فصل: قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال أبو جعفر عليه السلام: انما عنوا سارة قائمة فبشروها بإسحاق ومن وراء اسحاق يعقوب فضحكت يعنى فعجبت من قولهم.
أقول: والرواية- كما ترى- تجعل قصة البشارة قصتين: البشارة بإسماعيل والبشارة بإسحاق وقد ولد بعد اسماعيل بسنين.
ثم تحمل آيات سورة الحجر- ولم يذكر فيها تقديم العجل المشوى إلى الضيوف- على البشرى بإسماعيل ولما يقع العذاب على قوم لوط حين ذاك، وتحمل آيات سورتي الذاريات وهود- وقد اختلطتا في الرواية- على البشرى لسارة بإسحاق ويعقوب، وأنها إنما كانت بعد هلاك قوم لوط فراجعوا إبراهيم وأخبروه بوقوع العذاب وبشروه البشارة الثانية.
أما آيات سورة الحجر فإنها في نفسها تحتمل الحمل على البشارة باسماعيل وكذا الآيات الواقعة في سورة الذاريات تحتمل اتقص عما بعد هلاك قوم لوط وتكون البشرى بإسحاق ويعقوب عند ذلك.
وأما آيات سورة هود فإنها صريحة في البشرى بإسحاق ويعقوب، ولكن ما في ذيلها من قوله: {يجادلنا في قوم لوط إن إبراهيم لحليم اواه منيب} إلى آخر الآيات تأبى ان تنطبق على ما بعد هلاك قوم لوط، وإن كان ما في صدرها من قوله: {إنا أرسلنا إلى قوم لوط} لا يأبى وحده الحمل على ما بعد الهلاك، وكذا جملة {إنه قد جاء أمر ربك} لولا ما يحفها من قيود الكلام.
وبالجملة مفاد الآيات في سورة هود هو وقوع البشرى بإسحاق قبل هلاك قوم لوط، وعند ذلك كان جدال إبراهيم عليه السلام، ومقتضى ذلك أن تكون ما وقع من القصة في سورة الذاريات هي الواقعة قبل هلاك القوم لا بعد الهلاك، وكذا كون ما وقع من القصة في سورة الحجر وفيه التصريح بكونه قبل هلاكهم وفيه جدال إبراهيم عليه السلام خاليا عن بشرى إسحاق ويعقوب لا بشرى اسماعيل.
والحاصل أن اشتمال آيات هود على بشرى اسحاق وجدال إبراهيم عليه السلام الظاهر في كونها قبل هلاك قوم لوط يوجب ان يكون المذكور من البشرى في جميع السور الثلاث: هود والحجر والذاريات قصة واحدة هي قصة البشرى بإسحاق قبل وقوع العذاب، وهذا مما يوهن الرواية جدا.
وفي الرواية شيء آخر وهو انها اخذت الضحك بمعنى العجب وأخذت قوله: {فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب} من التقديم والتأخير، وأن التقدير: فبشرناها بإسحاق ومن وراء اسحاق يعقوب فضحكت وهو خلاف الظاهر من غير نكتة ظاهرة.
وفي تفسير العياشي أيضا عن الفضل بن أبى قرة قال: سمعت ابا عبد الله عليه السلام يقول: اوحى الله إلى إبراهيم انه سيلد لك فقال لسارة فقالت: ءألد وأنا عجوز؟ فأوحى الله إليه انها ستلد ويعذب اولادها اربعمائة سنة بردها الكلام على.
قال: فلما طال على بنى إسرائيل العذاب ضجوا وبكوا إلى الله اربعين صباحا فأوحى الله إلى موسى وهارون ان يخلصهم من فرعون فحط عنهم سبعين ومائة سنة.
قال: وقال أبو عبد الله عليه السلام: هكذا انتم.
لو فعلتم فرج الله عنا فأما إذا لم تكونوا فإن الأمر ينتهى إلى منتهاه.
أقول: وجود الرابطة بين احوال الإنسان وملكاته وبين خصوصيات تركيب بدنه مما لا شك فيه فلكل من جانبى الربط استدعاء وتأثير خاص في الاخرة ثم النطفة مأخوذة من المادة البدنية حاملة لما في البدن من الخصوصيات المادية والروحية طبعا فمن الجائز ان يرث الاخلاف بعض خصوصيات اخلاق اسلافهم المادية والروحية.
وقد تقدم كرارا في المباحث السابقة ان بين صفات الإنسان الروحية واعماله.
وبين الحوادث الخارجية خيرا وشرا رابطة تامة كما يشير إليه قوله تعالى: {ولو إن اهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} الأعراف: 96، وقوله: {وما اصابكم من مصيبة فبما كسبت ايديكم} الشورى: 30.
فمن الجائز ان يصدر عن فرد من افراد الإنسان أو عن مجتمع من المجتمعات الإنسانية عمل من الأعمال صالح اوطالح أو تظهر صفة من الصفات فضيلة أو رذيلة ثم يظهر اثره الجميل أو وباله السيئ في اعقابه، والملاك في ذلك نوع من الوراثة كما مر، وقد تقدم في ذيل قوله تعالى: {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم} النساء: 9 كلام في هذا المعنى في الجزء الرابع من الكتاب.
وفيه عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبى جعفر عليه السلام وعن عبد الرحمن عن أبى عبد الله عليه السلام في قول الله: {إن إبراهيم لحليم اواه منيب} قال: دعاء.
أقول: وروى في الكافي عن زرارة عن أبى جعفر عليه السلام مثله.
وفيه عن أبى بصير عن احدهما عليهما السلام قال: ان إبراهيم جادل في قوم لوط وقال: ان فيها لوطا.
قالوا: نحن اعلم بمن فيها فزاده إبراهيم فقال جبرئيل: يا إبراهيم اعرض عن هذا انه قد جاء أمر ربك وأنهم آتيهم عذاب غير مردود.
وفي الدر المنثور اخرج ابن الانباري في كتاب الوقف والابتداء عن حسان بن ابجر قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل من هذيل فقال له ابن عباس: ما فعل فلان؟ قال: مات وترك اربعة من الولد وثلاثة من الوراء.
فقال ابن عباس: {فبشرناها بإسحاق ومن وراء اسحاق يعقوب} قال: ولد الولد.
{كلام في قصة البشرى} قصة البشرى وسماها الله تعالى حديث ضيف إبراهيم عليه السلام وقعت في خمس من السور القرآنية كلها مكية وهى على ترتيب القرآن سورة هود والحجر والعنكبوت والصافات والذاريات.
فالاولى ما في سورة هود 69- 76 قوله تعالى: {ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ فلما راى ايديهم لا تصل إليه نكرهم واوجس منهم خيفة قالوا لا تخف انا أرسلنا إلى قوم لوط وامراته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء اسحاق يعقوب قالت يا ويلتى ألد وأنا عجوز وهذا بعلى شيخا ان هذا لشئ عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم اهل البيت انه حميد مجيد فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط ان إبراهيم لحليم أواه منيب يا إبراهيم أعرض عن هذا انه قد جاء أمر ربك وأنهم آتيهم عذاب غير مردود}.
والثانية ما في سورة الحجر: 51- 60 قوله تعالى: {ونبئهم عن ضيف إبراهيم إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون قالوا لا توجل انا نبشرك بغلام عليم قال ابشرتمونى على ان مسنى الكبر فبم تبشرون قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين قال ومن يقنط من رحمة ربه الا الضالون قال فما خطبكم ايها المرسلون قالوا انا أرسلنا إلى قوم مجرمين الا آل لوط انا لمنجوهم اجمعين إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين}.
والثالثة ما في سورة العنكبوت: 31- 32 قوله تعالى: {ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا انا مهلكوا اهل هذه القرية ان اهلها كانوا ظالمين قال إن فيها لوطا قالوا نحن اعلم بمن فيها لننجينه واهله الا امرأته كانت من الغابرين}.
والرابعة ما في سورة الصافات: 99- 113 قوله تعالى: {وقال إنى ذاهب إلى ربى سيهدين رب هب لى من الصالحين فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يا بنى إنى ارى في المنام أنى اذبحك فانظر ما ذا ترى قال يا ابت افعل ما تؤمر ستجدني ان شاء الله من الصابرين فلما اسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزى المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه في الاخرين سلام على إبراهيم كذلك نجزى المحسنين انه من عبادنا المؤمنين بشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين وباركنا عليه وعلى اسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين}.
والخامسة ما في سورة الذاريات: 24- 30 قوله تعالى: {هل اتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون فراغ إلى اهله فجاء بعجل سمين فقربه إليهم قال الا تأكلون فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم فأقبلت امراته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم قالوا كذلك قال ربك انه هو الحكيم العليم}.
ويقع البحث في قصة البشرى من وجوه: احدها: أنها هل هي بشرى واحدة وهى المشتملة على بشرى إبراهيم وسارة بإسحاق ويعقوب وقد وقعت قبيل هلاك قوم لوط أو انها قصتان: إحداهما تشتمل على البشرى بإسماعيل والاخرى تتضمن البشرى بإسحاق ويعقوب.
ربما رجح الثاني بناء على ان ما وقع من القصة في سورة الذاريات صريح في تقديم العجل المشوى، وأن إبراهيم خافهم لما امتنعوا من الأكل ثم بشروه وامرأته العجوز العقيم وهى سارة أم إسحاق قطعا، وذيل الآيات ظاهر في كون ذلك بعد إهلاك قوم لوط حيث يقول الملائكة: {إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين}- إلى أن قالوا: {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم} الآيات ونظير ذلك ما في سورة هود وقد قال فيها الملائكة لازالة الروع عن إبراهيم ابتداء.
{إنا أرسلنا إلى قوم لوط}
وأما ما في سورة الحجر فليس يتضمن حديث تقديم العجل المشوى بل ظاهره أن إبراهيم واهله خافوهم لدى دخولهم عليه فأسكنوا رعبه بالبشارة كما يقول تعالى: {إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون قالوا لا توجل انا نبشرك بغلام عليم} وذيل الآيات ظاهر في كون ذلك قبل هلاك لوط.
ونظيره ما في سورة العنكبوت من القصة وهى اظهر في كون ذلك قبل الهلاك ويتضمن جدال إبراهيم في قوم لوط، وقد تقدمت في البحث الروائي السابق حديث العياشي في هذا المعنى.
لكن الحق أن الآيات في جميع السور الاربع سورة هود والحجر والعنكبوت والذاريات إنما تقص قصة البشارة بإسحاق ويعقوب دون اسماعيل.
وأما ما في ذيل آيات الذاريات من قوله: {قالوا إنا أرسلنا} الظاهر في المضى والفراغ عن الأمر فنظيره واقع في آيات الحجر مع تسليمهم أنها تقص ما قبل الفراغ.
على أن قول الملائكة المرسلين وهم بعد في الطريق: {أنا أرسلنا} لا مانع منه بحسب اللغة والعرف.
وأما قوله: {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين} إلى آخر الآيات فهو من كلامه تعالى وليس من تتمة كلام الملائكة لابراهيم كما يدل عليه سياق القصص الواردة في سورة الذاريات.
واما ذكر الوجل في آيات الحجر في اول القصة بخلاف سورتي الذاريا ت وهود فالوجه فيه عدم ذكر تقديم العجل المشوى في آيات الحجر بخلافهما، على أن الارتباط التام بين اجزاء قصة مما يجوز أن يقدم بعضها على بعض حينا ويعكس الامرحينا آخر كما أنه تعالى يذكر انكار إبراهيم في آيات الذاريات في صدر القصة بعد سلامهم وفي سورة هود في وسط القصة بعد امتناعهم من الأكل، وهذا كثير الورود في نظم القرآن.
على ان آيات هود صريحة في البشرى بإسحاق ويعقوب وهى تتضمن جدال إبراهيم في قوم لوط في سياق لا يشك معه أنه كان قبل هلاك لوط، ولازمه كون بشرى اسحاق قبله لا بعده.
على أن من المتفق عليه أن اسماعيل كان اكبر سنا من اسحاق وبين ولادتيهما سنون، ولو كانت هؤلاء الملائكة بشروا إبراهيم بإسماعيل في مسيرهم إلى هلاك قوم لوط قبيل الهلاك وبشروه بإسحاق في منصرفهم عن هلاكهم بعيده كان الفصل بين البشريين يوما أو يومين فيكون الفصل بين البشرى بإسحاق وبين ولادته سنون من الزمان والبشرى لا تطلق إلا على الاخبار بالجميل إذا كان مشرفا على الوقوع الا إذا كانت هناك عناية خاصة واما الاخبار بمطلق الجميل فهو وعد ونحو ذلك.
وثانيها أنه هل هناك بشرى بإسماعيل؟ والحق أن ما ذكرت من البشرى في صدر آيات الصافات انما هي بشرى بإسماعيل وهى غير ما ذكرت في ذيل الآيات من البشرى بإسحاق صريحا فإن سياق الآيات في ذيل قوله: {فبشرناه بغلام حليم}
ثم استئناف البشارة بإسحاق في قوله اخيرا: {وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين} لا يدع ريبا لمرتاب ان الغلام الحليم الذى بشر به اولا غير اسحاق الذى بشر به ثانيا، وليس الا اسماعيل.
وذكر الطبري في تاريخه ان المراد بالبشارة الأولى في هذه السورة أيضا البشارة بإسحاق قياسا على ذكر من البشارة في سائر السور، وهو كما ترى.
وقد تقدم كلام في هذا المعنى في قصص إبراهيم عليه السلام في الجزء السابع من الكتاب.
وثالثها: البحث في القصة من جهة تطبيق ما في التوراة الحاضرة منها على ما استفيد من القرآن الكريم، وسيوافيك ذلك عند الكلام على قصة لوط عليه السلام في ذيل الآيات التالية.
ورابعها: البحث فيها من جهة جدال إبراهيم الملائكة وقد وقع فيها مثل قوله: {يجادلنا في قوم لوط} وقوله: {يا إبراهيم أعرض عن هذا}.
وقد تقدم أن سياق الآيات وخاصة قوله: {إن إبراهيم لحليم أواه منيب} لا يدل إلا على نعته بالجميل فلم يكن جداله الا حرصا منه في نجاة عباد الله رجاء أن يهتدوا إلى صراط الإيمان. اهـ.

.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

{وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا}.
هَذِهِ الْآيَاتُ الْخَمْسُ خَاصَّةٌ بِبِشَارَةِ الْمَلَائِكَةِ لِإِبْرَاهِيمَ وَامْرَأَتِهِ بِإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ.
{وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} خَبَرٌ مُؤَكَّدٌ بِالْقَسَمِ لِغَرَابَتِهِ عِنْدَ الْعَرَبِ، مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا} أَوْ عَلَى مَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ لَا عَلَى مَا قَبْلَهُ مُبَاشَرَةً مِنْ قِصَّةِ صَالِحٍ الَّتِي عُطِفَتْ عَلَى قِصَّةِ هُودٍ لِتَمَاثُلِهِمَا، وَالْمُرَادُ بِالرُّسُلِ: جَمَاعَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِيهِمْ، فَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُمْ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَإِسْرَافِيلُ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ أَنَّهُمْ جِبْرِيلُ وَسَبْعَةُ أَمْلَاكٍ مَعَهُ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَهُوَ مِمَّا لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِتَوْقِيفٍ مِنَ الْوَحْيِ وَلَا تَوْقِيفَ فِيهِ. وَسَتُذْكَرُ الْبُشْرَى بَعْدَ التَّحِيَّةِ وَالضِّيَافَةِ: {قَالُوا سَلَامًا} أَيْ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ سَلَامًا، أَوْ ذَكَرُوا هَذَا اللَّفْظَ {قَالَ سَلَامٌ} أَيْ: أَمْرُكُمْ سَلَامٌ، أَوْ عَلَيْكُمْ سَلَامٌ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ الرَّفْعَ أَبْلَغُ مِنَ النَّصْبِ؛ فَقَدْ حَيَّاهُمْ بِأَحْسَنَ مِنْ تَحِيَّتِهِمْ، أَيْ عَلَى عَادَتِهِ وَدَأْبِهِ فِي إِكْرَامِ الضَّيْفِ وَظَنَّ أَنَّهُمْ أَضْيَافٌ {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} أَيْ: مَا مَكَثَ وَمَا أَبْطَأَ عَنْ مَجِيئِهِ إِيَّاهُمْ بِعِجْلٍ سَمِينٍ حَنِيذٍ: أَيْ مَشْوِيٍّ بِالرَّضْفِ وَهِيَ الْحِجَارَةُ الْمَحْمِيَّةُ- وَالْمَشْوِيُّ عَلَيْهَا يَكُونُ أَنْظَفُ مِنَ الْمَشْوِيِّ عَلَى النَّارِ وَأَلَذُّ طَعْمًا، وَقَدِ اهْتَدَى الْبَشَرُ إِلَى شَيِّ اللَّحْمِ مِنْ صَيْدٍ وَغَيْرِهِ عَلَى الْحِجَارَةِ الْمَحْمِيَّةِ بِحَرِّ الشَّمْسِ قَبْلَ اهْتِدَائِهِمْ لِطَبْخِهِ بِالنَّارِ، وَفِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ بَعْدَ السَّلَامِ: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ} 51: 16 و27 وَهُوَ نَصٌّ فِي الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْإِتْيَانِ بِهِ بِدُونِ مُهْلَةٍ كَأَنَّهُ كَانَ مَشْوِيًّا مُعَدًّا لِمَنْ يَجِيءُ مِنَ الضَّيْفِ، أَوْ شُوِيَ عِنْدَ وُصُولِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَرَيُّثٍ.
{فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ} أَيْ لَا تَمْتَدُّ إِلَيْهِ لِلتَّنَاوُلِ مِنْهُ كَمَا يَمُدُّ الْآكِلُ يَدَهُ إِلَى الطَّعَامِ {نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} نَكِرَ الشَّيْءَ (كَعَلِمَ وَتَعِبَ) وَأَنْكَرَهُ ضِدُّ عَرَفَهُ، أَيْ نَكِرَ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَوَجَدَهُ عَلَى غَيْرِ مَا يَعْهَدُ مِنَ الضَّيْفِ، فَإِنَّ الضَّيْفَ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ طَعَامِ الْمُضِيفِ إِلَّا لِرِيبَةٍ أَوْ قَصْدٍ سَيِّءٍ، وَأَحَسَّ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مِنْهُمْ وَفَزَعًا، أَوْ أَدْرَكَ ذَلِكَ وَأَضْمَرَهُ إِذْ شَعَرَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بَشَرًا، أَوْ أَنَّهُمْ رُبَّمَا كَانُوا مِنْ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ وَالْوَجْسِ (كَالْوَعْدِ) الصَّوْتِ الْخَفِيِّ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَا يَعْتَرِي النَّفْسَ مِنَ الشُّعُورِ وَالْخَوَاطِرِ عِنْدَ الْفَزَعِ {قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} أَيْ: قَالُوا وَقَدْ عَلِمُوا مَا يُسَاوِرُ نَفْسَهُ مِنَ الْوَجْسِ: لَا تَخَفْ فَنَحْنُ لَا نُرِيدُ بِكَ سُوءًا، وَإِنَّمَا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ لِإِهْلَاكِهِمْ، وَلُوطٌ ابْنُ أَخِيهِ وَأَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَكَانَ مَكَانُهُ مِنْ مُهَاجَرِهِ قَرِيبًا مِنْ مَكَانِهِ، وَفِي سُورَةِ الْحِجْرِ أَنَّهُ صَارَحَهُمْ بِخَوْفِهِ وَوَجَلِهِ مِنْهُمْ، فَطَمْأَنُوهُ بِأَنَّهُمْ مُبَشِّرُونَ لَهُ {بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} 15: 53 وَكَذَا فِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ {قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} 51: 28 وَفِيهَا أَنَّهُ بَعْدَ الْبِشَارَةِ لَهُ سَأَلَهُمْ عَنْ خَطْبِهِمْ وَمَا جَاءُوا لِأَجْلِهِ فَأَخْبَرُوهُ فَجَادَلَهُمْ فِيهِ كَمَا يُذْكَرُ هُنَا مُجْمَلًا.