فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} (هود: 77)، وفي سورة العنكبوت: {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ} (العنكبوت: 33) فوردت آية العنكبوت بزيادة (أن) بعد (لما) بخلاف آية هود، فللسائل أن يسأل عن ذلك؟
الجواب عنه، والله أعلم: أن (أن) هذه الخفيفة كثيرًا ما تزاد، وزيادتها على ضربين بقياس وغير قياس، فالذي بغير قياس نحو قوله:
كأن الظبية تعطو إلى وارث السلم

فزيدت بعد كاف التشبيه بينها وبين مجهورها، وأما التي تزاد بقياس فبعد لما، ولما ورد في آية هود قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} ثم ورد هذا اللفظ بجملته في سورة العنكبوت متكررًا بعينه ورد أولا بغير {أن} على الأصل، وورد ثانيا بزيادة أن على الثاني ليحصل {بين} التواردين ما يرفع تقصاقل اللفظ المذكور.
فإن قلت: فإنه قد تباعد ما بين الآيتين ومثل هذا ما يحصل فيه ما ذكرت، فإقول: لما كان اللفظ اللفظ وكان زيادة {أن} وعدم زيادتها هنا هينًا فصيحًا جيء بالجائزين معًا وتأخرت الزيادة إذ هي غير الأصل إلى المتأخر من الآيتين.
فإن قلت: إن قوله تعالى: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ} (يوسف: 96) لم يقع فيه تكرر فلم زيد فيه أن ولم يأت على الأصل؟ قلت: لما كان مجيء البشير إلى يعقوب، عليه السلام، بعد طول الحزن وتباعد المدة ناسب ذلك زيادة أن لما في مقتدى وصفها من التراخي، فورد كل من هذا على ما يجب، والله أعلم.
قوله تعالى: {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} (هود: 81)، وقال في سورة الحجر: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} (الحجر: 85) هنا ثلاثة سؤالات: أحدها {إلا أمراتك} في سورة هود، ولم يقع ذلك الإستثناء في الحجر، والثاني: ما ورد في الحجر قوله: {وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ}، والثالث قوله: {وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} ولم يذكر في سورة هود.
والجواب عن الأول: أن آية الحجر ورد قبلها قوله في قصة إيراهيم عليه السلام: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} (الحجر: 57-60)، فلما ورد هنا استثناء المرأة وذكر حالها وقع بذلك الاكتفاء فلم يذكر في الآية بعد، إذ ذلك كله كلام متصل بعضه ببعض، ولم يتقدم لامرأة لوط، عليه السلام، في سورة هود ذكر فاحتيج إلى استثنائها.
والجواب عن السؤال الثالث أن قوله في سورة الحجر: {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} (الحجر: 65) زيادة إخبار بما ليس في سورة هود، وقد تأخرت سورة الحجر عنها. فوفت بما لم يذكر في سورة هود، ومصل هذا لا سؤال فيه.
قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} (هود: 82)، وفي صورة الحجر: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} (الحجر: 74)، ففي الأولى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا} والضمير للقرية والمراد أهلها، وفي الثانية: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا} والضمير لقوم لوط فللسائل {أن يسأل} عن وجه اختلاف الضمير مع اتحاد المقصود؟ والجواب عن ذلك، والله أعلم: أن كلا من الموضوعين مراعي فيه مناسبة ما تقدمه، ولما تقدم آية الحجر قوله تعالى: {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} (الحجر: 58)، فذكر قوم لوط موصوفين بالإجرام الموجب لهلاكهم فروعي هذا المتقدم فقيل: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا} (الحجر: 74) ونظير هذا قوله تعالى في سورة الذاريات: {قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} (الذاريات: 32-33)، فقيل: {عليهم} لما تقدم قوله: {إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ}، وأما آية هود فلم يتقدم فيها مثل هذا، فكتفى بضمير القرية فقيل: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا} (هود: 82)، وأغنى ذلك عن ذكر المهلكين إذ هم المقصودون بالعذاب، فورد كل على ما يناسب، والله أعلم. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ}
لمَّا ضَاقَ به الأمُر كَشَف اللَّهُ عنه الضُرَّ فَعَرَّفَ إليه الملائكةُ وقالوا: لا عليكَ فإنهم لا يصلون إليكَ بسوءٍ وإنَّا رُسُلُ ربك جئنا لإهلاكهم، فاخرُجْ أنت وقومُك من بينهم، واعلمْ أنَّ مَنْ شَارَكَهم في عملهم بنوعٍ فَلَهُ مِنْ العذابِ حِصَّة. ومن جملتهم امرأتك التي كانت تدل القوم على المَلَكِ لفعلة الفاحشة، وإن العقوبة لاحقةٌ بها، مُدْرِكَة لها.
والإشارة منه أن الجسارةَ على الزَّلّةِ وخيمةُ العاقبةِ- ولو بعد حين، ولا ينفع المرءَ اتصالُه بالأنبياء والأولياءِ إذا كان في الحكم والقضاء من جملة الأشقياء.
قوله جلّ ذكره: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ألَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ}.
ما هو كائِنٌ فقريبٌ، والبعيدُ ما لا يكون. وإنَّ مَنْ أقْدَمَ على محظورٍ ثم حُوسِبَ عليه- ولو بعد دهورٍ خالية وأعوام غير محصورة ماضية- تصور له الحال كأنه وقتُ مَبَاشَرَتِه لتلك الزَّلة.
{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82)}
سُنَّةُ الله في عباده قلبُ الأحوال عليهم، والانقلابُ مِنْ سِمَاتِ الحدوث، أمّا الذي لا يزول ولا يحول فهو الذي لم يزل ولا يزال بنعوته الصمدية.
وإنَّ مَنْ عاش في السرور دهرًا ثم تبدل يُسْرُه عُسْرًا فَكَمَنْ لم يَرَ قطُّ خيرًا، والذي قاسَى طولَ عمره ثم أُعطِي يُسْرًا فكمن لم يَرَ عُسْرًا.
قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110].
{مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)}
ذكر سبحانه ما نالهم من العقوبة على عصيانهم، ثم أخبر أنَّ تلك العقوبةَ لاحقةٌ بمن سَلَكَ سبيلَهم تحذيراَ لمن لم يعتبر بهم إذا عرف طريقَهم، كما قيل:
ومَنْ يَرَني ولم يعتبر بَعْدِي ** فإنًّ لكلِّ معصيةٍ عقابا

. اهـ.

.ومن فوائد الشنقيطي في الآيات السابقة:

قال رحمه الله: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)}
ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن لوطًا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما جاءته رسل ربه من الملائكة حصلت له بسبب مجيئهم مساءة عظيمة ضاق صدره بها، وأشار في مواضع متعددة إلى أن سبب مساءته وكونه ضاق بهم ذرعًا وقال هذا يوم عصيب أنه ظن أنهم ضيوف من بني آدم كما ظنه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام. وظن ن قومه ينتهكون حرمة ضيوفه فيفعلون بهم فاحشة اللواط، لأنهم إن علموا بقدوم ضيف فرحوا واستبشروا به ليفعلوا به الفاحشة المذكورة- من ذلك قوله هنا: {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات قَالَ ياقوم هؤلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللًّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود: 78- 79].
وقوله في الحجر: {وَجَاءَ أَهْلُ المدينة يَسْتَبْشِرُونَ قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ واتقوا الله وَلاَ تُخْزُونِ قَالُواْ أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ العالمين قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 67- 72].
وقوله: {يُهْرَعُونَ} أي يسرعون ويهرولون من فرحهم بذلك، ومنه قول مهلهل:
فجاؤوا يهرعون وهم أسارى ** تقدوهم على رغم الأنوف

وقوله: {وَلاَ تُخْزُونِ} أي لا تهينون ولا تذلون بانتهاك حرمة ضيفي. والاسم منه: الخزي- بكسر الخاء وإسكان الزاي-. ومنه قول حسان في عتبة بن أبي وقاص:
فأخزاك ربي يا عتيب بن مالك ** ولقاك قبل الموت إحدى الصواعق

وقال بعض العلماء: قوله: {وَلاَ تُخْزُونِ} من الخزاية، وهي الخجل والاستحياء من الفضيحة. أي لا تفعلوا بضيفي ما يكون سببًا في خجلي واستحيائي، ومنه قول ذي الرمة يصف ثورًا وحشيًا تطارده الكلاب في جانب حبل من الرمل.
حتى إذا دومت في الأرض راجعة ** كرّ ولو ششاء نجى نفسه الهرب

خزاية أدركته بعد جولته ** من جانب الحبل مخلوطًا به الغضب

يعني أن هذا الثور لو شاء نجا ن الكلاب بالهرب، ولكنه استحيا وأنف من الهرب فكر راجعًا إليها. ومنه قوله الآخر:
أجاعلة أم الثوير خزاية ** على فراري أن لقيت بني عبس

والفعل منه: خزي يخزى، كرضى يرضى. ومنه قول الشاعر:
من البيض لا تخزى إذا الريح ألصقت ** بها مرطها أو زايل الحلي جيدها

وقول الآخر:
وإنِّي لا أخزى إذا قيل مملق ** سخى وأخزى أن يقال بخيل

وقوله: {لَعَمْرُكَ} [الحجر: 72] معناه أقسم بحياتك. والله جل وعلا له أن يقسم بما شاء من خلقه، ولم يقسم في القرآن بحياة أحد إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وفي ذلك من التشريف له صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى.
ولا يجوز لمخلوق أن يحلف بغير الله، لقوله صلى الله عليه وسلم: «من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت».
وقوله: {لَعَمْرُكَ} مبتدأ خبره محذوف، أي لعمرك قسمى وسمع عن العرب تقديم الراء على اللام في لعمرك فتقول فيها: رعملكن ومنه قول الشاعر:
رعملك إن الطائر الواقع الذي ** تعرض لي من طائر لصدوق

وقوله: {لَفِي سَكْرَتِهِمْ} [الحجر: 72] اي عماهم وجهلهم وضلالهم. والعمه: عمى القلب، فمعنى: {يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72] يترددون متحيرين لا يعرفون حقًا من باطل، ولا نافعًا من ضار، ولا حسنًا من قبيح.
واختلف العلماء في المراد بقول لوط عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: {هؤلاء بَنَاتِي} [هود: 78] في الموضعين على أقوال:
أحدها- أنه أراد المدافعة عن ضيفه فقط، ولم يرد إمضاء ما قال، وبهذا قال عكرمة وأبو عبيدة.
الثاني- أن المراد بناته لصلبه، وأن المعنى: دعوا فاحشة اللواط وأزواجكم بناتي. وعلى هذا فتزويج الكافر المسلمة كان جائزًا في شرعه، كما كانت بنات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم تحت الكفار في أول الإسلام كما هو معروف. وقد أرسلت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عقدها الذي زفتها به أمها خديجة بنت خويلد رضي الله عنها إلى زوجها أبي العاص بن الربيع، أرسلته إليه في فداء زوجها أبي العاص المذكور لما أسره المسلمون كافرًا يوم بدر، والقصة مشهورة، وعقدها الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في مغازية بقوله في غزوة بدر:
وابن الربيع صهر هادي الملة ** إذ في فداه زينب أرسلت

بعقدها الذي به أهدتها ** له خديجة وزففتها

سرحه بعقدها وعهدا ** إليه أن يردها له غدا

إلخ.
القول الثالث- أن المراد بالبنات: جميع نساء قومه، لأن نبي القوم أب ديني لهم، كما يدل له قوله تعالى في نبينا صلى الله عليه وسلم: {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] وفي قراءة أبي بن كعب: {وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم} وروي نحوها عن ابن عباس. وبهذا القول قال كثير من العلماء.
وهذا القول تقربه قرينة وتبعده وأخرى. أما القرينة التي تقربه فهي: أن بنات لوط لا تسع جميع رجال قومه كما هو ظاهر، فإذا زوجهن لرجال بقدر عددهم بقي عامة رجال قومه لا أزواج لهم. فيتعين أن المراد عموم نساء قومه، ويدل للعموم قوله: {أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ} [الشعراء: 165- 166] وقوله: {لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً مِّن دُونِ النساء} [الأعراف: 81] ونحو ذلك من الآيات.
وأما القرينة التي تبعده: فهي أن النَّبي ليس أبًا للكافرات، بل أبوة الأنبياء الدينية للمؤمنين دون الكافرين، كما يدل عليه قوله: {النبي أولى بالمؤمنين} [الأحزاب: 6] الآية.
وقد صرح تعالى في الذاريات: بأن قوم لوط ليس فيهم مسلم إلا أهل بيت واحد وهو أهل بيت لوط، وذلك في قوله: {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المسلمين} [الذاريات: 36].
قوله تعالى: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ قَالُواْ يالوط إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يصلوا إِلَيْكَ}.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أن نبيه لوطًا وعظ قومه ونهاهم أن يفضحوه في ضيفه، وعرض عليهم النساء وترك الرجال، فلم يلتفتوا إلى قوله، وتمادوا فيما هم فيه من إرادة الفاحشة فقال لوط: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} الآية. فأخبرته الملائكة بأنهم رسل ربه، وأن الكفار الخبثاء لا يصلون إليه بسوء.
وبين في القمر أنه تعالى طمس أعينهم، وذلك في قوله: {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: 37].
قوله تعالى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الليل وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امرأتك إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ}.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة: أنه أمر نبه لوطًا أن يسري بأهله بقطع من الليل، ولم يبين هنا هل هو من آخر الليل، أو وسطه أو أوله، ولكنه بين في القمر أن ذلك من آخر الليل وقت السحر، وذلك في قوله: {إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ} [القمر: 34]. ولم يبين هنا أنه أمره أن يكون من ورائهم وهم أمة، ولكنه بين ذلك في الحجر بقوله: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الليل واتبع أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وامضوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} [الحجر: 65].
وقوله تعالى: {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امرأتك إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ}.
قرأه جمهور القراء: {إِلاَّ امرأتك} بالنصب، وعليه فالأمر واضح. لأنه استثناء من الأهل، أي أسر بأهلك إلا امرأتك فلا تسر بها، واتركها في قومها فإنها هالكة معهم.
ويدل لهذا الوجه قوله فيها في مواضع: {كَانَتْ مِنَ الغابرين} [الأعراف: 83] والغابر: الباقي، أي من الباقين في الهلاك.
وقرأ أبو عمرو وابن كثير: {إِلاَّ امرأتك} بالرفع على أنه بدل من: {أَحَدٌ} وعليه فالمعنى: أنه أمر لوطًا أن ينهى جميع أهله عن الالتفات إلا امرأته فإنه أوحى إليه أنها هالكة لا محالة، ولا فائدة في نهيها عن الالتفات لكونها من جملة الهالكين.
وعلى قراءة الجمهور فهو لم يسر بها. وظاهر قراءة ابن عمرو وابن كثير: أنه أسرى بها والتفتت فهلكت.
قال بعض العلماء: لما سمعت هدة العذاب التفتت وقالت: واقوماه. فأدركها حجر فقتلها.
قال مقيدة- عفا الله عنه- الظاهر أن وجه الجمع بين القراءتين المذكوتين أن السر في أمر لوط بأن يسري بأهله هو النجاة من العذاب الواقع صبحًا بقوم لوط، وامرأة لوط مصيبها ذلك العذاب الذي أصاب قومها لا محالة، فنتيجة إسراء لوط بأهله لم تدخل فيها امرأته على كلا القولين، وما لا فائدة فيه كالعدم، فيستوي معنى أنه تركها ولم يسر بها أصلًا، وأنه أسرى بها وهلكت مع الهالكين.