فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وكلمة ضيف كما نعلم جاءت هنا مفردة، ولكنها تطلق أيضًا على الجمع، والمثنى، وتصلح للدلالة على المذكر وعلى المؤنث أيضًا، فإن جاء ضيف واحد تقول: هذا ضيفي، وإن جاء اثنان تقول: هذان ضيفي، وإن كانت امرأة تقول: هذه ضيفي، وإن كانتا امرأتين تقول: هاتان ضيفي، وإن جاءت جماعة تقول: هؤلاء ضيفي.
والحق سبحانه يقول: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين} [الذاريات: 24].
وهناك ألفاظ أخرى كذلك في اللغة مثل: كلمة طفل فهي مفرد؛ ولكنها قد تطلق على الجماعة، إلا أن كلمة طفل وُجِد لها جمع هو أطفال.
والحق سبحانه يقول: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بني إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإربة مِنَ الرجال أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النساء} [النور: 31].
إذن: فكلمة طفل تطلق أيضًا، ويراد بها الجماعة.
وهنا يطلب لوط عليه السلام من قومه ألا يخزوه في ضيفه، والخزي فضيحة أمام النفس وأمام الناس.
والإنسان قد تهون عليه نفسه ويُقبل على العمل السيئ ما لم يره أحد، أما أن يراه الناس، ففي هذا فضح له؛ فالفضيحة تكون بين جمهرة الناس، والهوان أن يكون العمل السيئ بينه وبين نفسه.
ويتساءل لوط عليه السلام: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ} [هود: 78].
أي: ألا يوجد بينكم رجل له عقل ومروءة وكرامة، يمنع هذه المسألة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ}
هذه الآية تحمل رد المتدافعين طلبًا للفحشاء من قوم لوط؛ فقد قالوا له: أنت تعلم مقصدنا، وليس لنا في بناتك أية حاجة نعتبرها غاية لمجيئنا.
وكان هذا يعني الإعراض عن قبول نصحه لهم بالتزوج من بناته بدلًا من طلب فعل الفاحشة مع ضيوف لوط، وهم الملائكة الذين جاءوا في هيئة رجال بلغوا مبلغ الكمال في الجمال.
ويأتي الحق سبحانه برد لوط عليه السلام: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً}
وساعة تقرأ كلمة لو فهذا هو التمني، أي: رجاء أن يكون له قوة يستطيع أن يدفع بها هؤلاء، وكان لابد من وجود شرط، مثل قولنا: لو أن زيدًا عندك لجئت، لكن نجد هنا شرطًا ولا جواب، كأن يقال: لو أن لي بكم قوة لفعلت كذا وكذا.
ولذلك يقال إن الملائكة قالت له: إن ركنك لشديد؛ ولذلك قال: {أَوْ آوي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80].
والشيء الشديد هو المتجمِّع تجمُّعًا يصعب فَصْلُه، أو المختلط اختلاطًا بمزجٍ يصعب تحلُّله؛ لأنك حين تجمع الأشياء؛ فإما أن تجمع أشياء أجناسها منفصّلة، ولكنك تربطها ربطًا قويًا، مثل أن تربط المصلوب على شجرة برباط قوي، لكن كليهما المصلوب والشجرة، منفصل عن الآخر وله ذاته، وهناك ما يُسمَّى خلطًا، وهناك ما يُسمَّى مزجًا، والخلط هو أن تخلط أشياء، وكل شيء منها متميز عن غيره بحيث تستطيع أن تفصله، أما المزج فلا يمكن فصل الأشياء الممتزجة ببعضها.
ومثال ذلك: أنك قد تخلط فول التدميس مثلًا مع حبات من الفول السوداني، وتستطيع أن تفصل الاثنين بعضهما عن بعض؛ لأنك جمعتهما على استقلال. ولكن إن قُمْتَ بعصر ليمون على كوب من الماء المحلى بالسكر؛ فهذا مزج يصعب حَلُّه.
وقد قال لوط عليه السلام ذلك لأنه لم يكن في مَنعةٍ من قومه، أهل سدوم ويقال: إنها خمس قرى قريبة من حمص. وقد تعجَّب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول لوط، فقال فيما رواه البخاري:
«رحم الله أخي لوطًا كان يأوي إلى ركن شديد». فَلِهوْل ما عانى لوط عليه السلام من كرب المفاجأة قال ذلك، وهو يعلم أنه لا يوجد سند أو ركن أشد من الحق سبحانه وتعالى. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)}
قوله تعالى: {سيء}: فعلٌ مبنيٌّ للمفعول. والقائمُ مقامُ الفاعل ضميرُ لوط مِنْ قولِك ساءني كذا أي: حَصَل لي سُوْءٌ. وبهم متعلقٌ به أي: بسببهم. و{ذَرْعًا} نصبٌ على التمييز، وهو في الأصل مصدر ذَرَعَ البعير يَذْرَع بيديه في سَيْره إذا سار على قَدْر خَطْوِه، اشتقاقًا من الذِّراع، ثم تُوُسِّع فيه فوُضِعَ مَوْضِعَ الطاقة والجهد فقيل: ضاق ذَرْعُه أي: طاقتُه قال:
..................... ** فاقدِرْ بذَرْعِك وانظر أين تَنْسَلِكُ

وقد يقع الذِّراعُ موقِعَه قال:
إذا التَّيَّازُ ذو العَضَلاتِ قُلْنا ** إليك إليك ضاقَ بها ذِراعا

قيل: هو كنايةٌ عن ضِيق الصدر.
وقوله: {عَصِيبٌ} العَصِيْبُ والعَصَبْصَبُ والعَصُوب: اليوم الشديد، الكثير الشرِّ الملتفُّ بعضُه ببعض قال:
وكنت لِزازَ خَصْمِكَ لم أُعَرِّدْ ** وقد سَلكوك في يومٍ عصيبِ

وعن أبي عُبَيْد: سُمِّي عَصِيبًا لأنه يعصب الناسَ بالشرِّ. والعِصَابَةُ: الجماعة من الناس سُمُّوا بذلك لإِحاطتهم إحاطةَ العَصابة.
قوله: {يُهْرَعُونَ} في محل نصب على الحال. والعامَّة على {يُهرعون} مبنيًا للمفعول. والإِهراع: الإِسراع ويقال: وهو المَشْيُ بين الهَرْوَلة والجَمَز. وقال الهروي: هَرَع وأَهْرَعَ: اسْتَحَثَّ. وقرأت فرقة: يَهْرعون بفتح الياء مبنيًا للفاعل مِنْ لغة هَرَع.
قوله: {هؤلاء بَنَاتِي} جملةٌ برأسها، وهنَّ أطهرُ لكم جملةٌ أخرى، ويجوز أن يكونَ هؤلاء مبتدأ، وبناتي بدلٌ أو عطفُ بيان، وهنَّ مبتدأ، وأَطْهَرُ خبره، والجملةُ خبر الأول. ويجوز أن يكونَ هنَّ فَصْلًا، وأطهر خبر: إمَّا ل {هؤلاء}، وإمَّا ل {بناتي}، والجملةُ خبر الأول.
وقرأ الحسن وزيد بن علي وسعيد بن جبير وعيسى بن عمر والسدي: {أطهرَ} بالنصب. وخُرِّجت على الحال. فقيل: {هؤلا} مبتدأ، و{بناتي هُنَّ} جملةٌ في محلِّ خبره، و{أطهر} حال، والعاملُ: إمَّا التنبيهُ وإمَّا الإِشارةُ. وقيل: {هنَّ} فَصْلٌ بين الحال وصاحبها، وجُعِل من ذلك قولُهم: أكثر أكلي التفاحةَ هي نضيجةً. ومنعه بعض النحويين، وخرَّج الآيةَ على أن لكم خبر {هن} فلزمه على ذلك أن تتقدَّم الحالُ على عاملها المعنوي، وخرَّجَ المَثَلَ المذكور على أن نضيجة منصوبة بكان مضمرة.
قوله: {وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي}: الضيف في الأصل مصدرٌ، ثم أطلق على الطارق لميلانه إلى المُضيف، ولذلك يقع على المفرد والمذكر وضدَّيهما بلفظٍ واحدٍ، وقد يُثنَّى فيقال: ضَيْفان، ويُجْمع فيقال: أضايف وضُيوف كأبيات وبُيوت وضِيفان كحَوْض وحِيضان.
{قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79)}
قوله تعالى: {مِنْ حَقٍّ}: يجوز أن يكون مبتدأ، والجارُّ خبره، وأن يكونَ فاعلًا بالجارِّ قبله لاعتماده على نفي، ومِنْ مزيدةٌ على كلا القولين.
قوله: {مَا نُرِيدُ} يجوز أن تكونَ مصدريةً، وأن تكونَ موصولةً بمعنى الذي. والعلم عرفانٌ، فلذلك يتعدَّى لواحدٍ أي: لتعرف إرادتنا، أو الذي نريده. ويجوز أن تكونَ ما استفهامية وهي مُعَلِّقة للعلم قبلها.
{قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)}
قوله تعالى: {لَوْ أَنَّ} جوابُها محذوف تقديره: لفعلتُ بكم وصنعْتُ كقوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ} [الرعد: 31].
قوله: {أَوْ آوي} يجوز أن يكونَ معطوفًا على المعنى، تقديره: أو أني آوي، قاله أبو البقاء والحوفي. ويجوز أن يكون معطوفًا على قوة لأنه منصوبٌ في الأصل بإضمار أن فلمَّا حُذِفَتْ أن رُفع الفعل كقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ} [الروم: 24].
واستضعف أبو البقاء هذا الوجهَ بعدم نصبِه. وقد تقدم جوابه. ويدلُّ على اعتبار ذلك قراءةُ شيبة وأبي جعفر {أو آويَ} بالنصب كقوله:
ولولا رجالٌ من رِزامٍ أعزَّةٍ ** وآلُ سبيعٍ أو أسُوْءَك عَلْقما

وقولها:
لَلُبْسُ عباءةٍ وتقرَّ عَيْني ** أحبُّ إليَّ من لُبْس الشُّفوف

ويجوز أن يكون عَطْفُ هذه الجملةِ الفعلية على مثلها إن قدَّرْتَ أنَّ أنَّ مرفوعة بفعل مقدرٍ بعد لو عند المبرد، والتقدير: لو يستقر أو يثبت استقرار القوة أو آوي، ويكون هذان الفعلان ماضيَيْ المعنى؛ لأنها تَقلب المضارع إلى المضيِّ. وأمَّا على رأي سيبويه في كونِ أنَّ أنَّ في محل الابتداء، فيكون هذا مستأنفًا. وقيل: أو بمعنى بل وهذا عند الكوفيين.
و{بكم} متعلق بمحذوفٍ لأنه حالٌ من {قوة}، إذ هو في الأصل صفةُ للنكرة، ولا يجوز أن يتعلَّق ب {قوة} لأنها مصدر.
والرُّكُنْ بسكون الكاف وضمها الناحية من جبل وغيره، ويُجمع على أركان وأَرْكُن قال:
وزَحْمُ رُكْنَيْكَ شديدُ الأَرْكُنِ

. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)} أي أنه حزن بسبب خوفه عليهم أن يَجْريَ عليهم من قومه ما لا يجوز في دين الله؛ فذلك الحزنُ كان لحقِّ الله لا لنصيبٍ له أو حظَّ لنفسه، ولذلك حُمِدَ عليه لأنَّ مقاساةَ الحزنِ لحقِّ الله محمودةٌ.
{وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)}
قوله: {هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ}: قيل إنه أراد به نساء أمته، فنبيُّ كلِّ أمةٍ مثل الوالد لأولاده في الشفقة والنصيحة.
ويقال إنه أراد بناتِه منْ صُلْبِه.
{أليس منكم رجل رشيد} يرتدي جلبابَ الحشمة، ويؤثِر حقَّ الله على ما هو مقتضى البشرية، ويرعى حق الضيافة، ويترك معصية الله؟.
{قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79)}
أصرُّوا على عصيانهم، وزهدوا في المأذون لهم شرعًا، وانجرُّوا إلى ما قادهم إليه الهوى طبعًا، وهذه صفة البهائم؛ لا يَرْدَعُها عقلٌ، قال تعالى: {أُوْلَئِكَ كَاْلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179].
{قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)}
لو أن لي قوةً فأمنعكم عن ارتكابِ المعصية؛ فإنَّ أهمَّ الأشياء على الأولياء ألا يَجْرِيَ من العصاةِ ما ليس الله فيه لا رضاء.
ويقال: لو كان لي قدرةٌ لإيصال الرحمةِ إليكم- مع ارتكابكم المعاصي- لَرَحِمْتُكم وتجاوزتُ عنكم.
ويقال لو أنَّ لي قوةً لهَدَيْتُكم إلى الدِّين، ولَعَصَمْتُكم عن ارتكاب المخالفات. اهـ.

.تفسير الآيات (81- 83):

قوله تعالى: {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
فلما عظم الشقاق وضاق الخناق كان كأنه قيل: فما قال له الرسل؟ فقيل: {قالوا} ودلوا بحرف النداء الموضوع للبعد على أنه كان قد خرج عن الدار وأجاف بابها وأن الصياح كان شديدًا: {يا لوط} إنك لتأوي إلى ركن شديد؛ ثم عللوا ذلك بقولهم: {إنا رسل ربك} أي المحسن إليك بإحسانك وكل ما ترى مما يسوءك ويسرك؛ ثم لما ثبت له ذلك كان من المحقق أنه سبب في ألا يدانيه معه سوء فأوضحوه بقولهم: {لن يصلوا إليك} من غير احتياج إلى الربط بالفاء، أي ونحن مهلكوهم وقالبوا مدنهم بهم: {فأسر} أي سر بالليل ماضيًا: {بأهلك} موقعًا ذلك السير والإسراء: {بقطع} أي بطائفة، أي والحال أنه قد بقي عند خروجك جانب: {من الَّيل ولا يلتفت} أي ينظر إلى ورائه ولا يتخلف: {منكم أحد} أي لا تلتفت أنت ولا تدع أحدًا من أهلك يلتفت: {إلا امرأتك} استثناء من {أحد} بالرفع والنصب لأن المنهي كالمنفي في جواز الوجهين، والنهي له صلى الله عليه وسلم، فالفعل بالنسبة إليه منهي، وبالنسبة إليهم منفي.
ويمكن أن يكون أخرجها معه لأن معنى الاستثناء أنه غير مأمور بالإسراء بها إلا أنه منهي عنه، واستثناءها من الالتفات معهم مفهم أنه لا حجر عليه في الإسراء بها، أو أنه خلفها فتبعتهم والتفتت، فيكون قراءة النصب من: {أهلك}، وقراءة الرفع من: {أحد} ولا يلزم من ذلك أمرها بالالتفات بل مخالفتها للمستثنى منه في عدم النهي، ولذلك عللوا ما أفهمه إهمالها من الإسراء والنهي من أنها تلتفت بقولهم مؤكدين لأن تعلق الأمل بنجاتها شديد رحمة لها: {إنه} أي الشأن: {مصيبها} لا محالة: {ما أصابهم} سواء التفت أو لا، تخلفت أو لا، ثم ظهر لي من التعبير في حقها باسم الفاعل وفي حقهم بالماضي أنه حكم بإصابة العذاب لهم عند هذا القول للوط عليه السلام لأن ذنوبهم تمت، وأما هي قإنما يبرم الحكم بذلك في حقها عند تمام ذنوبها التي رتبت عليها الإصابة وذلك عند الالتفات.
ولما عبروا بالماضي تحقيقًا للوقوع وتنبيهًا على أنه تقدم دخولها معهم في أسباب العذاب، كان منبهًا لأن يقال: كان الإيقاع بهم قد دنا بهم جدًا؟ فقيل: نعم، وأكد تحقيقًا للوقوع تلذيذًا به ولأنه- لقرب الوقت- بحيث ينكر: {إن موعدهم} أي لابتداء الأخذ: {الصبح} وكأن لوطًا عليه السلام أبطأ في جميع أهله وما يصلحهم، فكان فعله فعل من يستبعد الصبح، فأنكروا ذلك بقولهم: {أليس الصبح بقريب} أي فأسرع الخروج بمن أمرت بهم؛ والإسراء: سير الليل كالسرى.
ولما انقضى تسكين لوط عليه السلام والتقدم إليه فيما يفعل، أخبر تعالى عن حال قومه فقال: {فلما جاء أمرنا} بالفاء لما مضى في قصة صالح عليه السلام من التسبيب والتعقيب، أي فلما خرج منها لوط بأهله جاءنا أمرنا، ولما جاء أمرنا الذي هو عذابنا والأمر به: {جعلنا} بما لنا من العظمة: {عاليها} أي عالي مدنهم وهم فيها: {سافلها وأمطرنا عليها} أي على مدنهم بعد قلبها من أجلهم وسيأتي في سورة الحجر سر الإتيان هنا بضمير ها دون ضمير هم: {حجارة من سجيل} أي مرسلة من مكان هو في غاية العلو: {منضود} بالحجارة هي فيه متراكبة بعضها على بعض حال كونها: {مسومة} أي معلمة بعلامات تدل على أنها معدة للعذاب من السيما والسومة وهي العلامة تجعل للإبل السائمة لتتميز إذا اختلطت في المرعى، وفي الذاريات: {حجارة من طين} [الذاريات: 33] وذلك أن الحجارة أصلها تراب يجعل الله فيه بواسطة الماء قابلية للاستحجار كما جعل فيه قابلية التحول إلى المعدن من الذهب والفضة والحديد وغيرها، فباعتبار أصله هو طين، وباعتبار أوله حجر وكبريت ونار، ولعل حجر الكبريت أثقل الحجارة مع ما فيه من قوة النار وقبح الريح؛ ثم فخمها بقوله: {عند ربك} وعبر بالرب إشارة إلى كثرة إحسانه وإليه وأنه إنما أمره صلى الله عليه وسلم بالإنذار وحمة لأمته التي جعلها خير الأمم وسيجعلها أكثر الأمم، ولا يهلكها كما أهلكهم؛ ومادة سجل- بأي ترتيب كان- تدور على العلو، من الجلس لما ارتفع عن الغور وهو النجد، ويلزم منه الغلظ والعلو، ومن الغلظ الجلس للغليظ من الأرض والجمل الوثيق، ويلزم العلو التصويب ومن جلس- إذا قعد؛ والسجل للدلو العظيمة، ويكون غالبًا في مقابلتها أخرى، كلما نزلت واحدة طلعت الأخرى، فتاتي المساجلة بمعنى المباراة والمفاخرة، والسجل: الضرع العظيم، والسجل- بالكسر وشد اللام: الكتاب لأنه يذكر فيه ما يكون به المفاخرة والمغالبة؛ وسلج الطعام: بلعه، والسلجان: نبات رخو، كأنه سمي بذلك لأن أغصانه تأخذ إلى أسفل لرخاوتها، وقد دل على هذا المعنى في هذه الآية بثلاثة أشياء: الإمطار، ولفظ على، وسجيل.