فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله: {فما تزيدونني غير تخسير} معناه: فما تعطونني فيما أقتضيه منكم من الإيمان وأطلبكم به من الإنابة غير تخسير لأنفسكم، وهو من الخسارة، وليس التخسير في هذه الآية إلا لهم وفي حيزهم، وأضاف الزيادة إليه من حيث هو مقتض لأقوالهم موكل بإيمانهم، كما تقول لمن توصيه: أنا أريد بك خيرًا وأنت تريد بي شرًا.
فكأن الوجه البيّن؛ وأنت تزيد شرًا ولكن من حيث كنت مريد خير به ومقتضي ذلك- حسن أن تضيف الزيادة إلى نفسك.
وقوله تعالى: {ويا قوم هذه ناقة الله} الآية، اقتضب في هذه الآية ذكر أول أمر الناقة، وذلك أنه روي أن قومه طلبوا منه آية تضطرهم إلى الإيمان، فأخرج الله، جلت قدرته، لهم الناقة من الجبل، وروي أنهم اقترحوا تعيين خروج الناقة من تلك الصخرة، فروي أن الجبل تمخض كالحامل، وانصدع الحجر، وخرجت منه ناقة بفصيلها، وروي أنها خرجت عشراء، ووضعت بعد خروجها، فوقفهم صالح وقال لهم: {هذه ناقة الله لكم آية}، ونصب: {آية} على الحال.
وقرأت فرقة {تأكلْ} بالجزم على جواب الأمر، وقرأت فرقة: {تأكلُ} على طريق القطع والاستئناف، أو على أنه الحال من الضمير في: {ذروها}.
وقوله: {ولا تمسوها بسوء} عام في العقر وغيره، وقوله: {فيأخذكم عذاب قريب} هذا بوحي من الله إليه أن قومك إذا عقروا الناقة جاءهم عذاب قريب المدة من وقت المعصية، وهي الأيام الثلاثة التي فهمها صالح عليه السلام من رغاء الفصيل على جبل القارة. وأضاف العقر إلى جميعهم لأن العاقر كان منهم وكان عن رضى منهم وتمالؤ، وعاقرها قدار، وروي في خبر ذلك أن صالحًا أوحى الله إليه أن قومك سيعقرون الناقة وينزل بهم العذاب عند ذلك، فأخبرهم بذلك فقالوا: عياذًا بالله أن نفعل ذلك، فقال: إن لم تفعلوا أنتم ذلك أوشك أن يولد فيكم من يفعله، وقال لهم: صفة عاقرها أحمر أزرق أشقر، فجعلوا الشرط مع القوابل وأمروهم بتفقد الأطفال، فمن كان على هذه الصفة قتل، وكان في المدينة شيخان شريفان عزيزان، وكان لهذا ابن ولهذا بنت، فتصاهرا فولد بين الزوجين قدار، على الصفة المذكورة، فهم الشرط بقتله، فمنع منه جداه حتى كبر، فكان الذي عقرها بالسيف في عراقيبها، وقيل: بالسهم في ضرعها وهرب فصيلها عن ذلك، فصعد على جبل يقال له القارة، فرغًا ثلاثًا، فقال صالح: هذا ميعاد ثلاثة أيام للعذاب، وأمرهم قبل رغاء الفصيل أن يطلبوه عسى أن يصلوا إليه فيندفع عنه العذاب به، فراموا الصعود إليه في الجبل، فارتفع الجبل في السماء حتى ما تناله الطير، وحينئذ رغا الفصيل.
وقوله: {في داركم} هي جمع دارة كما تقول ساحة وساح وسوح، ومنه قول أمية بن أبي الصلت: [الوافر]
له داع بمكةَ مشمعلّ ** وآخر عند دارته ينادي

ويمكن أن يسمى جميع مسكن الحي دارًا، والثلاثة الأيام تعجيز قاس الناس عليه الاعذار إلى المحكوم عليه ونحوه. قال القاضي أبو محمد: وذلك عندي مفترق لأنها في المحكوم عليه والغارم في الشفعة ونحوه توسعة، وهي هنا توقيف على الخزي والتعذيب، وروى قتادة عن ابن عباس أنه قال: لو صعدتم على القارة لرأيتم عظام الفصيل. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {قَالَ يا قوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً}
تقدّم معناه في قول نوح.
{فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ الله إِنْ عَصَيْتُهُ} استفهام معناه النفي؛ أي لا ينصرني منه إن عصيته أحد.
{فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} أي تضليل وإبعاد من الخير؛ قاله الفرّاء.
والتخسير لهم لا له صلى الله عليه وسلم؛ كأنه قال: غير تخسير لكم لا لي.
وقيل: المعنى ما تزيدونني باحتجاجكم بدين آبائكم غير بصيرة بخسارتكم؛ عن ابن عباس.
قوله تعالى: {ويا قوم هذه نَاقَةُ الله} ابتداء وخبر.
{لَكُمْ آيَةً} نصب على الحال، والعامل معنى الإشارة أو التنبيه في {هَذِهِ}.
وإنما قيل: ناقة الله؛ لأنه أخرجها لهم من جبل على ما طلبوا على أنهم يؤمنون.
وقيل: أخرجها من صخرة صمّاء منفردة في ناحيةِ الحجر يقال لها الكاثبة، فلما خرجت الناقة على ما طلبوا قال لهم (نبي الله) صالح: {هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً}.
{فَذَرُوهَا تَأْكُلْ} أمر وجوابه؛ وحذفت النون من {فذروها} لأنه أمر. ولا يقال: وَذِرَ ولا وَاذِرٌ إلا شاذًّا. وللنحويين فيه قولان؛ قال سيبويه: استغنوا عنه بتَركَ.
وقال غيره: لما كانت الواو ثقيلة وكان في الكلام فِعل بمعناه لا واو فيه ألغوه؛ قال أبو إسحاق الزّجاج: ويجوز رفع {تَأكل} على الحال والاستئناف.
{وَلاَ تَمَسُّوهَا} جزم بالنهي.
{بسوء} قال الفرّاء: بعَقْر.
{فَيَأْخُذَكُمْ} جواب النهي.
{عَذَابٌ قَرِيبٌ} أي قريب من عَقْرِها.
قوله تعالى: {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ}.
فيه مسألتان:
الأولى:
قوله تعالى: {فَعَقَرُوهَا} إنما عقرها بعضهم؛ وأضيف إلى الكل لأنه كان برضا الباقين.
وقد تقدّم الكلام في عقرها في الأعراف. ويأتي أيضًا: {فَقَالَ تَمَتَّعُواْ} أي قال لهم صالح تمتعوا؛ أي بنعم الله عزّ وجلّ قبل العذاب.
{فِي دَارِكُمْ} أي في بلدكم، ولو أراد المنزل لقال في دوركم. وقيل: أي يتمتع كل واحد منكم في داره ومسكنه؛ كقوله: {يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [غافر: 67] أي كل واحد طفلًا.
وعبر عن التمتع بالحياة لأن الميّت لا يتلذذ ولا يتمتع بشيء؛ فعقرت يوم الأربعاء، فأقاموا يوم الخميس والجمعة والسبت وأتاهم العذاب يوم الأحد. وإنما أقاموا ثلاثة أيام؛ لأن الفصيل رغا ثلاثًا على ما تقدّم في الأعراف فاصفرّت ألوانهم في اليوم الأول، ثم احمرت في الثاني، ثم اسودت في الثالث، وهلكوا في الرابع؛ وقد تقدّم في الأعراف.
الثانية:
استدلّ علماؤنا بإرجاء الله العذاب عن قوم صالح ثلاثة أيام على أن المسافر إذا لم يُجمع على إقامة أربع ليال قصر؛ لأن الثلاثة الأيام خارجة عن حكم الإقامة.
وقد تقدّم في النساء ما للعلماء في هذا.
قوله تعالى: {ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} أي غير كذب.
وقيل: غير مكذوب فيه. اهـ.

.قال الخازن:

{قال} يعني قال صالح مجيبًا لقومه: {يا قوم أرأيتم الله} أي فمن يمنعني من عذاب الله: {إن عصيته} يعني إن خالفت أمره: {فما تزيدونني غير تخسير} قال ابن عباس معناه غير خسارة في خسارتكم وقال الحسن بن الفضل: لم يكن صالح في خسارة حتى يقول فما تزيدونني غير تخسير وإنما المعنى فما تزيدونني بما تقولون إلا نسبتي إلى الخسارة.
{ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية}
وذلك أن قومه طلبوا أن يخرج لهم ناقة من صخرة كانت هناك أشاروا إليها فدعا الله فأخرج لهم من تلك الصخرة ناقة عشراء ثم ولدت فصيلًا يشبهها وقوله ناقة الله إضافة تشريف كبيت الله وعبد الله فكانت هذه الناقة لهم آية ومعجزة دالة على صدق صالح عليه السلام: {فذروها تأكل} يعني من العشب والنبات: {في أرض الله} يعني فليس عليكم مؤنتها: {ولا تمسوها بسوء} يعني يعقر: {فيأخذكم} يعني إن قتلتموها: {عذاب قريب} يعني في الدنيا: {فعقروها} يعني فخالفوا أمر ربهم فعقروها: {فقال} يعني فقال لهم صالح: {تمتعوا} يعني عيشوا: {في داركم} أي في بلدكم: {ثلاثة أيام} يعني ثم تهلكون: {ذلك} يعني العذاب الذي أوعدهم به بعد ثلاثة أيام: {وعد غير مكذوب} أي هو غير كذب روى أنه قال لهم يأتيكم العذاب بعد ثلاثة أيام فتصبحون في اليوم الأول ووجوهكم مصفرة وفي اليوم الثاني محمرة وفي اليوم الثالث مسودة فكان كما قال وأتاهم العذاب في اليوم الرابع وهو قوله سبحانه وتعالى: {فلما جاء أمرنا}. اهـ.

.قال أبو حيان:

{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ}
تقدم الكلام في أرأيتم في قصة نوح، والمفعول الثاني هنا لأرأيتم محذوف يدل عليه قوله: فمن ينصرني من الله إن عصيته، والتقدير: أعصيه في ترك ما أنا عليه من البينة.
وقال ابن عطية: أرأيتم هو من رؤية القلب، والشرط الذي بعده وجوابه يسد مسد مفعولي علمت وأخواتها، وإدخال أداة الشرط التي هي إن على جملة محققة، وهي كان على بينة من ربه، لكنه خاطب الجاحدين للبينة فكأنه قال: قدروا أني على بينة من ربي وانظروا إنْ تابعتكم وعصيت ربي في أوامره، فمن يمنعني من عذابه؟ قال ابن عطية: وفي الكلام محذوف تقديره: أيضرني شككم، أو أيمكنني طاعتكم، ونحو هذا مما يليق بمعنى الآية انتهى.
وهذا التقدير الذي قدره استشعار منه بالمفعول الثاني الذي يقتضيه أرأيتم، وأن الشرط وجوابه لا يقعان ولا يسدان مسد مفعولي أرأيتم، والذي قدرناه نحن هو الظاهر لدلالة قوله: فمن ينصرني من الله إن عصيته، فما تزيدونني غير تخسير.
قال الزمخشري: غير أن أخسركم أي أنسبكم إلى الخسران، وأقول أنكم خاسرون انتهى.
يفعل هذا للنسبة كفسقته وفجرته أي: نسبته أي الفسق والفجور.
قال ابن عباس: معناه ما تزيدونني بعبادتكم إلا بصارة في خسرانكم انتهى.
فهو على حذف مضاف أي: غير بصارة تخسيركم.
وقال مجاهد: ما تزدادون أنتم باحتجاجكم بعبادة آبائكم إلا خسارًا، وأضاف الزيادة إلى نفسه لأنهم أعطوه ذلك وكان سألهم الإيمان.
وقال ابن عطية: فما تعطوني فيما اقتضيته منكم من الإيمان غير تخسير لأنفسكم، وهو من الخسارة وليس التخسير إلا لهم، وفي حيزهم، وأضاف الزيادة إليه من حيث هو مقتض لأقوالهم موكل بإيمانهم كما تقول لمن توصيه: أنا أريدك خيرًا وأنت تريدني سوءًا، وكان الوجه البين أن يقول: وأنت تريد شرًا، لكن من حيث كنت مريد خير، ومقتضى ذلك حسن أن يضيف الزيادة إلى نفسك انتهى.
وقيل: التقدير فما تحملونني عليه، غير أني أخسركم أي: أرى منكم الخسران.
وقيل: التقدير تخسروني أعمالكم وتبطلونها.
قيل وهذا أقرب، لأن قوله: فمن ينصرني من الله إن عصيته كالدلالة على أنه أراد إن اتبعتكم فيما أنتم عليه ودعوتموني إليه لم أزدد إلا خسرانًا في الدين، فأصير من الهالكين الخاسرين.
وانتصب آية على الحال، والخلاف في الناصب في نحو هذا زيد منطلقًا، أهو حرف التنبيه؟ أو اسم الإشارة؟ أو فعل محذوف؟ جاز في نصب آية ولكم في موضع الحال، لأنه لو تأخر لكان نعتًا لآية، فلما تقدم على النكرة كان حالًا، والعامل فيها محذوف.
وقال الزمخشري: (فإن قلت): فبم يتعلق لكم؟ (قلت): بآية حالًا منها متقدمة، لأنها لو تأخرت لكان صفة لها، فلما تقدمت انتصب على الحال انتهى.
وهذا متناقض، لأنه من حيث تعلق لكم بآية كان لكم معمولًا لآية، وإذا كان معمولًا لها امتنع أن يكون حالًا منها، لأنّ الحال تتعلق بمحذوف، فتناقض هذا الكلام، لأنه من حيث كونه معمولًا لها كانت هي العاملة، ومن حيث كونه حالًا منها كان العامل غيرها، وتقدم الكلام على الجمل التي بعد آية.
وقرأت فرقة: تأكل بالرفع على الاستئناف، أو على الحال.
وقريب عاجل لا يستأخر عن مسكموها بسوء إلا يسيرًا، وذلك ثلاثة أيام، ثم يقع عليكم، وهذا الإخبار بوحي من الله تعالى، فعقروها نسب إلى جميعهم وإن كان العاقر واحدًا لأنه كان برضا منهم، وتمالؤ.
ومعنى تمتعوا استمتعوا بالعيش في داركم في بلدكم، وتسمى البلاد الديار لأنها يدار فيها أي: يتصرف، يقال: ديار بكر لبلادهم قاله الزمخشري.
وقال ابن عطية: في داركم جمع دارة، كساحة وساح وسوح، ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
له داع بمكة مشمعل ** وآخر فوق دارته ينادي

ويمكن أن يسمي جميع مسكن الحي دارًا انتهى.
ذلك أي: الوعد بالعذاب غير مكذوب، أي صدق حق.
والأصل غيره مكذوب فيه، فاتسع فحذف الحرف وأجرى الضمير مجرى المفعول به، أو جعل غير مكذوب لأنه وفى به فقد صدق، أو على أنّ المكذوب هنا مصدر عند من يثبت أنّ المصدر يجيء على زنة مفعول. اهـ.

.قال أبو السعود:

{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَءيْتُمْ} أي أخبروني: {إِن كُنتُ} في الحقيقة: {على بَيّنَةٍ} أي حجةٍ ظاهرةٍ وبرهانٍ وبصيرة: {مّن رَّبّى} مالكي ومتولّي أمري: {وَآتَانِى مِنْهُ} من جهته: {رَحْمَةً} نبوّةً، وهذه الأمورُ وإن كانت محقّقة الوقوعِ لكنها صُدّرت بكلمة الشك اعتبارًا لحال المخاطبين ورعايةً لحسن المحاوَرةِ لاستنزالهم عن المكابرة: {فَمَن يَنصُرُنِى مِنَ الله} أي ينجِّيني من عذابه، والعدولُ إلى الإظهار لزيادة التهويلِ والفاءُ لترتيب إنكارِ النُّصرةِ على ما سبق من إيتاء النبوةِ وكونِه على بينة من ربه على تقدير العصيانِ حسبما يُعرب عنه قوله تعالى: {إِنْ عَصَيْتُهُ} أي بالمساهلة في تبليغ الرسالةِ والمجاراةِ معكم فيما تأتون وتذرون فإن العصيانَ ممنْ ذلك شأنُه أبعدُ والمؤاخذةَ عليه ألزمُ وإنكارَ نُصرتِه أدخل: {فَمَا تَزِيدُونَنِى} إذن باستتباعكم إيايَ كما ينبئ عنه قولُهم: {قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّا قَبْلَ هذا} أي لا تفيدونني إذ لم يكن فيه أصلُ الخُسران حتى يزيدوه: {غَيْرَ تَخْسِيرٍ} أي غيرَ أن تجعلوني خاسرًا بإبطال أعمالي وتعريضي لسخط الله تعالى أو فما تزيدونني بما تقولون غيرَ أن أنسُبَكم إلى الخسران وأقولَ لكم: إنكم الخاسرون، فالزيادةُ على معناه، والفاءُ لترتيب عدمِ الزيادةِ على انتفاء الناصِرِ المفهومِ من إنكاره على تقدير العصيان مع تحقق ما ينفيه من كونه عليه الصلاة السلام على بينة من ربه وإيتائِه النبوةَ.
{وَيَا قَومِ هذه نَاقَةُ الله}
الإضافةُ للتشريف والتنبيهِ على أنها مفارقةٌ لسائر ما يجانسها من حيث الخِلْقةُ ومن حيث الخلق: {لَكُم آية} معجزةً دالّةً على صدق نبوّتي وهي حالٌ من ناقةُ الله والعاملُ ما في هذه من معنى الفعلِ ولكم حالٌ من آيةً متقدمةٌ عليها لكونها نكرةً، ولو تأخرت لكانت صفةً لها ويجوز أن يكون ناقةُ الله بدلًا من هذه أو عطفَ بيان ولكم خبرًا وعاملًا في آية: {فَذَرُوهَا} خلّوها وشأنَها: {تَأْكُلْ في أَرْضِ الله} ترعى نباتَها وتشرب ماءَها، وإضافةُ الأرضِ إلى الله تعالى لتربية استحقاقِها لذلك وتعليلِ الأمرِ بتركها وشأنَها: {وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء} بولغ في النهي عن التعرّض لها بما يضرها حيث نُهيَ عن المس الذي هو من مبادئ الإصابةِ ونُكر السوءِ أي لا تضرِبوها ولا تطرُدوها ولا تقرَبوها بشيء من السوء فضلًا عن عَقرها وقتلِها: {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} أي قريبُ النزول. ورُوي أنهم طلبوا منه أن يُخرج من صخرة تسمّى الكائبةَ ناقةً عُشَراءَ مخترِجةً جوفاءَ وبَراءً، وقالوا: إن فعلتَ ذلك صدقناك فأخذ صالحٌ عليه الصلاة والسلام عليهم مواثيقَهم: لئن فعلتُ ذلك لتؤمِنُنّ؟ فقالوا: نعم، فصلى ودعا ربَّه فتمخَّضت الصخرةُ تمخّضَ النَّتوجِ بولدها فانصدعت عن ناقة عُشراءَ كما وصفوا وهم ينظُرون ثم أنتجت ولدًا مثلَها في العِظَم فآمن به جُندُعُ بنُ عمْروٍ في جماعة، ومَنَع الباقين من الإيمان دوأبُ بنُ عمرو والحُبابُ صاحبُ أوثانهم وربابُ كاهنُهم فمكثت الناقةُ مع ولدها ترعى الشجرَ وتردُ الماءَ غِبًّا فما ترفع رأسَها من البئر حتى تشربَ كلَّ ما فيها ثم تتفحّج فيحلُبون ما شاءوا حتى تمتلئ أوانيهم فيشربون ويدّخرون وكانت تصيِّف بظهر الوادي فتهرُب منها أنعامُهم إلى بطنه وتشتو ببطنه فتهرب مواشيهم إلى ظهره فشق عليهم ذلك.
{فَعَقَرُوهَا} قيل: زَيَّنت عقرَها لهم عُنيزةُ أمُّ غَنَم وصدَقةُ بنتُ المختارِ فعقروها واقتسموا لحمها فرقِيَ سَقْبُها جبلًا اسمه قارة فرَغًا ثلاثًا، فقال صالح لهم: أدرِكوا الفصيلَ عسى أن يرفعَ عنكم العذاب فلم يقدِروا عليه وانفجرت الصخرةُ بعد رغائِه فدخلها: {فَقَالَ} لهم صالح: {تَمَتَّعُواْ} أي عيشوا: {فِى دَارِكُمْ} أي في منازلكم أو في الدنيا: {ثلاثة أَيَّامٍ} قيل: قال لهم: تصبح وجوهُكم غدًا مصفرّةً وبعد غدٍ مُحمرَّةً واليومَ الثالثَ مُسودةً ثم يصبّحكم العذابُ: {ذلك} إشارةٌ إلى ما يدل عليه الأمرُ بالتمتع ثلاثةَ أيامٍ من نزول العذاب عَقيبَها، والمرادُ بما فيه من معنى البُعد تفخيمُه: {وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} أي غيرُ مكذوبٍ فيه فخُذف الجارُّ للاتساع المشهور كقوله:
ويومٍ شهِدناه سليمًا وعامرًا

أو غيرُ مكذوب، كأن الواعدَ قال له: أفي بك فإن وفى به صدّقه وإلا كذّبه، أو وعدٌ غيرُ كذِبٍ على أنه مصدرٌ كالمجلود والمعقول. اهـ.