فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ما تزيدونني إلا خسارة على خسارة.. غضب الله وحرماني شرف الرسالة وخزي الدنيا وعذاب الآخرة. وهي خسارة بعد خسارة. ولا شيء إلا التخسير! والتثقيل والتشديد!
{ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب}
ولا يذكر السياق صفة لهذه الناقة التي اشار إليها صالح لتكون آية لهم وعلامة. ولكن في إضافتها لله: {هذه ناقة الله} وفي تخصيصها لهم: {لكم آية} ما يشير إلى أنها كانت ذات صفة خاصة مميزة، يعلمون بها أنها آية لهم من الله. ونكتفي بهذا دون الخوض في ذلك الخضم من الأساطير والإسرائيليات التي تفرقت بها أقوال المفسرين حول ناقة صالح فيما مضى وفيما سيجيء!
{هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء}..
وإلا فسيعاجلكم العذاب. يدل على هذه المعالجة فاء الترتيب في العبارة. ولفظ قريب: {فيأخذكم عذاب قريب}..
يأخذكم أخذًا. وهي حركة أشد من المس أو الوقوع.
{فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب}..
ودل عقرهم للناقة، أي ضربهم لها بالسيف في قوائمها وقتلها على هذا النحو. دل على فساد قلوبهم واستهتارهم.
والسياق هنا لا يطيل بين إعطائهم الناقة وعقرهم إياها، لأنها لم تحدث في نفوسهم تجاه الدعوة تغييرًا يذكر. ثم ليتابع السياق عجلة العذاب. فهو يعبر هنا بفاء التعقيب في كل الخطوات: {فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام}..
فهي آخر ما بقي لكم من متاع هذه الدنيا ومن أيام هذه الحياة: {ذلك وعد غير مكذوب}..
فهو وعد صادق لن يحيد.
وبالفاء التعقيبية يعبر كذلك. فالعذاب لم يتأخر: {فلما جاء أمرنا نجينا صالحًا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين}..
فلما جاء موعد تحقيق الأمر وهو الإنذار أو الإهلاك نجينا صالحًا والذين آمنوا معه برحمة منا.. خاصة ومباشرة.. نجيناه من الموت ومن خزي ذلك اليوم، فقد كانت ميتة ثمود ميتة مخزية، وكان مشهدهم جاثمين في دورهم بعد الصاعقة المدوية التي تركتهم موتى على هيئتهم مشهدًا مخزيًا.
{إن ربك هو القوي العزيز}..
يأخذ العتاة أخذًا ولا يعز عليه أمر، ولا يهون من يتولاه ويرعاه.
ثم يعرض السياق مشهدهم، معجّبًا منهم، ومن سرعة زوالهم: {كأن لم يغنوا فيها}..
كان لم يقيموا ويتمتعوا.. وإنه لمشهد مؤثر، وإنها للمسة مثيرة، والمشهد معروض، وما بين الحياة والموت بعد أن يكون إلا لمحة كومضة العين، وإذا الحياة كلها شريط سريع. كأن لم يغنوا فيها..
ثم الخاتمة المعهودة في هذه السورة: تسجيل الذنب، وتشييع اللعنة، وانطواء الصفحة من الواقع ومن الذكرى: {ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدًا لثمود}.
ومرة أخرى نجدنا أمام حلقة من حلقات الرسالة على مدار التاريخ.. الدعوة فيها هي الدعوة. وحقيقة الإسلام فيها هي حقيقته.. عبادة الله وحده بلا شريك، والدينونة لله وحده بلا منازع.. ومرة اخرى نجد الجاهلية التي تعقب الإسلام، ونجد الشرك الذي يعقب التوحيد فثمود كعاد هم من ذراري المسلمين الذين نجوا في السفينة مع نوح ولكنهم انحرفوا فصاروا إلى الجاهلية، حتى جاءهم صالح ليردهم إلى الإسلام من جديد..
ثم نجد أن القوم يواجهون الآية الخارقة التي طلبوها، لا بالإيمان والتصديق، ولكن بالجحود وعقر الناقة!
ولقد كان مشركوا العرب يطلبون من رسول الله صلى الله عليه وسلم خارقة كالخوارق السابقة كي يؤمنوا. فها هم أولاء قوم صالح قد جاءتهم الخارقة التي طلبوا. فما أغنت معهم شيئًا! إن الإيمان لا يحتاج إلى الخوارق. إنه دعوة بسيطة تتدبرها القلوب والعقول. ولكن الجاهلية هي التي تطمس على القلوب والعقول:!!!
ومرة أخرى نجد حقيقة الألوهية كما تتجلى في قلب من قلوب الصفوة المختارة. قلوب الرسل الكرام. نجدها في قولة صالح التي يحكيها عنه القرآن الكريم: {قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير}.... وذلك بعد أن يصف لهم ربه كما يجده في قلبه: {إن ربي قريب مجيب}..
وما تتجلى حقيقة الألوهية قط في كمالها وجلالها وروائها وجمالها كما تتجلى في قلوب تلك الصفوة المختارة من عباده. فهذه القلوب هي المعرض الصافي الرائق الذي تتجلى فيه هذه الحقيقة على هذا النحو الفريد العجيب!
ثم نقف من القصة أمام الجاهلية التي ترى في الرشد ضلالًا؛ وفي الحق عجيبة لا تكاد تتصورها! فصالح الذي كان مرجوًا في قومه، لصلاحه ولرجاحة عقله وخلقه، يقف منه قومه موقف اليائس منه، المفجوع فيه! لماذا؟ لأنه دعاهم إلى الدينونة لله وحده. على غير ما ورثوا عن آبائهم من الدينونة لغيره!
إن القلب البشري حين ينحرف شعرة واحدة عن العقيدة الصحيحة، لا يقف عند حد في ضلاله وشروده. حتى إن الحق البسيط الفطري المنطقي ليبدو عنده عجيبة العجائب التي يعجز عن تصورها؛ بينما هو يستسيغ الانحراف الذي لا يستند إلى منطق فطري أو منطق عقلي على الإطلاق!
إن صالحًا يناديهم: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره.. هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها..}.. فهو يناديهم بما في نشأتهم ووجودهم في الأرض من دليل فطري منطقي لا يملكون له ردًا.. وهم ما كانوا يزعمون أنهم هم أنشأوا أنفسهم، ولا أنهم هم كفلوا لأنفسهم البقاء، ولا أعطوا أنفسهم هذه الأرزاق التي يستمتعون بها في الأرض..
وظاهر أنهم لم يكونوا يجحدون أن الله سبحانه هو الذي أنشأهم من الأرض، وهو الذي أقدرهم على عمارتها. ولكنهم ما كانوا يُتبعون هذا الاعتراف بألوهية الله سبحانه وإنشائه لهم واستخلافهم في الأرض، بما ينبغي أن يتبعه من الدينونة لله وحده بلا شريك، واتباع أمره وحده بلا منازع.. وهو ما يدعوهم إليه صالح بقوله: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}.. لقد كانت القضية هي ذاتها.. قضية الربوبية لا قضية الألوهية. قضية الدينونة والحاكمية قضية الاتباع والطاعة.. إنها القضية الدائمة التي تدور عليها معركة الإسلام مع الجاهلية!. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)}
أخرج أبو الشيخ عن السدي رضي الله عنه: {هو أنشأكم من الأرض} قال: خلقكم من الأرض.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد رضي الله عنه: {واستعمركم فيها} قال: أعمركم فيها.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد رضي الله عنه: {واستعمركم فيها} قال: استخلفكم فيها.
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد: {فما تزيدونني غير تخسير} يقول: ما تزدادون أنتم إلا خسارًا.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عطاء الخراساني: {فما تزيدونني غير تخسير} قال: ما تزيدونني بما تصنعون إلا شرًا لكم وخسرانًا تخسرونه.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن جريج في قوله: {ثلاثة أيام} قال: كان بقي من أجل قوم صالح عند عقر الناقة ثلاثة أيام فلم يعذبوا حتى أكملوها.
وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله: {نجينا صالحًا والذين آمنوا...} الآية. قال: نجاه الله برحمة منه، ونجاه من خزي يومئذ.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد رضي الله عنه في قوله: {فأصبحوا في ديارهم جاثمين} قال: ميتين.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {كأن لم يغنوا فيها} قال: كأن لم يعيشوا فيها.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس: {كأن لم يغنوا فيها} قال: كأن لم يعمروا فيها.
وأخرج ابن الأنباري في الوقف والابتداء والطستي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله عز وجل: {كأن لم يغنوا فيها} قال: كأن لم يكونوا فيها يعني في الدنيا حين عذبوا ولم يعمروا فيها. قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم، أما سمعت لبيد بن ربيعة وهو يقول:
وغنيت شيئًا قبل نحري وأحسن ** لو كان للنفس اللجوج خلود

وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {كأن لم يغنوا فيها} قال: كأن لم ينعموا فيها. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66)} قوله تعالى: {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ}: متعلقٌ بمحذوفٍ، أي: ونَجَّيْناهم مِنْ خزي. وقال الزمخشري: فإن قلت: علام عُطِف؟ قلت: على {نَجَّيْنا} لأنَّ تقديرَه: ونجَّيْناهم من خزيِ يومئذ كما قال: {وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود: 58]، أي: وكانت التنجيةُ مِنْ خزي: وقال غيره: إنه متعلقٌ ب {نَجَّيْنا} الأول. وهذا لا يجوزُ عند البصريين غيرَ الأخفش، لأن زيادةَ الواوِ غيرُ ثابتة.
وقرأ نافع والكسائي بفتح ميم {يومئذ} على أنها حركةُ بناء لإِضافته إلى غير متمكن كقوله:
على حينَ عاتَبْتُ المشيبَ على الصِّبا ** فقلت ألمَّا أَصْحُ والشيبُ وازع

وقرأ الباقون بخفض الميم. وكذلك الخلافُ جارٍ في: {سَأَلَ سَائِلٌ} [المعارج: 1]. وقرأ طلحة وأبان بن تغلب بتنوين {خزي} و{يومئذ} نصب على الظرف بالخزي.
وقرأ الكوفيون ونافع في النمل: {مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ} بالفتح أيضًا، والكوفيون وحدهم بتنوين {فزع} ونصب {يومئذ} به.
ويحتمل في قراءة مَنْ نوَّن ما قبل {يومئذ} أن تكون الفتحةُ فتحةَ إعرابٍ أو فتحةَ بناء، و{إذ} مضافةٌ لجملة محذوفة عُوِّض منها التنوينُ تقديرُه: إذْ جاء أمرُنا. وقال الزمخشري: ويجوز أن يُراد يومُ القيامة، كما فُسِّر العذاب الغليظ بعذاب الآخرة. قال الشيخ: وهذا ليس بجيدٍ؛ لأنه لم يتقدَّم ذِكْرُ يومِ القيامة، ولا ما يكون فيها، فيكون هذا التنوين عوضًا من الجملةِ التي تكون في يوم القيامة. قلت: قد تكون الدلالةُ لفظيةً، وقد تكون معنويةً وهذه من المعنوية.
{وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67)}
قوله تعالى: {وَأَخَذَ الذين}: حُذِفت تاءُ التأنيث: إما لكونِ المؤنث مجازيًا، أو للفصل بالمفعول، أو لأنَّ الصيحةَ بمعنى الصياح، والصَّيْحة: فَعْلة تدل على المَرَّة من الصياح، وهي الصوتُ الشديد: صاح يصيح صِياحًا، أي: صوَّت بقوة.
{كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)}
وقرأ حمزة وحفص: {أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ} هنا، وفي الفرقان: {وَعَادًا وَثَمُودَاْ} [الآية: 38]، وفي العنكبوت: {وَعَادًا وَثَمُودَاْ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم} [الآية: 38]، وفي النجم: {وَثَمُودَ فَمَا أبقى} [الآية: 51] جميعُ ذلك بمنعِ الصرفِ، وافقهم أبو بكر على الذي في النجم.
وقوله: {أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ} منعه القراءُ الصرفَ إلا الكسائيَّ فإنه صَرَفَه. وقد تقدم أنَّ مَنْ منع جعله اسمًا للقبيلة، ومَنْ صَرَف جعله اسمًا للحيّ، وأنشد على المنع:
ونادى صالحٌ يا ربِّ أنزلْ ** بآلِ ثمودَ منك عذابًا

وأنشد على الصرف:
دَعَتْ أمُّ عمروٍ أمرَ شرٍّ علمتُه ** بأرضِ ثمودٍ كلِّها فأجابها

وقد تقدَّم الكلامُ على اشتقاق هذه اللفظة في سورة الأعراف. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى في قصة صالح: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍقَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} (هود: 62)، وقال في سورة إبراهيم عليه السلام: {وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} (إبراهيم: 9)، للسائل أن يسأل عن ثبات النونين وهما للمضاعفة الداخلة للتأكيد ونون الضمير في {إننا} في سورة هود وسقوط إحدى النونين في سورة إبراهيم من {إِنّا}؟ وعن إفراد النون في سورة هود في: {تَدْعُونَا} والحاق نون ثانية في {تَدْعُونَنَا} من سورة إبراهيم؟
والجواب عن ذلك: أن {إننا} الواردة في سورة هود المضموم فيها إلى أن المشددة الناصبة للإسم والرافعة للخبر نون الضمير المنصوب وارده على ما يجب وعلى الأصل في إتصال الضمير المنصوب، ثم يجوز حذف إحدى المضاعفين تخفيفًا فنقول: {إنا} فنكتفي بالضمير عن النون المحذوفة، وذلك من فصيح كلامهم، والأصل الأول، وإذا تقرب هذا فاعلم أن الضمير المتصل بالفعل في {تدعونا} في سورة هود ضمير مفرد مستتر وهو ضمير صالح، عليه السلام، ورفع هذا الفعل بالضمة المقدرة في الواو من {تدعونا} ضمير قوم صالح. ولا نون هنا غير هذه، وأما قوله في سورة إبراهيم عليه السلام: {مِمَّا تَدْعُونَنَا} فالواو ضمير الرسل المقول لهم: {إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ}، ورفع هذا الفعل بالنون الأولى والنون الثانية ضمير المدعوّين، فلابد هنا من النونين في {تدعوننا}، فلما لزمت النونان هنا جيء معهما بإن المحذوفة النون لتقارب اللفظ أعني قرب إن من تدعوننا، فكان في مظنة الإستثقال فحسن الحذف حيث يجوز فقيل: {وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} (إبراهيم: 9)، ولما لم يكن في (تدعونا) في سورة هود إلا نون واحدة وهي نون الضمير لم يستثقل، فجيء بإننا على الأصل فجاء كل على ما يجب، والله أعلم بما أراد.
قوله تعالى في قصة صالح: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} (هود: 67)، وقال في هذه السورة في قصة شعيب عليه السلام: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} (هود: 94)، يسأل عن سقوط علامة التأنيث من الفعل في قوله: {وَأَخَذَ} في قصة صالح وثبوتها فيه في قصصة شعيب مع التساوي في الفاعل وهي الصيحة والتساوي في الفصل الواقع بين الفعل وفاعله الرافع له؟
والجواب عن ذلك: أن التأنيث على ضربين حقيقي وغير حقيقي، فالحقيقي لا تحذف تاء التأنيث من فعله غالبًا إلا أن يقع فصل نحو قام اليوم هند، وكلما كثر الفصل حسن الحذف، ومن كلامهم حضر القاضي اليوم امرأة، والإثبات مع الحقيقي أولى ما لم يكن جمعًا. وأما التانيث غير الحقيقي فالحذف فيه مع الفصل حسن، قال تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى} (البقرة: 275)، وهو كثير، فإن كثر الفصل ازداد حسنًا، (ومنه): {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ}، فالحذف والإثبات هنا جائزان والحذف أحسن، فجاء الفعل في الآية الأولى على الأولى، ثم ورد في قصة شعيب وهي الثانية بإثبات علامة التأنيث على الوجه الثاني، جمعًا بين الوجهين إذ الآيتان في سورة واحدة وتقدمها الأولى على ما ينبغي، والله أعلم. وهذا ما لم يكن الفاعل ضمير مؤنث فله أحكام تخصه.
قوله تعالى: {أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ} (هود: 68) وقرئ ثمود في الموضوعين بالوجهين من الصرف وعدمه إلا أن أكثر القراء على الصرف في الأول ومنعه في الثاني، فيترتب على قراءة الأكثرين سؤال وهو لم صرف في الأول في قراءة غير حفص وحمزة ومنع الثاني الصرف في قراءة الجماعة غير الكسائي؟
ووجه ذلك، والله أعلم: التفات شيء في خفاء يراعي مثله وذلك أن الاسم النكرة إذا تكرر وأريد بالثاني الأول ولم يرد غيره لزمت الألف واللام التي للعهد فصار معرفة تقول: رأيت رجلًا فضربت الرجل تريد المذكور ولا تعيده نكرة بوجهه، ولك أن تأتي به مضمرًا فتقول رأيت رجلًا فضربته فإذا تكلمت (بهذا) في المعرفة فالأكثر أن تأتي به مضمرًا أو موصوفًا كقولك المذكور أو ما لا يخرج عن الأول حتى لا يظن أنك تريد سواه فتقول: رأيت زيدًا فكلمته ولقيت عمرًا فضربت المذكور أو ضربت عمرًا المذكور، والثاني المكرر أبدًا إن كان الأول نكرة كان هو معرفة بأداة العهد، وإن كان الأول معرفة كان الثاني أمكن في التعريف إذ قد يدخل الأول اشتراك لوجود أمثله ممن سمّي باسمه، أما الثاني فلا يدخله اشتراك من حيث هو إلا أن يسري له الاشتراك من الأول، (فقد) ثبت على كل حال أنه أبعد من الاشتراك والالتباس من الأول وذلك شفوف له عليه، فكأنه أعرف منه فإذا تكرر غيرر مضمر ولا منعوت وكان علمًا مما يجوز في مثله الوجهان من الصرف وعدمه وذلك الثلاثي الساكن الوسط، والعرب قد تصرفه لخفته ومنهم من يمنعه الصرف لوجود علتين ولا يراعى خفته، وقد أنشدوا عليه:
لم تتلفع بفضل مئزرها ** دعدّ ولم تستق دعدُ في العلبِ

فصرف أولًا ولم يصرف آخر، فإذا كان أكد تعريفًا كان الوجه منع صرفه إشعارًا لتمكن تعريفه، إذ هذا الضرب من التعريف من موانع الصرف ولا اعتبار بما دونه من المعارف في منع الصرف إلا لموانع أخر، فلهذا كان الثاني في قوله: {ألا بعدًا لثمود} أولى بمنع الصرف، والله أعلم، وعلى هذا ورد ما أنشدوه من قوله:
لم تتلفع بفضل مئزرها ** دعدٌ ولم تسق دعدٌ في العلبِ

فالمؤنث الثلاثي الساكن الوسط إذا لم يكن منقولًا عن مذكر فيه الوجهان الصرف وعدمه، إلا أن في اختصاص مكرره بالمنع تأنيس لما ذكرناه وإن لم ترد به الشواهد إذ باب هذا معروف ومفهوم لا توقف فيه. اهـ.