فصل: قال الخطيب الشربيني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أقول من المحتمل أن يكون: {يعقوب} مجرورًا بالعبارة الموجودة أي وبشرناها بيعقوب من بعد إسحاق وقيل: الوراء ولد الولد ووجهه أن يراد بيعقوب أولاده كما يقال هاشم ويراد أولاده: {يا ويلتي} كلمة تلهف وقد مرت في المائدة في: {يا ويلتي أعجزت} [المائدة: 31] و: {شيخًا} نصب الحال والعامل فيه ما في هذا من معنى أنبه أو أشير: {إن هذا} يعني إن تولد ولد من هرمين: {لشيء عجيب} عادة فأزال الملائكة تعجبها منكرين عليها بقولهم على سبيل الاستئناف: {رحمة الله وبركاته عليكم} يا أهل بيت خليل الرحمن. والمقصود أن رحمته عليكم متكاثرة وبركاته فيكم متواترة وخرق العادات في أهل بيت النبوة غير عجيب. ويحتمل أن يكون انتصاب: {أهل البيت} على الاختصاص. وقيل: الرحمة النبوة والبركات الأسباط من بني إسرائيل لأن الأنبياء منهم وكلهم من ولد إبراهيم. ثم أكدوا إزالة التعجب بقولهم: {إنه حميد} محمود في أفعاله: {مجيد} ذو الكرم الكامل فلا يليق به منع الطالب عن مطلوبه: {فلما ذهب عن إبراهيم الروع} الخوف الذي لحقه حين أنكر أضيافه: {وجاءته البشرى} البشارة بحصول الولد: {يجادلنا في قوم لوط} في معناهم وفي شأنهم وهو جواب لما على حكاية الحال، أو لأن لما ترد المضارع إلى الماضي عكس إن، ويحتمل أن يكون جواب لما محذوفًا دل عليه: {يجادلنا} أي اجترأ على خطابنا أو قال كذا، ثم ابتدأ فقال: {يجادلنا} وقيل: معناه أخذ يجادلنا ولابد من حذف مضاف أي يجادل رسلنا لا بمعنى مخالفة أمر الله فإن ذلك يكون معصية بل سعيًا في تأخير العذاب عنهم رجاء إيمانهم وتوبتهم. ويروى أنهم قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية فقال: أرأيتم لو كان فيها خمسون من المؤمنين أتهلكونها؟ قالوا: لا قال: فأربعون؟ قالوا: لا حتى بلغ العشرة قالوا لا. قال: فإن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها؟ قالوا: لا. فعند ذلك: {قال إن فيها لوطًا قالوا نحن أعلم بمن فيها لنُنَجِّيَنهُ وأهله} [العنكبوت: 32] قال الأصوليون: إن إبراهيم كان يقول: إن أمر الله ورد بايصال العذاب ومطلق الأمر لا يوجب الفور، والملائكة يدعون الفور إما للقرائن أو لأن مطلق الأمر يستدعي ذلك، فهذه هي المجادلة. أو لعل إبراهيم كان يدعي أن الأمر مشروط لم يحصل بعدوهم لا يسلمون. وبالجملة فإن العلماء يجادل بعضهم بعضًا عند التمسك بالنصوص وليس يوجب القدح في واحد منهم فكذلك هاهنا ولذلك مدحه بقوله: {إن إبراهيم لحليم} غير عجول في الأمور: {أوّاه} كثير التأوّه من الذنوب: {منيب} راجع إلى الله في كل ما يسنح له. وهذه الصفات تدل على رقة القلب والشفقة على خلق الله حتى حملته على المجادلة فيهم رجاء أن يرفع العذاب عنهم.
ولما عرفت الملائكة أن العذاب قد حق عليهم قالوا: {يا إبراهيم أعرض عن هذا} الجدال: {إنه قد جاء أمر ربك} بإهلاكهم: {وإنهم آتيهم} لاحق بهم: {عذاب غير مردود} فلا راد لقضائه فلا ينفع فيهم جدال ولا دعاء.
{ولما جاءت رسلنا} المذكورون: {لوطًا سيء بهم} أصله سوئ لأنه من ساءه يسوءه نقيض سره يسره، نقلت الكسرة إلى الفاء وأبدلت العين ياء، ومن قرأ: {سيء} بإبدال العين ياء مكسورة فلكراهة اجتماع الواو والهمزة: {وضاق بهم ذرعًا} قال الأزهري: الذرع يوضع موضع الطاقة وأصله أن البعير يذرع بيده في سيره على قدر سعة خطوه، فإذا حمل عليه أكثر من طاقته ضاق ذرعه عن ذلك فجعل ضيق الذرع عبارة عن قلة الوسع والطاقة، وربما قالوا ضقت بالأمر ذرعًا: {وقال هذا يوم عصيب} أي شديد من العصب الشد كأنه أريد اشتداد ما فيه من الأمور. عن ابن عباس: انطلقوا من عند إبراهيم إلى لوط وبين القريتين أربعة فراسخ ودخلوا عليه على صورة شباب مرد من بني آدم في غاية الحسن، ولم يعرف لوط أنهم ملائكة الله فساءه مجيئهم واغتم لذلك لأنه خاف عليهم خبث قومه وأن يعجز عن مقاومتهم. وقيل: سبب المساءة أنه لم يكن قادرًا على القيام بحق ضياقتهم لأنه ما كان يجد ما ينفق عليهم. وقيل: السبب أن قومه منعوه عن إدخال الضيف داره. وقيل: عرف أنهم ملائكة جاؤوا لإهلاك قومه فرق قلبه على قومه. والصحيح هو الأول. يروى أنه تعالى قال لهم: لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات. فلما مشى معهم منطلقًا به إلى منزله قال لهم: أما بلغكم أمر هذه القرية قالوا: وما أمرهم؟ قال: أشهد بالله إنها لشر قرية في الأرض عملًا- يقول ذلك أربع مرات- فدخلوا معه منزله ولم يعلم بذلك أحد فخرجت امرأته فأخبرت بهم قومها فذلك قوله: {وجاءه قومه يهرعون إليه} قال أبو عبيدة: يستحثون إليه كأنه يحث بعضهم بعضًا. وقال الجوهري: الإهراع الإسراع. وأهرع الرجل على ما لم يسم فاعله فهو مهرع إذا كان يرعد من حمى أو غضب أو فزع. وقيل: إنما لم يسم فاعله للعلم به. والمعنى أهرعه خوفه أو حرصه. ثم بين إسراعهم إنما كان لأجل العمل الخبيث فقال: {ومن قبل كانوا يعملون السيئات}
الفواحش فمرنوا عليها فلذلك جاؤوا مجاهرين لا يكفهم حياء. وقيل: معناه وكان لوط قد عرف عادتهم في ذلك العمل قبل ذلك فأراد أن يقي أضيافه ببناته فقال: {هؤلاء نباتي} عن قتادة: بناته من صلبه. وعن مجاهد وسعيد بن جبير: أراد نساء أمته لأن النبي كالأب لأمته. واختير هذا القول لأن عرض البنات الحقيقيات على الفجار لا يليق بذوي المروءات. ولأن اللواتي من صلبه لا تكفي للجمع العظيم، ولما روي أنه لم يكن له إلا بنتان وأقل الجمع ثلاثة.
والقائلون بالقول الأول قالوا ما دعا القوم إلى الزنا بهن وإنما دعاهم إلى التزوج بهن بعد الإيمان أو مع الكفر، فلعل تزويج المسلمات من الكفار كان جائزًا كما في أول الإسلام، زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنتيه من عتبة بن أبي لهب وأبي العاص بن الربيع بن عبد العزى- وهما كافران- فنسخ بقوله: {ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا} [البقرة: 221] وقيل: كان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوجهما ابنتيه، وقيل: إن بناته كن أكثر من ثنتين. ويجوز أن يكون قد عرض البنات عليهم لا بطريق الجد بل طمعًا فيهم أن يستحيوا منه ويرقوا له. و: {أطهر} بمعنى الطاهر لأنه لا طهارة في نكاح الرجال: {فاتقوا الله} بإيثارهن عليهم: {ولا تخزون} ولا تفضحوني من الخزي أو لا تخجلوني من الخزاية وهي الحياء: {في ضيفي} في حق أضيافي فخزي الضيف والجار يورث للمضيف العار والشنار. والضيف يستوي فيه الواحد والجمع ويجوز أن يكون مصدرًا: {أليس منكم رجل رشيد} صالح أو مصلح مرشد يمنتع أو يمنع عن مثل هذا العمل القبيح.
{قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق} من شهوة ولا حاجة لأن من احتاج إلى شيء فكأنه حصل له فيه نوع حق ولذلك قالوا: {وإنك لتعلم ما نريد} ويجوز أن يراد إنهن لسن لنا بأزواج فلا حق لنا فيهن من حيث الشرع ومن حيث الطبع، أو يراد إنك دعوتنا إلى نكاحهن بشرط الإيمان ونحن لا نؤمن ألبتة فلا يتصور لنا حق فيهن. قال لوط: {لو أن لي بكم قوّة} وجوابه محذوف أي لفعلت بكم وصنعت وبالغت في دفعكم. قال أهل المعاني: حذف الجواب أبلغ لأن الوهم يذهب إلى أنواع كثيرة من الدفع والمنع. والمراد لو أن لي ما أتقوى به عليكم فسمى موجب القوة بالقوة، ويحتمل أن يريد بالقوة القدرة والطاقة: {أو آوي} أنضم: {إلى ركن شديد} حام منيع شبه الركن من الجبل في شدته. وقوله: {أو آوي} عطف على الفعل المقدر بعد لو. والحاصل أنه تمنى دفعهم بنفسه أو بمعاونة غيره، قال ذلك من شدة القلق والحيرة في الأمر النازل به ولهذا قالت الملائكة وقد رقت عليه وحزنت له: إن ركنك لشديد. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «رحم الله أخي لوطًا كان يأوي إلى ركن شديد فما بعث نبي بعد ذلك إلا في ثروة من قومه» ويحتمل أن يريد بالركن الشديد حصنًا يتحصن به فيأمن من شرهم، ويحتمل أنه لما شاهد سفاهة القوم وإقدامهم على سوء الأدب تمني حصول قوة قوية على الدفع. ثم استدرك وقال بل الأولى أن آوي إلى ركن شديد وهو الاعتصام بعناية الله.
روي أنه أغلق بابه لما جاؤوا فتسوروا الجدار فلما رأت الملائكة ما لقي لوط من الكرب: {قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك} وهذه جملة موضحة للتي قبلها لأنهم إذا كانوا رسل الله لم يصل الأعداء إليه ولن يقدروا على ضرره، فأمره الملائكة أن يفتح الباب فدخلوا فاستأذن جبرائيل ربه في عقوبتهم فأذن له، فضرب بجناحه وجوههم فطمس أعينهم وأعماهم كما قال سبحانه: {ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم} [القمر: 37] فصاروا لا يعرفون الطريق فخرجوا وهم يقولون إن في بيت لوط سحرة. ثم بين نزول العذاب ووجه خلاص لوط وأهله فقال: {فأسر بأهلك} الباء للتعدية إن كانت الهمزة للوصل من السرى، أو زائدة وإن كانت للقطع من الإسراء: {بقطع من الليل} عن ابن عباس: أي في آخر الليل بسحر. وقال قتادة: بعد طائفة من الليل. وقيل نصف الليل كأنه قطع نصفين: {ولا يلتفت منكم أحد} أي لا ينظر إلى ما رواءه: {إلا امرأتك} أكثر القراء على النصب فاعترض بأن الفصيح في مثله هو البدل لأن الكلام غير موجب فكيف اجتمع القراء على غير فصيح؟ فأجاب جار الله بأن الرفع بدل من: {أحد} على القياس والنصب مستثنى من قوله: {فأسر} لا من قوله: {لا يلتفت} وزيف بأن الاستثناء من: {أسر} يقتضي كونها غير مسرى بها، والاستثناء من: {لا يلتفت} يقتضي كونها مسريًا بها لأن الالتفات بعد الإسراء فتكون مسريًا بها غير مسرى بها. ويمكن أن يجاب بأن: {أسر} وإن كان مطلقًا في الظاهر إلا أنه في المعنى مقيد بعدم الالتفات إذ المراد أسر بأهلك إسراء لا التفات فيه إلا امرأتك فإنك تسري بها إسراء مع الالتفات، فاستثن على هذا إن شئت من: {أسر} وإن شئت من: {لا يلتفت} ولا تناقض. وبعضهم- كابن الحاجب- جعل: {إلا امرأتك} في كلتا القراءتين مستثنى من: {لا يلتفت} ولم يستبعد اجتماع القراء على قراءة غير الأقوى. ويمكن أن يقال: إنما اجتمعوا على النصب ليكون استثناء من: {أسر} إذ لو جعل استثناء من: {لا يلتفت} لزم أن تكون مأمورة بالالتفات لأن القائل إذا قال لا يقم منكم إلا زيد كان ذلك أمرًا لزيد بالقيام اللهم إلا أن يجعل الاستثناء منقطعًا على معنى ولا يلتفت منكم أحد لكن امرأتك تلتفت فيصيبها ما أصابهم، وإذا كان هذا الاستثناء منقطعًا كان التفاتها موجبًا للمعصية. قاله في الكشاف. وروي أنه أمر أن يخلفها مع قومها فلم يسر بها. واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين. أقول: في هذا الكلام خلل لا يمكن اجتماعهما على الصحة، والقراءتان يجب اجتماعهما على الصحة لتواتر القراءات كلها. روي أنها لما سمعت هدّة العذاب أي صوته التفتت وقالت: يا قوماه: فأدركها حجر فقتلها.
وقيل: المراد بعدم الالتفات قطع تعلق القلب عن الأصدقاء والأموال والأمتعة. فعلى هذا يصح الاستثناءان من غير شائبة التناقض كأنه أمر لوطًا أن يخرج بقومه ويترك هذه المرأة فإنها هالكة من الهالكين. ثم أمر أن يقعطوا العلائق وأخبر أن امرأته تبقى متعلقة القلب بها.
يروى أنه قال لهم متى موعد هلاكهم فقيل له: {إن موعدهم الصبح} فقال أريد أسرع من ذلك فقالوا: {أليس الصبح بقريب فلما جاء أمرنا} بإهلاكهم: {جعلنا} أي جعل رسلنا: {عاليها سافلها} روي أن جبرائيل أدخل جناحه الواحد تحت مدائن قوم لوط وقلعها وصعد بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نهيق الحمير ونباح الكلاب وصياح الديوك لم يتبدد لهم طعام ولم يتكسر لهم إناء، ثم قلبها دفعة وضربها على الأرض، ثم أمطر عليهم حجارة من سجيل- وهو معرب سنك وكل- كأنه مركب من حجر وطين وهو في غاية الصلابة. وقيل: سجيل أي مثل السجل وهي الدلو العظيمة أو مثلها في تضمن الأحكام الكثيرة، وقيل: أي مرسلة عليهم من أسجلته إذا أرسلته. وقيل: أي مما كتب الله أن يعذب به أو كتب عليه أسماء المعذبين من السجل وقد سجل لفلان. وقيل: من سجين أي من جهنم فأبدلت النون لامًا. ويل: إنه اسم من أسماء السماء الدنيا. ومعنى: {منضود} موضع بعضها فوق بعض في النزول يأتي على سبيل المتابعة والتلاصق. أو نضد في السماء نضدًا معدًا لإهلاك الظلمة وفي السماء معادنها في جبال مخصوصة كقوله: {من جبال فيها من برد} [النور: 43]: {مسوّمة} معلمة للعذاب أو بياض وحمرة، عن الحسن والسدي عليها أمثال الخواتيم. وقال ابن جريج كان عليها سيما لا تشاكل حجارة الأرض. وقال الربيع: مكتوب على كل حجر اسم من يرمى به. وقال أبو صالح: رأيت منها عند أم هانئ حجارة فيها خطوط حمر على هيئة الجزع. ومعنى: {عند ربك} أي في خزائنه لا يتصرف في شيء منها إلا هو، أو مقرر في علمه إهلاك من أهلك بكل واحد منها: {وما هي} أي تلك الحجارة: {من الظالمين} أي من كل ظالم: {ببعيد} وهو وعيد لأهل مكة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سأل جبرائيل عن هذا فقال يعني من ظالمي أمتك ما من ظالم إلا وهو بصدد سقوط الحجر عليه ساعة فساعة. وقيل: أي تلك القرى ليست ببعيدة من ظالمي أهل مكة يمرون بها في مسايرهم إلى الشام. وقيل: المراد أنها وإن كانت في السماء إلا أنها إذا هوت منها فهي أسرع شيء لحوقًا بالمرمى فكانت كأنها بمكان قريب والله تعالى أعلم بمراده. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني في الآيات السابقة:

القصة الرابعة: التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام المذكورة في قوله تعالى: {ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى} أي: بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، والمراد بالرسل الملائكة، ولفظ رسلنا جمع وأقله ثلاثة، واختلف في الزائد على ذلك وأجمعوا على أنّ الأصل فيهم كان جبريل عليه السلام، واقتصر ابن عباس وعطاء على أقل الجمع فقالا: كانوا ثلاثة: جبريل وميكائيل وإسرافيل وهم الذين ذكرهم الله تعالى في سورة الذاريات بقوله تعالى: {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين} (الذاريات).، وفي الحجر: {ونبئهم عن ضيف إبراهيم} (الحجر). وقال الضحاك: كانوا تسعة. وقال محمد بن كعب القرظي: كان جبريل ومعه سبعة أملاك. وقال السدي: كان جبريل ومعه أحد عشر ملكًا على صورة الغلمان الذين يكونون في غاية الحسن. قال النحويون: ودخلت كلمة قد ههنا؛ لأنّ السامع لقصص الأنبياء يتوقع قصة بعد قصة، وقد للتوقع، ودخلت اللام في لقد لتأكيد الخبر: {قالوا سلامًا}، أي: سلمنا عليك سلامًا، ويجوز نصبه بقالوا على معنى ذكروا سلامًا، أي: سلموا: {قال سلام}، أي: أمركم أو جوابي سلام أو وعليكم سلام.
تنبيه: قوله سلام أكمل من قوله السلام، لأنّ التنكير يفيد الكمال والمبالغة والتمام، ولهذا صح وقوعه مبتدأ؛ لأنّ النكرة إذا كانت موصوفة جاز جعلها مبتدأ، أو لفظ السلام فإنه لا يفيد إلا الماهية. فإن قيل: فلأي شيء ما كفى الأوّل في التحلل من الصلاة عند النوويّ؟
أجيب: بأنّ ذلك سنة متبعة. وقرأ حمزة والكسائي بكسر السين وسكون اللام ولا ألف بعدها، والباقون بفتح السين واللام وبعدها ألف. قال الفراء: ولا فرق بين القراءتين كما يقال حل وحلال وحرم وحرام. وقيل سلم هو بمعنى الصلح، أي: نحن سلم صلح غير حرب: {فما لبث أن جاء بعجل حنيذ} (هود).، أي: فما أبطأ مجيئه به. والحنيذ: المشوي على الحجارة المحماة في حفرة من الأرض، وكان سمينًا يقطر ودكه. كما قال تعالى في موضع آخر: {فجاء بعجل سمين}. قال قتادة: كان عامة مال إبراهيم البقر. روي أنّ إبراهيم عليه السلام مكث خمس عشرة ليلة لم يأته ضيف فاغتمّ لذلك وكان يحب الضيف ولا يأكل إلا معه، فلما جاءته الملائكة رأى أضيافًا لم ير مثلهم فعجل قراهم وجاء بعجل سمين مشوي.
{فلما رأى أيديهم}، أي: الأضياف: {لا تصل إليه}، أي: لا يمدّون أيديهم إليه: {نكرهم} أي: أنكرهم وأنكر حالهم لامتناعهم من الطعام: {وأوجس}، أي: أضمر في نفسه: {منهم خيفة}، أي: خوفًا. قال قتادة: وذلك أنهم كانوا إذا نزل بهم ضيف فلم يأكل من طعامهم ظنوا أنه لم يأت بخير وإنما جاء بشر: {قالوا لا تخف} يا إبراهيم: {إنا} ملائكة الله: {أرسلنا إلى قوم لوط} بالعذاب وإنما لم نمد له أيدينا لأنا لا نأكل.
{وامرأته}، أي: إبراهيم سارّة وهي ابنة عمّ إبراهيم: {قائمة} وراء الستر تسمع محاورتهم أو على رؤوسهم للخدمة فسمعت البشارة بالولد التي دل عليها فيما مضى قوله بالبشرى: {فضحكت} سرورًا من تلك البشرى لزوجها مع كبره وربما ظنته من غيرها؛ لأنها كانت عجوزًا عقيمًا فأزيل ذلك الظنّ عنها بقوله تعالى: {فبشرناها}، أي: على لسان الملائكة تشريفًا لها وتفخيمًا لشأنها: {بإسحاق} تلده: {ومن وراء إسحاق يعقوب}، أي: يكون يعقوب عليه السلام ابنا لإسحاق عليه السلام فتعيش حتى ترى ولد ولدها. قال البقاعي: والذي يدل على هذا التقدير من أنهم بشروه بالولد قبل امرأته فسمعت فعجبت ما يأتي عن نص التوراة، وساق عن التوراة عبارة مطوّلة. وقيل: سبب سرورها زوال الخيفة أو هلاك أهل الفساد. وقيل: فضحكت فحاضت كما قال الشاعر:
عهدي بسلمى ضاحكًا في لبانة

أي: حائضًا في جماعة من النساء.
وهذا يرد على الفراء حيث قال: ضحكت بمعنى حاضت لم نسمعه من ثقة، وقال آخر: تضحك الضبع لقتلى هذيل. أراد أنها تحيض فرحًا.