فصل: قال الزمخشري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الزمخشري:

{وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45)}
نداؤه ربه: دعاؤه له، وهو قوله رَبِّ مع ما بعده من اقتضاء وعده في تنجية أهله. فإن قلت: فإذا كان النداء هو قوله رَبِّ فكيف عطف فَقالَ رَبِّ على نادى بالفاء؟
قلت: أريد بالنداء إرادة النداء، ولو أريد النداء نفسه لجاء، كما جاء قوله: {إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا قالَ رَبِّ} بغير فاء {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} أي بعض أهلى، لأنه كان ابنه من صلبه، أو كان ربيبا له فهو بعض أهله {وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} وأن كل وعد تعده فهو الحق الثابت الذي لا شك في إنجازه والوفاء به، وقد وعدتني أن تنجي أهلى، فما بال ولدى؟ {وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ} أي أعلم الحكام وأعدلهم، لأنه لا فضل لحاكم على غيره إلا بالعلم والعدل. ورب غريق في الجهل والجور من متقلدي الحكومة في زمانك قد لقب أقضى القضاة، ومعناه أحكم الحاكمين فاعتبر واستعبر. ويجوز أن يكون من الحكمة، على أن يبنى من الحكمة حاكم بمعنى النسبة كما قيل دارع من الدرع، وحائض وطالق على مذهب الخليل إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ تعليل لانتفاء كونه من أهله. وفيه إيذان بأن قرابة الدين غامرة لقرابة النسب، وأنّ نسيبك في دينك ومعتقدك من الأباعد في المنصب وإن كان حبشيًا وكنت قرشيًا لصيقك وخصيصك. ومن لم يكن على دينك- وإن كان أمس أقاربك رحمًا- فهو أبعد بعيد منك، وجعلت ذاته عملا غير صالح، مبالغة في ذمّه، كقولها:
فَإنَّمَا هِىَ إقْبَالٌ وَإدْبَارُ

وقيل: الضمير لنداء نوح، أي: إنّ نداءك هذا عمل غير صالح وليس بذاك- فإن قلت: فهلا قيل: إنه عمل فاسد؟ قلت: لما نفاه عن أهله، نفى عنه صفتهم بكلمة النفي التي يستبقى معها لفظ المنفي، وآذن بذلك أنه إنما أنجى من أنجى من أهله لصلاحهم، لا لأنهم أهلك وأقاربك. وإنّ هذا لما انتفى عنه الصلاح لم تنفعه أبوّتك، كقوله: {كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} وقرئ: {عمل غير صالح} أي عمل عملا غير صالح. وقرئ: {فلا تسئلنّ}، بكسر النون بغير ياء الإضافة وبالنون الثقيلة بياء وبغير ياء، يعنى فلا تلتمس منى ملتمسًا أو التماسًا لا تعلم أصواب هو أم غير صواب، حتى تقف على كنهه. وذكر المسألة ولهذا المعنى واللّه أعلم قيل له عليه الصلاة والسلام: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} وإن كان مأمورًا بالإنذار على العموم، ولكن لما كانت أهلية النبي عليه الصلاة والسلام مظنة الاتكال والفتور عن العمل، خص أهله بالإنذار إيذانا بذلك، واللّه أعلم. ولهذا لما نزلت أنذرهم النبي صلى اللّه عليه وسلم وقال: إنى لا أملك لكم من اللّه شيئًا، أو قال ذلك ولكل واحد منهم بخصوصه.
دليل على أنّ النداء كان قبل أن يغرق حين خاف عليه. فإن قلت: لم سمى نداؤه سؤالا ولا سؤال فيه؟ قلت: قد تضمن دعاؤه معنى السؤال وإن لم يصرح به، لأنه إذا ذكر الموعد بنجاة أهله في وقت مشارفة ولده الغرق فقد استنجز. وجعل سؤال ما لا يعرف كنهه جهلا وغباوة، ووعظه أن لا يعود إليه وإلى أمثاله من أفعال الجاهلين. فإن قلت: قد وعده أن ينجى أهله، وما كان عنده أن ابنه ليس منهم دينًا، فلما أشفى على الغرق تشابه عليه الأمر، لأن العدة قد سبقت له وقد عرف اللّه حكيما لا يجوز عليه فعل القبيح وخلف الميعاد، فطلب إماطة الشبهة وطلبُ إماطة الشبهة واجب، فلم زجر وسمى سؤاله جهلا؟ قلت: إن اللّه عز وعلا قدّم له الوعد بإنجاء أهله مع استثناء من سبق عليه القول منهم، فكان عليه أن يعتقد أن في جملة أهله من هو مستوجب للعذاب لكونه غير صالح، وأن كلهم ليسوا بناجين، وأن لا تخالجه شبهة حين شارف ولده الغرق في أنه من المستثنين لا من المستثنى منهم، فعوتب على أن اشتبه عليه ما يجب أن لا يشتبه.

.[سورة هود: آية 47]

{قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47)}
{أَنْ أَسْئَلَكَ} من أن أطلب منك في المستقبل ما لا علم لي بصحته، تأدبًا بأدبك واتعاظًا بموعظتك {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي} ما فرط منى من ذلك {وَتَرْحَمْنِي} بالتوبة علىّ {أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ} أعمالا.

.[سورة هود: آية 48]

{قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48)}
وقرئ: {يا نوح اهبط}، بضم الباء بِسَلامٍ مِنَّا مسلمًا محفوظًا من جهتنا أو مسلمًا عليك مكرّمًا {وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ} ومباركا عليك، والبركات الخيرات النامية. وقرئ: وبركة، على التوحيد {وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} يحتمل أن تكون من للبيان. فيراد الأمم الذين كانوا معه في السفينة، لأنهم كانوا جماعات. أو قيل لهم أمم، لأنّ الأمم تتشعب منهم، وأن تكون لإبداء الغاية أي: على أمم ناشئة ممن معك، وهي الأمم إلى آخر الدهر وهو الوجه. وقوله وَأُمَمٌ رفع بالابتداء. و{سَنُمَتِّعُهُمْ} صفة، والخبر محذوف تقديره: وممن معك أمم سنمتعهم، وإنما حذف لأنّ قوله: {مِمَّنْ مَعَكَ} يدل عليه. والمعنى: أنّ السلام منا والبركات عليك وعلى أمم مؤمنين ينشئون ممن معك، وممن معك أمم ممتعون بالدنيا منقلبون إلى النار، وكان نوح عليه السلام أبا الأنبياء، والخلق بعد الطوفان منه وممن كان معه في السفينة. وعن كعب بن محمد القرظي: دخل في ذلك السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة، وفيما بعده من المتاع والعذاب كل كافر.
وعن ابن زيد: هبطوا واللّه عنهم راض ثم أخرج منهم نسلا، منهم من رحم ومنهم من عذب.
وقيل: المراد بالأمم الممتعة: قوم هود وصالح ولوط وشعيب.

.[سورة هود: آية 49]

{تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)}
{تِلْكَ} إشارة إلى قصة نوح عليه السلام. ومحلها الرفع على الابتداء، والجمل بعدها أخبار، أي تلك القصة بعض أنباء الغيب موحاة إليك، مجهولة عندك وعند قومك {مِنْ قَبْلِ هذا} من قبل إيحائى إليك وإخبارك بها. أو من قبل هذا العلم الذي كسبته بالوحي. أو من قبل هذا الوقت {فَاصْبِرْ} على تبليغ الرسالة وأذى قومك، كما صبر نوح وتوقع في العاقبة لك ولمن كذبك نحو ما قيض لنوح ولقومه {إِنَّ الْعاقِبَةَ} في الفوز والنصر والغلبة {لِلْمُتَّقِينَ}. وقوله: {وَلا قَوْمُكَ} معناه: إنّ قومك الذين أنت منهم على كثرتهم ووفور عددهم إذا لم يكن ذلك شأنهم ولا سمعوه ولا عرفوه، فكيف برجل منهم كما تقول لم يعرف هذا عبد اللّه ولا أهل بلده.

.[سورة هود: الآيات 50- 52]

{وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُودًا قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْرارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)}
{أَخاهُمْ} واحدًا منهم، وانتصابه للعطف على أرسلنا نوحا. و{هُودًا} عطف بيان. و{غَيْرُهُ} بالرفع: صفة على محل الجار والمجرور. وقرئ: غيره، بالجرّ صفة على اللفظ {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ} تفترون على اللّه الكذب باتخاذكم الأوثان له شركاء. ما من رسول إلا واجه قومه بهذا القول، لأنّ شأنهم النصيحة، والنصيحة لا يمحصها ولا يمحضها إلا حسم المطامع، وما دام يتوهم شيء منها لم تنجع ولم تنفع {أَفَلا تَعْقِلُونَ} إذ تردّون نصيحة من لا يطلب عليها أجرًا إلا من اللّه. وهو ثواب الآخرة، ولا شيء أنفى للتهمة من ذلك، قيل {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} آمنوا به {ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} من عبادة غيره، لأن التوبة لا تصلح إلا بعد الإيمان، والمدرار: الكثير الدرور، كالمغزار. وإنما قصد استمالتهم إلى الإيمان وترغيبهم فيه بكثرة المطر وزيادة القوّة، لأنّ القوم كانوا أصحاب زروع وبساتين وعمارات، حرّاصًا عليها أشد الحرص، فكانوا أحوج شيء إلى الماء. وكانوا مدلين بما أوتوا من شدّة القوّة والبطش والبأس والنجدة، مستحرزين بها من العدوّ، مهيبين في كل ناحية. وقيل: أراد القوّة في المال.
وقيل: القوّة على النكاح وقيل: حبس عنهم القطر ثلاث سنين وعقمت أرحام نسائهم. وعن الحسن بن علىّ رضي الله عنهما أنه وفد على معاوية، فلما خرج تبعه بعض حجابه فقال: إنى رجل ذو مال ولا يولد لي، فعلمني شيئًا لعلّ اللّه يرزقني ولدًا، فقال: عليك بالاستغفار، فكان يكثر الاستغفار حتى ربما استغفر في يوم واحد سبعمائة مرة، فولد له عشرة بنين، فبلغ ذلك معاوية فقال: هلا سألته ممَّ قال ذلك، فوفد وفدة أخرى، فسأله الرجل فقال: ألم تسمع قول هود عليه السلام: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ} وقول نوح عليه السلام: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ}.
{وَلا تَتَوَلَّوْا} ولا تعرضوا عنى وعما أدعوكم إليه وأُرغبكم فيه {مُجْرِمِينَ} مصرّين على إجرامكم وآثامكم.

.[سورة هود: آية 53]

{قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53)}
{ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ} كذب منهم وجحود، كما قالت قريش لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: لولا أُنزل عليه آية من ربه، مع فوت آياته الحصر {عَنْ قَوْلِكَ} حال من الضمير في تاركي آلهتنا، كأنه قيل: وما نترك آلهتنا صادرين عن قولك {وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} وما يصح من أمثالنا أن يصدقوا مثلك فيما يدعوهم إليه، إقناطًا له من الإجابة.

.[سورة هود: الآيات 54- 55]

{إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55)}
{اعْتَراكَ} مفعول نقول، وإلا لغو. والمعنى: ما نقول إلا قولنا اعتراك بعض آلهتنا بسوء، أي خبلك ومسك بجنون لسبك إياها وصدّك عنها وعداوتك لها. مكافأة لك منها على سوء فعلك بسوء الجزاء، فمن ثم تتكلم بكلام المجانين وتهذى بهذيان المبرسمين. وليس بعجب من أولئك أن يسموا التوبة والاستغفار خبلا وجنونًا وهم عاد أعلام الكفر وأوتاد الشرك. وإنما العجب من قوم من المتظاهرين بالإسلام سمعناهم يسمون التائب من ذنوبه مجنونا والمنيب إلى ربه مخبلا، ولم نجدهم معه على عشر مما كانوا عليه في أيام جاهليته من الموادّة، وما ذاك إلا لعرق من الإلحاد أبى إلا أن ينبض، وضب من الزندقة أراد أن يطلع رأسه.
وقد دلت أجوبتهم المتقدّمة على أنّ القوم كانوا جفاة غلاظ الأكباد، لا يبالون بالبهت ولا يلتفتون إلى النصح. ولا تلين شكيمتهم للرشد. وهذا الأخير دال على جهل مفرط وبله متناه، حيث اعتقدوا في حجارة أنها تنتصر وتنتقم، ولعلهم حين أجازوا العقاب كانوا يجيزون الثواب. من أعظم الآيات أن يواجه بهذا الكلام رجل واحد أمّة عطاشا إلى إراقة دمه. يرمونه عن قوس واحدة، وذلك لثقته بربه وأنه يعصمه منهم، فلا تنشب فيه مخالبهم. ونحو ذلك قال نوح عليه السلام لقومه: {ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ} أكد براءته من آلهتهم وشركهم ووثقها بما جرت به عادة الناس من توثيقهم الأمور بشهادة اللّه وشهادة العباد، فيقول الرجل: اللّه شهيد على أنى لا أفعل كذا، ويقول لقومه: كونوا شهداء على أنى لا أفعله. فإن قلت: هلا قيل: إنى أشهد اللّه وأشهدكم؟ قلت: لأنّ إشهاد اللّه على البراءة من الشرك إشهاد صحيح ثابت في معنى تثبيت التوحيد وشدّ معاقده، وأمّا إشهادهم فما هو إلا تهاون بدينهم ودلالة على قلة المبالاة بهم فحسب، فعدل به عن لفظ الأوّل لاختلاف ما بينهما، وجيء به على لفظ الأمر بالشهادة، كما يقول الرجل لمن يبس الثرى بينه وبينه. اشهد على أنى لا أحبك، تهكما به واستهانة بحاله {مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ} من إشراككم آلهة من دونه، أو مما تشركونه من آلهة من دونه، أي أنتم تجعلونها شركاء له، ولم يجعلها هو شركاء. ولم ينزل بذلك سلطانا {فَكِيدُونِي جَمِيعًا} أنتم وآلهتكم أعجل ما تفعلون، من غير إنظار، فإنى لا أبالى بكم وبكيدكم، ولا أخاف معرّتكم وإن تعاونتم علىّ وأنتم الأقوياء الشداد، فكيف تضرني آلهتكم، وما هي إلا جماد لا تضر ولا تنفع، وكيف تنتقم منى إذا نلت منها وصددت عن عبادتها، بأن تخبلنى وتذهب بعقلي.

.[سورة هود: الآيات 56- 57]

{إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)}
ولما ذكر توكله على اللّه وثقته بحفظه وكلاءته من كيدهم، وصفه بما يوجب التوكل عليه من اشتمال ربوبيته عليه وعليهم، من كون كل دابة في قبضته وملكته وتحت قهره وسلطانه، والأخذ بنواصيها، تمثيل لذلك {إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} يريد أنه على طريق الحق والعدل في ملكه، لا يفوته ظالم، ولا يضيع عنده معتصم به {فَإِنْ تَوَلَّوْا} فإن تتولوا. فإن قلت: الإبلاغ كان قبل التولي، فكيف وقع جزاء للشرط؟ قلت: معناه فإن تتولوا لم أعاتب على تفريط في الإبلاغ، وكنتم محجوجين بأنّ ما أرسالات به إليكم قد بلغكم فأبيتم إلا تكذيب الرسالة وعداوة الرسول {وَيَسْتَخْلِفُ} كلام مستأنف، يريد: ويهلككم اللّه ويجيء بقوم آخرين يخلفونكم في دياركم وأموالكم {وَلا تَضُرُّونَهُ} بتوليكم {شَيْئًا} من ضرر قط، لأنه لا يجوز عليه المضارّ والمنافع، وإنما تضرون أنفسكم. وفي قراءة عبد اللّه: {ويستخلف}، بالجزم.
وكذلك: ولا تضروه، عطفًا على محل {فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ} والمعنى: إن يتولوا يعذرني ويستخلف قومًا غيركم ولا تضروا إلا أنفسكم {عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} أي رقيب عليه مهيمن، فما تخفى عليه أعمالكم ولا يغفل عن مؤاخذتكم. أو من كان رقيبًا على الأشياء كلها حافظًا لها وكانت مفتقرة إلى حفظه من المضارّ، لم يضر مثله مثلكم.

.[سورة هود: آية 58]

{وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58)}
{وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} قيل: كانوا أربعة آلاف. فإن قلت: ما معنى تكرير التنجية؟
قلت: ذكر أولا أنه حين أهلك عدوهم نجاهم ثم قال: {وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ} على معنى: وكانت تلك التنجية من عذاب غليظ، وذلك أنّ اللّه عز وجل بعث عليهم السموم فكانت تدخل في أنوفهم وتخرج من أدبارهم فتقطعهم عضوًا عضوًا. وقيل: أراد بالثانية التنجية من عذاب الآخرة، ولا عذاب أغلظ منه وأشدّ. وقوله: برحمة منا، يريد: بسبب الإيمان الذي أنعمنا عليهم بالتوفيق له.