فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} الكلام فيه كالكلام في نظيره السابق آنفًا، وجمهور القراء على منع صرف: {ثَمُودُ} ذهابًا إلى القبيلة.
وقرأ ابن وثاب والأعمش بالصرف على إرادة الحي: {هُوَ أَنشَأَكُمْ مّنَ الأرض} أي ابتدأ خلقكم منها فإنها المادة الأولى وآدم الذي هو أصل البشر خلق منها، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي أنشأ أباكم، وقيل: {مِنْ} بمعنى في، وليس بشيء، والمراد الحصر كما يفهمه كلام بعض الأجلة كأن القول لعدم أدائهم حقه سبحانه قد اعتقدوا أن الفاعل لذلك غيره تعالى، أو هو مع غيره فخوطبوا على وجه قصر القلب أو قصر الإفراد بذلك، واحتمال أنهم كانوا يعتقدون أحد الأمرين حقيقة لا تنزيلًا يستدعي القول بأنهم كانوا طبيعية أو ثنوية وإلا فالوثنية وإن عبدوا معه سبحانه غيره لا يعتقدون خالقية غيره لهم بوجه من الوجوه، وأخذ الحصر على ما قيل: من تقديم الفاعل المعنوي، وقيل: إنه مستفاد من السياق لأنه لما حصر الإلهية فيه تعالى اقتضى حصر الخالقية أيضًا، فبيان ما خلقوا منه بعد بيان أنه الخالق لا غيره يقتضي هذا فتدبر، والظاهر أن من يقول بالحصر هنا يقول به في قوله سبحانه: {واستعمركم فِيهَا} لمكان العطف وكونه معطوفًا بعد اعتبار التقديم فلا ينسحب على ما بعده مما لا فائدة في التزامه أي وهو الذي جعلكم عمارها وسكانها فالاستفعال بمعنى الإفعال يقال: أعمرته الأرض واستعمرته إذا جعلته عامرها وفوضت إليه عمارتها، وإلى هذا ذهب الراغب وكثير من المفسرين، وقال زيد بن أسلم: المعنى أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه من بناء مساكن وحفر أنهار وغرس أشجار وغير ذلك، فالسين للطلب، وإلى هذا ذهب الكيا، واستدل بالآية على أن عمارة الأرض واجبة لها الطلب، وقسمها في الكشاف إلى واجب كعمارة القناطر اللازمة والمسجد الجامع، ومندوب كعمارة المساجد. ومباح كعمارة المنازل. وحرام كعمارة الحانات، وما يبنى للمباهاة أو من مال حرام كأبنية كثير من الظلمة، واعترض على الكيا بأنه لم يكن هناك طلب حقيقة ولكن نزل جعلهم محتاجين لذلك وإقدارهم عليه وإلهامهم كيف يعمرون منزلة الطلب، وقال الضحاك: المعنى عمركم فيها واستبقاكم وكان أحدهم يعمر طويلًا حتى أن منهم من يعمر ألف سنة، والمشهور أن الفعل من العمر وهو مدة الحياة بالتشديد ومن العمارة نقيض الخراب بالتخفيف ففي أخذ ذلك من العمر تجوز.
وعن مجاهد أن استعمر من العمرى بضم فسكون مقصور، وهي كما قال الراغب في العطية أن تجعل له شيئًا مدة عمرك أو عمره، والمعنى أعمركم فيها ورباكم أي أعطاكم ذلك ما دمتم أحياء ثم هو سبحانه وارثها منكم، أو المعنى جعلكم معمرين دياركم فيها لأن الرجل إذا ورث داره من بعده فكأنما أعمره إياها لأنه يسكنها عمره ثم يتركها لغيره: {فاستغفروه ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} تفريع على ما تقدم فإن ما ذكر من صنوف إحسانه سبحانه داع إلى الاستغفار والتوبة، وقوله: {إِنَّ رَبّى قَرِيبٌ} أي قريب الرحمة لقوله سبحانه: {إن رحمة الله قريب من المحسنين} [الأعراف: 56] والقرآن يفسر بعضه بعضًا: {مُّجِيبٌ} لمن دعاه وسأله زيادة في بيان ما يوجب ذلك، والأول علة باعثة، وهذا علة غائية وما ألطف التقديم والتأخير، وصرح بعضهم أن: {قَرِيبٌ} ناظر لتوبوا و: {مُّجِيبٌ} لاستغفروا كأنه، قيل: ارجعوا إلى الله تعالى فإنه سبحانه: {قَرِيبٌ} منكم أقرب من حبل الوريد واسألوه المغفرة فإنه جلا وعلا: {مُّجِيبٌ} السائلين ولا يخلو عن حسن.
{قَالُواْ يا صالح قَدْ كُنتَ فِينَا} أي فيما بيننا: {مَرْجُوّا} فاضلًا خيرًا نقدمك على جميعنا على ما روي عن ابن عباس.
وقال ابن عطية مشورًا نأمل منك أن تكون سيدًا سادًا مسدّ الأكابر، وقال كعب: كانوا يرجونه للملك بعد ملكهم لأنه كان ذا حسب وثروة.
وقال مقاتل: كانوا يرجون رجوعه إلى دينهم إذ كان يبغض أصنامهم ويعدل عن دينهم: {قَبْلَ هذا} أي الذي باشرته من الدعوة إلى التوحيد وترك عبادة الآلهة فلما سمعنا منك ما سمعناه انقطع عنك رجاؤنا، وقيل: كانوا يرجون دخوله في دينهم بعد دعواه إلى الحق ثم انقطع رجاؤهم فقبل هذا قبل هذا الوقت لا قبل الذي بشاره من الدعوة، وحكى النقاش عن بعضهم أن: {مَرْجُوّا} بمعنى حقيرًا وكأنه فسره أولًا بمؤخرًا غير معتنى به ولا مهتم بشأنه، ثم أراد منه ذلك وإلا فمرجوًا بمعنى حقير لم يأت في كلام العرب، وجاء قولهم: {أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا} على جهة التوعد والاستبشاع لتلك المقالة منه والتعبير بيعبد لحكاية الحال الماضية، وقرأ طلحة: {مرجؤًا} بالمد والهمز: {ءابَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِى شَكّ مّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} من التوحيد وترك عبادة الآلهة وغير ذلك من الاستفغر والتوبة: {مُرِيبٍ} اسم فاعل من أرابه المتعدي بنفسه إذا أوقعه في الريبة وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة باليقين، أو من أراب الرجل اللازم إذا كان ذا ريبة، والإسناد على الوجهين مجازي إلا أن بينهما كما قال بعض المحققين فرقًا، وهو أن الأول منقول من الأعيان إلى المعنى، والثاني منقول من صاحب الشك إلى الشك كما تقول: شعر شاعر، فعلى الأولى هو من باب الإسناد إلى السبب لأن وجود الشك سبب لتشكيك المشكك ولولاه لما قدر على التشكيك، والتنوين في: {مُرِيبٍ} وفي: {شَكٌّ} للتفخيم، {وَإِنَّنَا} بثلاث نوات، ويقال: إنا بنونين وهما لغتان لقريش.
قال الفراء: من قال: إننا أخرج الحرف على أصله لأن كناية المتكلمين ن فاجتمعتث لاث نونات، ومن قال: إنا استثل اجتماعها فأسقط الثالثة وأبقى الأوليين.
واختار أبو حيان أن المحذوف النون الثانية لا الثالثة لأن في حذفها إجحافًا بالكلمة إذ لا يبقى منها إلا حرف واحد ساكن دون حذف الثانية لظهور بقاء حرفين بعده على أنه قد عهد حذف النون الثانية من إن مع غير ضمير المتكلمين ولم يعهد حذف نون ن ولا ريب في أن ارتكاب المعهود أولى من ارتكاب غير المعهود. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا}
قوله تعالى: {وإلى ثمود أخاهم صالحًا} إلى قوله: {غيره} الكلام فيه كالذي في قوله: {وإلى عَاد أخاهم هودا} [هود: 50] إلخ.
وذكر ثمود وصالح عليه السّلام تقدّم في سورة الأعراف.
وثمود: اسم جدّ سميت به القبيلة، فلذلك منع من الصرف بتأويل القبيلة.
وجملة: {هو أنشأكم من الأرض} في موضع التّعليل للأمر بعبادة الله ونفي إلهية غيره، وكأنهم كانوا مثل مشركي قريش لا يدّعون لأصنامهم خلقًا ولا رزقًا، فلذلك كانت الحجّة عليهم ناهضة واضحة.
والإنشاء: الإيجاد والإحداث، وتقدّم في قوله تعالى: {وأنشأنا من بعدهم قرنًا آخرين} في [الأنعام: 6].
وجَعل الخبرين عن الضمير فعلين دون: هو منشئكم ومستعمركم لإفادة القَصر، أي لم ينشئكم من الأرض إلاّ هو، ولم يستعمركم فيها غيره.
والإنشاء من الأرض خلق آدم من الأرض لأنّ إنشاءه إنشاء لنسله، وإنّما ذكر تعلّق خلقهم بالأرض لأنّهم كانوا أهل غرس وزرع، كما قال في سورة [الشعراء: 146 148]: {أتتْركون فيما هاهنا آمنين في جنّاتٍ وعيونٍ وزروعٍ ونخلٍ طلعها هضيمٌ} ولأنّهم كانوا ينحتون من جبال الأرض بيوتًا ويبنون في الأرض قصورًا، كما قال في الآية الأخرى: {وبوّأكم في الأرض تتّخذون من سهولها قصُورًا وتنحتون الجبال بيوتًا} [الأعراف: 74]، فكانت لهم منافع من الأرض تناسب نعمة إنشائهم من الأرض فلأجل منافعهم في الأرض قيّدت نعمة الخلق بأنّها من الأرض التي أنشئوا منها، ولذلك عطف عليه: {واستعمركم فيها}.
والاستعمار: الإعمار، أي جعلكم عامرينها، فالسّين والتاء للمبالغة كالتي في استبقَى واستفاق.
ومعنى الإعمار أنهم جَعلوا الأرض عامرة بالبناء والغرس والزرع لأنّ ذلك يعدّ تعميرًا للأرض حتى سمي الحرث عِمارة لأنّ المقصود منه عَمر الأرض.
وفرع على التذكير بهذه النعم أمرهم باستغفاره والتّوبة إليه، أي طلب مغفرة أجرامهم، والإقلاع عمّا لا يرضاه من الشرك والفساد.
ومن تفنّن الأسلوب أن جعلت هذه النعم علّة لأمرهم بعبادة الله وحده بطريق جملة التّعليل، وجعلت علّة أيضًا للأمر بالاستغفار والتّوبة بطريق التّفريع.
وعطف الأمر بالتّوبة بحرف التّراخي للوجه المتقدّم في قوله: {ويا قوم استغفروا ربّكم ثم توبوا إليه} [هود: 51] في الآية المتقدمة.
وجملة: {إنّ ربّي قريب مجيب} استئناف بيانيّ كأنهم استعظموا أن يكون جرمهم ممّا يقبل الاستغفار عنه، فأجيبوا بأنّ الله قريب مجيب، وبذلك ظهر أنّ الجملة ليست بتعليل.
وحرف: {إنّ} فيها للتّأكيد تنزيلًا لهم في تعظيم جرمهم منزلة من يشكّ في قبول استغفاره.
والقرب: هنا مستعار للرأفة والإكرام، لأنّ البعد يستعار للجفاء والإعراض.
قال جبير بن الأضبط:
تباعد عنّي مطحل إذ دعوته ** أمين فزاد الله ما بيننا بعدًا

فكذلك يستعار ضدّه لضدّه، وتقدّم في قوله: {فإنّي قريبٌ أجيب دعوة الداعِ} في سورة [البقرة: 186].
والمجيب هنَا: مجيب الدّعاء، وهو الاستغفار.
وإجابة الدّعاء: إعطاء السائل مسؤوله.
{قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا}
هذا جوابهم عن دعوته البليغة الوجيزة المَلأى إرشادًا وهديًا.
وهو جواب مُلئ بالضلال والمكابرة وضعف الحجة.
وافتتاح الكلام بالنّداء لقصد التوبيخ أو الملام والتّنبيه، كما تقدّم في قوله: {قالوا يا هود ما جئتنا ببيّنة} [هود: 53].
وقرينة التّوبيخ هنا أظهر، وهي قولهم: {قد كنت فينا مرجوا قبل هذا} فإنّه تعريض بخيبة رجائهم فيه فهو تعنيف.
و: {قد} لتأكيد الخبر.
وحذف متعلّق: {مرجوًا} لدلالة فعل الرجاء على أنّه ترقب الخير، أي مرجوًا للخير، أي والآن وقع اليأس من خيرك.
وهذا يفهم منه أنّهم يَعدّون ما دعاهم إليه شرًّا، وإنما خاطبوه بمثل هذا لأنّه بعث فيهم وهو شاب (كذا قال البغوي في تفسير سورة الأعراف) أي كنت مرجوًا لخصال السيادة وحماية العشيرة ونصرة آلهتهم.
والإشارة في: {قبل هذا} إلى الكلام الذي خاطبهم به حين بعثه الله إليهم.
وجملة: {أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا} بيان لجملة: {قد كنت فينا مرجوًا} باعتبار دلالتها على التعنيف، واشتمالها على اسم الإشارة الذي تبيّنه أيضًا جملة: {أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا}.
والاستفهام: إنكار وتوبيخ.
وعبّروا عن أصنامهم بالموصول لِمَا في الصّلة من الدّلالة على استحقاق تلك الأصنام أن يعبدوها في زعمهم اقتداءً بآبائهم لأنّهم أسوة لهم، وذلك ممّا يزيد الإنكار اتّجاهًا في اعتقادهم.
وجملة: {وإنّنا لفي شك} معطوفة على جملة: {يا صالح قد كنت فينا مرجوًا}، فبعد أن ذكروا يأسهم من صلاح حاله ذكروا أنّهم يشكون في صدق أنه مرسل إليهم وزادوا ذلك تأكيدًا بحرف التأكيد.
ومن محاسن النّكت هنا إثبات نون (إنّ) مع نون ضمير الجمع لأنّ ذلك زيادة إظهار لحرف التوْكيد والإظهار ضرب من التحقيق بخلاف ما في سورة إبراهيم (9) من قول الأمم لرسلهم: {وإنّا لفي شكّ ممّا تدعوننا} لأنّ الحكاية فيها عن أمم مختلفة في درجات التّكذيب، ولأنّ ما في هاته الآية خطاب لواحد، فكان: {تدعونا} بنون واحدة هي نون المتكلم ومَعهُ غيره فلم يقع في الجملة أكثر من ثلاث نونات بخلاف ما في سورة إبراهيم لأنّ الحكاية هنالك عن جمع من الرسل في (تدعُوننا) فلو جاء (إنّنا) لاجتمع أربع نونات.
والمريب: اسم فاعل من أراب إذا أوقع في الريب، يقال: رابه وأرابه بمعنى، ووصف الشك بذلك تأكيد كقولهم: جدّ جدّه. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا}
ونحن نلحظ أن الحق سبحانه يبيِّن لنا هنا أنه أرسل إلى ثمود واحدًا منهم هو صالح عليه السلام.
وجاء الحق سبحانه بلفظ: {أَخَاهُمْ} ليبين العلاقة التي بين صالح عليه السلام وقومه، فهو قد نشأ بينهم، وعرفوه وخبروه، فإذا ما جاءهم بدعوة وقد لمسوا صدقه فلابد أن يؤمنوا بما جاء به من منهج.
وناداهم صالح عليه السلام: {يا قوم}، وهي من القيام، يعني: يا من تقومون للأمور. والذي يقوم على الأمر عادة هم الرجال؛ لأن أمر النساء مستور دائمًا في طي الرجال، فليس كل حكم من أحكام الدين يأتي فيه ذكر المرأة، بل نجد كثيرًا من الأحكام تنزل للرجال، والنساء مطويات على الستر في ظل الرجال، والرجل يشقى ويكدح، والمرأة تدير حياة السُكْنى وتربية الأولاد.
ونحن نجد من النساء ومن الرجال من يتراضون عند الزواج على ألا تخرج المرأة للعمل.
إن للمرأة حق العمل إن احتاجت ولم تجد من يعولها، ولكن إن وجدت من يقوم عليها، فلماذا لا تلتفت إلى عمل لا يقل أهمية عن عمل الرجل، وهو رعاية الأسرة؟
وكذلك يجد من يقوم باسم الحرية بالهجوم على الحجاب، ونقول لمن يفعل ذلك: إذا كنت لم تنتقد التهتك في الملابس، ووَصَفْتَهُ بأنه حرية، فلماذا تتدخل في أمر الحجاب، ولا تعتبره حرية أيضًا.
ونعود إلى الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} [هود: 61] والعبادة تقتضي تلقي أوامر الإله المعبود ب افعل ولا تفعل في كل حركة من حركات الحياة.
فكان أول شيء طلبه صالح من قومه ثمود: {اعبدوا الله} وأمر عبادة الله وحده مطلوب من كل أحد، ولا يسع أحدًا مخالفته.
{مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} [هود: 61].
تقرير واقع لا تستطيعون تغييره، فليس لكم إله آخر غير الله، مهما حاولتم ادعاء آلهة أخرى.
ويقول الحق سبحانه: {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا} [هود: 61].
والإنشاء هو الإيجاد ابتداء من غير واسطة شيء، ويقال: أنشأ، أي: أوجد وجودًا ابتداءً من غير الاستعانة بشيء آخر.
لذلك لا نقول لمن اخترع: إنه أنشأ لأنه استعان بأشياء كثيرة ليصل إلى اختراعه؛ فقد يكون مستعينًا بمادة أخذها من الجبال، وبخبره تجارب صنعها من سبقوه، ولكن الحق سبحانه وتعالى هو الذي ينشيء من عدم.
والوجود من العدم قسمان: قسم أوجدته باستعانة بموجود، وقسم أوجدته من عدم محض، وهذا الأخير هو الإنشاء ولا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى.
والحق سبحانه جلَّت مشيئته في الإنشاء، فهو ينشيء الإنسان من التقاء الزوج والزوجة، وإن أرجعت هذا الإنشاء إلى البداية الأولى في آدم عليه السلام، فستجد أن الحق سبحانه وتعالى قد خلقه من نفس مادة الأرض، والأرض مخلوق من مخلوقات الله.
فمنيُّ الزوج وبويضة الزوجة يتكونان من خلاصة الدم، الذي هو خلاصة الأغذية وهي تأتي من الأرض، فسواء رمزت لآدم بإنشائه من الأرض، أو أبقيتها في ذريته، فكل شيء مَردُّه إلى الأرض.
وقول الحق سبحانه: {أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا} [هود: 61].
نجد فيه كلمة: {استعمركم} وساعة ترى الألف والسين والتاء فاعلم أنها للطلب، وهكذا يكون معنى كلمة استعمر هو طلب التعمير. ومن الخطأ الشائع تسمية البلاد التي تحتل بلادًا أخرى: دول الاستعمار.
أقول: إن ذلك خطأ، لأنهم لو كانوا دول استعمار، فهذا يعني أنهم يرغبون في عمارة الأرض، ولكنهم في حقيقة الأمر كانوا يخربون في الأرض؛ ولذلك كان يجب أن تسمى دول الاستخراب.