهم من لعن، فبيَّن بكلمة {ألا} أي: تنبهوا إلى أن قوم عاد كفروا ربهم.
وللجريمة زمن، وللعقوبة عليها زمن، وكفرهم بربهم حدث في الدنيا، وهو كفر في القمة؛ لذلك نالوا عقابًا في الدنيا.
والخطر كل الخطر أن يتأخر زمن العقوبة عن زمن الجريمة، فلا تأخذكم بهم الرحمة الحمقاء، لأن كفرهم هو الكفر بالقمة العقدية؛ لذلك تواصل لعنهم في البرزخ، ثم تأتي لهم لعنة الآخرة.
وهم لم يكفروا بنعمة ربهم، بل كفروا بربهم.
والحق سبحانه لم يطلب من أحد عبادته قبل سن التكليف، وقدم لهم كما يقدم لكل الخلق نعمه التي لا تعد ولا تحصى؛ ولذلك فهم يستحقون اللعنات وهي الجزاء العادل.
وقد أوضح لهم هود عليه السلام: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [هود: 56].
أي: أن الحق سبحانه عادل.
وأنت حين تسمع جريمتهم؛ تنفعل وتطلب أقصى العقاب لهم؛ ولذلك يأتي قول الحق سبحانه: {ألا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود: 60].
فأنت لا تكتفي بلعنتهم الأولى، بل تلعنهم مرة أخرى.
ولسائل أن يقول: ولماذا يقول الحق سبحانه هنا: {أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود: 60].
ونقول: لقد قال الحق سبحانه وتعالى في موضع آخر من القرآن: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأولى} [النجم: 50].
وهذا يوضح لنا أن {عادًا} كانت اثنتين: عادًا الأولى، وهم قوم عاشوا وضَلُّوا فأهلكهم الله، وهناك عاد الثانية. اهـ.

.قال الثعلبي في الآيات السابقة:

{وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي}
وقد وعدتني أن تنجيني وأهلي: {وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق} أي الصدق: {وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين} أي تحكم على قوم بالنجاة وعلى قوم بالهلاك.
{قَالَ يا نوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} وقرأ أهل الكوفة {عَمِلَ} بكسر الميم وفتح اللام، غير بنصب الراء على الفعل ومعناه: إنه عمل الشرك والكفر، وقرأ الباقون عَملٌ بفتح الميم وضمّ اللام وتنوين غير بالرفع ومعناه: إنّ سؤالك إياي أن أنجيه عملٌ غيرُ صالح.
{فَلاَ تَسْئَلْنِ} يا نوح: {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} بما لا تعلم وقرأ ابن كثير بتشديد النون وفتحه، وقرأ أهل المدينة والشام بتشديد النون وكسره.
{إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين} واختلفوا في هذا الابن فقال بعضهم: إنه لم يكن ابن نوح، ثم اختلفوا فيه، فقال بعضهم: كان ولد خبث من غيره، ولم يعلم بذلك نوح، فقال الله تعالى: {إنه ليس من أهلك} أي من ولدك، وهو قول مجاهد والحسن، وقال قتادة: سألت الحسن عنه فقال: والله ما كان بابنه، وقرأ: {فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم: 10] فقال: إن الله حكى عنه إنه قال: إن ابني من أهلي، وقال: ونادى نوح ابنه وأنت تقول: لم يكن ابنه، وإن أهل الكتابين لا يختلفون في انه كان ابنه. فقال الحسن: ومن يأخذ دينه من أهل الكتاب، إنهم يكذبون.
وقال ابن جريج: ناداه وهو يحسب أنه ابنه، وكان ولدَ على فراشه، وقال عبيد بن عمير، نرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قضى أن الولد للفراش من أجل ابن نوح، وقال بعضهم: إنه كان ابن امرأته واستدلّوا بقول نوح: إن ابني من أهلي ولم يقل: منّي، وهو قول أبي جعفر الباقر.
وقال الآخرون: كان ابنه ومن فصيلته، ومعنى قوله: إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم، وقالوا: ما بغت امرأته ولا امرأة لوط وإنما كانت خيانتهما في الدين لا في الفراش، وذلك أن هذه كانت تخبر الناس أنه مجنون، وهذه كانت تدلّ على الأضياف، وهو قول ابن عباس وعكرمة والضحاك وسعيد بن جبير وميمون بن مهران.
قال أبو معاوية البجلي: قال رجل لسعيد بن جبير: قال نوح إن ابني من أهلي، أكان ابن نوح؟ فسبّح طويلا، وقال: لا إله إلاّ الله يحدث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم انه ابنه وتقول ليس ابنه، كان ابنه ولكنه كان مخالفًا في النية والعمل والدين، فمن ثم قال تعالى: {إنه ليس من أهلك}، وهذا القول أولى بالصواب وأليق بظاهر الكتاب.
فقال نوح عليه السلام عند ذلك: {رَبِّ إني أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وترحمني أَكُن مِّنَ الخاسرين قِيلَ يا نوح اهبط} انزل من السفينة إلى الأرض: {بِسَلاَمٍ} بأمن وسلامة: {مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ} وهم الذين كانوا معه في السفينة.
وقال أكثر المفسّرين: معناه وعلى قرون تجيء من ذريّة من معك من الذين آمنوا معك من ولدك، وهم المؤمنون وأهل السعادة من ذريته: {وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ} في الدنيا: {ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا} في الآخرة: {عَذَابٌ أَلِيمٌ} وهم الكافرون وأهل الشقاوة. وقال محمد بن كعب القرضي: داخل في ذلك السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة، وكذلك داخل في ذلك العذاب والمتاع كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة.
قال الضحاك: زعم أُناس إن من غرق من الولدان مع آبائهمن وإنّما ليس كذلك وإنّما الولدان بمنزلة الطير، وسائر من أغرق الله يعود لابنه ولكن حضرت آجالهم فماتوا لآجالهم والمذكورين من الرجال والنساء ممّن كان الغرق عقوبة من الله لهم في الدنيا ثم مصيرهم إلى النار.
{تِلْكَ} الذي ذكرت: {مِنْ أَنْبَاءِ الغيب نُوحِيهَا إِلَيْكَ} يا محمد: {وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هذا} من قبل إخباري إياك: {فاصبر} على القيام بأمر الله وتبليغ رسالته وما تلقى من أذى الكفار كما صبر نوح: {إِنَّ العاقبة} آخر الأمر بالسعادة والظفر والمغفرة: {لِلْمُتَّقِينَ} كما كان لمؤمني قوم نوح وسائر الأمم.
{وإلى عَادٍ} أي فأرسلنا إلى عاد: {أَخَاهُمْ هُودًا} في النسب لا في الدين: {قَالَ ياقوم اعبدوا الله} وحّدوا الله وأكثروا العبادة في القرآن بمعنى التوحيد: {مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ} ما أنتم في إشراككم معه الأوثان إلاّ كاذبون.
{ياقوم لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} على تبليغ الرسالة ولا أبتغي جعلا: {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الذي فطرني} والفطرة ابتداء الخلقة: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} وذلك أن الأمم قالت للرسل: ما تريدون إلاّ أن تأخذوا أموالنا فقالت الرسل لهم هذا.
{وياقوم استغفروا رَبَّكُمْ} أي آمنوا به يغفر لكم، والإستغفار هنا بمعنى الإيمان: {ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ} من عبادتكم غيره وسالف ذنوبكم، وقال الفرّاء: معناه وتوبوا إليه لأن التوبة استغفار والاستغفار توبة.
{يُرْسِلِ السماء عَلَيْكُمْ مِّدْرَارًا} متتابعًا، وقال مقاتل بن حيان وخزيمة بن كيسان: غزيرًا كثيرًا.
{وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ} شدّة مع شدّتكم، وذلك أن الله حبس عنهم القطر في سنين وأعقم أرحام نسائهم ثلاث سنين فقال لهم هود: إن آمنتم أحيا الله بلادكم ورزقكم المال والولد.
{وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ} ولا تدبروا مشركين: {قَالُواْ ياهود مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} بيان وبرهان على ما تقول فنقر ونسلّم لك: {وَمَا نَحْنُ بتاركي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ} أي بقولك، والعرب تضع الباء موضع عن، وعن موضع الباء.
{وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} بمصدّقين: {إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ آلِهَتِنَا بسوء} يعني لست تتعاطى ما تتعاطاه من مخالفتنا وسبّ آلهتنا إلاّ أن بعض آلهتنا اعتراك وأصابك بسوء، بل جنون، وهذيان، هو الذي يحملك على ما تقول وتفعل، ولا نقول فيك إلاّ هذا ولا نحمل أمرك إلاّ على هذا، فقال لهم هود: {إني أُشْهِدُ الله} على نفسي: {واشهدوا أَنِّي بريء مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ} يعني الأوثان: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا} فاحتالوا جميعًا في ضرّي ومكري أنتم وأوثانكم: {ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا}.
قال الضحاك: يحييها ويميتها، قال الفرّاء: مالكها والقادر عليها، قال القتيبي: يقهرها لأن من أخذت بناصيته فقد قهرته، قال ابن جرير: إنما خصّ الناصية لأن العرب تستعمل ذلك إذا وصفت إنسانًا بالذلة والخضوع فيقولون: ما ناصية فلان إلاّ بيد فلان أي إنه مطيع له يصرفه كيف شاء، وكانوا إذا أسروا الأسير فأرادوا اطلاقه والمنّ عليه جزوا (ناصيته) ليغتروا بذلك فخرًا عليه، فخاطبهم بما يعرفون في كلامهم.
{إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} يقول: إنّ ربي على طريق الحق يجازي المحسن بإحسانه والمسيء بمعصيته ولا يظلم أحدًا غيًّا ولا يقبل إلاّ الإسلام، والقول فيه إضمار أنيّ: إنّ ربي يدلّ أو يحثّ أو يحملكم على صراط مستقيم.
{فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ} أي قل يا محمد: فقد أبلغتكم: {مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ} يوحّدونه ويعبدونه: {وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئًا} بتولّيكم وإعراضكم وإنما تضرون أنفسكم، وقيل: معناها لا تقدرون له على خير إن أراد أن يضلكم، وقرأ عبدالله: ولا يضره هلاككم إذا أهلككم ولا تنقصونه شيئًا، لأنه سواء عنده كنتم أو لم تكونوا.
{إِنَّ رَبِّي على كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} أي لكل شيء حافظ، على بمعنى اللام، فهو يحفظني من أن تنالوني بسوء.
{وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} عذابنا: {نَجَّيْنَا هُودًا والذين آمَنُواْ مَعَهُ} وكانوا أربعة آلاف: {بِرَحْمَةٍ} بنعمة: {مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} وقيل: الريح، قيل: أراد بالعذاب الغليظ عذاب القيامة أي كما نجّيناهم في الدنيا من العذاب كذلك نجّيناهم في الآخرة من العذاب.
{وَتِلْكَ عَادٌ} رده إلى القبيلة: {جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ} يعني هودًا وحده لأنه لم يُرسل إليهم من الرسل سوى هود، ونظيره قوله تعالى: {يا أيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات} [المؤمنون: 51] يعني النبي صلى الله عليه وسلم وإنه لم يكن في عصره رسول سواه، وإنما جمع هاهنا لأن من كذّب رسولا واحدًا فقد كذّب جميع الرسل.
{واتبعوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} متكبّر لا يقبل الحق ولا يذعن له، قال أبو عبيد: العنيد والعنود والعاند والمعاند: المعارض لك بالخلاف، ومنه قيل للعرق الذي يفجر دمًا فلا يرقى: عاند قال الراجز:
إنّي كبيرٌ لا أطيقُ العندا

{وَأُتْبِعُواْ} ألحقوا وأردفوا: {فِي هذه الدنيا لَعْنَةً} يعني بعدًا وعذابًا وهلاكًا: {وَيَوْمَ القيامة} أي وفي يوم القيامة أيضًا كذلك لعنوا في الدنيا والآخرة: {ألا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ} أي بربهم، كما يقال: شكرته وشكرت له، وكفرته وكفرت به ونصحته ونصحت له، قيل بمعنى: كفروا نعمة ربهم.
{أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} البُعد بعدان: أحدهما البُعد ضد القرب، يقال: بعد يبعد بُعدًا، والآخر بمعنى الهلاك ويقال منه: بَعد يَبعد بَعدًا وبُعْدًا. اهـ.