فصل: قال الخطيب الشربيني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{قَالُواْ يا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيّنَةٍ} بحجة تدل على صحة دعواك وهو لفرط عنادهم وعدم اعتدادهم بما جاءهم من المعجزات: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى ءالِهَتِنَا} بتاركي عبادتهم: {عَن قَوْلِكَ} صادرين عن قولك حال من الضمير في تاركي: {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} إقناط له من الإِجابة والتصديق.
{إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك} ما نقول إلا قولنا: {اعتراك} أي أصابك من عراه يعروه إذا أصابه: {بَعْضُ ءالِهَتِنَا بِسُوء} بجنون لسبك إياها وصدك عنها ومن ذلك تهذي وتتكلم لخرافات، والجملة مقول القول وإلا لغو لأن الاستثناء مفرغ: {قَالَ إِنِى أُشْهِدُ الله واشهدوا أَنّى بَرِئ مّمَّا تُشْرِكُونَ}.
{مِن دُونِهِ فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ} أجاب به عن مقالتهم الحمقاء بأن أشهد الله تعالى على براءته من آلهتهم وفراغه عن إضرارهم تأكيدًا لذلك وتثبيتًا له، وأمرهم بأن يشهدوا عليه استهانة بهم، وأن يجتمعوا على الكيد في إهلاكه من غير إنظار حتى إذا اجتهدوا فيه ورأوا أنهم عجزوا عن آخرهم وهم الأقوياء الأشداء أن يضروه لم يبق لهم شبهة أن آلهتهم التي هي جماد لا يضر ولا ينفع لا تتمكن من إضراره انتقامًا منه، وهذا من جملة معجزاته فإن مواجهة الواحد الجم الغفير من الجبابرة الفتاك العطاش إلى إراقة دمه بهذا الكلام ليس إلا لثقته بالله وتثبطهم عن إضراره ليس إلا بعصمته إياه ولذلك عقبه بقوله: {إِنّى تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبّي وَرَبّكُمْ} تقريرًا له والمعنى أنكم وإن بذلتم غاية وسعكم لن تضروني فإني متوكل على الله واثق بكلاءته وهو مالكي ومالككم لا يحيق بي ما لم يرده، ولا يقدرون على ما لم يقدره ثم برهن عليه بقوله: {مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} أي إلا وهو مالك لها قادر عليها يصرفها على ما يريد بها والأخذ بالنواصي تمثيل لذلك: {إِنَّ رَبّى على صراط مُّسْتَقِيمٍ} أي أنه على الحق والعدل لا يضيع عنده معتصم ولا يفوته ظالم.
{فَإِن تَوَلَّوْاْ} فإن تتولوا: {فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ} فقد أديت ما علي من الإبلاغ وإلزام الحجة فلا تفريط مني ولا عذر لكم فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم: {وَيَسْتَخْلِفُ رَبّى قَوْمًا غَيْرَكُمْ} استئناف بالوعيد لهم بأن الله يهلكهم ويستخلف قومًا آخرين في ديارهم وأموالهم، أو عطف على الجواب بالفاء ويؤيده القراءة بالجزم على الموضع كأنه قيل: وإن تتولوا يعذرني ربي ويستخلف: {وَلاَ تَضُرُّونَهُ} لتوليكم: {شَيْئًا} من الضرر ومن جزم يستخلف أسقط النون منه: {إِنَّ رَبّى على كُلّ شَئ حَفِيظٌ} رقيب فلا تخفى عليه أعمالكم ولا يغفل عن مجازاتكم، أو حافظ مستول عليه فلا يمكن أن يضره شيء.
{وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا} عذابنا أو أمرنا العذاب: {نَجَّيْنَا هُودًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا} وكانوا أربعة آلاف: {وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} تكرير لبيان ما نجاهم منه وهو السموم، كانت تدخل أنوف الكفرة وتخرج من أدبارهم فتقطع أعضاءهم، أو المراد به تنجيتهم من عذاب الآخرة أيضًا، والتعريض بأن المهلكين كما عذبوا في الدنيا بالسموم فهم معذبون في الآخرة بالعذاب الغليظ.
{وَتلكَ عَادٌ} أنث اسم الإِشارة باعتبار القبيلة أو لأن الإِشارة إلى قبورهم وآثارهم: {جَحَدُواْ بآيات رَبّهِمْ} كفروا بها: {وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ} لأنهم عصوا رسولهم ومن عصى رسولًا فكأنما عصي الكل لأنهم أمروا بطاعة كل رسول: {واتبعوا أَمْرَ كُلّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} يعني كبراءهم الطاغين و: {عَنِيدٍ} من عند عندًا وعندًا وعنودًا إذا طغى، والمعنى عصوا من دعاهم إلى الإِيمان وما ينجيهم وأطاعوا من دعاهم إلى الكفر وما يرديهم.
{وَأُتْبِعُواْ في هذه الدنيا لَعْنَةً وَيَوْمَ القيامة} أي جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين تكبهم في العذاب: {أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ} جحدوه أو كفروا نعمه أو كفروا به فحذف الجار: {أَلاَ بُعْدًا لّعَادٍ} دعاء عليهم بالهلاك، والمراد به الدلالة على أنهم كانوا مستوجبين لما نزل عليهم بسبب ما حكي عنهم، وإنما كرر ألا وأعاد ذكرهم تفظيعًا لأمرهم وحثًا على الاعتبار بحالهم: {قَوْمِ هُودٍ} عطف بيان لعاد، وفائدته تمييزهم عن عاد الثانية عاد إرم، والإِيماء إلى أن استحقاقهم للبعد بما جرى بينهم وبين هود. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني في الآيات السابقة:

{ونادى نوح ربه} أي: دعاه وسأله: {فقال رب إنّ ابني من أهلي} وقد وعدتني أن تنجيني وأهلي: {وإن وعدك الحق} أي: الصدق الذي لا خلف فيه: {وأنت أحكم الحاكمين} لأنك أعلمهم وأعدلهم.
فإن قيل: إذا كان النداء هو قوله ربّ فكيف عطف قال رب على نادى بالفاء؟
أجيب: بأن الفاء تفصيل لمجمل نادى، مثلها في: توضأ فغسل. وقيل: نادى، أي: أراد نداءه فقال رب.
{قال} الله تعالى له: {يا نوح إنه} أي: هذا الابن الذي سألت نجاته: {ليس من أهلك} أي: المحكوم بنجاتهم لإيمانهم وكفره، ولهذا علل بقوله تعالى: {إنه عمل غير صالح} وقرأ الكسائي بكسر الميم ونصب اللام بغير تنوين ونصب الراء، أي: عمل الكفر والتكذيب وكل هذا غير صالح والباقون بفتح الميم ورفع اللام منونة ورفع الراء، أي: ذو عمل غير صالح أو صاحب عمل غير صالح، فجعل ذات العمل للمبالغة كقول الخنساء تصف ناقة ترتع:
فإنما هي إقبال وإدبار

واختلف علماء التفسير هل كان ذلك الولد ابن نوح أو لا على أقوال: الأوّل: وهو قول ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك والأكثرين: إنه ابنه حقيقة ويدل عليه أنه تعالى نص عليه فقال: {ونادى نوح ابنه} ونوح أيضًا نص عليه فقال: {يا بنيّ} وصرف هذا اللفظ إلى أنه رباه وأطلق عليه اسم الابن لهذا السبب صرف للكلام عن حقيقته إلى مجازه من غير ضرورة. القول الثاني: أنه كان ابن امرأته وهو قول محمد بن علي الباقر، وقول الحسن البصري. والقول الثالث: وهو قول مجاهد والحسن: أنه ولد حنث ولد على فراشه ولم يعلم نوح بذلك، واحتج هذا القائل بقوله تعالى في امرأة نوح وامرأة لوط: {فخانتاهما} (التحريم). قال الرازي: وهذا قول واهٍ حيث يجب صون منصب الأنبياء عن هذه الفضيحة لاسيما وهو خلاف نص القرآن. وقد قيل لابن عباس: ما كانت تلك الخيانة؟ فقال: كانت امرأة نوح تقول: زوجي مجنون، وامرأة لوط تدل الناس على ضيفه إذا نزل به: {فلا تسألني ما ليس لك به علم} أي: بما لا تعلم أصواب هو أم لا؟ لأنّ اللائق بأمثالك من أولي العزم بناء أمورهم على التحقيق. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر بفتح اللام وتشديد النون والباقون بسكون اللام وتخفيف النون وأثبت الياء بعد النون. في الوصل دون الوقف ورش وأبو عمرو وحذفها الباقون وقفًا ووصلًا: {إني أعظك} أي: بمواعظي كراهة: {أن تكون من الجاهلين} فتسأل كما يسألون. وإنما سمى نداءه سؤالًا لتضمن ذكر الوعد بنجاة أهله واستنجازه في شأن ولده.
{قال} نوح: {رب إني أعوذ بك أن} أي: من أن: {أسألك} في شيء من الأشياء: {ما ليس لي به علم} تأدبًا بأدبك واتعاظًا بوعظك: {وإلا تغفر لي} أي: الآن ما فرط مني وفي المستقبل ما يقع مني: {وترحمني} أي: تستر زلاتي وتمحها وتكرمني: {أكن من الخاسرين} أي: الغريقين في الخسارة. فإن قيل: هذا يدل على عصمة الأنبياء لوقوع هذه الزلة من نوح عليه السلام؟
أجيب: بأنّ الزلة الصادرة من نوح إنما هي كونه لم يستقص ما يدل على نفاق ابنه وكفره؛ لأنّ قومه كانوا على ثلاثة أقسام: كافر يظهر كفره، ومؤمن يخفي إيمانه، ومنافق لا يعلم حاله في نفس الأمر. وقد كان حكم المؤمنين هو النجاة وحكم الكافرين هو الغرق، وكان ذلك معلومًا، وأما أهل النفاق فبقي أمرهم مخفيًا، وكان ابن نوح منهم، وكان يجوز فيه كونه مؤمنًا، وكانت الشفقة المفرطة التي تكون للأب في حق الابن تحمله على حمل أعماله وأفعاله لا على كونه كافرًا بل على الوجوه الصحيحة فأخطأ في ذلك الاجتهاد كما وقع لآدم عليه السلام في الأكل من الشجرة فلم يصدر عنه إلا الخطأ في الاجتهاد، فلم تصدر منه معصية، فلجأ إلى ربه تعالى وخشع له ودعاه وسأله المغفرة والرحمة كما قال آدم عليه السلام: {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} (الأعراف) لأنّ حسنات الأبرار سيئات المقرّبين.
{قيل} أي: قال الله تعالى أو ملك بأمره تعالى: {يا نوح اهبط} أي: انزل من السفينة أو من الجبل إلى الأرض المستوية: {بسلام} أي: بعظم وأمن وسلامة: {منا} وذلك أنّ الغرق لما كان عامًا في جميع الأرض فعندما خرج نوح عليه السلام من السفينة علم أنه ليس في الأرض شيء مما ينتفع به من النبات والحيوان فكان كالخائف في أنه كيف يعيش وكيف يدفع جهات الحاجات عن نفسه من المأكول والمشروب، فلما قال الله تعالى: {اهبط بسلام منا} زال عنه ذلك الخوف؛ لأنّ ذلك يدل على حصول السلامة وأن لا يكون إلا مع الأمن وسعة الرزق. ثم إنه تعالى لما وعده بالسلامة أردفه بأن وعده بالبركة بقوله تعالى: {وبركات عليك} وهو عبارة عن الدوام والبقاء والثبات؛ لأنّ الله تعالى صير نوحًا عليه السلام أبا البشر؛ لأنّ جميع من بقي كانوا من نسله؛ لأنّ نوحًا لما خرج من السفينة مات كل من كان معه ممن لم يكن من ذريته ولم يحصل النسل إلا من ذريته فالخلق كلهم من نسله، أو أنه لم يكن معه في السفينة إلا من كان من نسله وذريته، وعلى التقديرين فالخلق كلهم من ذريته. ويدل على ذلك قوله تعالى: {وجعلنا ذريته هم الباقين} (الصافات) فثبت أنّ نوحًا كان آدم الأصغر فكان أبا الأنبياء والخلق بعد الطوفان كلهم منه ومن ذريته وكان بين نوح وآدم ثمانية أجداد. وقوله تعالى: {وعلى أمم ممن معك} يحتمل أن تكون من للبيان فيراد الأمم الذين كانوا معه في السفينة؛ لأنهم كانوا جماعات أو قيل لهم أمم؛ لأنّ الأمم تتشعب منهم، وأن تكون لابتداء الغاية، أي: على أمم ناشئة ممن معك وهي الأمم إلى آخر الدهر. قال في الكشاف: وهو الوجه، وقوله تعالى: {وأمم} بالرفع على الابتداء، وقوله تعالى: {سنمتعهم} أي: في الدنيا صفة والخبر محذوف تقديره: وممن معك أمم سنمتعهم. وإنما حذف لأنّ قوله ممن معك يدل عليه، والمعنى أنّ السلام منا والبركات عليك وعلى أمم مؤمنين ينشؤون ممن معك، وممن معك أمم ممتعون في الدنيا.
{ثم يمسهم منا عذاب أليم} في الآخرة وهم الكفار. وعن محمد بن كعب القرظي: دخل في ذلك السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة، وفيما بعده من المتاع والعذاب كل كافر وقيل: المراد بالأمم الممتعة قوم هود وصالح ولوط وشعيب. ولما شرح تعالى قصة نوح عليه السلام على التفصيل قال تعالى: {تلك} أي: قصة نوح التي شرحناها، ومحلّ تلك رفع على الابتداء وخبرها: {من أنباء الغيب} أي: من الأخبار التي كانت غائبة عن الخلق. وقوله تعالى: {نوحيها إليك} خبر ثان والضمير لها، أي: موحاة إليك. وقوله تعالى: {ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا} أي: نزول القرآن خبر آخر، والمعنى أنّ هذه القصة مجهولة عندك وعند قومك من قبل إيحائنا إليك، ونظير هذا أن يقول إنسان لآخر: لا تعرف هذه المسألة لا أنت ولا أهل بلدك. فإن قيل: قد كانت قصة طوفان نوح مشهورة عند أهل العلم. أجيب: بأنّ ذلك كان بحسب الإجمال، وأمّا التفاصيل المذكورة فما كانت معلومة، أو بأنه صلى الله عليه وسلم كان أمّيًا لم يقرأ الكتب المتقدّمة ولم يعلمها. وكذلك كانت أمته. ثم قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {فاصبر} أي: أنت وقومك على أذى هؤلاء الكفار كما صبر نوح وقومه على أذى أولئك الكفار: {إنّ العاقبة للمتقين} الشرك والمعاصي وفي هذا تنبيه على أنّ عاقبة الصبر لنبينا صلى الله عليه وسلم النصر والفرج، أي: السرور كما كان لنوح ولقومه. فإن قيل: هذه القصة ذكرت في يونس فما الحكمة والفائدة في إعادتها؟
أجيب: بأنّ القصة الواحدة قد ينتفع بها من وجوه، ففي السورة الأولى كان الكفار يستعجلون نزول العذاب فذكر تعالى قصة نوح في بيان أنّ قومه كانوا يكذبونه بسبب أنّ العذاب ما كان يظهر ثم في العاقبة ظهر فكذا في واقعة محمد صلى الله عليه وسلم وفي هذه السورة ذكرت لأجل أنّ الكفار كانوا يبالغون في الإيحاش فذكرها الله تعالى لبيان أنّ إقدام الكفار على الإيذاء والإيحاش كان حاصلًا في زمان نوح عليه السلام، فلما صبر فاز وظفر، فكن يا محمد كذلك لتنال المقصود، ولما كان وجه الانتفاع بهذه القصة في كل سورة من وجه آخر لم يكن تكريرها خاليًا عن الحكمة والفائدة.
القصة الثانية: من القصص التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة قصة هود عليه السلام المذكورة في قوله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ اله غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إلا مُفْتَرُونَ يَاقَوْمِ لا أَسَْلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِىَ إلا عَلَى الَّذِى فَطَرَنِى أفلا تعقلون وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى ءَالِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِن نَّقُولُ إلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ ءَالِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّى أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّى بَرِئ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ تُنظِرُونِ}
{وإلى عاد} أي: وأرسلنا إلى عاد: {أخاهم} فهو معطوف على قوله تعالى: {نوحًا}، وقوله تعالى: {هودًا} عطف بيان ومعلوم أنّ تلك الأخوة ما كانت في الدين، وإنما كانت في النسب لأنّ هودًا كان رجلًا من قبيلة عاد قبيلة من العرب كانوا بناحية اليمن. فإن قيل: إنه تعالى قال في ابن نوح إنه ليس من أهلك فبيّن أنّ قرابة النسب لا تفيد إذا لم تحصل قرابة الدين، وهنا أثبت هذه الأخوة مع الاختلاف في الدين؟
أجيب: بأنّ قوم محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يستبعدون أن يكون رسولًا من عند الله تعالى مع أنه واحد من قبيلتهم، فذكر الله تعالى أنّ هودًا كان واحدًا من عاد، وأنّ صالحًا كان واحدًا من ثمود لإزالة هذا الاستبعاد، ولما تقدّم أمر نوح عليه السلام مع قومه استشرف السامع إلى معرفة ما قال هود عليه السلام هل هو مثل قوله أولًا؟ فاستأنف الجواب بقوله: {قال يا قوم اعبدوا الله} أي: وحدوه ولا تشركوا معه شيئًا في العبادة: {ما لكم من إله غيره} أي: هو إلهكم؛ لأنّ هذه الأصنام التي تعبدونها حجارة لا تضر ولا تنفع. فإن قيل: كيف دعاهم إلى عبادة الله تعالى قبل إقامة الدليل على ثبوت الإله؟
أجيب: بأنّ دلائل وجود الله تعالى ظاهرة وهي دلائل الآفاق والأنفس وقلما يوجد في الدنيا طائفة ينكرون وجود الإله، ولذلك قال تعالى في صفة الكفار: {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولنّ الله} (لقمان). وقرأ الكسائي بكسر الراء والهاء صفة على اللفظ والباقون بالرفع صفة على محل الجار والمجرور ومن زائدة: {إن أنتم إلا مفترون} أي: كاذبون في عبادتكم غيره. وكرر قوله: {يا قوم} للاستعطاف، وقوله: {لا أسألكم عليه أجرًا إن أجري إلا على الذي فطرني} أي: خلقني، خاطب به كل رسول قومه إزالة للتهمة وتمحيضًا للنصيحة فإنها لا تنجع ما دامت مشوبة بالمطامع: {أفلا تعقلون} أي: افلا تستعملون عقولكم فتعرفوا المحق من المبطل والصواب من الخطأ فتتعظون. ثم قال: {ويا قوم} أيضًا لما ذكر: {استغفروا ربكم} أي: آمنوا به: {ثم توبوا إليه} من عبادة غيره؛ لأنّ التوبة لا تصح إلا بعد الإيمان: {يرسل السماء} أي: المطر: {عليكم مدرارًا} أي: كثير الدر: {ويزدكم قوّة إلى قوّتكم} أي: ويضاعف قوّتكم، وإنما رغبهم بكثرة المطر وزيادة القوّة؛ لأنّ القوم كانوا أصحاب زرع وبساتين وعمارات حراصًا عليها أشدّ الحرص، فكانوا أحوج شيء إلى الماء، وكانوا مذلين غيرهم بما أوتوا من شدّة القوّة والبطش والبأس والنجدة، مهابين في كل ناحية، وقيل: أراد القوّة في المال. وقيل: القوة على النكاح. وقيل: حبس عنهم المطر ثلاث سنين وعقمت أرحام نسائهم. وعن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما أنه وفد على معاوية، فلما خرج تبعه بعض حجابه فقال: إني رجل ذو مال ولا يولد لي فعلمني شيئًا لعل الله يرزقني ولدًا. فقال: عليك بالاستغفار. فكان يكثر الاستغفار حتى ربّما استغفر في يوم واحد سبعمائة مرّة فولد له عشر بنين، فبلغ ذلك معاوية فقال: هلا سألته ممّ قال ذلك؟ فوفد مرّة أخرى فسأله الرجل فقال: ألم تسمع قول هود: {ويزدكم قوّة إلى قوّتكم} وقول نوح: {ويمددكم بأموالٍ وبنين} (نوح).
{ولا تتولوا} أي: ولا تعرضوا عن قبول قولي ونصحي حالة كونكم: {مجرمين} أي: مشركين. ولما حكى الله تعالى عن هود ما ذكره لقومه حكى أيضًا ما ذكره قومه له وهو أشياء: أوّلها: ذكره تعالى بقوله: {قالوا يا هود ما جئتنا ببينة} أي: بحجة تدل على صحة دعواك. وسميت بينة؛ لأنها تبين الحق، ومن المعلوم أنه عليه الصلاة والسلام كان قد أظهر لهم المعجزات إلا أن القوم لجهلهم أنكروها وزعموا أنه ما جاء بشيء من المعجزات. وثانيها: قولهم: {وما نحن بتاركي آلهتنا} أي: عبادتها، وقولهم: {عن قولك} أي: صادرين عن قولك حال من الضمير في تاركي، وهذا أيضًا من جهلهم فإنهم كانوا يعرفون أنّ النافع والضارّ هو الله تعالى وأن الأصنام لا تضر ولا تنفع وذلك حكم فطرة العقل وبديهة النفس، وثالثها: قولهم: {وما نحن لك بمؤمنين} أي: مصدّقين، وفي ذلك إقناط له من الإجابة والتصديق. ورابعها: قولهم: {إن} أي: ما: {نقول} في شأنك: {إلا اعتراك} أي: أصابك: {بعض آلهتنا بسوء} لسبك إياها فجعلتك مجنونًا وأفسدت عقلك، ثم إنه تعالى ذكر أنهم لما قالوا ذلك: {قال} هود عليه السلام مجيبًا لهم: {إني أشهد الله} عليّ: {واشهدوا} أنتم أيضًا عليّ: {أني بريء مما تشركون من دونه} أي: الله وهو الأصنام التي كانوا يعبدونها: {فكيدوني} أي: احتالوا في هلاكي: {جميعًا} أنتم وأصنامكم التي تعتقدون أنها تضر وتنفع فإنها لا تضرّ ولا تنفع.