فصل: قال الثعلبي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قالَ: كُنْتُ في سَفِينَةٍ كَانَ قَوْمُهَا كَفَرَةً غَيْرِي، فَأهْلَكَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، وَنَجَّانِي مِنْهُم، فَخَرَجْتُ إلى جَزِيرَةٍ أتَعَبَّدُ هُناكَ، فَأَخْرُجُ أحْيَانًا وَأطْلُبُ شَيْئًا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ أرْجِعُ إلى مَكَانِي فَمَضَى صَالِحٌ، وَانْتَهَى إلى تَلَ عَظِيم، فَرَأَى رَجُلًا يَتَعَبَّدُ، فَانْتَهَى إلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ، فقالَ لَهُ صَالِحٌ مَنْ أنْتَ؟ قال: كَانَتْ هاهُنَا قَرْيَةٌ، كانَ أهْلُهَا كُفّارًا غَيْرِي، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ تعالى، وَنَجَّانِي مِنْهُم، فَجَعَلْتُ عَلَى نَفْسِي أنْ أَعْبُدَ اللَّهَ تَعَالَى هاهنا إلى المَوْتِ، وَقَدْ أَنْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى لِي شَجَرَةَ رُمَّانٍ، وَأَظْهَرَ لِي عَيْنَ ماءٍ، فآكُلُ مِنَ الرُّمَّانِ، وَأشْرَبُ مِنْ ماءِ العَيْن، وَأَتَوَضّأ مِنْهُ. فَذَهَبَ صالحٌ، وَانْتَهَى إلى قَرْيَةٍ كانَ أَهْلُها كُفَّارًا كُلُّهُمْ، غَيْرَ أَخَوَيْن مُسْلِمَيْنِ يَعْمَلان عَمَلَ الخُوصِ فَضَرَبَ النبي صلى الله عليه وسلم: مثلًا قال: لَوْ أنَّ مُؤْمِنًا دَخَلَ قَريَةً فِيها ألفُ رَجُلٍ، كُلُّهُمْ كُفّارٌ، وفِيهَا مُؤْمِنٌ وَاحِدٌ، فلا يَسْكُنُ قَلْبُهُ مَعَ أحَدٍ، حَتَّى يَجِد المُؤْمِنَ. وَلَوْ أنَّ مُنَافِقًا دَخَلَ قَرْيَةً فِيهَا أَلْفُ رَجُلٍ مُؤْمِنٍ، وَمُنَافِقٌ وَاحِدٌ، فلا يَسْكُنُ قَلْبُ المُنَافِقِ مَعَ أحَدٍ، ما لَمْ يَجِدِ المُنَافِقَ. فَدَخَلَ صَالِحٌ، فانتهى إلى الأَخَوَيْن، وَمَكَثَ عِنْدَهُمَا أيامًا. وَسَأَلَهُمَا عَنْ حَالِهِمَا، فَأَخْبَرَاهُ أَنَّهُمَا يَصْبِرَانِ عَلَى إيذاءِ المُشْركِينَ، وَأَنَّهُمَا يَعْمَلانِ عَمَلَ الخُوصِ، وَيُمْسِكانِ قُوتَهُمَا، وَيَتَصَدَّقَانِ بِالفَضْلِ. فَقالَ صَالِحٌ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أرَانِي في الأرْضِ مِنْ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، الَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى أذَى الكُفَّارِ، فأنا أرْجِعُ إلى قَوْمِي، وَأَصْبِرُ عَلَى أذاهُمْ. فَرَجَعَ إليْهِمْ، وَقَدْ كانُوا خَرَجُوا إلى عِيدِ لَهُمْ فَدَعَاهُمْ إلى الإيمانِ فَسَألُوا مِنْهُ أنْ يُخْرِجَ لَهُمْ نَاقَةً مِنَ الصَّخْرَةِ، فَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى، فَأخْرَجَ لَهُمْ ناقةً عُشَرَاءَ. فذلك قوله: {مّن رَّبّكُمْ هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ ءايَةً} أي: علامة وعبرة، {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ في أَرْضِ الله} يعني: في أرض الحجر: {وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء} يعني: لا تعقروها: {فَيَأْخُذَكُمْ}، يعني: يصيبكم: {عَذَابٌ قَرِيبٌ}.
فولدت الناقة ولدًا وكانت لهم بئر واحدة عذبة، قال ابن عباس: كان للناقة شرب يوم لا يقربونها، ولهم شرب يوم، وهي لا تحضرها، وكانوا يستقون الماء في يومهم ما يكفيهم للغد، فيقسمونه فيما بينهم، فإذا كان يوم شربها، كانت ترتع في الوادي، ثم تجيء إلى البئر، فتبرك، فتدلي رأسها في البئر، فتشرب منها، ثم تعود فترعى، ثم تعود إلى البئر، فتشرب منها، فتفعل ذلك نهارها كله.
وكان في المدينة تسعة رهط، يفسدون في الأرض، ولا يصلحون.
منهم: قدار بن سالف، ومصدع بن دهر وكانت في تلك القرية امرأة جميلة غنية، وكانت تتأذى بالناقة لأجل سايمتها فقالت: مَنْ عقر الناقة، أزوج نفسي منه.
فخرج قدار بن سالف، ومصدع بن دهر، وكمن لها مصدع في مضيق من ممرها، ورماها بسهم، فأصاب رجلها.
فَمَرَّتْ بقدار، وهي تجر رجلها، فضربها بالسيف فعقرها، وقسموا لحمها على جميع أهل القرية.
وكان في القرية تسعمائة أهل بيت ويقال ألف وخمسمائة.
فذلك قوله: {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ} لهم صالح: {تَمَتَّعُواْ في دَارِكُمْ} يعني: عيشوا، وانتفعوا في داركم، {ثلاثة أَيَّامٍ} ثمَّ يأتيكم العذاب، {ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} فقالوا له: ما العلامة في ذلك؟ قال: أن تصبحوا في اليوم الأول وجوهكم مصفرة، وفي اليوم الثاني محمرة، وفي اليوم الثالث مسودة.
ثم خرج صالح من بينهم.
قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا} يعني: عذابنا: {نَجَّيْنَا صالحا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا} يعني: بنعمة منا، {وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِئِذٍ} يعني: من عذاب يومئذ.
قرأ نافع، والكسائي: {وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِئِذٍ} بنصب الميم، لأنه إضافة إلى اسم غير متمكن، فيجوز النصب.
وقرأ الباقون: {يَوْمَئِذٍ}، بكسر الميم، على معنى الإضافة.
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ القوى العزيز} أخبر الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم، أنه قادر في أخذه المنيع، ممن عصاه.
ثم قال تعالى: {وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة} يعني: صيحة جبريل صاح صيحة، فماتوا كلهم، {فَأَصْبَحُواْ في دِيَارِهِمْ جاثمين} يعني: صاروا خامدين ميتين، {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} يعني: صاروا كأن لم يكونوا في الدنيا.
ويقال: كأن لم ينزلوا في ديارهم، ولم يكونوا.
{إِلا أَنْ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ} يعني: جحدوا وحدانية الله فهذا تنبيه، وتخويف لمن بعدهم: {أَلاَ بُعْدًا لّثَمُودَ} يعني: خزيًا، وسحقًا لثمود في الهلاك.
قرأ الكسائي: {أَلاَ بُعْدًا لّثَمُودَ} بكسر الدال مع التنوين، وجعله اسمًا للقوم، فلذلك جعله منصرفًا.
وقرأ الباقون بنصب الدال، لأنه اسم القبيلة.
وإنما يجري في قوله: {ألا إن} اتباعًا للكتابة في مصحف الإمام، وأما الكسائي، فأجراه لقربه من قوله: {ألا إن ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ}. اهـ.

.قال الثعلبي في الآيات السابقة:

{وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ}
ابتدأ خلقكم: {مِّنَ الأرض} وذلك أن آدم خلق من الأرض وهم منه: {واستعمركم فِيهَا} وجعلكم عمّارها وسكانها، قال ابن عباس: أعاشكم فيها، الضحّاك: أطال أعماركم، مجاهد: أعمركم من العمر أي جعلها داركم وسكنكم، قتادة: أسكنكم فيها.
{فاستغفروه ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ} ممّن رجاه: {مُّجِيبٌ} لمن دعاه.
{قَالُواْ} يعني قوم ثمود: {ياصالح قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا} القول أي كنا نرجو أن تكون فينا سيّدًا، وقيل: كنا نرجو أن تعود إلى ديننا: {أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} من الآلهة.
{وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} موقع في الريبة وموجب إليها، يقال: أربته إرابة إذا فعلت به فعلا يوجب لديه الريبة، قال الهذلي:
كنت إذا أتيته من غيبِ ** يشم عطفي ويبز ثوبى

كأنما أربته بريب...

{قَالَ يا قوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً} نبوة وحكمة: {فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ الله} لا يمنعني من عذاب الله: {إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} قال ابن عباس: غير خسارة في خسارتكم، الفرّاء: تضليل، قال الحسين بن الفضيل: لم يكن صالح في خسارة حين قال، علمت علم العرب، فما تزيدونني غير تخسير، وإنما المعنى ما تزيدونني، كما يقولون: ما أسبق إياكم إلى الخسارة، وهو قول العرب: فسقته وفجرته إذا نسبته إلى الفسق والفجور، وكذلك خسرته: نسبته إلى الخسران.
{ويا قوم هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً} نصب على الحال والقطع: {فَذَرُوهَا} أي دعوها تأكل في أرض الله من العشب والنبات فليس عليكم رزقها ولا مؤنتها.
{وَلاَ تَمَسُّوهَا بسوء} ولا تصيبوها بعقر ونحر: {فَيَأْخُذَكُمْ} إن قتلتموها: {عَذَابٌ قَرِيبٌ} من عقرها: {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ} لهم صالح: {تَمَتَّعُواْ} حتى يحين (عذابه): {فِي دَارِكُمْ} منازلكم: {ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ} تمهلون: {ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} غير كذب وقيل: غير مكذوب فيه.
{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ} نعمة وعصمة: {مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} عذابه وهوانه.
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ القوي العزيز وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة} يعني صيحة جبريل: {فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} صرعى، هلكى: {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ} يقيموا ويكونوا: {فِيهَا أَلاَ إِنَّ ثَمُودَاْ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ}. اهـ.

.قال ابن الجوزي في الآيات السابقة:

{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)}
قوله تعالى: {هو أنشأكم من الأرض}
فيه قولان:
أحدهما: خلقكم من آدم، وآدم خُلق من الأرض.
والثاني: أنشأكم في الأرض.
وفي قوله: {واستعمركم فيها} ثلاثة أقوال:
أحدها: أعمركم فيها، أي: جعلكم ساكنيها مدة أعماركم، ومنه العمرى، وهذا قول مجاهد.
والثاني: أطال أعماركم، وكانت أعمارهم من ألف سنة إِلى ثلاثمائة، قاله الضحاك.
والثالث: جعلكم عُمَّارها، قاله أبو عبيدة.
قوله تعالى: {قد كنتَ فينا مرجُوًّا قبل هذا} فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم كانوا يرجونه للمملكة بعد ملكهم، لأنه كان ذا حسب وثروة، قاله كعب.
والثاني: أنه كان يبغض أصنامهم ويعدل عن دينهم، وكانوا يرجون رجوعه إِلى دينهم، فلما أظهر إِنذارهم، انقطع رجاؤهم، منه وإِلى نحو هذا ذهب مقاتل.
والثالث: أنهم كانوا يرجون خيره، فلما أنذرهم، زعموا أن رجاءهم لخيره قد انقطع، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: {وإِننا لفي شك} إِن قال قائل: لم قال هاهنا: {وإِننا} وقال في (إِبراهيم): {وإِنا}؟
فالجواب: أنهما لغتان من لغات قريش السبع التي نزل القرآن عليها.
قال الفراء: من قال: {إِننا} أخرج الحرف على أصله، لأن كناية المتكلمين نا فاجتمعت ثلاث نونات، نونا إِن والنون المضمومة إِلى الألف، ومن قال: إِنا استثقل الجمع بين ثلاث نونات، وأسقط الثالثة، وأبقى الأولتين؛ وكذلك يقال: إِني وإٍنني، ولعلّي ولعلني، وليتي وليتني، قال الله في اللغة العليا: {لعلّي أبلغ الأسباب} [غافر: 36]، وقال الشاعر في اللغة الأخرى:
أريني جوادًا مات هَزْلًا لعلَّني ** أرى ما تَرَيْنَ أو بخيلًا مخلَّدا

وقال الله تعالى: {يا ليتني كنتُ معهم} [النساء: 73]، وقال الشاعر:
كمُنيةِ جابرٍ إِذ قال ليتي ** أصادفُه وأُتلفُ بعضَ مالي

فأما المريب، فهو الموقع للريبة والتهمة.
والرحمة يراد بها هاهنا: النبوَّة.
قوله تعالى: {فما تزيدونني غير تخسير} التخسير: النقصان.
وفي معني الكلام قولان:
أحدهما: فما تزيدونني غيرَ بَصَارَةٍ في خسارتكم، قاله ابن عباس.
وقال الفراء: المعنى: فما تزيدونني غير تخسيرٍ لكم، أي: كلما اعتذرتم عندي بعذر فهو يزيدكم تخسيرًا.
وقال ابن الأعرابي: غير تخسير لكم، لا لي.
وقال بعضهم: المعنى: فما تزيدونني بما قلتم إِلا نسبتي لكم إِلى الخسارة.
والقول الثاني: فما تزيدونني غير الخسران إِن رجعتُ إِلى دينكم، وهذا معنى قول مقاتل.
فإن قيل: فظاهر هذا أنه كان خاسرًا، فزادوه خسارًا، فقد أسلفنا الجواب في قوله: {لو خرجوا فيكم مازادوكم إِلا خبالًا} [التوبة: 47].
قوله تعالى: {هذه ناقةُ الله لكم آيةً} قد شرحناها في سورة [الأعراف: 73] قوله تعالى: {تمتعوا في داركم} أي: استمتعوا بحياتكم، وعبَّر عن الحياة بالتمتع، لأن الحيَّ يكون متمتِّعًا بالحواسِّ.
قوله تعالى: {ثلاثةَ أيام} قال المفسرون: لمَّا عُقرت الناقة صَعِدَ فصيلُها إِلى الجبل، ورغا ثلاث مرات، فقال صالح: لكل رغوة أجل يوم، ألا إِن اليوم الأول تصبح وجوهُكم مُصْفَرَّةً، واليوم الثاني مُحْمَرَّةً، واليوم الثالث مُسْوَدَّةً؛ فلما أصبحوا في اليوم الأول، إِذا وجوههم مصفرة، فصاحوا وضجوا، وبَكَوْا، وعَرَفوا أنَّه العذاب، فلما أصبحوا في اليوم الثاني، إِذا وجوههم محمرة، فضجوا، وبكَوا، فلما أصبحوا في اليوم الثالث، إِذا وجوههم مسودة كأنما طليت بالقار، فصاحوا جميعًا: ألا قد حضركم العذاب؛ فتكفَّنوا وألقَوْا أنفسهم بالأرض، لا يدرون من أين يأتيهم العذاب، فلما أصبحوا في اليوم الرابع، أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كلِّ صاعقة، فتقطَّعتْ قلوبُهم في صدورهم.
وقال مقاتل: حفروا لأنفسهم قبورًا، فلما ارتفعت الشمس من اليوم الرابع، ولم يأتهم العذاب، ظنوا أن الله قد رحمهم، فخرجوا من قبورهم يدعو بعضهم بعضًا، إِذ نزل جبريل، فقام فوق المدينة فسدّ ضوءَ الشمس، فلما عاينوه، دخلوا قبورهم، فصاح بهم صيحة: موتوا، عليكم لعنة الله، فخرجت أرواحهم، وتزلزلت بيوتهم فوقعت على قبورهم.
قوله تعالى: {ذلك وعدٌ} أي: العذاب: {غير مكذوب} أي: غير كذب.
قوله تعالى: {ومن خِزْيِ يومِئِذٍ} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر {يومِئِذٍ} بكسر الميم. وقرأ الكسائي بفتحها مع الإِضافة. قال مكي: من كسر الميم، أعرب وخفض، لإِضافة الخزي إِلى اليوم، ولم يَبْنِهِ؛ ومن فتح، بنى اليوم على الفتح، لإِضافته إِلى غير متمكّن، وهو إِذ وقرأ ابن مسعود {ومن خزيٍ} بالتنوين، {يومَئذ} بفتح الميم.
قال ابن الأنباري: هذه الواو في قوله: {ومن خزي} معطوفة على محذوف، تقديره: نجيناهم من العذاب ومن خزي يومئذ.
قال: ويجوز أن تكون دخلت لفعل مضمر، تأويله: نجينا صالحًا والذين آمنوا معه برحمة منا، ونجيناهم من خِزْي يومئذ.
قال: وإِنما قال: {وأخذَ} لأن الصيحة محمولة على الصياح. قوله تعالى: {ألا بعدًا لثمود} اختلفوا في صرف {ثمود} وترك إِجرائه في خمسة مواضع: في [هود: 69]: {ألا إِن ثمودًا كفروا ربهم ألا بعدًا لثمود} وفي [الفرقان: 38]: {وعادًا وثمودًا وأصحابَ الرسِّ} وفي [العنكبوت: 38]: {وعادًا وثمودًا وقد تبين لكم} وفي [النجم: 51]: {وثمودَ فما أبقي} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع، وابن عامر بالتنوين في أربعة مواضع منها، وتركوا: {ألا بعدًا لثمود} فلم يصرفوه.
وقرأ حمزة بترك صرف هذه الخمسة الأحرف، وصرفهنَّ الكسائي.
واختلف عن عاصم، فروى حسين الجعفي عن أبي بكر عنه أنه أجرى الأربعة الأحرف مثل أبي عمرو؛ وروى يحيى بن آدم أنه أجرى ثلاثة، في [هود: 69]
{ألا إِن ثمودًا} وفي [الفرقان: 38] و[العنكبوت: 38].
وروى حفص عنه أنه لم يجر شيئًا منها مثل حمزة. واعلم أن ثمودًا يراد به القبيلة تارة، ويراد به الحي تارة. فإذا أريد به القبيلة، لم يصرف، وإِذا أريد به الحي، صرف. وما أخللنا به، فقد سبق تفسيره [الأعراف: 73، والتوبة: 70]. اهـ.

.قال النسفي:

{وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صالحا قَالَ ياقوم اعبدوا الله مَالَكُمْ مّنْ إله غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مّنَ الأرض}
لم ينشئكم منها إلا هو وإنشاؤهم منها خلق آدم من التراب ثم خلقهم من آدم: {واستعمركم فِيهَا} وجعلكم عمارها وأراد منكم عمارتها، أو استعمركم من العمر أي أطال أعماركم فيها وكانت أعمارهم من ثلثمائة إلى ألف، وكان ملوك فارس قد أكثروا من حفر الأنهار وغرس الأشجار وعمروا الأعمار الطوال مع ما فيهم من الظلم فسأل نبي من أنبياء زمانهم ربه عن سبب تعميرهم، فأوحى الله إليه أنهم عمروا بلادي فعاش فيها عبادي: {فاستغفروه} فاسألوا مغفرته بالإيمان: {ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبّى قَرِيبٌ} داني الرحمة: {مُّجِيبٌ} لمن دعاه.
{قَالُواْ يَا صالح قَدْ كُنتَ فِينَا} فيما بيننا: {مَرْجُوّا قَبْلَ هذا} للسيادة والمشاورة في الأمور أو كنا نرجو أن تدخل في ديننا وتوافقنا على ما نحن عليه: {أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا} حكاية حال ماضية: {وَإِنَّنَا لَفِى شَكّ مّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} من التوحيد: {مُرِيبٍ} موقع في الريبة من أرابه إذا أوقعه في الريبة وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة: {قَالَ ياقوم أَرَءيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيّنَةً مّن رَّبّى وءاتانى مِنْهُ رَحْمَةً} نبوة، أتى بحرف الشك مع أنه على يقين أنه على بينة لأن خطابه للجاحدين فكأنه قال قدروا أني على بينة من ربي، وأنني نبي على الحقيقة وانظروا إن تابعتكم وعصيت ربي في أوامره: {فَمَن يَنصُرُنِى مِنَ الله} فمن يمنعني من عذاب الله: {إِنْ عَصَيْتُهُ} في تبليغ رسالته ومنعكم عن عبادة الأوثان: {فَمَا تَزِيدُونَنِى} بقولكم: {أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا}، {غَيْرَ تَخْسِيرٍ} بنسبتكم إياي إلى الخسار أو بنسبتي إياكم إلى الخسران.
{ياقوم هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ ءايَةً} نصب على الحال قد عمل فيها ما دل عليه اسم الإشارة من معنى الفعل و: {لكم} متعلق: {بآية} حالًا منها متقدمة، لأنها لو تأخرت لكانت صفة لها فلما تقدمت انتصبت على الحال: {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ في أَرْضِ الله} أي ليس عليكم رزقها مع أن لكم نفعها: {وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء} عقر أو نحر: {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} عاجل: {فَعَقَرُوهَا} يوم الأربعاء: {فَقَالَ} صالح: {تَمَتَّعُواْ} استمتعوا بالعيش: {فِى دَارِكُمْ} في بلدكم وتسمى البلاد الديار لأنه يدار فيها أي يتصرف أو في دار الدنيا: {ثلاثة أَيَّامٍ} ثم تهلكون فهلكوا يوم السبت: {ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} أي غير مكذوب فيه فاتسع في الظرف بحذف الحرف وإجرائه مجرى المفعول به، أو وعد غير كذب على أن المكذوب مصدر كالمعقول.
{فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا} بالعذاب أو عذابنا: {نَجَّيْنَا صالحا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا} قال الشيخ رحمه الله: هذا يدل على أن من نجى إنما نجى برحمة الله تعالى لا بعمله كما قال عليه السلام: «لا يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله»: {وَمِنْ خِزْىِ يَوْمِئِذٍ} بإضافة الخزي إلى اليوم وانجرار اليوم بالإضافة.
وبفتحها مدني وعلي، لأنه مضاف إلى {إذ} وهو مبني، وظروف الزمان إذا أضيفت إلى الأسماء المبهمة والأفعال الماضية بنيت واكتسبت البناء من المضاف إليه كقوله:
على حين عاتبت المشيب على الصبا

والواو للعطف وتقديره: ونجيناهم من خزي يومئذ أي من ذله وفضيحته، ولا خزي أعظم من خزي من كان هلاكه بغضب الله وانتقامه.
وجاز أن يريد ب: {يومئذ} يوم القيامة كما فسر العذاب الغليظ بعذاب الآخرة: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ القوى} القادر على تنجية أوليائه: {العزيز} الغالب بإهلاك أعدائه: {وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة} أي صيحة جبريل عليه السلام: {فَأَصْبَحُواْ في دِيَارِهِمْ} منازلهم: {جاثمين} ميتين: {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} لم يقيموا فيها: {ألا إن ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ} {ثمودَ} حمزة وحفص: {أَلاَ بُعْدًا لّثَمُودَ} {لِثَمُودٍ} علي: فالصرف للذهاب إلى الحي أو الأب الأكبر، ومنعه للتعريف والتأنيث بمعنى القبيلة. اهـ.