فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا} عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: انطلقوا من عند إبراهيم عليه السلام وبين القريتين أربعة فراسخ ودخلوا عليه في صورة غلمان مرد حسان الوجوه فلذلك: {سِئ بِهِمْ} أي أحدث له عليه السلام مجيئهم المساءة لظنه أنهم أناس فخاف أن يقصدهم قومه ويعجز عن مدافعتهم، وقيل: كان بين القريتين ثمانية أميال فأتوها عشاءًا، وقيل نصف النهار ووجدوا لوطًا في حرث له.
وقيل: وجدوا بنتًا له تستقي ماءًا من نهر سدوم وهي أكبر محل للقوم فسألوها الدلالة على من يضيفهم ورأت هيأتهم فخافت عليهم من قوم أبيها فقالت لهم: مكانكم وذهبت إلى أبيها فأخبرته فخرج إليهم فقالوا: إنا نريد أن تضيفنا الليلة، فقال: أو ما سمعتم بعمل هؤلاء القوم؟ فقالوا: وما عملهم؟ فقال: أشهد بالله تعالى أنهم شر قوم في الأرض، وقد كان الله تعالى قال للملائكة لا تعذبوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات، فلما قال هذه قال جبريل عليه السلام: هذه واحدة وتكرر القول منهم حتى كرر لوط الشهادة فتمت الأربع ثم دخل المدينة فدخلوا معه منزله: {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} أي طاقة وجهدًا، وهو في الأصل مصدر ذرع البعير بيديه يذرع في مسيره إذا سار مادًا خطوه مأخوذ من الذراع وهي العضو المعروف، ثم توسع فيه فوضع موضع الطاقة والجهد، وذلك أن اليد كما تجعل مجازًا عن القوة فالذراع المعروفة كذلك، وفي الصحاح يقال: ضقت بالأمر ذرعًا إذا لم تطقه ولم تقو عليه، وأصل الذرع بسط اليد فكأنك تريد مددت يدي إليه فلم تنله، وربما قالوا: ضقت به ذراعًا، قال حميد بن ثور يصف ذئبًا:
وإن بات وحشًا ليلة لم يضق بها ** (ذراعًا) ولم يصبح لها وهو خاشع

وفي الكشاف جعلت العرب ضيق الذراع والذرع عبارة عن فقد الطاقة كما قالوا: رحب الذراع بكذا إذا كان مطيقًا له، والأصل فيه أن الرجل إذا طالت ذراعه نال ما لا يناله القصير الذراع فضرب ذلك مثلًا في العجز والقدرة، ونصبه على أنه تمييز محول عن الفاعل أي ضاق بأمرهم وحالهم ذرعه، وجوز أن يكون الذرع كناية عن الصدر والقلب، وضيقه كناية عن شدة الانقباض للعجز عن مدافعة المكروه والاحتيال فيه، وهو على ما قيل: كناية متفرعة على كناية أخرى مشهورة؛ وقيل: إنه مجاز لأن الحقيقة غير مرادة هنا؛ وأبعد بعضهم في تخريج هذا الكلام فخرجه على أن المراد أن بدنه ضاق قدر عن احتمال ما وقع: {وَقَالَ هذا} اليوم: {يَوْمٌ عَصِيبٌ} أي شديد، وأصله من العصب بمعنى الشد كأنه لشدة شره عصب بعضه ببعض، وقال أبو عبيدة: سمي بذلك لأنه يعصب الناس بالشر، قال الراجز:
يوم عصيب يعصب الأبطالا ** عصب القوى السلم الطوالا

وفي معناه العصبصب والعصوصب.
{وَجَاءهُ} أي لوطًا وهو في بيته مع أضيافه: {قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} قال أبو عبيدة: أي يستحثون إليه كأنه يحث بعضهم بعضًا، أو يحثهم كبيرهم ويسوقهم، أو الطمع في الفاحشة، والعامة على قراءته مبنيًا للمفعول، وقرأ جماعة: {يُهْرَعُونَ} بفتح الياء مبنيًا للفاعل من هرع، وأصله من الهرع وهو الدم الشديد السيلان كأن بعضه يدفع بعضًا، وجاء أهرع القوم إذا أسرعوا، وفسر بعضهم الإهراع بالمشي بين الهرولة والجمز، وعن ابن عباس أنه سئل عما في الآية، فقال: المعنى يقبلون إليه بالغضب، ثم أنشد قول مهلهل:
فجاءوا يهرعون وهم أسارى ** نقودهم على رغم الأنوف

وفي رواية أخرى عنه أنه فسر ذلك بيسرعون وهو بيان للمراد ويستقيم على القرائتين، وجملة: {يُهْرَعُونَ} في موضع الحال من قومه أي جاؤوا مهرعين إليه، روي أنه لما جاء لوط بضيفه لم يعلم ذلك أحد إلا أهل بيته فخرجت امرأته حتى أتت مجالس قومها فقالت: إن لوطًا قد أضاف الليلة فئة ما رؤي مثلهم جمالًا فحينئذٍ جاؤوا يهرعون إليه: {وَمِن قَبْلُ} أي من قبل وقت مجيئهم، وقيل: {مِن قَبْلُ} بعث لوط رسولًا إليهم: {كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات} قيل: المراد سيئة إتيان الذكور إلا أنها جمعت باعتبار تكررها أو باعتبار فاعليها.
وقيل: المراد ما يعم ذلك، وإتيان النساء في محاشهن والمكاء والصفير واللعب بالحمام والقمار والاستهزاء بالناس وغير ذلك، والمراد من ذكر عملهم السيئات من قبل بيان أنهم اعتادوا المنكر فلم يستحيوا فلذلك أسرعوا لطلب الفاحشة من ضيوفه مظهرين غير مكترثين، فالجملة معترضة لتأكيد ما قبلها.
وقيل: إنها بيان لوجه ضيق صدره لما عرف من عادتهم، وجعلها شيخ الإسلام في موضع الحال كالتي قبلها أي جاؤوا مسرعين، والحال أنهم كانوا منهمكين في عمل السيئات.
{قَالَ يَاءادَمُ قَوْمٌ هَؤُلاء بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} فتزوجوهن وكانوا يطلبونهن من قبل ولا يجيبهم لخبثهم وعدم كفاءتهم لا لعدم مشروعية تزويج المؤمنات من الكفار فإنه كان جائزًا، وقد زوج النبي صلى الله عليه وسلم ابنته زينب لأبي العاص بن الربيع وابنته رقية لعتبة بن أبي لهب قبل الوحي وكانا كافرين إلا أن عتبة لم يدخل بها وفارقها بطلب أبيه حين نزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ} [المسد: 1] فتزوّجها عثمان رضي الله تعالى عنه، وأبا العاص كان قد دخل بها لكن لما أسر يوم بدر وفادى نفسه أخذ النبي صلى الله عليه وسلم العهد عليه أن يردها إذا عاد فأرسل عليه الصلاة والسلام زيد بن حارثة ورجلًا من الأنصار في طلبها فجاءا بها ثم أنه أسلم وأتى المدينة فردها عليه الصلاة والسلام إليه بنكاح جديد أو بدونه على الخلاف.
وقال الحسن بن الفضل: إنه عليه السلام عرض بناته عليهم بشرط الإسلام، وإلى ذلك ذهب الزجاج، وهو مبني على أن تزويج المسلمات من الكفار لم يكن جائزًا إذ ذاك، وقيل: كان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوجهما ابنتيه ولم يكن له عليه السلام سواهما، واسم إحداهما على ما في بعض الآثار زعوراء، والأخرى زيتاء، وقيل: كان له عليه السلام ثلاث بنات، وأخرجه الحاكم وصححه عن ابن عباس، ويؤيده ظاهر الجمع وإن جاء إطلاقه على اثنين، وأيًا ما كان فقد أراد عليه السلام بذلك وقاية ضيفه وهو غاية الكرم فلا يقال: كيف يليق به عليه السلام أن يعرض بناته على أعدائه ليزوجهن إياهم؟ا نعم استشكل عرض بناته بناءًا على أنهن اثنتان كما هو المشهور، أو ثلاث كما قيل على أولئك المهرعين ليتزوجوهن مع القول بأنهم أكثر منهن إذ لا يسوغ القول بحل تزوج الجماعة بأقل منهم في زمان واحد، ومن هنا قال بعض أجلة المفسرين: إن ذلك القول لم يكن منه عليه السلام مجريًا على الحقيقة من إرادة النكاح بل كان ذلك مبالغة في التواضع لهم وإظهارًا لشدة امتعاضه مما أوردوا عليه طمعًا في أن يستحيوا منه ويرقوا له إذا سمعوا ذلك فيتركوا ضيوفه مع ظهور الأمر واستقرار العلم عنده وعندهم أن لا مناكحة بينه وبينهم وهو الأنسب بجوابهم الآتي، وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس وابن أبي حاتم عن ابن جبير ومجاهد وابن أبي الدنيا وابن عساكر عن السدي أن المراد ببناته عليه السلام نساء أمته، والإشارة بهؤلاء لتنزيلهن منزلة الحاضر عنده وإضافتهن إليه لأن كل نبي أب لأمته، وفي قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم}.
وقرأ أبي رضي الله تعالى عنه مثل ذلك لكنه قدم: {وأزواجه أمهاتهم} [الأحزاب: 6] علي وهو أب لهم وأراد عليه السلام بقوله: {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} أنظف فعلًا، أو أقل فحشًا كقولك: الميتة أطيب من المغصوب وأحل منه، ويراد من الطهارة على الأول الطهارة الحسية وهي الطهارة عما في اللواطة من الأذى والخبث، وعلى الثاني الطهارة المعنوية وهو التنزه عن الفحش والإثم، وصيغة أفعل في ذلك مجاز، والظاهر إن هؤلاء بناتي مبتدأ وخبر، وكذلك: {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} وجوز أبو البقاء كون: {بَنَاتِى} بدلًا أو عطف بيان: {وَهَنَ} ضمير فصل، و: {أَطْهَرُ} هو الخبر، وكون: {هُنَّ} مبتدأ ثانيًا، و: {أَطْهَرُ} خبره، والجملة خبر: {هَؤُلاء}.
وقرأ الحسن وزيد بن علي وعيسى الثقفي وسعيد بن جبير والسدي: {أَطْهَرُ} بالنصب، وقد خفي وجهه حتى قال عمرو بن العلاء: إن من قرأ: {أَطْهَرُ} بالنصب فقد تربع في لحنه وذلك لأن انتصابه على أن يجعل حالًا عمل فيها ما في: {هَؤُلاء} من الإشارة أو التنبيه أو ينصب: {هَؤُلاء} بفعل مضمر كؤنه قيل: خذوا هؤلاء و: {بَنَاتِى} بدل، ويعمل هذا المضمر في الحال و: {هُنَّ} في الصورتين فصل وهذا لا يجوز لأن الفصل إنما يكون بين المسند والمسند إليه، ولا يكون بين الحال وذيها كذا قيل، وهذا المنع هو المروى عن سيبويه وخالف في ذلك الأخفش فأجاز توسط الفصل بين الحال وصاحبها فيقول: جاء زيد هو ضاحكًا، وجعل من ذلك هذه الآية على هذه القراءة، وقيل: بوقوعه شذوذًا كما في قولهم: أكثر أكلي التفاحة هي نضيجة، ومن منع ذلك خرج هذا على إضمار كان، والآية الكريمة على أن: {هُنَّ} مبتدأ و: {لَكُمْ} الخبر، و: {أَطْهَرُ} حال من الضمير في الخبر، واعترض بأن فيه تقديم الحال على عاملها الظرفي، والأكثرون على منعه أو على أن يكون: {هَؤُلاء} مبتدأ و: {بَنَاتِى هُنَّ} جملة في موضع خبر المبتدأ كقولك: هذا أخي هو، ويكون: {أَطْهَرُ} حالًا.
وروي هذا عن المبرد وابن جني، أو على أن يكون: {هَؤُلاء} مبدأ و: {بَنَاتِى} بدلًا منه أو عطف بيان و: {هُنَّ} خبر و: {أَطْهَرُ} على حاله.
وتعقب بأنه ليس فيه معنى طائل، ودفع بأن المقصود بالإفادة الحال كما في قولك: هذا أبوك عطوفًا، وادعى في الكشف أن الأوجه أن يقدروا خذوا هؤلاء أطهر لكم، وقوله: {بَنَاتِى هُنَّ} جملة معترضة تعليلًا للأمر وكونهن أولى قدمت للاهتمام كأنه قيل خذوا هؤلاء العفائف أطهر لكم إن بناتي هن وأنتم تعلمون طهارتي وطهارة بناتي؛ ويجوز أن يقال: {هُنَّ} تأكيد للمستكن في: {بَنَاتِى} لأنه وصف مشتق لاسيما على المذهب الكوفي فافهم ولا تغفل: {فاتقوا الله} بترك الفواحش أو بإيثارهن عليهم: {وَلاَ تُخْزُونِ في ضَيْفِى} أي لا تفضحوني في شأنهم فإن إخزاء ضيف الرجل إخزاء له، أو لا تخجلوني فيهم، والمصدر على الأول الخزي وعلى الثاني الخزاية، وأصل معنى خزي لحقه انكسار إما من نفسه وهو الحياء المفرط، وإما من غيره وهو الاستخفاف والتفضيح، والضيف في الأصل مصدر، ولذا إذا وصف به المثنى أو المجموع لم يطابق على المشهور، وسمع فيه ضيوف، وأضياف، وضيفان، {وَلاَ} ناهية، والفعل مجزوم بحذف النون، والموجودة نون الوقاية، والياء محذوفة اكتفاءًا بالكسرة، وقرئ بإثباتها على الأصل: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ} يهتدي إلى الحق الصريح ويرعوي عن الباطل القبيح، وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس أنه قال: يأمر بمعروف أو ينهي عن منكر، وهو إما بمعنى ذو رشد أو بمعنى مرشد كالحكيم بمعنى المحكم، والاستفهام للتعجب، وحمله على الحقيقة لا يناسب المقام.
{قَالُواْ} معرضين عما نصحهم به من الأمر بالتقوى والنهي عن الإخزاء عن أول كلامه: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا في بَنَاتِكَ مِنْ حَقّ} أي حق وهو واحد الحقوق، وعنوا به قضاء الشهوة أي ما لنا حاجة في بناتك، وقد يفسر بما يخالف الباطل أي ما لنا في بناتك نكاح حق لأنك لا ترى جواز نكاحنا للمسلمات، وما هو إلا عرض سابري كذا قيل، وهو ظاهر في أنه كان من شريعته عليه السلام عدم حل نكاح الكافر المسلمة.
وقيل: إنما نفوا أن يكون لهم حق في بناته لأنهم كانوا قد خطبوهن فردهم وكان من سنتهم أن من رد في خطبة امرأة لم تحل له أبدًا، وقييل: إنهم لما اتخذوا إتيان الذكور مذهبًا كان عندهم هو الحق وأن نكاح الإناث من الباطل فقالوا ما قالوا، وقيل: قالوا ذلك لأن عادتهم كانت أن لا يتزوج الرجل منهم إلا واحدة وكانوا كلهم متزوجين: {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} أي من إتيان الذكور، والظاهر أن: {مَا} مفعول لتعلم، وهو بمعنى تعرف، وهي موصولة والعائد محذوف أي الذي نريده، وقيل: إنها مصدرية فلا حذف أي إرادتنا.
وجوز أن تكون استفهامية وقعت مفعولًا لنريد وهي حينئذٍ معلقة لتعلم ولما يئس عليه السلام من إرعوائهم عما هم عليه من الغي.
{قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً} أي لو ثبت أن لي قوة ملتبسة بكم بالمقاومة على دفعكم بنفسي لفعلت فلو شرطية وجوابها محذوف كما حذف في قوله سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الجبال} [الرعد: 31] وجوز أن تكون للتمني، و: {بِكُمْ} حال من: {قُوَّةَ} كما هو المعروف في صفة النكرة إذا قدمت عليها، وضعف تعلقه بها لأن معمول المصدر لا يتقدم عليه في المشهور، وقوله: {أَوْ ءاوى إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ} عطف على ما قبله بناءًا على ما علمت من معناه الذي يقتضيه مذهب المبرد، والمضارع واقع موقع الماضي، واستظهر ذلك أبو حيان، وقال الحوفي: إنه عطف على ما تقدم باعتبار أن المراد أو أنى آوى، وجوز ذلك أبو البقاء، وكذا جوز أن تكون الجملة مستأنفة، والركن في الأصل الناحية من البيت أو الجبل، ويقال: ركن بضم الكاف، وقد قرئ به ويجمع على أركان، وأراد عليه السلام به القوى شبهه بركن الجبل في شدته ومنعته أي أو أنضم إلى قوى أتمنع به عنكم وأنتصر به عليكم، وقد عد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القول منه عليه السلام بادرة واستغربه، فقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: «رحم الله تعالى أخي لوطًا كان يأوي إلى ركن شديد». يعني عليه الصلاة والسلام به الله تعالى فإنه لا ركن أشد منه عز وجل.
إذا كان غير الله للمرء عدة ** أتته الرزايا من وجوه الفوائد

وجاء أنه سبحانه لهذه الكلمة لم يبعث بعد لوط نبيًا إلا في منعة من عشيرته، وفي البحر أنه يجوز على رأي الكوفيين أن تكون: {أَوْ} بمعنى بل ويكون عليه السلام قد أضرب عن الجملة السابقة، وقال: بل آوى في حالي معكم إلى ركن شديد وكني به عن جناب الله تعالى ولا يخفى أنه يأبى الحمل على هذه الكناية تصريح الأخبار الصحيحة بما يخالفها.
وقرأ شيبة وأبو جعفر: {أَوَى} بالنصب على إضمار أن بعد: {أَوْ} فيقدر بالمصدر عطفًا على: {قُوَّةَ} ونظير ذلك قوله:
ولولا رجال من رزام أعزة ** وآل سبيع أو أسوأك علقمًا

أي لو أن لي بكم قوة أو أويًا، روي أنه عليه السلام أغلق بابه دون أضيافه وأخذ يجادل قومه عنهم من وراء الباب فتسوروا الجدار فلما رأت الملائكة عليهم السلام ما على لوط من الكرب. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا}
قد علم أن الملائكة ذاهبون إلى قوم لوط من قوله: {إنّا أُرسلنا إلى قوم لوط} [هود: 70].
فالتقدير: ففارقوا إبراهيم وذهبوا إلى لوط عليهما السّلام فلما جاءوا لوطًا، فحذف ما دل عليه المقام إيجازًا قرآنيًا بديعًا.
وقد جاءوا لوطًا كما جاءوا إبراهيم عليهما السّلام في صورة البشر، فظنهم ناسًا وخشي أن يعتدي عليهم قومه بعادتهم الشنيعة، فلذلك سيء بهم.
ومعنى: {ضاق بهم ذرعًا} ضاق ذرعه بسببهم، أي بسبب مجيئهم فحوّل الإسناد إلى المضاف إليه وجعل المسند إليه تمييزًا لأن إسناد الضيق إلى صاحب الذرع أنسب بالمعنى المجازي، وهو أشبه بتجريد الاستعارة التمثيلية.
والذرع: مدُّ الذراع فإذا أسند إلى الآدمِيّ فهو تقدير المسافة.
وإذا أسند إلى البعير فهو مَدّ ذراعيه في السير على قدر سعة خطوتِه، فيجوز أن يكون: ضاق ذرعًا تمثيلًا بحال الإنسان الذي يريد مَدّ ذراعه فلا يستطيع مَدّهَا كما يريد فيكون ذَرعه أضيق من معتاده.
ويجوز أن يكون تمثيلًا بحال البعير المثقل بالحمل أكثر من طاقته فلا يستطيع مَدّ ذراعيه كما اعتاده.