فصل: من فوائد ابن عاشور في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد ابن عاشور في الآية:

قال رحمه الله:
{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ}.
تذكير بنعمة أخرى جمعت ثلاث نعم وهي الري من العطش، وتلك نعمة كبرى أشد من نعمة إعطاء الطعام ولذلك شاع التمثيل بري الظمآن في حصول المطلوب.
وكون السقي في مظنة عدم تحصيله وتلك معجزة لموسى وكرامة لأمته لأن في ذلك فضلًا لهم.
وكون العيون اثنتي عشرة ليستقل كل سبط بمشرب فلا يتدافعوا.
وقوله: {وإذ} متعلق ب {اذكروا} وقد أشارت الآية إلى حادثة معروفة عند اليهود وذلك أنهم لما نزلوا في رفيديم قبل الوصول إلى برية سينا وبعد خروجهم من برية سين في حدود الشهر الثالث من الخروج عطشوا ولم يكن بالموضع ماء فتذمروا على موسى وقالوا أتصعدنا من مصر لنموت وأولادنا ومواشينا عطشًا فدعا موسى ربه فأمره الله أن يضرب بعصاه صخرة هناك في حوريب فضرب فانفجر منها الماء.
ولم تذكر التوراة أن العيون اثنتا عشرة عينًا وذلك التقسيم من الرفق بهم لئلا يتزاحموا مع كثرتهم فيهلكوا فهذا مما بينه الله في القرآن.
فقوله: {استسقى موسى} صريح في أن طالب السقي هو موسى وحده، سأله من الله تعالى ولم يشاركه قومه في الدعاء لتظهر كرامته وحده، كذلك كان استسقاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على المنبر لما قال له الأعرابي هلك الزرع والضرع فادع الله أن يسقينا والحديث في الصحيحين.
وقوله: {لقومه} مؤذن بأن موسى لم يصبه العطش وذلك لأنه خرج في تلك الرحلة موقنًا أن الله حافظهم ومبلغهم إلى الأرض المقدسة فلذلك وقاه الله أن يصيبه جوع أو عطش وكلل وكذلك شأن الأنبياء فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث وصال الصوم: «إني لست كهيئتكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني».
قال ابن عرفة في تفسيره أخذ المازري من هذه الآية جواز استسقاء المخصب للمجدب لأن موسى عليه السلام لم ينله ما نالهم من العطش ورده ابن عرفة بأنه رسولهم وهو معهم. اهـ.
وهو رد متمكن إذ ليس المراد باستسقاء المخصب للمجدب الأشخاص وإنما المراد استسقاء أهل بلد لم ينلهم الجدب لأهل بلد مجدبين والمسألة التي أشار إليها المازري مختلف فيها عندنا واختار اللخمي جواز استسقاء المخصب للمجدب لأنه من التعاون على البر ولأن دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة وقال المازري فيه نظر لأن السلف لم يفعلوه.
وعصا موسى هي التي ألقاها في مجلس فرعون فتلقفت ثعابين السحرة وهي التي كانت في يد موسى حين كلمه الله في برية سينا قبل دخوله مصر وقد رويت في شأنها أخبار لا يصح منها شيء فقيل إنها كانت من شجر آس الجنة أهبطها آدم معه فورثها موسى ولو كان هذا صحيحًا لعده موسى في أوصافها حين قال: {هي عصاي} [طه: 18] إلخ فإنه أكبر أوصافها.
والعصا بالقصر أبدًا ومن قال عصاه بالهاء فقد لحن، وعن الفراء أن أول لحن ظهر بالعراق قولهم عصاتي.
و(أل) في الحجر لتعريف الجنس أي اضرب أي حجر شئت، أو للعهد مشيرًا إلى حجر عرفه موسى بوحي من الله وهوحجر صخر في جبل حوريب الذي كلم الله منه موسى كما ورد في سفر الخروج وقد وردت فيه أخبار ضعيفة.
والفاء في قوله: {فانفجرت} قالوا هي فاء الفصيحة ومعنى فاء الفصيحة أنها الفاء العاطفة إذ لم يصلح المذكور بعدها لأن يكون معطوفًا على المذكور قبلها فيتعين تقدير معطوف آخر بينهما يكون ما بعد الفاء معطوفًا عليه وهذه طريقة السكاكي فيها وهي المثلى.
وقيل: إنها التي تدل على محذوف قبلها فإن كان شرطًا فالفاء فاء الجواب وإن كان مفردًا فالفاء عاطفة ويشملها اسم فاء الفصيحة وهذه طريقة الجمهور على الوجهين فتسميتها بالفصيحة لأنها أفصحت عن محذوف، والتقدير في مثل هذا فضرب فانفجرت وفي مثل قول عباس بن الأحنف:
قالوا خراسانُ أقصى ما يراد بنا ** ثم القفول فقد جئنا خراسانا

أي إن كان القفول بعد الوصول إلى خراسان فقد جئنا خراسان أي فلنقفل فقد جئنا.
وعندي أن الفاء لا تعد فاء فصيحة إلا إذا لم يستقم عطف ما بعدها على ما قبلها فإذا استقام فهي الفاء العاطفة والحذف إيجاز وتقدير المحذوف لبيان المعنى وذلك لأن الانفجار مترتب على قوله تعالى لموسى: {اضرب بعصاك الحجر} لظهور أن موسى ليس ممن يشك في امتثاله بل ولظهور أن كل سائل أمرًا إذا قيل له افعل كذا أن يعلم أن ما أمر به هو الذي فيه جوابه كما يقول لك التلميذ ما حكم كذا؟ فتقول افتح كتاب الرسالة في باب كذا، ومنه قوله تعالى الآتي: {اهبطوا مصرًا} [البقرة: 61] وأماتقدير الشرط هنا أي فإن ضربت فقد انفجرت إلخ فغير بيّن، ومن العجب ذكره في الكشاف.
وقوله: {قد علم كل أناس مشربهم} قال العكبري وأبو حيان: إنه استئناف، وهما يريدان الاستئناف البياني ولذلك فصل، كأن سائلًا سأل عن سبب انقسام الانفجار إلى اثنتي عشرة عينًا فقيل قد علم كل سبط مشربهم، والأظهر عندي أنه حال جردت عن الواو لأنه خطاب لمن يعقلون القصة فلا معنى لتقدير سؤال.
والمراد بالأناس كل ناس سبط من الأسباط.
وقوله: {كلوا واشربوا من رزق الله} مقول قول محذوف.
وقد جمع بين الأكل والشرب وإن كان الحديث على السقي لأنه قد تقدمه إنزال المن والسلوى، وقيل هنالك: {كلوا من طيبات ما رزقناكم} [البقرة: 57] فلما شفع ذلك بالماء اجتمع المنتان.
وقوله: {ولا تعثوا في الأرض مفسدين} من جملة ما قيل لهم ووجه النهي عنه أن النعمة قد تنسي العبد حاجته إلى الخالق فيهجر الشريعة فيقع في الفساد قال تعالى: {كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى} [العلق: 6، 7].
{ولا تعثوا} مضارع عثي كرضي، وهذه لغة أهل الحجاز وهي الفصحى فقوله: {ولا تعثوا} بوزن لا ترضوا ومصدره عند أهل اللغة يقتضي أن يكون بوزن رضي ولم أر من صرح به وذكر له في اللسان مصادر العُثيّ والعِثيّ بضم العين وكسرها مع كسر الثاء فيهما وتشديد الياء فيهما، والعَثَيان بفتحتين وفي لغة غير أهل الحجاز عثا يعثو مثل سما يسمو ولم يقرأ أحد من القراء: {ولا تعثوا} بضم الثاء.
وهو أشد الفساد وقيل: هو الفساد مطلقًا وعلى الوجهين يكون {مفسدين} حالًا مؤكدة لعاملها.
وفي الكشاف جعل معنى {لا تعثوا} لا تتمادوا في فسادكم فجعل المنهي عنه هو الدوام على الفعل وكأنه يأبى صحة الحال المؤكدة للجملة الفعلية فحاول المغايرة بين {لا تعثوا} وبين {مفسدين} تجنبًا للتأكيد وذلك هو مذهب الجمهور لكن كثيرًا من المحققين خالف ذلك، واختار ابن مالك التفصيل فإن كان معنى الحال هومعنى العامل جعلها شبيهة بالمؤكدة لصاحبها كما هنا وخص المؤكدة لمضمون الجملة الواقعة بعد الاسمية نحو زيد أبوك عطوفًا وقول سالم بن دارة اليربوعي:
أنا ابن دارة معروفًا بها نسبي ** وهل بدارة يا للناس من عار

.من فوائد صاحب المنار في الآية الكريمة:

قال رحمه الله:
{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}.
هَذَا بَيَانٌ لِحَالٍ آخَرَ مِنْ أَحْوَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي هِجْرَتِهِمْ وَعِنَايَةِ اللهِ تَعَالَى بِهِمْ، فِيهَا أَصَابَهُمُ الظَّمَأُ فَعَادُوا عَلَى مُوسَى بِاللَّائِمَةِ أَنْ أَخْرَجَهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ الْخِصْبَةِ الْمُتَدَفِّقَةِ بِالْأَمْوَاهِ، وَكَانُوا عِنْدَ كُلِّ ضِيقٍ يَمُنُّونَ عَلَيْهِ أَنْ خَرَجُوا مَعَهُ مِنْ مِصْرَ وَيَجْهَرُونَ بِالنَّدَمِ.
فَاسْتَغَاثَ مُوسَى بِرَبِّهِ وَاسْتَسْقَاهُ لِقَوْمِهِ، كَمَا قَصَّهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْنَا بِقَوْلِهِ: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ} أَيْ طَلَبَ السُّقْيَا لَهُمْ مِنَ اللهِ تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ} قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَمَرَهُ أَنْ يَضْرِبَ بِعَصَاهُ حَجَرًا مِنْ حِجَارَةِ تِلْكَ الصَّحْرَاءِ بِتِلْكَ الْعَصَا الَّتِي ضَرَبَ بِهَا الْبَحْرَ، فَضَرَبَهُ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا بِعَدَدِ أَسْبَاطِهِمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ- عَزَّ وَجَلَّ-: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ}.
قَالَ: وَكَوْنُ هَذَا الْحَجَرِ هُوَ الَّذِي رُوِيَ أَنَّهُ تَدَحْرَجَ بِثَوْبِ مُوسَى يَوْمَ كَانَ يَغْتَسِلُ كَمَا قَالَ الْمُفَسِّرُ الْجَلَالُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَقِصَّةُ الثَّوْبِ لَيْسَتْ فِي الْقُرْآنِ، فَيُحْمَلُ تَعْرِيفُ الْحَجَرِ عَلَى أَنَّهُ الْمَعْهُودُ فِي الْقِصَّةِ، وَإِنَّمَا يُفْهِمُ التَّعْرِيفُ أَنَّ الْحَجَرَ الَّذِي ضُرِبَ فَتَفَجَّرَتْ مِنْهُ الْمِيَاهُ حَجَرٌ مَخْصُوصٌ لَهُ صِفَاتٌ تُمَيِّزُهُ عِنْدَهُمْ، كَكَوْنِهِ صُلْبًا أَوْ عَظِيمًا تَتَّسِعُ مِسَاحَتُهُ لِتِلْكَ الْعُيُونِ، وَيَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ مِنْهُ مَوَارِدُ لِتِلْكَ الْأُمَمِ، أَوْ كَوْنِهِ يَقَعُ تَحْتَ أَعْيُنِهِمْ مُنْفَرِدًا عَنْ غَيْرِهِ، لَيْسَ فِي مَحِلَّتِهِمْ سِوَاهُ، وَقَدْ يَكُونُ التَّعْرِيفُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْجِنْسِ؛ لِيُفِيدَنَا بُعْدَ الْمَرْغُوبِ عَنِ التَّنَاوُلِ، وَعَظَمَةَ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَأَثَرَهَا الْجَلِيلَ فِي تَقْرِيبِهِ وَتَحْصِيلِهِ وَعُبِّرَ عَنْهُ فِي سِفْرِ الْخُرُوجِ بِالصَّخْرَةِ وَلَوْ عَلِمَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ لَنَا فَائِدَةً فِي أَكْثَرِ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ هَذَا الْخِطَابُ مِنَ التَّعْيِينِ لَمَا تَرَكَهُ.
ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُصَوِّرَ حَالَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي هَذِهِ النِّعْمَةِ، وَاغْتِبَاطَهُمْ بِمَا مَنَحَهُمْ مِنَ الْعَيْشِ الرَّغَدِ فِي مَهَاجِرِهِمْ، فَقَالَ: {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ} فَعَبَّرَ عَنِ الْحَالِ الْمَاضِيَةِ بِالْأَمْرِ لِيَسْتَحْضِرَ سَامِعُ الْخِطَابِ أُولَئِكَ الْقَوْمَ فِي ذِهْنِهِ، وَيَتَصَوَّرَ اغْتِبَاطَهُمْ بِمَا هُمْ فِيهِ، حَتَّى كَأَنَّهُمْ حَاضِرُونَ الْآنَ وَالْخِطَابُ يُوَجَّهُ إِلَيْهِمْ، وَهَذَا مِنْ ضُرُوبِ إِيجَازِ الْقُرْآنِ الَّتِي لَا تُجَارَى وَلَا تُمَارَى، ثُمَّ قَالَ: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} أَيْ لَا تَنْشُرُوا فَسَادَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَتَكُونُوا فِي الشُّرُورِ قُدْوَةً سَيِّئَةً لِلنَّاسِ. يُقَالُ: عَثَا إِذَا نَشَرَ الشَّرَّ وَالْفَسَادَ وَأَثَارَ الْخُبْثَ، فَهُوَ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الْإِفْسَادِ وَذَلِكَ مَعَ كَوْنِ مُفْسِدِينَ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ تَعْثَوْا.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ كَثِيرًا مِنْ أَعْدَاءِ الْقُرْآنِ يَأْخُذُونَ عَلَيْهِ عَدَمَ التَّرْتِيبِ فِي الْقَصَصِ، وَيَقُولُونَ هُنَا: إِنَّ الِاسْتِسْقَاءَ وَضَرْبَ الْحَجَرِ كَانَ قَبْلَ التِّيهِ وَقَبْلَ الْأَمْرِ بِدُخُولِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ، فَذُكِرَ هُنَا بَعْدَ تِلْكَ الْوَقَائِعِ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ يُفْهَمُ مِمَّا قُلْنَاهُ مِرَارًا فِي قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا التَّارِيخَ وَسَرْدَ الْوَقَائِعِ مُرَتَّبَةً بِحَسْبِ أَزْمِنَةِ وُقُوعِهَا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَا الِاعْتِبَارُ وَالْعِظَةُ بِبَيَانِ النِّعَمِ مُتَّصِلَةً بِأَسْبَابِهَا لِتُطْلَبَ بِهَا، وَبَيَانِ النِّقَمِ بِعِلَلِهَا لِتُتَّقَى مِنْ جِهَتِهَا، وَمَتَى كَانَ هَذَا هُوَ الْغَرَضُ مِنَ السِّيَاقِ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ تَرْتِيبُ الْوَقَائِعِ فِي الذِّكْرِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَكُونُ أَبْلَغَ فِي التَّذْكِيرِ وَأَدْعَى إِلَى التَّأْثِيرِ.
إِنَّ الْبَاحِثِينَ فِي التَّارِيخِ لِهَذَا الْعَهْدِ قَدْ رَجَعُوا إِلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَقَالُوا: سَتَأْتِي أَيَّامٌ يَسْتَحِيلُ فِيهَا تَرْتِيبُ الْحَوَادِثِ وَالْقَصَصِ بِحَسْبِ تَوَارِيخِهَا لِطُولِ الزَّمَنِ، وَكَثْرَةِ النَّقْلِ مَعَ حَاجَةِ النَّاسِ إِلَى مَعْرِفَةِ سِيَرِ الْمَاضِينَ، وَمَا كَانَ لَهَا مِنَ النَّتَائِجِ وَالْآثَارِ فِي حَالِ الْحَاضِرِينَ، وَقَالُوا: إِنَّ الطَّرِيقَ إِلَى ذَلِكَ هُوَ أَنْ نَنْظُرَ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ مِنْ حَوَادِثِ الْكَوْنِ كَالثَّوَرَاتِ وَالْحُرُوبِ وَغَيْرِهَا، وَنُبَيِّنُ أَسْبَابَهَا وَنَتَائِجَهَا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ وَلَا تَحْدِيدٍ لِجُزْئِيَّاتِ الْوَقَائِعِ بِالتَّارِيخِ، فَإِنَّ تَرْتِيبَ الْوَقَائِعِ هُوَ مِنَ الزِّينَةِ فِي وَضْعِ التَّأْلِيفِ، فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الِاعْتِبَارُ، بَلْ رُبَّمَا يُصَدُّ عَنْهُ بِمَا يُكَلِّفُ الذِّهْنَ مِنْ مُلَاحَظَتِهِ وَحِفْظِهِ، فَهَذَا ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ الْإِصْلَاحِ الْعِلْمِيِّ، جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ وَأَيَّدَهُ سَيْرُ الِاجْتِمَاعِ فِي الْإِنْسَانِ.
هَذَا مَا نَقُولُهُ لَهُ إِذَا سَلَّمْنَا أَنَّ الِاسْتِسْقَاءَ كَانَ قَبْلَ التِّيهِ لَا فِيهِ، وَلَنَا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ أَرْضَ التِّيهِ هِيَ الْأَرْضُ الْمُمْتَدَّةُ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ مِنْ بَيْدَاءِ فِلَسْطِينَ مِمَّا يَلِي حُدُودَ مِصْرَ، وَفِيهَا كَانَ الِاسْتِسْقَاءُ بِلَا خِلَافٍ. وَفِي سِفْرِ الْخُرُوجِ أَنَّهُ كَانَ فِي رُفَيْدِيمَ الَّتِي انْتَقَلَ إِلَيْهَا بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ سِينَ الَّتِي بَيْنَ إِيلِيمَ وَسَيْنَاءَ. وَيُطْلَقُ التِّيهُ عَلَى ضَلَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَرْبَعِينَ سَنَةً فِي الْأَرْضِ.
وَالْعِبْرَةُ فِي الْقِصَّةِ عَلَى مَا يَظْهَرُ مِنَ التَّوْرَاةِ أَنَّ مُوسَى كَانَ يُحَاوِلُ نَزْعَ مَا فِي قُلُوبِ قَوْمِهِ مِنَ الشِّرْكِ الَّذِي أُشْرِبُوا عَقَائِدَهُ فِي مِصْرَ، وَمَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ الذُّلِّ الَّذِي طَبَعَهُ فِيهَا اسْتِبْدَادُ الْمِصْرِيِّينَ وَتَعْبِيدُهُمْ إِيَّاهُمْ؛ لِيَكُونُوا أَعْلِيَاءَ أَعِزَّاءَ بِعِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَأَنْ يَدْخُلَ بِهِمْ أَرْضَ الْمِيعَادِ، وَهِيَ بِلَادُ الشَّامِ الَّتِي وَعَدَ اللهُ بِهَا آبَاءَهُمْ، وَكَانُوا لِطُولِ الْإِقَامَةِ فِي مِصْرَ قَدْ أَلِفُوا الذُّلَّ وَأَنِسُوا بِالشَّعَائِرِ وَالْعَادَاتِ الْوَثَنِيَّةِ، فَكَانُوا لَا يَخْطُونَ خُطْوَةً إِلَّا وَيُتْبِعُونَهَا بِخَطِيئَةٍ، وَكُلَّمَا عُرِضَ لَهُمْ شَيْءٌ مِنْ مَشَقَّاتِ السَّفَرِ يَتَبَرَّمُونَ بِمُوسَى وَيَتَحَسَّرُونَ عَلَى مِصْرَ وَيَتَمَنَّوْنَ الرُّجُوعَ إِلَيْهَا كَمَا سَبَقَ الْقَوْلُ وَيَسْتَبْطِئُونَ وَعْدَ اللهِ، فَتَارَةً يَطْلُبُونَ مِنْهُ أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ إِلَهًا غَيْرَ اللهِ، وَتَارَةً يَصْنَعُونَ عِجْلًا وَيَعْبُدُونَهُ، وَتَارَةً يَفْسُقُونَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَيَكْفُرُونَ نِعَمَهُ. وَلَمَّا أَمَرَهُمْ بِدُخُولِ الْبِلَادِ الْمُقَدَّسَةِ الَّتِي وَعَدَهُمُ اللهُ أَبَوْا وَاعْتَذَرُوا بِالْخَوْفِ مِنْ أَهْلِهَا الْجَبَّارِينَ، لِمَا اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْجُبْنِ الَّذِي هُوَ حَلِيفُ الذُّلِّ، وَكَانَ مُوسَى أَرْسَلَ كَالِبًا وَيُوشَعَ بْنَ نُونٍ رَائِدَيْنِ لِيَنْظُرَا حَالَ الْبِلَادِ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، وَأَرْسَلَ غَيْرَهُمَا عَشْرَةً مِنْ بَقِيَّةِ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَخْبَرَ هَؤُلَاءِ بِأَنَّ فِي تِلْكَ الْأَرْضِ قَوْمًا جَبَّارِينَ، فَقَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ: إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا، فَأَخْبَرَ يُوشَعُ وَكَالِبٌ بِأَنَّ الْأَرْضَ كَمَا وَعَدَ اللهُ، وَأَنَّ دُخُولَهَا سَهْلٌ وَالظَّفَرَ مَضْمُونٌ بِالِاعْتِمَادِ عَلَى اللهِ تَعَالَى وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَسْمَعُوا لَهُمَا بَلْ قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا (5: 24)، فَضَرَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ التِّيهَ أَرْبَعِينَ سَنَةً لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ؛ وَهِيَ إِرَادَةُ انْقِرَاضِ أُولَئِكَ الْقَوْمِ الَّذِينَ تَأَشَّبَتْ فِي نُفُوسِهِمْ عَقَائِدُ الْوَثَنِيَّةِ، وَزَايَلَتْهَا صِفَاتُ الرُّجُولِيَّةِ حَتَّى فَسَدَ مِزَاجُهَا وَتَعَذَّرَ عِلَاجُهَا، وَخُرُوجِ نَشْءٍ جَدِيدٍ يَتَرَبَّى عَلَى الْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ وَأَخْلَاقِ الشَّهَامَةِ وَالرُّجُولِيَّةِ، فَتَاهُوا حَتَّى انْقَرَضَ أُولَئِكَ الْمُصَابُونَ بِاعْتِلَالِ الْفِطْرَةِ، وَبَقِيَ النَّشْءُ الْجَدِيدُ وَبَعْضُ الَّذِينَ كَانُوا عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ مِصْرَ صِغَارًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى حَمْلِ السِّلَاحِ، وَقَضَى اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ}.
ومعناها: اذكر إذا استسقى موسى لقومه.. وهذه وردت كما بينا في عدة آيات في قوله تعالى: {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف: 141].
وقول سبحانه: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [البقرة: 51].
وقوله جل جلاله: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55].
وقلنا أن هذه كلها نعم امتن الله بها على بني إسرائيل وهو سبحانه وتعالى يذكرهم بها. إما مباشرة وإما على لسان موسى عليه السلام. والحق يريد أن يذكر بني إسرائيل حينما تاهوا في الصحراء أنه أظلهم بالغمام.. وسقاهم حين طلبوا السقيا.. ولقد وصلت ندرة الماء عند بني إسرائيل لدرجة أنهم لم يجدوا ما يشربونه.. لأن الإنسان يبدأ الجفاف عنده لعدم وجود ماء يسقي به زرعه.. ثم يقل الماء فلا يجد ما يسقي به أنعامه.. ثم يقل الماء فلا يجد ما يشربه.. وهذا هو قمة الجفاف أو الجدب.
وموسى عليه السلام طلب السقيا من الله تبارك وتعالى.. ولا تطلب السقيا من الله إلا إذا كانت الأسباب قد نفدت.. وانتهت آخر نقطة من الماء عندهم؛ فالماء مصدر الحياة ينزله الله من السماء.. وينزله نقيا طاهرا صالحا للشرب والري والزرع وسقيا الأنعام.
والحق سبحانه وتعالى جعل ثلاثة أرباع الأرض ماء والربع يابسا.. حتى تكون مساحة سطح الماء المعرضة للتبخّر بواسطة أشعة الشمس كبيرة جدا فتسهل عملية البخر؛ فإنك إذا جئت بكوب ماء وتركته في حجرة مغلقة لمدة يومين أو ثلاثة. ثم عدت تجده ناقصا قيراطا أو قيراطين. ولكن إذا أمسكت ما في الكوب من ماء وألقيته على أرض الحجرة.. فأنه يجف قبل أن تغادرها لماذا؟ لأن مساحة سطح الماء هنا كبيرة.. ولذلك يتم البخر بسرعة ولا يستغرق وقتا.
وهذه هي النظرية نفسها التي تتم في الكون. الله تبارك وتعالى جعل سطح الماء ثلاثة أرباع الأرض ليتم البخر في سرعة وسهولة.. فيتكون السحاب وينزل المطر نأخذ منه ما نحتاج إليه، والباقي يكون ينابيع في الأرض، مصداقا لقوله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ} [الزمر: 21].
هذه الينابيع تذهب إلى أماكن لا يصلها المطر. ليشرب منها الناس مِمّا نُسميه الآبار أو المياه الجوفية.. وتشرب منها أنعامهم.. فإذا حدث جفاف يخرج الناس رجالا ونساء وصبيانا وشيوخا. يتضرعون إلى الله ليمطرهم بالماء.. ونحن إذا توسلنا بأطفالنا الرضع وبالضعفاء يمطرنا الله.
وبعض الناس يقولون أن المطر ينزل بقوانين علمية ثابتة.. يصعد البخار من البحار ويصبح سحابا في طبقات الجو العليا ثم ينزل مطرا. تلك هي القوانين الثابتة لنزوله.
وأن السحاب لابد أن يكون ارتفاعه عدد كذا من الأمتار.. ليصل إلى برودة الجو التي تجعله ينزل مطرا. ولابد أن يكون السحاب ملقحا.. نقول أن هذا كله مرتبط بمتغيرات. فالريح تهب أو لا تهب. وتحمل السحاب إلى منطقة عالية باردة ولا تحمله وغير ذلك.
إذن فكل ثابت محمول على متغير.. قد تعرف أنت القوانين الثابتة.. ولكن القوانين المتغيرة لا يمكن أن تنبأ بما ستفعل ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُواْ عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا} [الجن: 16].
إذن فعوامل سقوط المطر لا تخضع لقوانين ثابتة. ولكن المتغير هو العامل الحاسم. ليسوق السحاب إلى المناطق الباردة وإلى الارتفاع المطلوب.. ولابد أن نتنبه إلى أن هناك قوانين ثابتة في الكون وقوانين تتغير.. وأن القانون المتغير هو الذي يحدث التغيير.
وقوله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ}. تدل على أن هناك مُستسقى بفتح القاف وأن هناك مستسقي بكسر القاف.. مستسقي بكسر القاف أي ضارع إلى الله لينزل المطر.. أما المستسقى بفتح القاف فهو الله سبحانه وتعالى الذي ينزل المطر.
إن هذا الموقف خاص بالله تبارك وتعالى فلا توجد مخازن للمياه وليس هناك ماء في الأرض.. من أنهار أو آبار أو عيون ولا ملجأ إلا الله.. فلابد من التوسل لله تبارك وتعالى:
عن أنس رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا قحطوا استسقي بالعباس بن المطلب رضي الله عنه فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا قال: فيُسقون.
بعض الناس يقولون هذا دليل على أن الميت لا يستعان به.. بدليل أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه لم يتوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته، وإنما توسل بعم رسول الله.. نقول وبمن توسل عمر؟ أتوسل بالعباس أم بعم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ توسل بالرسول، وبذلك أخذنا الحجة أن الوسيلة ليست مقصورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وإنما تتعدى إلى أقاربه.
وهنا يأتي سؤال لماذا نقل الأمر من رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى عم الرسول؟ نقول لأن رسول الله قد انتقل ولا ينتفع الآن بالماء.. ولكن عمه العباس هو الحي الذي ينتفع بالماء.. لذلك كان التوسل بعم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يكن منطقيا أن يتوسلوا برسول الله عليه الصلاة والسلام وهو ميت ولا يحتاج إلى الماء.. والذين أرادوا أن يأخذوا التوسل بذوي الجاه.. نقول لهم أن الحديث ضدكم وليس معكم.
لأنه أثبت أن التوسل جائز بمن ينتسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لابد أن نتحدث كيف أن الحق سبحانه وتعالى بعد أن قابل بنو إسرائيل النعمة بالجحود والنكران فكيف يسقيهم؟ نقول إنها النبوة الرحيمة التي كانت السبب في تنزل الرحمة تلو الرحمة على بني إسرائيل.. وكان طمع موسى في رحمة الله بلا حدود.. ولذلك فإن الدعوات كانت تتوالى من موسى عليه السلام لقومه.. وكانت الاستجابة من الله تأتي.
كان من المفروض لاستكمال المعنى أن يقال وإذا استسقى موسى ربه لقومه فقال يا رب اسقهم.. ولكن هذه لم تأت حذفت وجاء بعدها الإجابة: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ}. إذن قوله: يا رب اسق قومي واستجابة الله له محذوفة لأنها مفهومة.. ولذلك جاء القرآن باللفتات الأساسية وترك اللفتات المفهومة لذكاء الناس.. تماما كما جاء في سورة النمل: الهدهد ذهب ورأى ملكة بلقيس وعرشها. وعاد إلى سليمان وأخبره. فطلب سليمان من الهدهد أن يلقي إلى ملكة سبأ وقومها كتابا وقال: {اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ قَالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل: 28- 29].
فسليمان أمر الهدهد أن يلقي كتابا إلى بلقيس وقومها.. والآية التي بعدها جاءت بقوله تعالى: قالت: {يا أَيُّهَا الْمَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} كل التفاصيل حذفت من أن الهدهد أخذ الكتاب وطار إلى مملكة سبأ وألقى الكتاب أمام عرشها.. والتقطت بلقيس ملكة سبأ الكتاب وقرأته ودعت قومها وبدأت تروي إليهم قصة الكتاب.. كل هذا حُذف لأنه مفهوم.
قال موسى يا رب اسق قومي.. والله سبحانه وتعالى قال له: إن أردت الماء لقومك.. كل هذا محذوف.. وتأتي الآية الكريمة: {اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ}.
{اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ} لنا معها وقفة.. الإنسان حين يستسقي الله.. يطلب منه أن ينزل عليه مطرا من السماء، والحق تبارك وتعالى كان قادرا على أن ينزل على بني إسرائيل مطرا من السماء. ولكن الله جل جلاله أراد المعجزة.. فقال سأمدكم بماء ولكن من جنس ما منعكم الماء وهو الحجر الموجود تحت أرجلكم.. لن أعطيكم ماء من السماء.. ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يُرِي بني إسرائيل مدى الإعجاز.. فأعطاهم الماء من الحجر الذي تحت أرجلهم.
ولكن من الذي يتأثر بالضرب: الحجر أم العصا؟ العصا هي التي تتأثر وتتحطم والحجر لا يحدث فيه شيء.. ولكن الله سبحانه وتعالى أراد بضربة واحدة من العصا أن ينفلق الحجر.. ولذلك يقول الشاعر:
أيا هازئًا من صنوف القدرْ ** بنفسك تعنف لا بالقدرْ

ويا ضاربا صخرةً بالعصا ** ضربْتَ العصا أم ضربْتَ الحجرْ

إن انفجار الماء من ضربة العصا دليل على أن العصا أشارت فقط إلى الصخرة فتفجر منها الماء.. وحتى لو كانت العصا من حديد.. هل تكون قادرة على أن تجعل الماء ينبع من الحجر؟
فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى أنه كان من الممكن أن ينزل الماء من السماء.. ولكن الله أرادها نعمة مركبة.. ليعلموا أنه يستطيع أن يأتي الماء من الحجر الصلب.. وأن نبع الماء من متعلقات كن.
هنا لابد أن ننظر إلى تعنت بني إسرائيل. قالوا لموسى هب أننا في مكان لا حجر فيه. من أين ينبع الماء؟ لابد أن نأخذ معنا الحجر حتى إذا عطشنا نضرب الحجر بالعصا.. ونسوا أن هناك ما يتم بالأسباب وما يتم بكلمة كن.. ولذلك تجد مثلا كبار الأطباء يحتارون في علاج مريض.. ثم يشفى على يد طبيب ناشئ حديث التخرج.. هل هذا الطبيب الناشئ يعرف أكثر من أساتذته الذين علموه؟ الجواب طبعا لا.
إن التلميذ لا يتفوق على أستاذه الذي علمه فليس العلاج بالأسباب وحدها ولكن بقدرة المسبب.. ولذلك جاء موعد الشفاء على يد هذا الطبيب الناشئ.. فكشف الله له الداء وألهمه الدواء.
يقول الحق سبحانه وتعالى: {فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} لماذا اثنتا عشرة عينا. لأن اليهود كانوا يعيشون حياة انعزال. كل مجموعة منهم كانت تسمى سبطا لها شيخ مثل شيخ القبيلة.. والحق تبارك وتعالى يقول: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ} أي كل سبط أو مجموعة ذهبت لمشرب.. نبعت العيون من الحجر امتدت متشعبة إلى الأسباط جميعا كل في مكانه.. فإذا ما أخذوا حاجتهم ضرب موسى الحجر فيجف. ولذلك نعرف أن الحجر كان يعطيهم الماء على قدر الحاجة وكانت الجهة السفلى من الحجر الملامسة للأرض.. والجهة العليا التي ضرب عليها بالعصا لم ينبع منهما شيء، أما باقي الجهات الأربع فقد نبع منها كل منها ثلاثة ينابيع.
وهناك شيء في اللغة يسمونه اللفظ المشترك.. وهو الذي يستخدم في معانٍ متعددة.. فإذا قلت سقى القوم دوابهم من العين.. العين هنا عين الماء.. وإذا قلت أرسل الأمير عيونه في المدينة يعني أرسل جنوده.. وإذا قلت اشتريته بعين أي بذهب.. وإذا قلت نظر إلي بعينه شذرا أي ببصره.. إذن كلمة عين تستخدم في أشياء متعددة.. ومعناها هنا عين الماء الجارية.
قوله تعالى: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ} أي أن كل سبط عرف مكانه الذي يلزمه.. حتى لا يضيع من كل منهم الماء.. ولكن الإنسان حينما يكون مضطرا يلتزم بما يطلبه الله منه ويكون ملتزما بالأداء، فإذا فرج الله كربه وعادت إليه النعمة يعود إلى طغيانه.
ولذلك يقول الحق جل جلاله فيها: {كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} أي لا يكون شكركم على النعمة بالإفساد في الأرض.. واقرأ قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ} [سبأ: 15- 15].
هنا نرى أن أهل سبأ رزقهم الله فأعرضوا عن شكره.. كانوا يتيهون بالسد الذي يحفظ لهم مياه الأمطار.. ويمدهم بما يحتاجون إليه منها طوال العام، وأخذوا يتفاخرون بعلمهم ونسوا الله الذي علمهم.. فكان هذا السد هو النكبة أو الكارثة التي أهلكت زرعهم.. كذلك حدث لبني إسرائيل، قيل لهم: {كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} فأفسدوا في الأرض ونسوا نعمة الله فنزل بهم العذاب. اهـ.